إنجيل يوحنا | 20 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح العشرون
مجيء مريم المجدلية وبطرس ويوحنا إلى القبر بعد القيامة (ع ١ – ١٠)
١ «وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ إِلَى القَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلامُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ القَبْرِ».
متّى ٢٨: ١ ومرقس ١٦: ١ ولوقا ٢٤: ١
شغل يوحنا الأصحاحين الأخيرين من بشارته بظهور يسوع بعد قيامته، وذكر فيهما ما لم يذكره غيره من البشيرين. والقيامة من جوهريات المسيحية لأنها من أعظم البراهين على أن يسوع هو المسيح الموعود به في نبوات العهد القديم. وهي المعجزة التي أعطاها لليهود إثباتاً لصحة دعواه (متّى ١٢: ٣٩ ويوحنا ٢: ١٩ – ٢١) وهي تصديق الله على تلك الدعوى. وهي كمال عمل الفداء، والبرهان على أن كفارته للخطاة قُبلت، وعلى أنه أوفى الدَّين عنهم (رومية ٤: ٢٥ و١بطرس ١: ٣). وهي عربون قيامة المؤمنين. وسبق الكلام في البراهين على صحة قيامة المسيح وفي ظهوره عشر مرات لتلاميذه في شرح متّى ٢٨: ١٧.
فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أي يوم الأحد الذي اتخذه المسيحيون من ذلك الوقت يوم العبادة، تذكاراً لقيامة المسيح، وسُمي «يوم الرب» (رؤيا ١: ١٠) والأرجح أنهم فعلوا ذلك طاعةً لأمر المسيح.
مضى بين نهاية أصحاح ١٩ وبدء أصحاح ٢٠ ما حسبه الكتاب ثلاثة أيام، وهو يوم كامل وجزءان من يومين. وكان جسد المسيح في ذلك الوقت مضطجعاً في القبر والعسكر حارساً، والتلاميذ يائسين، واليهود مبتهجين إلى صباح اليوم الثالث. وترك يوحنا ذكر ختم القبر ووضع الحراس (متّى ٢٧: ٦٢ – ٦٦) والزلزلة وإتيان النساء ودحرجة الحجر وخوف الحراس (متّى ٢٨: ٢ – ٤).
جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ انظر شرح متّى ٢٨: ١. هي لم تأت وحدها بل أتت أيضاً مريم أم يوسي وسالومي ويونّا ونساء أُخر من الجليل، وكنّ واقفات قرب الصليب عند موته، والأرجح أنهنّ اتفقن على الاجتماع عند القبر بعد السبت لإكمال فرائض الدفن الذي لم يستطعنه يوم الجمعة. ولا يلزم افتراض أن أولئك النساء جئن معاً. وخص يوحنا مريم بالذكر لأنها معروفة أكثر من الباقيات، ولأن المسيح ظهر لها أولاً.
بَاكِراً، وَالظّلامُ بَاقٍ قال مرقس «إذ طلعت الشمس» فالأرجح أن بعضهن سبق بعضاً، وذكر يوحنا من سبق منهن.
فَنَظَرَتِ الحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ القَبْرِ ذكر البشيرون الأربعة أن النساء وجدن الحجر مرفوعاً. والظاهر أن مريم والنساء الباقيات لم يكنَّ يعرفن وضع حراس هناك. ولو عرفن ذلك ما عزمن على الاجتماع عند القبر قبل طلوع الشمس. والأرجح أن مريم لم تبلغ عند القبر بل نظرت بابه مفتوحاً، واستنتجت أن جسد يسوع أُخذ منه فعدلت عن الاقتراب منه.
٢ «فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ القَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
يوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦ و٢١: ٢٠، ٢٤
فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلمِيذِ الآخَرِ أي رجعت مسرعة إلى المدينة تاركة رفيقاتها اللواتي لم يرجعن إلا بعد حين. والمقصود «بالتلميذ الآخر» يوحنا (يوحنا ١٣: ٢٢) وعلة ذهابها إلى بطرس ويوحنا دون غيرهما أنهما متقدمان بين الرسل في الغيرة والإيمان والمحبة، وأنهما أكثر اهتماماً بأمر يسوع من غيرهما. ولعل السبب أيضاً أن أم يسوع في بيت يوحنا، فرغبت في إخبارها.
أَخَذُوا السَّيِّدَ أي أناس مجهولون. وهي لم تستطع أن ترى علة لرفع الحجر سوى أخذ الجسد وإخفائه. واتضح من كلامها أنه لم يخطر على بالها أن المسيح قام، وأنها لم تنظر الملاك الذي ظهر لغيرها من أولئك النساء وقال «ليس هو ههنا لأنه قام» (متّى ٢٨: ٥، ٦).
وَلَسْنَا نَعْلَمُ هذا يدل على أنها لم تأت وحدها إلى القبر.
٣ «فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى القَبْرِ».
لوقا ٢٤: ١٢
تأثر التلميذان من هذا الخبر فأسرعا يفحصان الأمر، لأنهما لا بد سألا مريم: هل نظرت ما بداخل القبر لتعلم هل أُخذ الجسد حقيقة؟ فقالت: لا، فجريا إلى القبر لإزالة كل شك.
٤ «وَكَانَ الاثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلا إِلَى القَبْرِ».
فَسَبَقَ التِّلمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ الأرجح أن يوحنا كان أصغر سناً من بطرس ولذلك سبقه، فلا يلزم من سبقه أنه كان أكثر غيرة من بطرس، لأن بطرس خرج أولاً من البيت (ع ٣) وكان الأول في دخول القبر (ع ٦).
٥ «وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل».
يوحنا ١٩: ٤٠
وَانْحَنَى لأن الباب كان قصيراً، وقد جرت العادة أن تكون أبواب القبور كذلك لتسهيل سده بالحجر.
فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً فتحقق من ذلك أن الجسد ليس في القبر. ولا بد أنه تعجب من أن الذي أخذ الجسد لم يأخذ الأكفان معه اقتصاداً للوقت والتعب.
لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل لخوفه أو احترامه أو شدة حزنه لفقدانه سيده، ولعله انتظر وصول رفيقه قبل أن يدخل.
٦، ٧ «٦ ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ القَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، ٧ وَالمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَل مَلفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ».
يوحنا ١١: ٤٤
وَدَخَلَ القَبْرَ عُرف بطرس بالسرعة والجسارة. فنظر ما لم يره يوحنا، وهو أن المنديل كان ملفوفاً موضوعاً على حدة، دلالة على أن الذي حدث في القبر كان بكل تأنٍ ونظام، وأنه لم يأخذه أصحابه، وإلا أخذوه بأكفانه، ولم يسرقه أعداؤه لأنهم لو سرقوه لأخذوا الأكفان أيضاً. أو لو تركوها ما طووها ووضعوها بالترتيب، كل كفن في مكان. فتحير بطرس من كل ما رأى.
٨ «فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلا إِلَى القَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ».
شجع دخول بطرس القبر أولاً يوحنا ليفعل مثله، فعرف مما شاهده أن جسد الرب لم يُسرق.
وَرَأَى فَآمَنَ بأن يسوع قد قام، وأنه حيّ لا محالة، وأنه هو المسيح ابن الله. وزالت كل الشكوك التي اعترته مما شاهده من القبض على المسيح وصلبه ودفنه. واتضح مما ذُكر أن يوحنا كان أول من آمن من الناس بقيامة المسيح.
٩ «لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ».
مزمور ١٦: ١٠ وأعمال ٢: ٢٥ – ٣١ و١٣: ٣٤، ٣٥
قال البشير ذلك بياناً لعلة جهله وجهل سائر التلاميذ بنبوات الكتاب المقدس المتعلقة بقيامة المسيح.
لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ أي إلى وقت كونه في القبر قبل أن شاهد أحد المسيح بعد قيامته.
يَعْرِفُونَ الكِتَابَ أي النبوات المتعلقة بموت المسيح وقيامته، ومنها ما في مزمور ١٦: ١٠ وإشعياء ٥٣: ١٠. (انظر شرح لوقا ٢٤: ٢٨، ٤٨). ومنعهم جهلهم بمعنى تلك النبوات من فهم كلام المسيح يوم أنبأهم أنه يقوم في اليوم الثالث، ومنعهم من أن يتوقعوا قيامته حتى أنهم لم ينتبهوا حالاً لذلك لما رأوا القبر مفتوحاً ولم يروا جسده فيه. ولم ينبئنا البشير هل آمن بطرس مما رأى أو لا. الأرجح أنه لم يكن قد آمن، وإلا لذكر ذلك كما ذكر إيمان نفسه على أنه آمن بذلك بعد بضع ساعات من النهار عينه حين ظهر المسيح له (لوقا ٢٤: ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٥).
١٠ «فَمَضَى التِّلمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا».
رجعا معاً إلى مسكنهما في المدينة بعد ما تحققا بالمشاهدة ما أنبأتهما به مريم المجدلية من أن القبر مفتوح والجسد مأخوذ، ولم يريا من فائدة لبقائهما هناك. ولعلهما خافا من أن اليهود إذا وجدوهما عند القبر، وعرفوا أن جسد يسوع مأخوذ، يتهمونهما بسرقته. ولا بد أن الرسولين تحاورا على الطريق بما يمكن أن يكون قد حدث ليسوع، فقال يوحنا «إنه قام» وقال بطرس «لا بل أنه سُرق».
ظهور يسوع لمريم المجدلية (ع ١١ – ١٨)
١١ «أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ القَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى القَبْرِ».
مرقس ١٦: ٥
أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ القَبْرِ فإذاً لا بد أنها رجعت إلى القبر بعدما أخبرتهما في البيت (ع ٢) لكنها لم تستطع أن تجري، ولم تقتنع كما اقتنع يوحنا من مشاهدة الأكفان مطويّة والمنديل ملفوفاً وموضوعاً وحده. وبقيت تتوقع معرفة شيء آخر مما يتعلق بجسد المسيح، مع أنها انحنت ونظرت ما نظراه.
١٢ «فَنَظَرَتْ ملاكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً».
فَنَظَرَتْ ملاكَيْنِ هما ملاكان حقيقة، ولذلك دعاهما يوحنا كذلك. لكنهما ظهرا في صورة الناس ولذلك سماهما مرقس ولوقا «رجلين». ولا منافاة بين إنباء يوحنا بظهور ملاكين لمريم وإنباء متّى بظهور ملاك واحد لغيرها من النساء (متّى ٢٨: ٥) لأن ذلك حدث وهي غائبة لتنبئ الرسولين، وهذا بعد انصراف أولئك النساء. ومن العجيب أن مريم لم تستغرب رؤية الملاكين، ولم تخف منهما. وعلّة ذلك أن شدة حزنها ورغبتها في الفحص عن جسد المسيح شغلت كل أفكارها ومنعتها أن تنتبه لغرابة ذلك الأمر.
١٣ «فَقَالا لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
لِمَاذَا تَبْكِينَ لم يسألاها لجهلهما السبب بل لينبهاها على أن لا داعٍ للبكاء، وأنها يجب أن تفرح لمشاهدتها القبر مفتوحاً، لأنه دليل على قيامة من تبكيه. وكثيراً ما يحق للملائكة أن يسألونا: «لماذا تبكون؟» عندما يروننا ننوح على من نفقدهم من الأصدقاء وهم أحياء عند الله.
أَخَذُوا سَيِّدِي جوابها للملاكين كإنبائها للرسولين (ع ٢). فكل ما خطر على بالها أن الجسد أُخذ، وهي تريد أن تراه. والعجيب أن القيامة لم تخطر لها على بال.
١٤ «وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا التَفَتَتْ إِلَى الوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ».
متّى ٢٨: ٩ ومرقس ١٦: ٩ ولوقا ٢٤: ١٦، ٢١ ويوحنا ٢١: ٤
التَفَتَتْ إِلَى الوَرَاءِ لم نعلم علة التفاتها وقطعها الحديث مع الملاكين، ولعلها يئست من الإفادة منهما، فاستدارت لتذهب.
وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ علة جهلها أنه يسوع عدم توقعها رؤيته، وما حدث من التغيّر في هيئته (مرقس ١٦: ١٢) أو لعل عينيها أُمسكتا عن معرفته، كما أُمسكت عيون المسافرَيْن إلى عمواس في آخر ذلك النهار (لوقا ٢٤: ١٦).
١٥ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلكَ أَنَّهُ البُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلتَهُ فَقُل لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ».
لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ لا يخلو هذا الكلام من التنبيه على خطئها بالبكاء، فكأنه قال لها «قد أخطأت بطلبك الحي بين الموتى، ونسيانك نبوته أنه سيقوم بعد ثلاثة أيام».
ظَنَّتْ تِلكَ أَنَّهُ البُسْتَانِيُّ علة ظنها ذلك اعتقادها أنه غريب عنها، وعدم تصورها علة وجود إنسان في البستان في مثل ذلك الوقت ما لم يكن هو البستاني. أو لعل الثياب التي اتخذها كانت تشبه ما يلبسه البستاني.
فَقُل لِي تصورت أن البستاني نقل جسد يسوع من مكانه إلى مكان آخر لغرض من الأغراض، ووعدت على فرض ذلك بما لا تستطيعه وحدها، وهو أن تأخذ جسده. والأرجح أنها قصدت أن تأتي بأصدقاء لينقلوه إلى قبر آخر. ولم تذكر اسم يسوع وهي تخاطب من ظنته البستاني، لكنها أشارت إليه بضمير الغائب في قولها «حملتَه» و «وضعته» و «أخذته» كأنه ليس في العالم إنسان سوى يسوع المفقود.
١٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَمُ! فَالتَفَتَتْ تِلكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ».
خاطبها يسوع بكلمة واحدة هي اسمها، ونطقه بلهجته المعهودة وهو يدعوها إلى تعليمه، فعرفت الصوت وعلمت في الحال أن المتكلم هو يسوع.
فَالتَفَتَتْ تِلكَ كأنها كانت مُطرِقة وهي تخاطبه قبل ذلك.
رَبُّونِي كلمة عبرانية معناها: يا معلم، أو يا سيدي (مرقس ١١: ٥١). أظهرت مريم بهذه الكلمة أنها عرفته وابتهجت به وأكرمته كل الإكرام.
١٧ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لا تَلمِسِينِي لأنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».
مزمور ٢٢: ٢٢ ومتّى ٢٨: ١٠ ورومية ٨: ٢٩ وعبرانيين ٢: ١١ ويوحنا ١٦: ٢٨ أفسس ١: ١٧
لا تَلمِسِينِي الأرجح أنها كانت عازمة على أن تمسك قدميه إظهاراً لابتهاجها وشكرها ورغبتها في أن تسجد له باعتباره مخلصها الذي قام من الموت، كما فعلت المرأتان المذكورتان في متّى ٢٨: ٩. ولا نعلم لماذا منعها يسوع من ذلك بينما سمح لتينك المرأتين. وأمر تلاميذه في تلك الليلة أن يلمسوه بقوله «جسوني» (لوقا ٢٤: ٣٨) وقوله لتوما بعد أسبوع «هَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي» (يوحنا ٢٠: ٢٧) ليزيل شكهم في قيامته، وليبرهن لهم أنه لحم وعظم لا روح، ولم يكن لمريم من حاجة إلى ذلك. ولعله قصد بقوله «لا تلمسيني»: لا تتعوقي بأن تمسكيني، بل اسرعي إلى تلاميذي ببشرى قيامتي. أو لا تمسكي بي متوهمة أن هذه الفرصة الوحيدة التي ترينني فيها قبل أن أرجع إلى أبي. وربما قصد أن يبيّن لها أنه بعد قيامته ليس كما كان قبلها، وأن الطريق لإكرام تلاميذه له تغيّرت، وأن مخالطته بعد ذلك لا تكون إلا روحية حسب قول الرسول «وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ حَسَبَ الجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» (٢كورنثوس ٥: ١٦).
لأنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي أي لن أصعد الآن من هذا العالم إلى أبي، إتماماً لكم قبل موتي. وقال ذلك لأنه سيبقى معهم أربعين يوماً قبل صعوده، ولهذا كان لها ولغيرها من التلاميذ وقت كافٍ لمشاهدته وإكرامه.
لَكِنِ اذْهَبِي بدلاً من أن تمسكيني.
إِلَى إِخْوَتِي سمّاهم قبلاً عبيداً، ثم سمّاهم تلاميذ، ثم أحباء، وزاد ذلك هنا أن سماهم «إخوة» فأظهر بذلك أن محبته لهم لا تزال شديدة، مع أنهم منذ أقل من ثلاثة أيام تركوه وهربوا وشكوا فيه، وأنه لم يزل بعد قيامته مشتركاً في طبيعتنا البشرية أخاً لنا وواحداً منا.
قُولِي لَهُمْ أول قصدٍ قصده بعد قيامته تعزية تلاميذه، وتجديد إيمانهم، وإحياء رجائهم. وأكرم يسوع مريم بأنه جعلها رسوله، فذهابها تبشر بقيامته خدمة للمسيح ولإخوته المؤمنين، وهما بركة أعظم من أن تقع على قدميه عبادة له، وأفضل طريق لإظهار محبتها له.
إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي أي سأصعد (ولم يقل إني قمت) لئلا تظن أنه عازم على البقاء في هذه الأرض. وأشار بصعوده إلى السماء أنه يسبقهم إلى هناك، وأنه يشفع فيهم رئيس أحبار لهم.
وَأَبِيكُمْ لأنكم إخوتي. أبوّة الله لهم ليست بمعنى أبوته للمسيح، وإلا لقال: أصعد إلى أبينا، لأن الله أبونا بالنعمة والتبني ولأننا إخوة للمسيح. والمسيح ليس كذلك، لأن الله أبوه لكونه ابن الله منذ الأزل. والله إلهه لأنه صار ابن الإنسان لخلاص البشر. وفي هذا تعزية عظيمة لتلاميذه لما فيه من بيان قوة الاتحاد بينه وبينهم، وهي أن أباه وأباهم واحد. فإذاً هم شركاء محبته وموعودون بالاجتماع في بيته السماوي.
١٨ «فَجَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التّلامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا».
متّى ٢٨: ١٠ ولوقا ٢٤: ١٠
فَجَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ أطاعت مريم المسيح بدون اعتراض. ولا شك أن بشارتها ملأت قلوبهم عزاءً ورجاءً. والأرجح أن المسيح التقى بعد ذهابها بالمرأتين المذكورتين في متّى ٢٨: ٩.
ظهور يسوع لتلاميذه أولاً (ع ١٩ – ٢٥)
١٩ «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلامِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سلامٌ لَكُمْ».
مرقس ١٦: ١٤ ولوقا ٢٤: ٣٦ و١كورنثوس ١٥: ٥
ذَلِكَ اليَوْمِ أي يوم الأحد (انظر شرح مرقس ١٤: ١٦ ولوقا ٢٤: ٣٣ – ٤٣). وهذا ظهور المسيح الأول لكل التلاميذ، لكنه الخامس بالنظر إلى ظهوره لبعضهم، وأولهم مريم المجدلية (ع ١٦). والثاني لرفيقتين لها (متّى ٢٨: ٩). والثالث لبطرس ( ١كورنثوس ١٥: ٥). والرابع للتلميذين الذاهبين إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٣). والخامس ما ذُكر هنا. وبين حوادث ع ١٨، ١٩ أمور لم يذكرها يوحنا، وهي رشوة الحراس (متّى ٢٨: ١١ – ١٥) وظهور المسيح لبطرس وللتلميذين المسافرين إلى عمواس.
وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً خاف التلاميذ أن يعاملهم اليهود كما عاملوا يسوع بغضاً، ولذلك اجتمعوا سراً. ولعلهم سمعوا أن اليهود قالوا «بسرقة تلاميذه ليلاً» فخافوا أن تطلبهم الحكومة وتعاقبهم. وقد أنبأهم يسوع بأنهم يُضطهَدون ويكونون كغنم تتبدد بعد ضرب الراعي، فلا عجب من أنهم خافوا. ولم يذكر البشير سبب اجتماعهم، ولكن لا شك أنه كان ليتحاوروا في حوادث النهار، وفيما أُنبئوا به من أن القبر خلا من الجسد، ومن مشاهدة الملائكة، ومشاهدة بعضهم للمسيح. ولعلهم اجتمعوا للعبادة وسؤال الله الحماية والإرشاد. ولم يذكر البشير موضع اجتماعهم، لكن نعلم أنه كان في أورشليم. والأرجح أنه كان في العلية التي أكلوا فيها الفصح مع سيدهم (مرقس ١٤: ١٣ – ١٥) وكان المجتمعون عشرة رسل مع بعض المؤمنين (لوقا ٢٤: ٣٣).
جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٦. لا يلزم من الكلام هنا أنه دخل بدون فتح الباب، فليس من عادته أن يفعل معجزة عظيمة جداً لغير ضرورة. وقصد أن يبرهن للتلاميذ أن له جسداً مادياً حقيقياً، لا مجرد روح، فدخوله دون أن يفتح الباب يخالف قصده. فيجب أن نفهم من هذا أنه دخل بغتة، إما بفتح الباب بسلطانه، أو بطلبه إليهم. والأرجح الأول. ولا نريد بذلك أنه لم يكن في ظهوره بغتة وباختفائه كذلك شيء من المعجزات.
سلامٌ لَكُمْ انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٦. غاية المسيح من هذا أن يبيّن لهم محبته وغفرانه وشفقته عليهم، فلم يوبخهم على تركهم إيّاه وجبنهم وشكوكهم، بل وهب لهم الاطمئنان بتحية اعتادوها، كما فعل بمناداته مريم باسمها. وهو موافق لقوله لهم في خطابه الوداعي ليلة الجمعة «سلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلامِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٧). لكن السلام الثاني أعظم من الأول، لأنه قاله بعد ما دخل القبر وغلب الموت لأجلهم، ورجع إليهم من عالم الأرواح حاملاً بشرى السلام لهم، فإنه صالح بموته العالم مع الله، ورجع إلى تلاميذه ببشارة المصالحة والسلام.
٢٠ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التّلامِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ».
يوحنا ١٦: ٢٢
أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ ليبيّن لهم أنه هو يسوع الذي تألم ومات على الصليب، وأنه قام بجسده نفسه، وأنه ليس مجرد روح، وليس بجسد ممجد (انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٩) وعدم ذكره الرِّجلين لا يعني أنهما لم يُسمرا، لأن لوقا ذكر أن يسوع أراهم رجليه.
فَفَرِحَ التّلامِيذُ تحقوا من مشاهدتهم الجروح أنه هو يسوع عينه، وأنه ليس روحاً، ففرحوا، وكان هذا تحقيقاً لوعده «سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ» (يوحنا ١٦: ٢٢). فمشاهدته أنعشتهم وجددت آمالهم وعزت قلوبهم وبددت شكوكهم ومخاوفهم. وذكر يوحنا خطاب يسوع لتلاميذه وقتئذ ما يوافق غايته بإلهام الروح القدس. وذكر لوقا غير ما ذكره يوحنا من تلك المخاطبة (لوقا ٢٨: ٣٦ – ٤٣).
فإذا كانت مشاهدة المسيح على الأرض علة فرح كهذا، فكم يكون فرح المؤمنين بمشاهدتهم إيّاه في السماء.
٢١ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سلامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا».
متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ١٧: ١٨، ١٩ و٢تيموثاوس ٢: ٢ وعبرانيين ٣: ١، ٢
سلامٌ لَكُمْ كرر التحية لزيادة التأكيد. وهذا يشبه قول يوسف لفرعون «وَأَمَّا عَنْ تَكْرَارِ الحُلمِ عَلَى فِرْعَوْنَ مَرَّتَيْنِ، فَلأنَّ الأَمْرَ مُقَرَّرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ» (تكوين ٤١: ٣٢).
كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا انظر شرح يوحنا ١٧: ١٨. يسوع هو رسول الله الوحيد لعمل الفداء (عبرانيين ٣: ١) وقد جعل تلاميذه سفراءه وشركاءه في المناداة ببشرى الخلاص (يوحنا ١٨: ٣٧ و٢كورنثوس ٥: ١٨). المسيح أخذ من الله كلمة المصالحة وأعطاها تلاميذه لينادوا بها (٢كورنثوس ٥: ٢٠) فصار عليهم أن يخبروا العالم بأن الله مستعد أن يقبلهم ويغفر لهم ويصالحهم. وكما أنه أرسلهم ليشهدوا كما شهد هو كان عليهم أن يحتملوا المشقات والاضطهاد كما احتملها هو. فإذاً لم يكن لهم أن يتوقعوا الراحة والأمن من رجوع سيدهم إليهم، لأنه عازم أن يتركهم ويرجع إلى أبيه، وهم ينوبون عنه في عمله على الأرض.
٢٢ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ».
يليق بالذي يرسل رسلاً أن يعطيهم قوة لينشروا رسالته. والمسيح أعطى رسله القوة بهبته الروح القدس لهم.
نَفَخَ قرن الهبة بالإشارة الموافِقة، وقد أشار الكتاب المقدس «بالريح» إلى الروح القدس (حزقيال ٣٧: ٩ ويوحنا ٣: ٨ وأعمال ٢: ٢). ولعل المشابهة هنا مبنيّة على ما جاء في سفر التكوين وهو قوله «جَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧) فكما كان النفخ في خلق آدم إشارة إلى هبة الحياة الجسدية كان هنا إشارة إلى هبة الحياة الروحية.
اقْبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ كأنه قال «أنا أعطيكم الروح القدس». فلا يلزم من ذلك أنهم لم ينالوا قبلاً شيئاً من تأثير ذلك الروح، وإلا ما أمكنهم أن يؤمنوا، إذ لا يقدر أحد أن يؤمن بدون روح الله.
ويجب أن لا نحكم من قوله إنهم نالوا إتمام وعد المسيح لهم بذلك الروح (يوحنا ٧: ٣٨، ٣٩ و١٦: ٧) لأنهم لم ينالوا ذلك إلا يوم الخمسين حين امتلأوا من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بألسنة مختلفة (أعمال ٢: ٤). لكنهم نالوا عربوناً واستعداداً لذلك الامتلاء. والذي نالوه حينئذ قوة الإدراك للأمور المختصة بالمسيح وملكوته، أي فهم النبوات المتعلقة به وضرورة موته وقيامته لإتمام عمل الفداء، وهذا حسب القول «حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الكُتُبَ. وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ المَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ» (لوقا ٢٤: ٤٥ و٤٦). ونالوا علاوة على ذلك حكمة وقوة من الروح القدس ليضعوا للناس شروط مغفرة الخطايا، ولتمييز الذين قبلوا تلك الشروط واستناروا بالروح القدس ونجوا (ع ٢٣).
وهذه الآية من الآيات التي استند عليها القائلون بصدور الروح القدس من الابن كصدوره من الآب.
٢٣ «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ».
متّى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨ وأعمال ٥: ١ – ١١ و٨: ٢١ و١٣: ٩
انظر شرح متّى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨. تتضمن هذه الآية أمرين: (١) أن المسيح أوكل إلى تلاميذه بعد نوالهم الروح القدس أن يعيّنوا الشروط التي ينال بها الناس مغفرة خطاياهم، وأن يصرحوا لكل الذين قبلوا من قلوبهم تلك الشروط بالمغفرة التامة، وبرفض كل من يرفض تلك الشروط. (٢) أن يحكموا بإخلاص على من يعترفون بقبول الشروط المذكورة، ويصرحوا بمغفرة خطاياهم بالنيابة عن المسيح، وبناءً على اعتراف أولئك، ويقبلوهم أعضاء في كنيسة المسيح. كما يحكمون بدينونة الذين لا يتوبون. فسلطان الرسل في الروحيات كسلطان كهنة اليهود في مرض البَرَص، فكان لهم أن يحكموا بشفاء من شُفي وطهارته، وعدم شفاء من لم يُشفَ ونجاسته. ويشبه سلطان الرسل السلطان الذي أعطاه الله لإرميا النبي «اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلتُكَ هَذَا اليَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى المَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِس» (إرميا ١: ١٠). وهذا السلطان متعلق بإعلان المغفرة لا بالمغفرة عينها. فالمسيح لا يغفر للناس بناء على مغفرة الرسل لهم، لكن الرسل يصرحون بإرشادٍ من المسيح بالمغفرة للناس بناء على أنها مغفرته.
ولنا ثلاثة براهين على أن سلطان الرسل يقف عند إعلان المغفرة، لا منحها: (١) أن الكتاب المقدس قصر مغفرة الخطايا على الله وحده (إشعياء ٤٣: ٢٣). (٢) أنه لا دليل في سفر الأعمال أو الرسائل أن أحد الرسل ادّعى سلطان مغفرة الخطايا، أو أخذ على نفسه أن يغفر لأحد. لكنهم قالوا بسلطان إعلان ذلك (أعمال ١٠: ٤٣ و١٣: ٣٢، ٣٨ و١٦: ٣١). (٣) أن بولس الرسول بيّن في رسالتيه إلى تيموثاوس ورسالته إلى تيطس واجبات القسيس راعي الكنيسة وسلطانه، ولم يذكر قط أن له سلطاناً من نفسه على مغفرة الخطايا. وفسر لوقا معنى ذلك في كلامه على خطاب المسيح المذكور بقوله «وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ» (لوقا ٢٤: ٤٧). وكل ما أعطاه المسيح لرسله من السلطان في كنيسته أعطاه لهم بالمساواة، ولم يرفع واحداً منهم على بقيتهم. وكان ذلك كله مشروطاً بنوالهم الروح القدس أولاً. وأما السلطان الذي وهبه المسيح لرعاة كنيسته فينحصر في أربعة أمور: (١) التبشير بالإنجيل لكل الناس. (٢) تعيين الشروط للقبول في عضوية الكنيسة بناء على كلام الله. (٣) إدخال الطالبين إلى شركة الكنيسة بناء على إقرارهم بإيمانهم بالمسيح. (٤) سياسة الكنيسة إدارياً.
٢٤ «أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ».
يوحنا ١١: ١٦
تُومَا انظر شرح يوحنا ١١: ١٦.
فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ لا نعرف لماذا لم يكن معهم، لكننا نعرف أن المسيح لم يلمه على ذلك بل على عدم إيمانه فقط. وكان هذا التلميذ يميل إلى الشك والخوف واليأس (يوحنا ١١: ١٦). وغاية البشير من ذكر شك توما بيان أن الرسل لم يتوقعوا قيامة المسيح، ولا كانوا مستعدين أن يقتنعوا بحقيقتها بأدلة ضعيفة. لكنهم آمنوا بها بعد شك شديد، وبعد أقوى البراهين. شك توما لكي لا نشك نحن.
٢٥ «فَقَالَ لَهُ التّلامِيذُ الآخَرُونَ قَدْ رَأَيْنَا الرَّبّ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لا أُومِنْ».
قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ هذه شهادة عشرة بما شاهدوه بعيونهم، فكان يجب على توما أن يكتفي بها لمعرفته أنهم صادقون، ولا غاية لهم من أن يخدعوه.
إِنْ لَمْ أُبْصِرْ.. لا أُومِنْ ادعى توما أنه يقدر أن يميِّز بين الحق والباطل أكثر من باقي التلاميذ، فوضع شروطاً لإيمانه تمنع إثبات شيء بشهادة الناس، فرفض تصديقهم وتعليمهم إلا إذا رأى بنفسه. وكلامه يدل على إعجابه بنفسه، وعناده، واستخفافه بإدراك إخوته التلاميذ وصدقهم. وليس لتوما عُذر في شكه، فقد سمع بأذنيه المسيح يقول «إنه يقوم بعد ثلاثة أيام» وكان قد شاهده منذ بضعة أسابيع يقيم لعازر من الموت. ولكنه رفض وسائل برهنة صحة القيامة، من قبر مفتوح، وأكفان ملفوفة، وظهوره لمريم المجدلية، وللمرأتين الأخريين، وللتلميذين على طريق عمواس، ولإخوته العشرة. ولا يستلزم قوله «أثر المسامير في يده» أن قدمي المسيح لم تُسمرا، فقصده أنه يكتفي بمشاهدة اليدين والجنب.
ظهوره لتلاميذه ثانية (ع ٢٦ – ٢٩)
٢٦ «وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تلامِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ وَقَالَ: سلامٌ لَكُمْ».
بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أي بعد أسبوع كامل حسب اصطلاح اليهود، فكان ذلك اليوم الأحد. وهذا لا ينفي أن الرسل اجتمعوا في غيره من أيام الأسبوع الماضي، وإنما خصّه بالذكر لما حدث فيه. استعداداً لإبدال السبت بالأحد.
دَاخِلاً أي في بيت، والأرجح أنه هو البيت الذي كانوا مجتمعين فيه في أورشليم يوم الأحد السابق.
وَتُومَا مَعَهُمْ الظاهر من سياق الكلام أن المسيح أتى إليهم حينئذ ليظهر للتلاميذ وتوما معهم. وقبول التلاميذ توما معهم بعد تكذيبه إيّاهم وعناده وعدم إيمانه دليل على محبتهم له.
وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ كما كانت في الأحد السابق ودون أن يشعروا به.
وَقَفَ فِي الوَسَطِ دون أن يبنئهم بقدومه ودون أن يشعروا به.
سلامٌ لَكُمْ حيا الجميع بذلك كما سبق دون أن يستثني توما.
٢٧ «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَل مُؤْمِناً».
١يوحنا ١: ١
هَاتِ إِصْبِعَكَ أظهر المسيح بهذا أنه عرف كل ما حدث بين توما وسائر التلاميذ (ع ٢٥) لأن قوله جواب مرتب على قول توما كلمةً بكلمة. وهذا برهان آخر على صحة دعوى المسيح أنه إله كما هو إنسان. ولا بد من أنه أخجل توما على عدم إيمانه وقساوة قلبه. وكما عرف المسيح يومئذ أفكار توما وكلامه يعرف الآن كل الأفكار والأقوال على هذه الأرض. ونستنتج مما قاله يسوع لتوما أن جروحه لم تكن قد شُفيت تماماً، وأن الجرح الذي في جنبه واسع حتى أنه يسع اليد.
ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَل مُؤْمِناً هذا غير مقصور على أمر توما بالإيمان بقيامة المسيح، بل عام لكل ما يطالب به. فكأن المسيح قال له «كن مؤمناً بدلاً من ميلك إلى الشكوك. سلِّم نفسك إلى الإيمان مصلحاً عيوب طبيعتك، فاتحاً قلبك لقبول البراهين الكافية للحق». ولم يكن توما حينئذ كافراً بل كان في خطر عظيم من الكفر، فحذره المسيح من ذلك الخطأ لأن طلبه شهادة حواسه قبل التسليم بشيء من الحقائق يناقض مبادئ المسيح ومنها أن «نسلك بالإيمان لا بالعيان».
٢٨ «أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلَهِي».
أظهر توما بهاتين الكلمتين التعجب والسرور والتوبة واليقين والعبادة. ورأى أن الذي خاطبه هو الإنسان يسوع المسيح الذي مات وقام، وآمن أنه الله ظهر في الجسد.
رَبِّي وَإِلَهِي هذا إقرار بسيادة المسيح ولاهوته، وهو يوافق القول «وكان الكلمة الله» وهو خلاصة كل مضمونها، فيجب أن نتخذه من جملة البراهين القاطعة على لاهوت المسيح، لأن توما خاطبه معتبراً إيّاه إلهه في حضرة جميع الرسل، ولم يعترضه المسيح ولا أحد من الرسل على ذلك، بل مدحه المسيح عليه. فيحق لنا أن نسمي المسيح ربنا وإلهنا.
٢٩ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا».
٢كورنثوس ٥: ٧ و١بطرس ١: ٨
لأنَّكَ رَأَيْتَنِي أي أبصرت جسدي، ووقفت على البراهين أني أنا هو المصلوب. ويستنتج من هذا القول أنه لم يلمس المسيح. ولو كان ذلك لقال «لأنك رأيتني ولمستني».
آمَنْتَ مدحه المسيح على اقتناعه بقيامته بشهادة حواسه، وعلى اعترافه بأنه ربه وإلهه. ولكن إيمان توما المبني على شهادة حواسه هو من أدنى مراتب الإيمان، لهذا وبخه المسيح على أنه لم يحصل على إيمان قوي كإيمان غيره. نعم إن المسيح لم يكلف أحداً أن يؤمن بلا برهان، وإنما لام توما على قسوته وعناده، لأنه رفض براهين كافية لإقناع كل ذي نية صالحة.
طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا أي هؤلاء السعداء يستحقون المدح الإلهي. ويلزم من ذلك أن الله كان يرضى عن توما أكثر لو أنه قبل شهادة إخوته الرسل منذ سبعة أيام وآمن بقيامة المسيح. والأرجح أن التوبيخ المذكور في بشارة مرقس للرسل وُجه بالأكثر إلى توما، وهو قوله «وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ» (مرقس ١٦: ١٤). والذي قاله المسيح لتوما يومئذ يقوله لنا الآن إنه يجب أن نقبل كلامه ببساطة الإيمان كما يقبل الأولاد الصغار كلام والديهم. وذلك التطويب نصيب كل الذين صدقوا بشهادة الرسل الشفاهية والمكتوبة في الإنجيل. وهذا كقول الرسول في المسيح «ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لا تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لا يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خلاصَ النُّفُوسِ» (١بطرس ١: ٨، ٩).
هدف كتابة يوحنا (ع ٣٠، ٣١)
٣٠ «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلامِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الكِتَابِ».
يوحنا ٢١: ٢٥
ع ٣٠، ٣١ خاتمة ما في هذا الأصحاح.
آيَاتٍ أُخَرَ المقصود بعض ما صنعه من المعجزات قبل موته. فكأنه قال: لا تظنوا أن ما ذكرتُه من عجائب المسيح هو كل ما صنعه على الأرض بل هو قليل من كثير. ولا تظنوا أنه لم يظهر بعد قيامته سوى ثلاث مرات كما ذكرت، لأنه ظهر مراراً غيرها (أعمال ١: ٣). وذُكر بعض ذلك في سائر البشائر، وبعضه لم يذكره أحد من البشيرين.
قُدَّامَ تلامِيذِهِ أي رسله وفي هذا إشارة إلى أن يسوع اختار اثني عشر رسولاً ليرافقوه في التبشير، وليروا أعماله، ويسمعوا تعليمه لنفع أنفسهم أولاً، ولنفع العالم ثانية بشهادتهم بما للمسيح.
فِي هَذَا الكِتَابِ أي هذه البشارة.
٣١ «وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ».
لوقا ١: ٤ ويوحنا ١: ٤ ، ١٢ و٣: ١٥، ١٦، ٣٦ و٥: ٢٤ و١بطرس ١: ٨، ٩ و١يوحنا ٥: ١١
بيّن الرسول هنا أنه كتب ما في هذه البشارة كلها، أو ما في هذا الأصحاح من البراهين على صحة قيامة المسيح لغايتين: الأولى تثبيت إيمان المؤمنين، والثانية حصولهم على الحياة الأبدية. والأول شرط للثاني. وتفيدنا هذه الآية بأن يوحنا لم يقصد أن يكتب تاريخاً كاملاً لحياة المسيح على الأرض، بل اقتصر على ذكر بعض معجزاته ومحاوراته ومواعظه إظهاراً لمجد المسيح، وتقوية لإيمان المؤمنين به وتوطيد حياتهم الروحية. ولذلك ترك خبر ميلاد المسيح وتجربته وأكثر معجزاته وأمثاله وتجلّيه ورسمه العشاء الرباني وصعوده إلى السماء.
لِتُؤْمِنُوا أي ليثبت إيمانكم ويقوى ويزيد بالحقيقة الجوهرية في المسيحية وهي «أن يسوع هو المسيح ابن الله». وغايتا بشارة يوحنا هما غايتا كل كتاب الله من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، لأن كل نبواته تُثبت مجد يسوع المسيح، وأنه مصدر الحياة الأبدية.
حَيَاةٌ هي الحياة الروحية التي شرطها الإيمان بالمسيح.
بِاسْمِهِ أي بصفات المسيح ووظائفه المعلنة بما سُمي به كيسوع أي مخلِّص، وعمانوئيل أي الله معنا، والملك والنبي والكاهن.
السابق |
التالي |