سفر الرؤيا

رؤيا يوحنا | 14 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر رؤيا يوحنا

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ

تكلم الرسول في الأصحاح الثاني عشر على عدو الكنيسة الجهنمي الكبير الشيطان الذي هو أصل كل الشر وعلى الوحشين اللذين ساعداه على إبادة القداسة والدين الروحي. وكنى بالوحش الأول عن قوة العالم الدولية أو رئيس هذا العالم الذي أعطاه التنين سلطانه. وبالوحش الثاني عن القوة الكنسية أو الكهنوتية التي استخدمت القوة السياسية لاضطهاد شعب الله وإهلاكه على وفق قول الرسول «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢).

وتكلم في هذا الأصحاح على ناصري الكنيسة ومستنديها. عرفنا مما سبق ما يتعلق بالتنين ومساعديه وما لهم من القوة. ورأينا في هذه الأصحاح «الخروف» رأس الكنيسة وأتباعه. وغاية هذه الرؤيا تقوية الكنيسة وتعزيتها في الضيقات.

١ «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا حَمَلٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً، لَهُمُ ٱسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوباً عَلَى جِبَاهِهِمْ».

ص ٥: ٦ ومزمور ٢: ٦ وعبرانيين ١٢: ٢٢ ع ٣ وص ٧: ٤ وص ٣: ١٢ وص ٧: ٣

حَمَلٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ جبل صهيون كناية عن مركز كنيسة الله الحقيقية وعبادته الحقيقية. وجبل صهيون الحقيقي تل بني عليه هيكل أورشليم على وفق قوله تعالى بفم المرنم «أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي» (مزمور ٢: ٦). وقول المرنم نفسه «رَنِّمُوا لِلرَّبِّ ٱلسَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ» (مزمور ٩: ١١) وقوله «ٱذْكُرْ جَبَلَ صِهْيَوْنَ هٰذَا ٱلَّذِي سَكَنْتَ فِيهِ» (مزمور ٧٤: ٢). وقوله «ٱخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا جَبَلَ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي أَحَبَّهُ» (مزمور ٧٨: ٦٨). وكان ذلك الجبل يُعتبر مصدر الخلاص (مزمور ١٤: ٧). والمكان الذي اشتهاه الرب مسكناً له وسماه «محل راحة إلى الأبد» (مزمور ١٣٢: ١٣ – ١٨) وقال إشعياء «مَفْدِيُّو ٱلرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِتَرَنُّمٍ، وَفَرَحٌ أَبَدِيٌّ عَلَى رُؤُوسِهِمِ» (إشعياء ٣٥: ١٠) وقال الرسول «قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَإِلَى ٱللهِ دَيَّانِ ٱلْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ: يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ» (عبرانيين ١٢: ٢٢ – ٢٤). وصهيون هي التي حاربها الوحش وهناك يقف الخروف الذي ذُبح وقام (ص ٥: ٦) وهو آمن مطمئن.

وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً هم الذين ذُكروا في (ص ٧: ٤) بدليل إنهم مختومون وإنهم مع الخروف وهم إسرائيل الحقيقي جنود المسيح وعبيده الأمناء (انظر تفسير ص ٧: ٤) وعددهم يشير إلى كمال مقدارهم. وهؤلاء مختارو الله ظهروا مع المسيح في صهيون السماوية. كما ظهر الجنود الإسرائيليون في صهيون الأرضية (١أيام ١٣: ٥).

ٱسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوباً عَلَى جِبَاهِهِمْ كما ذُكر في (ص ٧: ٤) وهم أبكار الكنيسة ومنتخبوها وذُكروا تمهيداً لبيان عملهم في المناداة بالإنجيل البشارة الأبدية وأمانتهم في احتمال الاضطهادات. وكون «اسم أبيه مكتوباً على جباههم» آية أنهم أولاد الله وخاصته (ص ٧: ٢ و٣ و٢٢: ٧ ورومية ١٤: ٨) وفي هذا نفسه بيان إن المسيح ابن الله.

٢ «وَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتاً كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِٱلْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ».

ص ١: ١٥ ص ٦: ١ ص ٥: ٨

وَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ لا من جبل صهيون حيث هم واقفون على ما في الرؤيا. ولم يُنسب هذا الصوت إلى المئة والأربعة والأربعين ألفاً فإنه أتى من فوق من السماء وهو ما يُسمع أبداً في حضرة الله وهو إيقاع الملائكة الأبرار والقديسين الممجدين والخليقة المفدية.

كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ (ص ٤: ٥ و١١: ١٩). هذا صوت قوة وابتهاج.

كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِٱلْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ كما قيل إنها في أيدي الحيوانات الأربعة والأربعة والعشرين شيخاً (ص ٥: ٨ و٩). وهذا الترنم ترنم الشكر والحمد شهادة للمسيح. وهو يذكرنا قول المرنم «قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ ٱللهِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَعِزّاً. قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ ٱسْمِهِ. ٱسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ. صَوْتُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلْمِيَاهِ الخ» (مزمور ٢٩).

٣ «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ ٱلْعَرْشِ وَأَمَامَ ٱلأَرْبَعَةِ ٱلْحَيَوَانَاتِ وَٱلشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ ٱلتَّرْنِيمَةَ إِلاَّ ٱلْمِئَةُ وَٱلأَرْبَعَةُ وَٱلأَرْبَعُونَ أَلْفاً ٱلَّذِينَ ٱشْتُرُوا مِنَ ٱلأَرْض».

ص ٥: ٩ ص ٤: ٤ – ٦ ص ٢: ١٧

وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أي الضاربون بالقيثارات في حضرة الله يترنمون الخ. وتلك الترنيمة هي تسبيح الملائكة والخليقة المفدية وترنيمة الكنيسة خصوصاً لأن موضوعها الحقائق التي لا يعرفها إلا المفديون الصادرة عن أفراح لا يشعر بها غيرهم.

أَمَامَ ٱلْعَرْشِ وَأَمَامَ ٱلأَرْبَعَةِ ٱلْحَيَوَانَاتِ وَٱلشُّيُوخِ فإذاً كان الترنم ترنم كل جنود السماء وسمع الترنيمة المئة والأربعة والأربعون ألفاً الواقفون على جبل صهيون.

وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ ٱلتَّرْنِيمَةَ إِلاَّ ٱلْمِئَةُ وَٱلأَرْبَعَةُ وَٱلأَرْبَعُونَ أَلْفاً أي لم يتعلمها إلا الأطهار لأنها ترنيمة سماوية لا يقدر أن يشترك فيها أحد من عبيد الشهوات الجسدية. فأهل الشر لا يستطيعون أن يسمعوها ولا أن يترنموا بها. وهي توافق «الاسم الجديد» في (ص ٢: ١٧ انظر مزمور ١٣٧: ٣ و٤ و١كورنثوس ٢: ٩).

ٱلَّذِينَ ٱشْتُرُوا مِنَ ٱلأَرْض (إشعياء ٥١: ١١) هذا كقوله «اشتُروا من بين الناس» (ع ٤) باعتبار كونهم «من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة» (ص ٧: ٩).

٤، ٥ «٤ هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ ٱلنِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَتْبَعُونَ ٱلْحَمَلَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هٰؤُلاَءِ ٱشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ بَاكُورَةً لِلّٰهِ وَلِلْحَمَلِ. ٥ وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ ٱللهِ».

متّى ١٩: ١٢ ص ٣: ٤ و٢كورنثوس ١١: ٢ وأفسس ٥: ٢٧ ص ٧: ١٧ ص ٣: ٤ و١٧: ١٤ يعقوب ١: ١٨ عبرانيين ١٢: ٢٣ صفنيا ٣: ١٣ مزمور ٣٢: ٢ وملاخي ٢: ٦ ويوحنا ١: ٤٧ و١بطرس ٢: ٢٢ يهوذا ٢٤ عبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ١: ١٩

هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ ٱلنِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ هذا يبين أنهم ممتازون بصفة روحية وهذا كقول بولس الرسول «خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١١: ٢). وقول المسيح «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللهَ» (متّى ٥: ٨). وهم كالولد الصغير الذي أقامه المسيح في وسط تلاميذه وقال لهم على أثر ذلك «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٨: ٣). وهم الذين وقفوا أنفسهم للمسيح واتخذوه رباً وسيداً لهم ولم يخونوه. فليس من إشارة هنا إلى أنهم لم يتزوجوا إذ هم كناية عن كل شعب الله. والزيجة لست منافية للطهارة إذا حُفظ القانون الذي وضعه الرسول لها وهو أن يُحب المسيح أكثر من الزوج (١كورنثوس ٧: ٢٩). وإذا حملناه على منع الزيجة خالف كثيراً من أقوال الكتاب فيها (انظر ١كورنثوس ٧: ٢ – ١٧ و١تيموثاوس ٤: ٣ وعبرانيين ١٣: ٤) وحُرم بطرس من دخول الملكوت السماوي لأنه كان متزوجاً (متّى ٨: ١٤).

هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَتْبَعُونَ ٱلْحَمَلَ حَيْثُمَا ذَهَبَ هذا يدل على طاعتهم الكاملة للمسيح ولا سيما قوله «مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى ١٠: ٣٨ انظر أيضاً متّى ٢٠: ٢٢ ولوقا ١٤: ٢٧ ويوحنا ١٢: ٢٤ – ٢٦). وهم يتبعون المسيح باعتبار أنه مرشدهم وقدوتهم وإنه قائدهم في الجهاد الروحي وعمل الصلاح ويتبعونه في سبيل حمل صليب الآلام ويموتون معه ثم يقومون معه ويملكون معه. ويطيعون المسيح بأن يتبعوه في الفرج والضيق وفي الاضطهاد والانتصار. والذين يتبعونه على الأرض يقودهم إلى ينابيع حيّة سماوية (ص ٧: ١٧).

ٱشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ بَاكُورَةً لِلّٰهِ وَلِلْحَمَلِ (انظر تفسير ص ٥: ٩) وهذا يدل على مقامهم ووقفهم أنفسهم لله وعلى أنهم «جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ» (١بطرس ٢: ٩ انظر تيطس ٢: ١٤). ومعنى كونهم «باكورة» إنهم مختارون من كل خليقة الله. ويؤيد ذلك قول المسيح «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متّى ٢٤: ٣١). وقول يعقوب «شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ» (يعقوب ١: ١٨). كانت باكورة الحصاد وقفاً لله دليلاً على أن له الكل. كذا كان إسرائيل بين الأمم (تثنية ٧: ٦) ثم صار المسيحيون كذلك (رومية ١١: ١٦ و١٦: ٥ و١كورنثوس ١٥: ٢ و١٦: ١٥).

وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ هذه الصفة الرابعة من صفات المختارين ومعناه أنه لا شيء من طبيعتهم ولا من أعمالهم ولا من أقوالهم ما ينافي الحق على بساطته على وفق قول المرنم «يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟ مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ ٱلسَّالِكُ بِٱلْكَمَالِ، وَٱلْعَامِلُ ٱلْحَقَّ، وَٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ. ٱلَّذِي لاَ يَشِي بِلِسَانِهِ» (مزمور ١٥: ١ – ٣ انظر ١يوحنا ٢: ٤ و٢١ ورؤيا ٢١: ٢٧). فكانوا بذلك مثل المسيح الذي «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (١بطرس ٢: ٢٢).

لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ ٱللهِ كالمسيح رئيسهم وقائدهم (١بطرس ١: ١٩). فهم قدموا لله بيد المسيح الذي يسر الله به أبداً (ص ٧: ١٤ و١٥ وأفسس ٥: ٢٧ وكولوسي ١: ٢٢). وُصف المؤمنون بتلك الصفات التي في (ع ١ – ٥) تنشيطاً لهم للأمانة في أثناء الاضطهادات واستعداداً للمناداة بالبشارة الأبدية.

٦ «ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَائِراً فِي وَسَطِ ٱلسَّمَاءِ مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ».

ص ٨: ١٣ ص ١٠: ٧ و١بطرس ١: ٢٥ ص ٣: ١٠ و٥: ٩

في هذه الآية وما بعدها إلى نهاية الثالثة عشرة ذكر ثلاثة ملائكة أنبأوا بما يأتي ونادوا بغبطة الموتى في الرب.

رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ أي غير الملائكة الذين مرّ ذكرهم.

طَائِراً فِي وَسَطِ ٱلسَّمَاءِ لكي يراه كل قبائل الأرض (ص ٨: ١٣).

مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ نعت الإنجيل بكونه «بشارة أبدية» لأنه كلام ذاك الذي هو «منذ الأزل وإلى الأبد» فامتاز عن أعداء الله الذين يأتي هلاكهم بغتة. قال المسيح «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متّى ٢٤: ٣٥). ومواعيد الإنجيل وإنذاراته لا تتغير. وكان الإنجيل «بشارة» لكونه أنباء بأن الله يحب العالم وإنه أعد له وسائل الخلاص وإن جعل لهم فرصة للتوبة ونيل الخلاص. ويبقى بشارة وأن أنبأ بخطيئة الإنسان والعقاب الذي وجب عليه من أجلها لأنه أعلن ذلك ليتمسك الخاطئ بالمسيح المخلص. والظاهر إن «البشارة» هنا مقصورة على ذكر الأحكام التي تأتي على العالم (ع ٧).

لِيُبَشِّرَ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ كما قال المسيح «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ هٰذِهِ فِي كُلِّ ٱلْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي ٱلْمُنْتَهَى» (متّى ٢٤: ١٤). والذي يكون بشارة لشعب الله يكون إنذاراً لأعدائه.

وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ ذكر أربعة أقسام من الناس إشارة إلى الكل حسب مصطلح الرؤيا في عدد الأربعة. فالبشارة على قدر الذين كانوا تحت سلطة الوحش (ص ١٣: ٧).

٧ «قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: خَافُوا ٱللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْداً، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ. وَٱسْجُدُوا لِصَانِعِ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ ٱلْمِيَاهِ».

ص ١٥: ٤ و١١: ١٣ و٤: ١١ و٨: ١٠

قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: خَافُوا ٱللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْداً هذا يجب أن يكون نتيجة البشارة الأبدية لأن الناس يحتاجون إلى الانتباه من غفلتهم (١بطرس ٣: ١٤ و١٥). فالدعوة إلى التوبة جزء عظيم من الإنجيل (متّى ٤: ١٧ و١تسالونيكي ١: ٩). وتقديم لمجد الله واجب على كل خليقته بدليل قول المرنم «قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا قَبَائِلَ ٱلشُّعُوبِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَقُوَّةً. قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ ٱسْمِهِ» (مزمور ٩٦: ٧ و٨). ومخافة الرب هنا تقابل مخافة الوحش.

لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ عبر هنا عن المستقبل بصيغة الماضي تأكيداً لتحقق وقوع الدينونة وتلك الدينونة هي التي بها الله يسحق عالم الفجار (ص ١١: ١٨). وآية قرب يوم الدينونة إنها على أثر المناداة بالإنجيل على مقتضى قول المسيح «يُكْرَزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ… ثُمَّ يَأْتِي ٱلْمُنْتَهَى» (متّى ٢٤: ١٤) فإذاً لا بد من هذا الاستعداد قبل مجيئه. وهذه «الدينونة» يجريها الله على كل الذين لا يخافونه ولا يعطونه مجده فهو يمجّد نفسه بأن يعاقب الذي لا يمجدونه اختياراً.

وَٱسْجُدُوا لِصَانِعِ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ ٱلْمِيَاهِ أي اعتزلوا عبادة التماثيل والآلهة الباطلة «واعبدوا الإله الحي. ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا» (أعمال ١٤: ١٥) فإنه قادر على أن يطفئ أنوار السماء (ص ٨: ١٢) ويجعل الأرض قفراً بالنار والبرَد (ص ٨: ٧) ويحوّل مياهها إلى دم (ص ٨: ٨ و٩) ويجعل ثلث المياه أفسنتيناً (ص ٨: ١٠ و١١) وإنه يخالف طبيعته أن يأذن في إعطاء مجده لغيره.

٨ «ثُمَّ تَبِعَهُ مَلاَكٌ آخَرُ قَائِلاً: سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابِلُ ٱلْمَدِينَةُ ٱلْعَظِيمَةُ، لأَنَّهَا سَقَتْ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا».

إشعياء ٢١: ٩ وإرميا ٥١: ٨ وص ١٨: ٢ وإشعياء ٢١: ٩ وإرميا ٥١: ٨ ص ١٦: ١٩ و١٧: ٥ و١٨: ١٠ دانيال ٤: ٣٠ إرميا ٥١: ٧ ص ١٨: ٢ و١٧: ٢ و٤

في هذه الآية إنذار بدينونة بابل وفيها بشارة خاصة للكنيسة بسقوط عدو الكنيسة العظيم المضطهد. فكما كانت أورشليم رمزاً إلى ملكوت السماء (غلاطية ٤: ٢٦) كانت بابل رمزاً إلى قوة العالم الشرير ومركز سلطانه. وعُبّر في العهد القديم عن القوات الدنيوية الحاضرة بأسماء الممالك القديمة.

إن المناداة بالإنجيل لا تزال نحفر تحت أُسس حصن القوات العالمية لكي تسقطها فالإنجيل كان علّة سقوط رومية الوثنية التي كانت في عصر يوحنا بمنزلة بابل. فهو علّة تقدّم الحرية السياسية في العالم وهو اليوم يسعى في إسقاط الكنيسة الباباوية على قدر مضايقتها لتعليمه ومشابهتها لبابل القديمة.

سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابِلُ على نحو ما في (ص ١٦: ١٩ و١٨: ٢١). وقول إشعياء «سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابِلُ، وَجَمِيعُ تَمَاثِيلِ آلِهَتِهَا ٱلْمَنْحُوتَةِ كَسَّرَهَا إِلَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٢١: ٩). فبابل لا تنحصر في مملكة واحدة ولا في عصر واحد بل هي حيث يدّعي الناس السلطة على عقائد البشر أو عبادتهم مما يختص بالله وكلمته. وسيأتي الكلام على سقوط بابل بالتفصيل في (ص ١٦: ١٩ وص ١٧ وص ١٨). وعبّر عن المستقبل بصيغة الماضي لتيقنه وقوع ذلك سريعاً.

لأَنَّهَا سَقَتْ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا هذا مثل قول النبي «بَابِلُ كَأْسُ ذَهَبٍ بِيَدِ ٱلرَّبِّ تُسْكِرُ كُلَّ ٱلأَرْضِ. مِنْ خَمْرِهَا شَرِبَتِ ٱلشُّعُوبُ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ جُنَّتِ ٱلشُّعُوبُ. سَقَطَتْ بَابِلُ بَغْتَةً وَتَحَطَّمَتْ» (إرميا ٥١: ٧ و٨ انظر أيضاً حبقوق ٢: ١٥ و١٦). أشار بذلك إلى إثمها وعقابها وشقائها ودناءتها وخزيها وأمثال ذلك مما نتج عن تعليمها الفاسد وعبادتها الباطلة التي بها أسكرت الشعوب وسممتها. وهذا الكلام مبني على ما ارتكبه الوثنيون قديماً من أنهم شربوا المسكرات في ولائمهم المقترنة بعبادة آلهتهم ليهيجوا غيرتهم لعبادة التماثيل وشهواتهم الجسدية.

٩، ١٠ «٩ ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ، وَيَقْبَلُ سِمَتَهُ عَلَى جِبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، ١٠ فَهُوَ أَيْضاً سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ ٱللهِ ٱلْمَصْبُوبِ صِرْفاً فِي كَأْسِ غَضَبِهِ، وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ ٱلْحَمَلِ».

ع ١١ ص ١٣: ١٢ و١٤ و١٦ و١٦: ١٩ و١٩: ١٥ وإشعياء ٥١: ١٧ وإرميا ٢٥: ١٥ و٢٧ ص ١٨: ٦ ومزمور ٧٥: ٨ ص ١٩: ٢٠ و٢٠: ١٠ و١٤ و٢١: ٨ ومزمور ٣٨: ٢٢ و٢تسالونيكي ١: ٨ مرقس ٨: ٣٨

ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ في هذه الآية وما بعدها إلى الآية الثانية عشرة أنباء بدينونة كل الذين سجدوا للوحش ولصورته على ما ذُكر في (ص ١٣: ١٥).

فَهُوَ أَيْضاً سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ ٱللهِ العقاب من جنس الذنب فكما أنهم شربوا من خمر زنا بابل سيشربون من خمر غضب الله (ع ٨).

ٱلْمَصْبُوبِ صِرْفاً فِي كَأْسِ غَضَبِهِ ذُكرت كأس غضب الله في (مزمور ٧٥: ٨ وإرميا ٢٥: ١٥ – ٣٩). اعتاد الناس أن يمزجوا الخمر بالماء في ولائمهم ليُضعفوا تأثيرها ولكن قيل هنا إن الأشرار «يشربون كأس غضب الله صرفاً» أي غير ممزوجة لمضي أيام الشفقة والرحمة. ولا شيء يُضعف شديد عقاب الله.

وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ كما عذّب سدوم وعمورة (تكوين ١٩: ٢٤). ورُمز «بالنار والكبريت» في العهد القديم إلى العقاب الشديد (مزمور ١١: ٦ وإشعياء ٣٤: ٩ و١٠).

أَمَامَ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ ٱلْحَمَلِ كما جاء في (ص ٢٠: ١٠). وهذا مبني على قول إشعياء (إشعياء ٦٦: ٢٣ و٢٤) اعتُبر هنا «الملائكة» و «القديسون» إنهم أجروا ذلك العقاب على وفق قول بولس الرسول «عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ ٱللهَ وَٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ» (٢تسالونيكي ١: ٧ – ٩).

١١ «وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَاراً وَلَيْلاً لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يَقْبَلُ سِمَةَ ٱسْمِهِ».

ص ١٨: ٩ و١٨ و١٩: ٣ وإشعياء ٣٤: ٨ – ١٠

وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ كسدوم وعمورة. قال موسى «تَطَلَّعَ (إبراهيم) نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ، وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ ٱلدَّائِرَةِ، وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ ٱلأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ ٱلأَتُونِ» (تكوين ١٩: ٢٨ انظر أيضاً ص ١٩: ٣ وإشعياء ٣٤: ١٠). فعذابهم عذاب جهنمي (ص ١٩: ٢٠ و٢٠: ١٠ و٢١: ٨).

وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَاراً وَلَيْلاً من العذاب. فتلك الدينونة شديدة لأنها دينونة خطأة خطئوا عمداً واختياراً فأحبوا الخطيئة وتمسكوا بها كما أحب الشهداء المسيح والتصقوا به. فيظهر الله محبته للقداسة بإظهاره بغضه للخطيئة وبعقابه الخطأة وبغيرته أن يستأصل الخطيئة من ملكوته.

١٢ «هُنَا صَبْرُ ٱلْقِدِّيسِينَ. هُنَا ٱلَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا ٱللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ».

ص ١٣: ١٠ ص ١٢: ١٧ ص ٢: ١٣

هُنَا صَبْرُ ٱلْقِدِّيسِينَ أي دعوتهم إلى أن يحتملوا بالصبر والثبات الاضطهادات التي تقع عليهم. فغاية هذه الرؤيا تقوية إيمان القديسين وإعدادهم لاحتمال الامتحان.

ٱلَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا ٱللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ أي الإيمان الذي موضوعه يسوع. والذي يحث شعب الله على حفظ وصاياه والإيمان به هو مشاهدتهم الأحكام الجارية على الذين سجدوا للوحش وقبلوا سمته كما في (ص ١٣: ١٠).

١٣ «وَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً لِي: ٱكْتُبْ. طُوبَى لِلأَمْوَاتِ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلآنَ نَعَمْ يَقُولُ ٱلرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُـهُمْ تَتْبَعُهُمْ».

ص ٢٠: ٦ و١كورنثوس ١٥: ١٨ و١تسالونيكي ٤: ١٦ ص ١١: ١٨ ص ٢: ٧ و٢٢: ١٧ ص ٦: ١١ وعبرانيين ٤: ٩ و١تيموثاوس ٥: ٢٥

سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً لِي: ٱكْتُبْ لم يذكر صوت من هذا لكن الأمر بالكتابة يدل على أنه صوت الملاك الذي أعلن هذه الرؤيا ليوحنا (ص ١: ١ و٤: ١).

طُوبَى لِلأَمْوَاتِ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي ٱلرَّبِّ ذكر صبر القديسين في الآية السابقة يشير إلى مَن هذه الغبطة وهم الذين ماتوا مؤمنين بالمسيح وحافظين وصاياه واحتملوا الاضطهاد حتى الموت فأنبأ بسعادتهم. فإذاً لا يشير إلى من ماتوا في راحة واطمئنان وأمن بل إلى الذين ماتوا موت الشهداء أو الذين استعدوا لأن يموتوا كذلك إذا اقتضت الحال. والأمر بالكتابة ذكر اثنتي عشرة مرة في هذا السفر والغاية منه بيان أهمية ما أمر بكتابته. وأهمية ذلك هنا التعزية الخاصة لكل الذين يسمعون هذا الوعد أو يقرأونه في كل عصور الكنيسة بخلاف حال عبَدَة الوحش الذين لا يستريحون ليلاً ونهاراً (ع ١١). و «الموت في الرب» هو مثل موت المسيح مع الاتكال عليه.

مُنْذُ ٱلآنَ لم يتضح لماذا قال هذا لأنه يستلزم إن غبطتهم تكون أعظم من غبطة ممن سبقهم. ولعل علة ذلك كون حصاد العالم على وشك أن يُجمع ومعصرة الله أن تُداس. وعلى أثر ذلك تبتدئ سعادة الموتى في الرب الكاملة ويتم عدد إخوتهم الذين سيقتلون مثلهم (ص ٦: ١١).

نَعَمْ يَقُولُ ٱلرُّوحُ إن الروح القدس يصدّق إنهم مغبوطون ويُظهر علّة غبطتهم.

لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ هذه الغبطة «للمئة والأربعة والأربعين ألفاً» الذين هم نواب كل الكنيسة فإنهم يستريحون من المشقات التي احتملوها في خدمة المسيح والشدائد التي آلمتهم لا من مجرد أتعاب الخدمة المسيحية. كانت حياتهم حياة بلاء ومحنة واضطهاد وانتهت بموتهم فنالوا الراحة الأبدية.

وَأَعْمَالُـهُمْ تَتْبَعُهُمْ أي تلك الأعمال تشهد بحسن سجاياهم وسيرتهم المسيحية وبغيرتهم في خدمة المسيح وصبرهم على احتمال الآلام من أجله. وهذا يُظهر أنهم كانوا مستعدين لهذه الراحة فهم لا يفقدون شيئاً مما فعلوا ومما احتملوا فكل ذلك يلاقونه هنالك أنه يُذكر ويُثاب عليه في المنازل الأبدية.

١٤ «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى ٱلسَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ».

متّى ١٧: ٥ ص ١: ١٣ و٦: ٢ مزمور ٢١: ٣

في هذه الآية وما بعدها إلى نهاية الآية السادسة عشرة رؤيا الحصاد العظيم.

وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ ذُكرت هذه السحابة أيضاً في (ع ١٦) وهي كناية عن الطهارة والمجد (دانيال ٧: ١٣ ومتّى ٢٤: ٣٠ و٢٦: ٦٤).

وَعَلَى ٱلسَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ لا بد من أنه رأى صورته عينها مطابقة لقوله «هوذا يأتي مع السحاب» (ص ١: ٧) وقول المسيح نفسه «حِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متّى ٢٤: ٣٠).

لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ آية ودليل على مقامه الملكي وانتصاره على أعدائه (ص ١٩: ١٢). فهو «ملك الملوك ورب الأرباب» (ص ١٩: ١٦) وإليه سُلم كل الدينونة.

فِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ على وفق قوله «وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ» (مرقس ٤: ٢٩).

١٥ «وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلسَّحَابَةِ: أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَٱحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ ٱلسَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ ٱلأَرْضِ».

ع ١٧ وص ١٥: ٦ و١٦: ١٧ و١١: ١٩ ع ١٨ ومرقس ٤: ٢٩ ويوئيل ٣: ١٣ متّى ١٣: ٣٩ – ٤١ إرميا ٥١: ٣٣

وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ أي من حضرة الله وهو مرسل منه فله حق أن يوصي المسيح بما يأتي (يوحنا ٥: ٢٧) والله وحده يعلم ساعة الحصاد (مرقس ١٣: ٣٢ وأعمال ١: ٧).

أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَٱحْصُدْ إن المسيح رب الحصاد (متّى ٩: ٣٨). اختلف المفسرون في أنه أَحصاد نفوس الأبرار هذا وهو المشار إليه في (متّى ٩: ٣٨ و١٣: ٣٨ و٣٩ ومرقس ٤: ٢٩ ويوحنا ٤: ٣٥) أم حصاد الغضب والانتقام من أعداء الله وكنيسته وهو المشار إليه في (إشعياء ٢٧: ١١ ويوئيل ٢٣: ١ و١٣). والمرجّح أنه جمع نفوس الأبرار للسعادة حسب وعد المسيح «إِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ» (يوحنا ١٤: ٣) وجمع الأشرار للدينونة في المعصرة.

لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ ٱلسَّاعَةُ لِلْحَصَادِ أي الساعة التي تتوقف على مشيئة الآب وعلمه (مرقس ١٣: ٣٢).

إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ ٱلأَرْضِ أي أعدّ تمام الإعداد ليُجمع.

١٦ «فَأَلْقَى ٱلْجَالِسُ عَلَى ٱلسَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ، فَحُصِدَتِ ٱلأَرْضُ».

أي فعل المسيح كما طلب الله بفم الملاك وجمع مختاريه على وفق قوله في (مرقس ٤: ٣ و١٣: ٢٧).

١٧ «ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضاً مِنْجَلٌ حَادٌّ».

ع ١٧ وص ١٥: ٦ و١٦: ١٧

ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاءِ أي من أمام حضرة الله حيث تصدر أحكامه (ص ١١: ١٩).

مَعَهُ أَيْضاً مِنْجَلٌ حَادٌّ كالمنجل الذي في يد المسيح.

١٨ «وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْمَذْبَحِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى ٱلنَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخاً عَظِيماً إِلَى ٱلَّذِي مَعَهُ ٱلْمِنْجَلُ ٱلْحَادُّ، قَائِلاً: أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ ٱلْحَادَّ وَٱقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْمِ ٱلأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا قَدْ نَضَجَ».

ص ٦: ٩ و٨: ٣ ص ١٦: ٨ يوئيل ٣: ١٣

خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ ٱلْمَذْبَحِ حيث تصعد صلوات القديسين مع بخور كثير (ص ٨: ٣). وحيث تصرخ أنفس الشهداء «حتى متى يا رب الخ» (ص ٧: ٩ و١٠) ومن هناك أُخذت النار والرماد المرشوش على الأرض علامة الدينونة الآتية عليها (ص ٨: ٥).

لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى ٱلنَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخاً عَظِيماً إِلَى ٱلَّذِي مَعَهُ ٱلْمِنْجَلُ ٱلْحَادُّ الخ هذا يشير إلى جمع الأشرار للعقاب. والتابع لهذه الآية إلى الآية العشرين يوافق الخمس الآيات الأخيرة من الأصحاح التاسع عشر.

١٩، ٢٠ «١٩ فَأَلْقَى ٱلْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى ٱلأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ ٱلأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ ٱللهِ ٱلْعَظِيمَةِ. ٢٠ وَدِيسَتِ ٱلْمِعْصَرَةُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ دَمٌ مِنَ ٱلْمِعْصَرَةُ حَتَّى إِلَى لُجُمِ ٱلْخَيْلِ، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِئَةِ غَلْوَةٍ».

ص ١٩: ١٥ إشعياء ٦٣: ٢ ومرقس ١١: ١٥ عبرانيين ١٣: ١٢ وص ١١: ٨ تكوين ٤٩: ١١ وتثنية ٣٢: ١٤

مَعْصَرَةِ غَضَبِ ٱللهِ ٱلْعَظِيمَةِ هذا كناية عن انتقام الله من الأشرار فإن عصر العنب الأحمر يشبه سفك الدم ويشير إلى إهلاك أعداء الله على وفق قول النبي «مَنْ ذَا ٱلآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟ هٰذَا ٱلْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ. ٱلْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ. أَنَا ٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلْبِرِّ، ٱلْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ. مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ، وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ ٱلْمِعْصَرَةِ؟ قَدْ دُسْتُ ٱلْمِعْصَرَةَ وَحْدِي، وَمِنَ ٱلشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ. فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي. فَرُشَّ عَصِيرُهُمْ عَلَى ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي. لأَنَّ يَوْمَ ٱلنَّقْمَةِ فِي قَلْبِي، وَسَنَةَ مَفْدِيِّيَّ قَدْ أَتَتْ» (إشعياء ٦٣: ١ – ٤).

وَدِيسَتِ ٱلْمِعْصَرَةُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ جرياً على عادة أن تكون المعاصر خارج المدن (انظر مرقس ١١: ١٥).

فَخَرَجَ دَمٌ مِنَ ٱلْمِعْصَرَةُ حَتَّى إِلَى لُجُمِ ٱلْخَيْلِ، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِئَةِ غَلْوَةٍ منظر بحر من الدم لا تقل مساحته عن مئتي ميل مربع وعمقه من لجم الخيل إلى الأرض يشير إلى إهلاك أعداء الله مخيف جداً.

وهذا يوافق قوله في المسيح أنه «يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ ٱللهِ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (ص ١٩: ١٥). وهذه الدينونة تأتي على كل شعوب الأرض وتوافق قول المسيح في آخر مثل الزوان (متّى ١٣: ٤٠ و٤١). ومثل الشبكة الملقاة في البحر (متّى ١٣: ٤٩ و٥٠). ولا نعلم المراد من العدد المذكور هنا إلا أنه يشير إلى اتساع النقمة وكمالها وهولها.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى