رؤيا يوحنا | 13 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر رؤيا يوحنا
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ عَشَرَ
كان من الواجب أن تكون الجملة الأولى من الآية الأولى من هذا الأصحاح الجملة الأخيرة من الأصحاح السابق.
١ «ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ ٱلْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشاً طَالِعاً مِنَ ٱلْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ ٱسْمُ تَجْدِيفٍ».
ع ١٤ و١٥ وص ١٥: ٢ و١٦: ١٣ و١١: ٧ و١٧: ٣ دانيال ٧: ٨ و١١: ٣٦
وَقَفْتُ وفي بعض النسخ المكتشفة حديثاً «وقف» أي وقف التنين ينتظر صعود الوحش إجابة لطلبه. وفي هذا الأصحاح وُصف اثنان من أعداء الكنيسة الكبار وإنهما ساعدا التنين (أي الشيطان) على محاربة المسيح والحق.
فَرَأَيْتُ وَحْشاً طَالِعاً مِنَ ٱلْبَحْرِ يُستعار البحر في الأسفار النبوية إلى جمهور أشرار العالم في كونها مضطربة وكثيرة كأمواجه. وهذا مثل قول إشعياء «أَمَّا ٱلأَشْرَارُ فَكَٱلْبَحْرِ ٱلْمُضْطَرِبِ لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ، وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِيناً» (إشعياء ٥٧: ٢٠). وقول الملاك ليوحنا «ٱلْمِيَاهُ ٱلَّتِي رَأَيْتَ… هِيَ شُعُوبٌ وَجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وَأَلْسِنَةٌ» (ص ١٧: ١٥). وصعد الوحش من البحر لأنه مملكته. وهذه الرؤيا تشبه رؤيا دانيال وهي ما في قوله «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤْيَايَ لَيْلاً وَإِذَا بِأَرْبَعِ رِيَاحِ ٱلسَّمَاءِ هَجَمَتْ عَلَى ٱلْبَحْرِ ٱلْكَبِيرِ» (دانيال ٧: ٢). والذي رآه دانيال هو أربعة حيوانات مختلفة الصفات وكان للوحش الذي رآه يوحنا كل صفات هذه الأربعة وهي مجموعة فيه وعُبر عنه «بالوحش» إشارة إلى قوة قاسية مكروهة كل الكره وإنه شرس مهلك. وما عُبر عنه «بالحيوان» في هذا السفر عكسه وأنه قوة شريفة روحية محبوبة مكرمة. والذي بينه وبين الوحش كل المباينة هو الخروف أي المسيح. والوحش أيضاً كناية عن كل قوة عالمية تتسلط على الناس بالإخافة والإجبار لا بالمحبة والحق.
لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ كالتنين في (ص ١٢: ٣ فانظر التفسير).
وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ هذا يدل على أن القرون ملوك وممالك وهو على قول السفر نفسه «اَلسَّبْعَةُ ٱلرُّؤُوسُ هِيَ سَبْعَةُ جِبَالٍ (أي ممالك) وَسَبْعَةُ مُلُوكٍ: خَمْسَةٌ سَقَطُوا، وَوَاحِدٌ مَوْجُودٌ، وَٱلآخَرُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ… وَٱلْعَشَرَةُ ٱلْقُرُونُ ٱلَّتِي رَأَيْتَ هِيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ» (ص ١٧: ٩ – ١٢). وفي نبوءة دانيال إن القرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك (دانيال ٧: ٢٤). فالقرون ممالك مختلفة ولكن روحها واحد وهو روح الوحش.
وَعَلَى رُؤُوسِهِ ٱسْمُ تَجْدِيفٍ أي إن الأشياء التي سمى الملوك أنفسهم بها مما يختص بالله وحده. فكتب كلام التجديف على تلك القرون كما كُتب على عمامة الحبر الأعظم «قدس للرب» فهم كملك بابل القائل «أَلَيْسَتْ هٰذِهِ بَابِلَ ٱلْعَظِيمَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ ٱلْمُلْكِ بِقُوَّةِ ٱقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي» (دانيال ٤: ٣٠).
٢ «وَٱلْوَحْشُ ٱلَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ ٱلتِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظِيماً».
دانيال ٧: ٤ و٥ و٦ هوشع ١٣: ٧ ع ٤ و١٢ ص ١٢: ٣ و٢: ١٣ و١٦: ١٠
وَٱلْوَحْشُ ٱلَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ… وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ هذا برهان على أن الوحش يشير إلى القوة المشار إليها بأربعة الممالك التي ذُكرت في (دانيال ٧: ٤ – ٧) فإنها اجتمعت فيها صفات النمر والدب والأسد وجُمعت في قوة الوحش قوات الممالك المشار إليها بتلك الحيوانات.
وَأَعْطَاهُ ٱلتِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظِيماً وهو ما عرضه الشيطان على المسيح يوم التجربة ورفض المسيح أن يأخذه منه قبله الوحش فيظهر من هذا إن الوحش نائب الشيطان وآلته. فاستخدمه رئيس هذا العالم ليحارب المسيح وكنيسته. فإذاً نعلم من وصف هذا الوحش هنا وفي (ص ١٧) إنه يشير إلى قوات العالم وممالكه السياسية التي كانت بالتتابع تضطهد الكنيسة بأمر التنين فهي دنيوية متكبرة محبة للرئاسة مبغضة لله. وخلاصة التعليم في نبإ الوحش إن العددين «السبعة» و «العشرة» رمزيان لا حقيقيان يشيران إلى الكمال والتنوع. وإن ملك الوحش عام وإن قرونه تشير إلى الدول المتوالية لا إلى ملوك معينة (ص ١٧: ١٠). و «سبعة رؤوس الوحش» هي سبعة وجوه لقوة العالم الشرير و «قرونه» تشير إلى قوته (ص ٥: ٦ و١٧: ١٢). وهذا الوحش يتظاهر بشبه المسيح رئيس الكنيسة وهو نائب قوة خفية أخذ سلطانه التنين وتظاهر بأنه يشبه المسيح بموته وقيامته (ع ٣) وإنه بتعجب الناس منه وعبادتهم إياه وباجتماع مبادئ الظلمة له والبغض للحق كما جمع المسيح في نفسه مبادئ النور والحق فإذاً ليس هو دولة قوية خاصة ولا ملك بعينه بل قوة العالم الممثلة بصورة الوحش وهي مضادة لله تختار العالميات بدلاً من الروحيات والمنظورات بدلاً من غير المنظور والزمنيات بدلاً من الأبديات.
وفي هذه القوة قال بولس «نَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللهِ، ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ» (١كورنثوس ٢: ١٢ و١٣). وفيها قال يعقوب «أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (يعقوب ٤: ٤). وقال يوحنا «لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ» (١يوحنا ٢: ١٥ و١٦). وقال المسيح «رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ». وقال في صلاته لأبيه «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٤: ٣٠ و١٧: ١٥ و١٦). وقال بولس «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢).
٣ «وَرَأَيْتُ وَاحِداً مِنْ رُؤُوسِهِ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لِلْمَوْتِ، وَجُرْحُهُ ٱلْمُمِيتُ قَدْ شُفِيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ ٱلأَرْضِ وَرَاءَ ٱلْوَحْشِ».
ع ١٢ و١٤ ص ١٧: ٨
في هذا شبه لموت المسيح وقيامته. ظن بعضهم معنى ذلك إن قوة العالم ضعفت عند موت المسيح لأن «نسل المرأة حينئذ سحق رأس الحية» لكنه لم يضر وقتئذ «كل ممالك العالم مملكة للرب يسوع المسيح» وبقي العالم يقاوم الله ويضطهد الكنيسة. وذهب بعضهم إن الإشارة في ذلك إلى سقوط المملكة الرومانية الوثنية وإنها تجددت تحت أسماء جديدة وادعى ملوكها أنهم مسيحيون.
٤ «وَسَجَدُوا لِلتِّنِّينِ ٱلَّذِي أَعْطَى ٱلسُّلْطَانَ لِلْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلْوَحْشِ قَائِلِينَ: مَنْ هُوَ مِثْلُ ٱلْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟».
ص ١٨: ١٨ وخروج ١٥: ١١ وإشعياء ٤٦: ٥
كان شفاء الجرح المميت علة أمرين الأول تعجب الناس والثاني العبادة للوحش وللتنين. فإن الناس يعتبرون القوة والنجاح أكثر مما يعتبرون الحق. والكلمات التي عظموا بها الوحش هي من كلام التسابيح المقدمة لله. قابل كلمات تعظيم الوحش بكلمات تمجيد الله في قول النبي ميخا «من هو إله مثلك الخ» (ميخا ٧: ١٨).
٥ «وَأُعْطِيَ فَماً يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ وَتَجَادِيفَ، وَأُعْطِيَ سُلْطَاناً أَنْ يَفْعَلَ ٱثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْراً».
دانيال ٧: ٨ و١١ و٢٥ و١١: ٣٦ ص ١١: ٢ و٢تسالونيكي ٢: ٦
ما قيل في هذه الآية يدل على أن قوة الوحش مكتسبة لا أصلية أي إن الله سمح له أن يستعملها زمناً يسيراً. وهذا يذكرنا قول المسيح لبيلاطس «لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ ٱلْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ» (يوحنا ١٩: ١١).
ٱثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْراً مدة كون الكنيسة في البرية مضطهدة (ص ١٢: ٦) أي جهادها واحتمالها الاضطهاد.
٦ «فَفَتَحَ فَمَهُ بِٱلتَّجْدِيفِ عَلَى ٱللهِ، لِيُجَدِّفَ عَلَى ٱسْمِهِ وَعَلَى مَسْكَنِهِ وَعَلَى ٱلسَّاكِنِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ».
ص ١٢: ١٢ و٧: ١٥
أي ينسب إلى الوحش ما يحق لله وحده فيكون ذلك احتقاراً لكلام الله الذي يُعلن صفات الله وأعماله ومحاربة لكنيسته وقديسيه وملائكته.
٧ «وَأُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْباً مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَيَغْلِبَهُمْ، وَأُعْطِيَ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ».
ص ١١: ٧ و٥: ٩
سمح الله للوحش بذلك امتحاناً لإيمان الكنيسة.
وَيَغْلِبَهُمْ بأن يقتل من لا يسجد له.
وَأُعْطِيَ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ الخ هذا يدل على اتساع ملكه وهو مثل قول دانيال في وصف القرن الصغير «وَإِذَا هٰذَا ٱلْقَرْنُ يُحَارِبُ ٱلْقِدِّيسِينَ فَغَلَبَهُمْ» (دانيال ٧: ٢١).
٨ «فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ، ٱلَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ ٱلْحَمَلِ ٱلَّذِي ذُبِحَ».
ع ١٢ و١٤ و٣: ١٠ و٥ ص ١٧: ٨ متّى ٢٥: ٣٤ وص ٥: ٦
يَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ، ٱلَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً… فِي سِفْرِ حَيَاةِ ٱلْحَمَلِ ٱلَّذِي ذُبِحَ يظهر من هذا أن امتحان المؤمنين يكون شديداً إلى حد أن لا يكون حفظهم إلا باختيار الله. وذُكر «سفر الحياة» في (ص ٣: ٥) ووصف بأنه «سفر حياة الخروف الذي ذُبح» وسمي «سفر الحياة» في (ص ٢١: ٢٧). وهذا دليل على أن علّة خلاص المفديين ليست أعمالهم الصالحة بل تكفير المسيح لخطاياهم بدمه. وإن خلاص كل المؤمنين حتى قديسي العهد القديم متوقف على المسيح ومحبة الله منذ الأزل. فاختيارهم سبق وجودهم فأكد خلاصهم كما قيل في (متّى ٢٤: ٢٤). فالمختارون يُمتحنون ولكنهم لا يرتدون ولولا دم المسيح المستَند عليه بالإيمان لم يكن ذلك الاختيار. ولولا مخلصهم القدير ما أمكنهم أن يحاربوا ذلك العدو المخيف ولكنهم بموتهم يغلبون.
٩ «مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ!».
ص ٢: ٧
هذا تنبيه للقارئ أن يتلفت إلى ما يأتي ويستعد له.
١٠ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْياً فَإِلَى ٱلسَّبْيِ يَذْهَبُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بِٱلسَّيْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ بِٱلسَّيْفِ. هُنَا صَبْرُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَإِيمَانُهُمْ».
إشعياء ٣٣ وإرميا ١٥: ٢ و٤٣: ١١ تكوين ٩: ٦ ومتّى ٢٦: ٥٢ ص ١١: ١٨ عبرانيين ٦: ١٢ وص ١٤: ١٢
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْياً فَإِلَى ٱلسَّبْيِ يَذْهَبُ هذا مثل قول النبي إرميا «هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: ٱلَّذِينَ لِلْمَوْتِ فَإِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلَّذِينَ لِلسَّيْفِ فَإِلَى ٱلسَّيْفِ، وَٱلَّذِينَ لِلْجُوعِ فَإِلَى ٱلْجُوعِ، وَٱلَّذِينَ لِلسَّبْيِ فَإِلَى ٱلسَّبْيِ» (إرميا ١٥: ٢ انظر أيضاً إرميا ٤٣: ١١ وزكريا ١١: ٩). وهذا يشير إما إلى آلام القديسين بالسبي والموت بالسيف وإن لا سبيل لهم إلا أن يحتملوها بالصبر أو إلى النقمة التي تأتي من الله على مضطهديهم وإن الكيل الذي به كالوا لشعب الله يكيل الله لهم به.
هُنَا صَبْرُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَإِيمَانُهُمْ أي إن الله يجرب بهذا الاضطهاد صبر مختاريه وإيمانهم (ص ١٤: ١٢ و١كورنثوس ٤: ٩) ذهب بعضهم إن هذا تحذير للمسيحيين من أن يحاربوا أعداءهم بمثل أسلحة الأعداء لأن انتصارهم ليس بأسلحة مادية بل بأسلحة روحية كالإيمان والصبر فعليهم أن يحملوا ضيقاتهم كما حمل المسيح صليبه متذكرين قوله «ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متّى ٢٦: ٥٢).
١١ «ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشاً آخَرَ طَالِعاً مِنَ ٱلأَرْضِ، وَكَانَ لَهُ قَرْنَانِ شِبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتِنِّينٍ».
ع ١ و١٤ وص ١٦: ١٣ دانيال ٨: ٣ ع ٤
في هذه الآية وما يليها إلى الأية السابعة عشرة وصف الوحش الثاني الذي هو عدو لشعب الله وهو الثالث من الأعداء الثلاثة العظمى.
ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشاً آخَرَ طَالِعاً مِنَ ٱلأَرْضِ طبيعة هذا العدو كطبيعة العدو السابق لأنه ليس سوى وحش مفترس يبغض الله ويضر كنيسته. وخرج لا كالأول من البحر الذي هو كناية عن اضطراب الأمم بل من الأرض التي هي كناية عن متمدني الناس المنتظمين انتظاماً دينياً.
كَانَ لَهُ قَرْنَانِ شِبْهُ خَرُوفٍ تظاهر بأنه حليم لطيف كالخروف وله قرنان فقط كما للخروف الحقيقي فإنه يتشبه بالمسيح «الخروف الواقف على جبل صهيون» (ص ١٤: ١).
وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتِنِّينٍ أظهر بكلامه وأعماله الفظة القاسية طبيعته الحقيقية. إن المسيح حذّر تلاميذه من «ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ، وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ» (متّى ٧: ١٥). وحذّر بولس شيوخ أفسس من أن يدخل بينهم بعد ذهابه «ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ» (أعمال ٢٠: ٢٩).
إن الوحش الأول لم يتكلم ولكن هذا تكلم لكي يخدع السامعين ولذلك دُعي أيضاً النبي الكذاب (ص ١٩: ٢٠) على نحو قول المعمدان «ٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ» (يوحنا ٣: ٣١). وقول المسيح في الشيطان إنه «يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ» (يوحنا ٨: ٤٤).
١٢ «وَيَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ ٱلْوَحْشِ ٱلأَوَّلِ أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ ٱلأَوَّلِ ٱلَّذِي شُفِيَ جُرْحُهُ ٱلْمُمِيتُ».
ع ١٤ وص ١٩: ٢٠ ع ٨ و١٥ وص ١٤: ١٢ و١٦: ٢ و١٩: ٢٠ و٤٠: ٢ ع ٣
وَيَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ ٱلْوَحْشِ ٱلأَوَّلِ أَمَامَهُ فإذاً لم يكن هذا الوحش خليفة الوحش الأول بل خادمه. وخدمته له دينية بدليل أعماله لأنه أجبر الناس على أن يسجدوا للوحش وإنه صنع للوحش صورة وأوجب على الناس أن يسجدوا لها وإن لم يسجدوا يُقتلوا. ويتضح من هذا إن الوحش الثاني يشير إلى قوة دينية كهنوتية كنسيّة.
١٣، ١٤ «١٣ وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى ٱلأَرْضِ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، ١٤ وَيُضِلُّ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ بِٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ ٱلْوَحْشِ، قَائِلاً لِلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً لِلْوَحْشِ ٱلَّذِي كَانَ بِهِ جُرْحُ ٱلسَّيْفِ وَعَاشَ».
ص ١٩: ٢٠ و١٦: ١٤ ومتّى ٢٤: ٢٤ ص ٢٠: ٩ و١ملوك ١٨: ٣٨ ولوقا ٩: ٥٤ ص ١١: ٥ و١٢: ٩ و٢تسالونيكي ٢: ٩
وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ كما صنع إيليا على جبل الكرمل (١ملوك ص ١٨) وكما صنع الشاهدان (ص ١١: ٥). وأشار يوحنا بهذا إلى الآيات الكاذبة التي صنعها الكهنة في كل عصر ليخدعوا الناس بحيلهم. ولهذا قال المسيح «سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً» (متّى ٢٤: ٢٤). وحذّر موسى الإسرائيليين من مثل هؤلاء المضلين بقوله «إذَا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلْماً، وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً وَلَوْ حَدَثَتِ ٱلآيَةُ أَوِ ٱلأُعْجُوبَةُ ٱلَّتِي كَلَّمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا فَلاَ تَسْمَعْ لِكَلاَمِ ذٰلِكَ ٱلنَّبِيِّ أَوِ ٱلْحَالِمِ ذٰلِكَ ٱلْحُلْمَ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ يَمْتَحِنُكُمْ لِيَعْلَمَ هَلْ تُحِبُّونَ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِكُمْ» (تثنية ١٣: ١ – ٣). وقال بولس لأهل تسالونيكي في «إنسان الخطية» «ٱلَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ، وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ ٱلإِثْمِ، فِي ٱلْهَالِكِينَ» (٢تسالونيكي ٢: ٩ و١٠). وهذا يشير إلى المعجزات التي ادّعاها كهنة الوثنية في عصر الرومانيين الوثنيين وغيرهم في العصور المسيحية.
١٥ «وَأُعْطِيَ أَنْ يُعْطِيَ رُوحاً لِصُورَةِ ٱلْوَحْشِ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ ٱلْوَحْشِ وَيَجْعَلَ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ لاَ يَسْجُدُونَ لِصُورَةِ ٱلْوَحْشِ يُقْتَلُونَ».
دانيال ٣: ٣
وَيَجْعَلَ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ لاَ يَسْجُدُونَ لِصُورَةِ ٱلْوَحْشِ يُقْتَلُونَ إنه في أيام اضطهاد الوثنيين المسيحيين امتُحن المسيحيون بأن أُجبروا على أن يسجدوا لصورة الأمبراطور الحقيقية. وما قيل هنا من جعل الوحش الثاني صورة الوحش الأول تتكلم مثال للعجائب الكاذبة الكثيرة التي صنعها الكهنة لامتحان شعب الله.
١٦ «وَيَجْعَلَ ٱلْجَمِيعَ: ٱلصِّغَارَ وَٱلْكِبَارَ، وَٱلأَغْنِيَاءَ وَٱلْفُقَرَاءَ، وَٱلأَحْرَارَ وَٱلْعَبِيدَ، تُصْنَعُ لَـهُمْ سِمَةٌ عَلَى يَدِهِمِ ٱلْيُمْنَى أَوْ عَلَى جِبْهَتِهِمْ».
ص ١١: ١٨ و١٩: ٥ و١٨ص ١٤: ٩ و٢٠: ٤ غلاطية ٦: ١٧ وص ٧: ٣
تُصْنَعُ لَـهُمْ سِمَةٌ عَلَى يَدِهِمِ ٱلْيُمْنَى أَوْ عَلَى جِبْهَتِهِمْ كما ختم عبيد الله على جباههم (ص ٧: ٣ و٢٢: ٤) خُتم أعوان الشر. والأرجح إن ذلك لم يرد به علامة محسوسة بل أريد به صفات مطابقة لصفات الوحش ومطاليبه. وكانوا يعينون العبيد بوسمهم. وإشارة إلى هذه العادة قال بولس «لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (غلاطية ٦: ١٧).
١٧ «وَأَنْ لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَبِيعَ إِلاَّ مَنْ لَهُ ٱلسِّمَةُ أَوِ ٱسْمُ ٱلْوَحْشِ أَوْ عَدَدُ ٱسْمِهِ».
ص ١٤: ٩ و٢٠: ٤ غلاطية ٦: ١٧ وص ٧: ٣ و١٤: ١١ و١٥: ٣
أشار بذلك إلى حرم الذين لم يوافقوا الوحش على رأيه من الحقوق المدنية والإنسانية.
١٨ «هُنَا ٱلْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسِبْ عَدَدَ ٱلْوَحْشِ فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّ مِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ».
ص ١٧: ٩ ص ٢١: ١٧
هُنَا ٱلْحِكْمَةُ أي هنا شيء تحتاج معرفته إلى الحكمة.
سِتُّ مِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ في الأصل اليوناني ثلاثة أحرف معناها ست مئة وستة وستون وهي χξς وليست هذه الأحرف كلمة تفيد معنى بل كل منها يشير إلى عدد فالحرف الأول من اليسار إلى اليمين يشير إلى العدد ستمئة والحرف الثاني إلى ستين والحرف الثالث إلى ستة والثلاثة معاً تشير إلى ٦٦٦ ولا يخفى إن الأرقام الهندية المستعملة اليوم في الحساب هي من القرن الرابع عشر وكان القدماء يكتبون الأعداد بألفاظ أو يعبرون عنها بالأحرف الهجائية ويقول البعض إن المشار إليه بالعدد ستمئة وستة وستون هو نيرون القيصر الذي كان أمبراطوراً في أيام بولس الأخيرة واشتهر لقساوته ومقاومته للمسيحيين وفي طبعه وأعماله كان مثل وحش. ويبنون رأيهم على أن الأحرف العبرانية التي تجتمع في اللفظتين نيرون القيصر تنطبق على العدد ٦٦٦ لأن كل حرف يفيد عدداً وإذا جُمعت هذه الأعداء يكون المجموع ٦٦٦ والاعتراض على هذا الرأي هو أنه مبني على الأحرف العبرانية مع أن اللغة اليونانية هي لغة العهد الجديد.
ويقول غيرهم إن الاسم المشار إليه هو لاتينوس أي المملكة الرومانية بالإجمال ويبنون رأيهم على أن الأحرف اليونانية المركبة منها كلمة لاتينوس إذا جُمعت أعدادها يبلغ مجموعها العدد ٦٦٦ وهذا الرأي أفضل من الأول بما أنه يستعمل أحرفاً يونانية وليس عبرانية. والكلمة لاتينوس تشير إلى نيرون وغيره من ملوك رومية الذين تكلموا باللغة اللاتينية وتشير أيضاً إلى القوة الروحية التي كانت تضطهد أي الكنيسة اللاتينية التي تستعمل اللغة اللاتينية إلى اليوم.
ويقول آخرون إن الأحرف اليونانية الثلاثة المذكورة هي أحرف صفيرية كحرف السين في الألفاظ العربية ستمئة وستة وستون فتشير إلى صوت الحية أي إبليس (ص ٢٠: ٢) والحرف المتوسط من الأحرف اليونانية الثلاثة المذكورة أي ξ يشبه الحية المتلوية.
ويقول غيرهم إن العدد سبعة هو عدد الكمال والقداسة والعدد ستة قريب من السبعة ولكنه أدنى منه والمعنى أنه مهما أظهر إبليس من القوة والحكمة ومهما نجح في عمله وإن يكن عدده ليس ستة فقط بل ثلاث ستات أي ٦٦٦ لا يصل إلى درجة الكمال ولا ينجح في عمله بل يغلبه الخروف أي المسيح. ها ما قصدنا بيانه ملخصاً والله أعلم.
السابق |
التالي |