رؤيا يوحنا | 08 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر رؤيا يوحنا
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ
١ «وَلَمَّا فَتَحَ ٱلْخَتْمَ ٱلسَّابِعَ حَدَثَ سُكُوتٌ فِي ٱلسَّمَاءِ نَحْوَ نِصْفِ سَاعَةٍ».
ص ٥: ١ و٦: ١ و٣ و٥ و٧ و٩ و١٢ ص ٥: ٩
كان يجب أن تكون هذه الآية جزءاً من الأصحاح السابع. فإنه في الأصحاح السابع أنبأ بفتح الختوم الستة ثم ذكر حادثتين معترضتين وهما ختم المختارين وجمعهم ثم رجع إلى فتح الختم السابع الذي هو آخر الختوم وفك هذا الختم ترك السفر مفتوحاً معداً للقراءة.
وَلَمَّا فَتَحَ ٱلْخَتْمَ ٱلسَّابِعَ بعد ما ترنم الجمهور العظيم من المفديين والجنود السماوية بترنيمة الانتصار.
حَدَثَ سُكُوتٌ فِي ٱلسَّمَاءِ نَحْوَ نِصْفِ سَاعَةٍ لعل هذا السكوت هو سكوت عن الترنم المذكور في (ص ٧: ١ – ١٢). أو سكوت «البروق والرعود والأصوات» الخارجة من العرش على ما في (ص ٤: ٥). وهي التي عادت إلى الحدوث في (ع ٦) من هذا الأصحاح وهذا هو الأرجح. وأشار «بنصف ساعة» إلى مدة قصيرة. يقول البعض إن السكوت يدل على شيء لا يُعلن فإنه عند فتح كل ختم من الختوم السابقة أُعلن شيء ولكن عند فتح الختم السابع لم يُعلن شيء فكان سكوت. ويقول غيرهم أنه لم يُعلن مضمون السفر مطلقاً لأن السفر لا يُفتح إلا بعد فتح ختومه كلها. ويقول غيرهم وهذا الأرجح إن الأبواق السبعة (ص ٨ – ١١) والجامات (ص ١٦) هي ناتجة من فتح الختم السابع وكان السكوت على نوع ما استعداداً للإعلانات الآتية العظيمة المخيفة. وهذا «السكوت» يشير إلى بداءة راحة القديسين الأبدية. أي السبب السماوي حين يملك شعب الله ويتمتع بالأشياء التي «لا تراها عين ولا تسمعها أذن» إلا في ذلك الوقت فيشبه راحة الله عينها.
إن التبويق بالأبواق السبعة المذكورة من أول ص ٨ إلى آخر ص ١١ ليس بجزء من الرؤيا المتعلق بفتح الختم السابع لأن رؤيا الختوم السبعة التي تُعلن تقدم كنيسة المسيح بالنسبة إلى العالم وعمل العالم بالنسبة إليها قد انتهت. ونرى إن الأبواق سبعة كالختوم وهذا يشير إلى أن توالي الحوادث المتعلقة بالتبويق كامل كما كان توالي الحوادث المتعلقة بفتح الختوم. ونرى أنه يوجد تمييز بين الأربعة الأبواق الأولى والثلاثة والأبواق الأخيرة كالتمييز بين الأربعة الختوم الأولى والثلاثة الختوم الأخيرة. ففي الأربعة الأبواق الأولى وقعت أحكام الله على الماديات. وفي الثلاثة الأخيرة وقوع الأحكام الإلهية على الناس. واقترن كل بوق بصوت «ويل». ونرى أنه بين البوق السادس والبوق السابع فترة لرؤيين معترضتين الأولى رؤيا السفر الصغير والثانية رؤيا قياس الهيكل (ص ١٠ وص ١١: ١ – ١٤) كما كان بين الختم السادس والختم السابع. وإن من السبعة الأبواق ستة فقط أشارت إلى رؤى تتعلق بأحكام الله والبوق السابع مثل الختم السابع. وانتهت رؤيا الأبواق بقوله «حدثت بروق وأصوات ورعود» كما قيل في نهاية رؤيا الختوم (قابل ما في ص ١١: ١٩ بما في ص ٨: ٥). والختوم انتهت بالراحة والأبواق بالانتصار. وفي رؤيا الختوم الكنيسة يضطهدها العالم وهي تتقدم من التعب إلى الراحة وفي رؤيا الأبواق النوازل نصيب العالم على قدر تقدم الكنيسة كالنوازل التي أصابت سكان كنعان على قدر تقدم بني إسرائيل وامتلاكهم الأرض.
٢ «وَرَأَيْتُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ ٱللهِ وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ».
ع ٦ – ١٣ وص ٩: ١ و١٣ و١١: ١٥ ص ١: ٤ متّى ١٨: ١٠ و١كورنثوس ١٥: ٥٢ و١تسالونيكي ٤: ١٦
وَرَأَيْتُ هذه الرؤيا بعد السكوت ولا دليل على أن الحوادث المذكورة هنا متوالية باعتبار الزمان.
ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ ٱللهِ إن خدام الملك الذين يقفون قدّام هم في الرتبة العليا وهؤلاء الملائكة هم «ملائكة الحضرة» الذي قال الرب إنهم في «كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٨: ١٠). وقال واحد منهم «أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللهِ» (لوقا ١: ١٩). والخدمة الموكولة إليهم هنا تُظهر أنهم امتازوا على غيرهم من الملائكة في السلطان والقدرة وعددهم لا يشير ضرورة إلى تعيين مقدارهم بل يشير إلى الكمال كما تشير سبعة قرون الخروف إلى كمال القوة وعيونه السبعة إلى كمال علمه. كذلك الملائكة الذين عيّنهم الله لإجراء مقاصده سبعة بمعنى أن لهم كمال القدرة على ذلك الإجراء وأن لهم الصفات المتنوعة التي يقتضيها عملهم.
وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ استعمل بنو إسرائيل الأبواق للدعوة إلى الاجتماع والرحيل (عدد ١٠: ٤ – ٨). والذهاب إلى الحرب والاحتفاء بالأعياد. وقيل في وقت إعطاء الله الشريعة «كَانَ صَوْتُ ٱلْبُوقِ يَزْدَادُ ٱشْتِدَاداً جِدّاً، وَمُوسَى يَتَكَلَّمُ وَٱللهُ يُجِيبُهُ بِصَوْتٍ» (خروج ١٩: ١٩). وحمل في وقت حصار أريحا سبعة كهنة سبعة أبواق وبوّقوا بها في اليوم السابع فسقطت أسوارها (يشوع ٦: ١٧ و٢٠). والأبواق المذكورة هنا أبواق الحرب كالتي استعملها بنو إسرائيل في حصار أريحا. وتشير إلى دعوة الله لشعبه للاجتماع في المسكن السماوي والتقدم في طريق وصاياه. وهي تنبئ بانكسار أعدائه وبوقع أحكام الله على الأرض والبحر والأنهر وبالحروب والغزوات. وتلك الأحكام هي دعوة الله للناس إلى أن يسمعوا صوته التي تغافلوا عنها في ما مضى أو رفضوها. فهذه الأبواق تنبيء بالحوادث العظيمة المتعلقة بمرور جنود الله في الأرض ليهدموا كل حصون الضلال والخطيئة فيها. فكما أهلك الله الكنعانيين قديماً لشرورهم وأبادهم أمام الإسرائيليين قصد أن يبيد كل قوات الشر التي تنجس الأرض وتخربها (ص ١١: ١٨). فكل بوق نبوءة بنازلة تنقي الأرض وتنفي الذين يهدمونها من أقاليم الحياة وتبشر باستعلان أبناء الله.
٣ «وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عِنْدَ ٱلْمَذْبَحِ، وَمَعَهُ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأُعْطِيَ بَخُوراً كَثِيراً لِكَيْ يُقَدِّمَهُ مَعَ صَلَوَاتِ ٱلْقِدِّيسِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَذْبَحِ ٱلذَّهَبِ ٱلَّذِي أَمَامَ ٱلْعَرْشِ».
ص ٧: ٢ و٦: ٩ عاموس ٩: ١ عبرانيين ٩: ٤ ص ٥: ٨ خروج ٣٠: ١ و٣ وعدد ٤: ١١
جَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ اختلفت الآراء في هذا الملاك فقال بعضهم هو المسيح لأنه نُسب إليه عمل الوسيط بتقديمه لله صلوات كل القديسين ولأنه أُعطي كل قضاء وهو واقف عند المذبح السماوي حيث يليق أن يقف المسيح باعتبار كونه رئيس الأحبار. وإن لم يكن هو المسيح فهو ملاك نائب عنه له أكثر ما للمسيح من الصفات.
وَوَقَفَ عِنْدَ ٱلْمَذْبَحِ هذا هو المذبح البخور (ع ٤) ويسمى «مذبح الذهب» أيضاً لأنه سماوي وأكثر الأشياء السماوية ذُكرت أنها من ذهب ومن ذلك «الأكاليل» (ص ٤: ٤). و «جامات البخور» (ص ٥: ٨). و «المناطق» (ص ١٥: ٦). و «قصبة القياس» (ص ٢١: ١٥). ووقوف الملاك هنا كوقوف زكريا أبي يوحنا المعمدان وهو يبخر في داخل الهيكل والشعب في الخارج يصلون (لوقا ١: ١ – ١١). ويقول البعض إن المذبح المذكور هنا هو مذبح المحرقة الذي كان في الدار أمام باب الخيمة والهيكل ولذلك بناء على ذكره في (ع ٥) وآل التعريف الداخلة عليه تدل على أنه المذبح المذكور سابقاً في (ع ٣) وكانت النار دائمة على مذبح المحرقة وليس على مذبح البخور بل كانوا يأخذونها من مذبح المحرقة إلى مذبح البخور. ومن الموافق إن صلوات القديسين تصعد من تحت المذبح حيث كانت نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله (٦: ٩).
وَأُعْطِيَ بَخُوراً كَثِيراً بأمر الله.
لِكَيْ يُقَدِّمَهُ مَعَ صَلَوَاتِ ٱلْقِدِّيسِينَ جَمِيعِهِمْ الخ لم يُعط القديسون أنفسهم ذلك البخور بل الملاك. وهؤلاء القديسون هم الشهداء المذكورون في (ص ٦: ٩). الذين وافقتهم الكنيسة كلها على الصلاة حسب شهادة أحد الشيوخ أي نواب الكنيسة (ص ٧: ١٤). وموضوع تلك الصلوات طلب إجراء الله أحكام نقمته. وكانت تلك الصلوات على المذبح وقدّم الملاك البخور معها وبذلك أشار إلى أن صلوات القديسين وحدها ضعيفة ناقصة تحتاج أن يضاف إليها شيء سماوي ليجعلها مقبولة. ومن الواضح أنه أشار بذلك إلى شفاعة المسيح المبنية على استحقاقه وكفارته لأنه «أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢). وصارت تلك الصلوات كأسلحة غير منظورة في أيدي جنود الله فأحكام الله المذكورة على أثر الأبواق هي نتائج تلك الصلوات.
٤ «فَصَعِدَ دُخَانُ ٱلْبَخُورِ مَعَ صَلَوَاتِ ٱلْقِدِّيسِينَ مِنْ يَدِ ٱلْمَلاَكِ أَمَامَ ٱللهِ».
مزمور ١٤١: ٢
فَصَعِدَ دُخَانُ ٱلْبَخُورِ مَعَ صَلَوَاتِ ٱلْقِدِّيسِينَ وجعلها مقبولة قدام الله. واقتدار الكنيسة في الصلوات يتبين من قول المسيح «إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ» (يوحنا ١٥: ٧). وما ذُكر هنا لا يثبت شفاعة القديسين ولا شفاعة الملائكة إنما يثبت إن صلوات البشر لا تقدر بنفسها أي دون أن يضاف إليها أمر سماوي وهو استحقاق المسيح. ولا يجوز لنا أن نبني تعاليم على مجرّد المجاز.
٥ «ثُمَّ أَخَذَ ٱلْمَلاَكُ ٱلْمِبْخَرَةَ وَمَلأَهَا مِنْ نَارِ ٱلْمَذْبَحِ وَأَلْقَاهَا إِلَى ٱلأَرْضِ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ».
لاويين ١٦: ١٢ حزقيال ١٠: ٢ ص ٤: ٥ و٦: ١٢
ثُمَّ أَخَذَ ٱلْمَلاَكُ ٱلْمِبْخَرَةَ التي كان فيها البخور.
وَمَلأَهَا مِنْ نَارِ ٱلْمَذْبَحِ وَأَلْقَاهَا أي ألقى النار والرماد.
إِلَى ٱلأَرْضِ ما في هذه الآية إشارة إلى أن الله قبل الصلوات وأتى جوابها بالأحكام النارية التي وقعت على الأرض. كذلك أخذ موسى من رماد الأتون وذراه إلى السماء أمام عيون فرعون إشارة إلى الضربة التي كانت على وشك أن تقع عليه وعلى شعبه (خروج ٩: ٨ – ١٠) وكذلك رأى حزقيال النبي في رؤياه رجلاً دخل بين البكرات تحت الكروب وملأ حفنتيه جمر نار من بين الكروبيم وذرها على أورشليم (حزقيال ١٠: ٢) إشارة إلى ما سيقع عليها من الضربات.
فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ هي سوابق الأحكام الآتية تنبئ بقرب وقوعها وإن الله أخذ يستجيب الصلوات. وكذلك قال داود إن الله «سَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي، وَصُرَاخِي قُدَّامَهُ دَخَلَ أُذُنَيْهِ… أَرْعَدَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَٱلْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ بَرَداً وَجَمْرَ نَارٍ» (مزمور ١٨: ٦ و١٣). وكثيراً ما يحدث إن صلوات شعب الله وطلبهم البركات تستجاب بإرسال البلايا وهذا يدل على إن الرحمة لا تدخل وتفعل فعلها ما لم تسبقها بلية. وفعل الملاك المذكور هنا مقدمة لكل الأبواق. وكل تلك الضربات جواب لصلوات القديسين إذ وقعت على أعداء الكنيسة.
٦ «ثُمَّ إِنَّ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ مَعَهُمُ ٱلسَّبْعَةُ ٱلأَبْوَاقُ تَهَيَّأُوا لِكَيْ يُبَوِّقُوا».
ع ٢
المعنى أنهم رفعوا الأبواق إلى أفواههم. وأصوات الأبواق تشير إلى حوادث عناية الله لكي تجعل الناس ينتبهون لكلامه وليذكرهم إنه يتسلط على أمم الأرض. وهذه الحوادث هي علامات تقدم ملكوت المسيح وهي تشير إلى إزالة كل أسباب الظلم والضلال من الأرض وإثبات ما يؤول إلى البر والحق «لٰكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين ١٢: ١١).
٧ « فَبَوَّقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلأَوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ، وَأُلْقِيَا إِلَى ٱلأَرْضِ، فَٱحْتَرَقَ ثُلُثُ ٱلأَشْجَارِ وَٱحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ».
حزقيال ٣٨: ٢٢ إشعياء ٢٨: ٢ ويوئيل ٢: ٣٠ ع ٧ – ١٢ ص ٩: ١٥ و١٨ و١٢: ٤ وزكريا ١٣: ٨ و٩ ص ٩: ٤
فَبَوَّقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلأَوَّلُ من الملائكة الأربعة الذين وقعت ضرباتهم على الماديات.
فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ، وَأُلْقِيَا إِلَى ٱلأَرْضِ وهذا يشبه بعض ضربات مصر (خروج ٩: ٢٣ – ٢٥) ويذكّر المسيحيين بالآيات العظيمة التي صنعها الله لشعبه قديماً في مصر وبأن الله جعل أصوات الأبواق التي بُوّق بها قدام أسوار أريحا واسطة هدم أسوارها. ويخبرهم بأنه لم يزل قادراً أن يخلص الذين له وإنه يهدم كل عاليات حصون الضلال والكبرياء والخطيئة.
فَٱحْتَرَقَ ثُلُثُ ٱلأَشْجَارِ وَٱحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ وفي النسخ القديمة «فأحرق ثلث الأرض واحترق ثلث الأشجار الخ» هذا يشبه قول إشعياء «فَإِنَّ لِرَبِّ ٱلْجُنُودِ يَوْماً عَلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَعَالٍ وَعَلَى كُلِّ مُرْتَفِعٍ فَيُوضَعُ، وَعَلَى كُلِّ أَرْزِ لُبْنَانَ ٱلْعَالِي ٱلْمُرْتَفِعِ، وَعَلَى كُلِّ بَلُّوطِ بَاشَانَ» (إشعياء ٢: ١٢ و١٣). وهذه الضربة وقعت على ما ليس بضروري للحياة. ويدل وقوعها على «ثلث الأشجار» فقط إن الله في غضبه يذكر رحمته وإنه يريد أن يؤدبهم لا أن يفنيهم (زكريا ١٣: ٨). ظن بعضم إن المراد باحتراق «ثلث الأشجار» إزالة بعض أديان البشر الباطلة.
هذا مكرر الحكم الذي وقع على والدينا الأولين على الخطيئة الأولى. وكان الحكم لهما قبل ذلك أن يأكلا من كل شجر الجنة إلا شجرة معرفة الخير والشر. وكانت الأرض مكتسية عشباً للبهائم وفاكهة للناس. وكانت الطبيعة خاضعة لهما ولكنهما لما خطئا نبت شوك وحسك في كل جهة وصار العمل في الأرض حملاً ثقيلاً. وصارت الجنان قفاراً فلم تأت الأرض بغلالها إلا بالصبر الطويل والتعب الشديد بعرق الجبين وإعياء اليمين. وخطيئة رفض المسيح أفظع من أكل الثمرة المنهي عنها فاستحقت عذاباً أشد إيلاماً.
٨، ٩ «٨ ثُمَّ بَوَّقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلثَّانِي، فَكَأَنَّ جَبَلاً عَظِيماً مُتَّقِداً بِٱلنَّارِ أُلْقِيَ إِلَى ٱلْبَحْرِ، فَصَارَ ثُلُثُ ٱلْبَحْرِ دَماً. ٩ وَمَاتَ ثُلُثُ ٱلْخَلاَئِقِ ٱلَّتِي فِي ٱلْبَحْرِ ٱلَّتِي لَهَا حَيَاةٌ، وَأُهْلِكَ ثُلُثُ ٱلسُّفُنِ».
إرميا ٥١: ٢٥ ص ١٦: ٣ و١١: ٦ وخروج ٧: ١٧ إشعياء ٢: ١٦
جَبَلاً عَظِيماً مُتَّقِداً بِٱلنَّارِ أُلْقِيَ إِلَى ٱلْبَحْرِ هذا منظر مخيف جداً وهو منظر بركان هائج يُلقى في البحر وهو يذكرنا قول إرميا وهو ينذر بابل بالضربات الآتية عليها «هَئَنَذَا عَلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْجَبَلُ ٱلْمُهْلِكُ يَقُولُ ٱلرَّبُّ، ٱلْمُهْلِكُ كُلَّ ٱلأَرْضِ، فَأَمُدُّ يَدِي عَلَيْكَ وَأُدَحْرِجُكَ عَنِ ٱلصُّخُورِ، وَأَجْعَلُكَ جَبَلاً مُحْرَقاً» (إرميا ٥١: ٢٥).
فَصَارَ ثُلُثُ ٱلْبَحْرِ دَماً هذا يذكرنا بتحوّل مياه النيل إلى دم (خروج ٧: ٢٠ و٢١) وجعل نقل الجبل وإلقاءه في البحر رمزاً إلى قوة صلاة الإيمان (متّى ٢١: ٢١). والبحر واسطة لنقل الناس والبضائع من موضع إلى آخر ومصدر أطعمة. فوقوع الجبل فيه وتصييره إياه دماً يشير إلى حدوث ضيق للناس وسوء معاش. ولعله أشار بهذه الضربة إلى إزالة بعض عادات العالم الشرير التي تظهر إنها قوية ثابتة كالأطواد رآها الله شريرة ضارة سامة محرقة فأزالها الله كأنه طرحها في البحر. فلا يمكن استئصال مبدإ فاسد أو قوة شريرة من الأرض إلا بما ينشئ ضيقاً وضرراً لبعض الناس كما أن الجبل لا يمكن أن يُلقى في البحر دون إتلاف بعض السفن والحيوانات المائية وثروة بعض الناس. وأشار إلى هذا الضرر بمصير «ثلث البحر دماً وموت ثلث الخلائق وإهلاك ثلث السفن».
ويختلف البوق الأول عن البوق الثاني في أن تأثير الأول كان في اليابسة وكان تأثير الثاني في البحر وكلاهما من وجه الأرض. ولا نرى ما يحملنا على ظن بعضهم إن أحدهما يشير إلى البلايا التي تصيب الوثنيين وإن الآخر يشير إلى البلايا التي تصيب اليهود.
١٠، ١١ «١٠ ثُمَّ بَوَّقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلثَّالِثُ، فَسَقَطَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ مُتَّقِدٌ كَمِصْبَاحٍ، وَوَقَعَ عَلَى ثُلُثِ ٱلأَنْهَارِ وَعَلَى يَنَابِيعِ ٱلْمِيَاهِ. ١١ وَٱسْمُ ٱلْكَوْكَبِ «ٱلأَفْسَنْتِينُ. فَصَارَ ثُلُثُ ٱلْمِيَاهِ أَفْسَنْتِيناً، وَمَاتَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْمِيَاهِ لأَنَّهَا صَارَتْ مُرَّةً».
إشعياء ١٤: ١٢ وص ٩: ١ وص ٦: ١٣ و ١٤: ٧ و١٦: ٤ إرميا ٩: ١٥ و٢٣: ١٥
وقع هذا الكوكب على ثلت المياه ما سوى البحر الذي ضُرب بالقضاء الثاني على أثر التبويق بالبوق الثاني فالمصاب هنا ثلث الأنهار وينابيع المياه. والمقصود «بالثلث» إن الهلاك لم يكن عاماً بل خاصاً. وكان ما أصاب المياه من الضرر أنها صارت سامة حتى حسن أن تُسمى أفسنتنياً. وأُشير «بالإفسنتين» في الكتاب المقدس إلى النوازل والأرزاء ومن ذلك قول إرميا في إسرائيل «هَئَنَذَا أُطْعِمُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ أَفْسَنْتِيناً وَأَسْقِيهِمْ مَاءَ ٱلْعَلْقَمِ وَأُبَدِّدُهُمْ فِي أُمَمٍ لَمْ يَعْرِفُوهَا الخ» (إرميا ٩: ١٥ و١٦). وحذّر موسى بني إسرائيل من عبادة الأوثان بقوله «لِئَلاَّ يَكُونَ فِيكُمْ رَجُلٌ أَوِ ٱمْرَأَةٌ أَوْ عَشِيرَةٌ أَوْ سِبْطٌ قَلْبُهُ ٱلْيَوْمَ مُنْصَرِفٌ عَنِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا لِكَيْ يَذْهَبَ لِيَعْبُدَ آلِهَةَ تِلْكَ ٱلأُمَمِ. لِئَلاَّ يَكُونَ فِيكُمْ أَصْلٌ يُثْمِرُ عَلْقَماً وَأَفْسَنْتِيناً» (تثنية ٢٩: ١٨). وتذكرنا هذه «المياه المرّة» مياه مارّة المذكورة في (خروج ١٥: ٢٣). والمياه التي ذكرها حزقيال النبي وهي التي لا تشفى إلا بالمياه الحية الجارية من الهيكل (خروج ٤٧: ٩). أظهر موسى كرهه لعبادة الأوثان بسحقه العجل الذهبي الذي صنعه بنو إسرائيل للعبادة وجعله غباراً وذرّاه في الجدول الذي كانوا يشربون منه وأجبرهم على أن يشربوا ماءه (خروج ٣٢: ٢٠). ولعل هذه «المياه المرّة» تشير إلى اللذات الدنيوية التي يشتهي الناس أن يرووا بها عطش أنفسهم بدلاً من أن يرووه بماء الحياة. وذكر إشعياء الكوكب الذي سقط بقوله «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ ٱلصُّبْحِ» (إشعياء ١٤: ١٢).
وقعت الضربة الأولى على غير الحيوان. ووقعت الثانية على النبات والبهائم. ووقعت الثالثة على المواد التي يضر الناس بأضرارها وبهذا اشتد البلاء على التوالي. ويغلب أن يكون سقوط الكوكب رمزاً إلى موت ملك عظيم من ملوك الأرض كان يعجب الناس به وربما عبدوه. وكثيراً ما حدث مثل هذا السقوط على توالي تقدم الدين المسيحي ممن اشتهروا بالفتوحات والتعصب الديني وكان سقوطهم ضاراً لمن حولهم من الناس فيشبه ذلك مصير ينابيع السرور مرة سامة وأنهار النجاح ناشفة.
١٢ «ثُمَّ بَوَّقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلرَّابِعُ، فَضُرِبَ ثُلُثُ ٱلشَّمْسِ وَثُلْثُ ٱلْقَمَرِ وَثُلْثُ ٱلنُّجُومِ، حَتَّى يُظْلِمَ ثُلُثُهُنَّ، وَٱلنَّهَارُ لاَ يُضِيءُ ثُلُثُهُ، وَٱللَّيْلُ كَذٰلِكَ».
ص ٦: ١٢ خروج ١٠: ٢١ الخ
في هذه الآية تأثير البوق الرابع في الشمس والقمر وثلث ما بقي من الأجرام السماوية. ولم تُذكر هنا الأجرام السماوية إلا بنسبتها إلى الأرض وراحة الساكنين فيها وسعادتهم. وهذه الضربة أخف من الضربة المتعلقة بالختم السادس التي صارت بها «ٱلشَّمْسُ سَوْدَاءَ كَمِسْحٍ مِنْ شَعْرٍ، وَٱلْقَمَرُ صَارَ كَٱلدَّمِ، وَنُجُومُ ٱلسَّمَاءِ سَقَطَتْ إِلَى ٱلأَرْضِ» (ص ٦: ١٢ و١٣). وهذا يذكرنا بضربة الظلام التي وقعت على المصريين وقال فيها موسى «لَمْ يُبْصِرْ أَحَدٌ أَخَاهُ، وَلاَ قَامَ أَحَدٌ مِنْ مَكَانِهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَلٰكِنْ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ نُورٌ فِي مَسَاكِنِهِمْ» (خروج ١٠: ٢٣). ويذكرنا أيضاً قول زكريا النبي «وَيَكُونُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ نُورٌ. اَلدَّرَارِي تَنْقَبِضُ. وَيَكُونُ يَوْمٌ وَاحِدٌ مَعْرُوفٌ لِلرَّبِّ. لاَ نَهَارَ وَلاَ لَيْلَ، بَلْ يَحْدُثُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ ٱلْمَسَاءِ يَكُونُ نُورٌ» (زكريا ١٤: ٦ و٧). وقول المسيح في علامات مجيئه «وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي ٱلشَّمْسِ وَٱلْقَمَرِ وَٱلنُّجُومِ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَٱلأَمْوَاجُ تَضِجُّ، وَٱلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَٱنْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى ٱلْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُوَّاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ» (لوقا ٢١: ٢٥ و٢٦. ويشير إلى أيام الحزن والغم حين تظلم من الناس أنوار الحكمة البشرية وتكسف شموس الإرشاد الروحي. فيظهر إن أعمال الخليقة المذكورة في أول سفر التكوين قد نُقضت إذ ضُرب عشب الأرض واختلطت مياه البر والبحر وأنوار السماء أظلمت فتلفت حياة الأحياء في الأنهار والبحار. وكل هذا الخراب ليس سوى تمهيد لخلق «سماء جديدة وأرض جديدة يسكن فيهما البر».
١٣ « ثُمَّ نَظَرْتُ وَسَمِعْتُ مَلاَكاً طَائِراً فِي وَسَطِ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: وَيْلٌ وَيْلٌ وَيْلٌ لِلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَجْلِ بَقِيَّةِ أَصْوَاتِ أَبْوَاقِ ٱلثَّلاَثَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْمُزْمِعِينَ أَنْ يُبَوِّقُوا».
ص ١٤: ٦ و١٩: ١٧ و٩: ١٢ و١١: ١٤ و١٢: ١٢ ص ٣: ١٠
ما ذُكر في هذه الآية مقدمة للنوازل الثلاث الأخيرة التي هي أشد هولاً من الأربع الأولى.
مَلاَكاً طَائِراً فِي وَسَطِ ٱلسَّمَاءِ المرجّح إن معنى الكلمة اليونانية المترجمة «بملاك» نسر كما قُرئ في بعض النسخ وذكره في حاشية الإنجيل ذي الشواهد. ورُمز «بالنسر» هنا إلى السرعة والقوة والرغبة في مسك الفريسة. وجاء النسر بهذا المعنى في (تثنية ٢٨: ٤٩ وإرميا ٤٨: ٤٠ و٤٩: ٢٢ وحزقيال ١٨: ٣ وهوشع ٨: ١ وحبقوق ١: ٨ ومتّى ١٤: ٢٨). وعين النسر ترى من بعيد فتشير إلى القدرة على إدراك الأحكام الآتية. وعلّة طيرانه في وسط السماء أن يراه الجميع ويسمعوا صوته وهو يقول «ويل ويل ويل للساكنين على الأرض» أي لفجار الناس.
السابق |
التالي |