إنجيل يوحنا | 18 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثامن عشر
تسليم يسوع والقبض عليه (ع ١ – ١٢)
١ «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلامِيذُهُ».
٢صموئيل ١٥: ٢٣ ومتّى ٢٦: ٣٦ ومرقس ١٤: ٣٢ ولوقا ٢٢: ٢٩
هَذَا أي الخطاب في يوحنا ١٤ – ١٦ والصلاة في يوحنا ١٧.
خَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ نستنتج أنه بقي إلى هذا الوقت مع تلاميذه في المدينة حيث أكل الفصح، والأرجح أنهم رتلوا قبل خروجهم (متّى ٢٦: ٣٠).
عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ كان هذا الوادي شرق أورشليم، بينها وبين جبل الزيتون (٢صموئيل ١٥: ١٣ و٢ملوك ٢٣: ١٢ و٢أيام ١٥: ١٦).
حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ كان هذا البستان في سفح جبل الزيتون غرباً وسمّي «جثسيماني» (متّى ٢٦: ٣٦) والأرجح أن صاحب البستان كان من أصدقاء يسوع. ولم يذكر يوحنا صلاة المسيح وآلامه هناك. ولعل سبب ذلك أن الكنيسة كانت عارفة به عندما كتب يوحنا.
٢ «وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ المَوْضِعَ، لأنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيراً مَعَ تلامِيذِهِ».
لوقا ٢١: ٣٧ و٢٢: ٣٩ ويوحنا ٨: ١
وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ المَوْضِعَ لتردده إليه مع المسيح وغيره من التلاميذ. وذكره يوحنا لتأكد يهوذا أنه يجد المسيح هناك كما تحقق أعداء دانيال أنهم يجدونه يصلي وقت الصلاة في موضعه المعتاد (دانيال ٦: ١٠، ١١).
لأنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيراً مَعَ تلامِيذِهِ (لوقا ٢١: ٣٧ ومتّى ٢١: ١٧ ويوحنا ٨: ١). وقصد المسيح ذلك المكان على سفح جبل الزيتون للانفراد عن الجموع للصلاة، ولتعليم تلاميذه. واعتاد يهوذا أن يسمع هناك الصلاة والتعليم، ولكن ذلك لم يمنعه عن تسليم معلمه هناك.
٣ «فَأَخَذَ يَهُوذَا الجُنْدَ وَخُدَّاماً مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاحٍ».
أعمال ٤: ١ متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣ ولوقا ٢٢: ٤٧ وأعمال ١: ١٦
انظر شرح متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣. لم يذكر يوحنا اتفاق يهوذا مع اليهود على أن يسلم يسوع إليهم بثلاثين قطعة فضة، لأن الذين جاءوا مع يهوذا كان بعضهم من جند الرومان والبعض من اللاويين حراس الهيكل وخدام الرؤساء، وكان منهم بعض رؤساء الكهنة للمراقبة. وكان الجمع كثيراً خوفاً من أن يقاومهم تلاميذ المسيح وأصحابه الجليليين. وأتوا بمشاعل ومصابيح والقمر بدر (لأنه كان الفصح) إما لأن السماء غامت، أو لظنهم أن المسيح يختبئ بين أشجار البستان أو في مكان مظلم.
٤ «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟».
فَخَرَجَ يَسُوعُ كان أولاً داخل البستان يصلي مع ثلاثة من تلاميذه. ولما جاء الجنود لم يصبر إلى أن يطلبوه بل ذهب لملاقاتهم إما إلى مدخل البستان أو إلى خارجه.
وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ عرف يسوع بسابق علمه كل ما سيحدث، فزادته معرفته بذلك ألماً. وكان يمكنه لو أراد بتلك المعرفة أن ينجو منهم بأن يترك البستان قبل وصولهم.
وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أظهر يسوع بذلك كل الهدوء والاطمئنان. وعرّض نفسه باختياره للقبض والتقييد والموت على خلاف ما فعل يوم أراد الناس أن يخطفوه ويقيموه ملكاً (يوحنا ٦: ١٥). وقصده بسؤاله إيّاهم ظاهر في ع ٦، ٧ وهو أن يجعل جوابه على سؤاله سبباً ليتركوا تلاميذه.
٥ «أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ».
أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ أن الذين أجابوه هم رؤساء العسكر الرومان، ولم يعرفوا أن الذي يكلمهم هو الذي يطلبونه. والظاهر أن يهوذا لم يكن قد أظهر لهم العلامة المتفق عليها، وهي القُبلة لأن المسيح تقدم إليهم بغتة. وتبيّن مما في متّى ٢٦: ٥٥ أن بعض القوم قد عرفه.
قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لا بدّ من أنهم تعجبوا بهذا الإقرار لوضوحه وشجاعة قائله.
وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ لم تتضح غاية البشير من ذكره هذا، ولعلها بيان شر يهوذا وقساوة قلبه ووقاحته، فإن الذي وقف أكثر من ثلاث سنين مع تلاميذ المسيح لم يستحِ أن يقف حينئذ مع أعدائه. أو لعلها تبيّن أنه كان ليهوذا برهان آخر على عظمة المعلم الذي جاء ليسلمه، وهو ما ذكره في الآية الآتية.
٦ «فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ رَجَعُوا إِلَى الوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ».
هذا نتيجة تأثير منظر المسيح وكلامه فيهم. وهذا مثل التأثير الذي منع باعة الهيكل من مقاومته لما طردهم منه (يوحنا ٢: ١٣ – ١٦) ومثل ما حدث مع جند الهيكل يوم أرسلهم الرؤساء ليقبضوا عليه (يوحنا ٧: ٤٥، ٤٦). ولو انتبه العسكر لذلك الأمر لاستنتجوا أنه لا قوة لهم على القبض عليه لو أراد هو أن يستعمل قوته لمنعهم.
٧ «فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ».
كرر يسوع السؤال وهم كرروا الجواب، والأرجح أن سقوط الناس حينئذ كان وقتياً، وأنهم قاموا خجلين من ارتعابهم بغتة، ولم يزالوا عازمين على تنفيذ قصدهم.
٨ «أَجَابَ: قَدْ قُلتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوْا هَؤُلاءِ يَذْهَبُونَ».
أظهر يسوع في ساعة الخطر الشديد حبه لتلاميذه وعنايته بهم. والأرجح أن العسكر كان وقتئذٍ محيطاً بتلاميذه ليمسكهم، ولم يُبقِ لهم يسوع حجة للقبض على تلاميذه، فقد سلم نفسه اختياراً، وسألهم: من تطلبون؟ فأجابوا أنهم لا يطلبون سواه، وطلب منهم أن يتركوا التلاميذ. وفي ذلك سمح المسيح للتلاميذ أن يمضوا إذا شاءوا.
٩ «لِيَتِمَّ القَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداً».
يوحنا ١٧: ١٢
رأى البشير في عمل المسيح المذكور مثالاً لما قاله في يوحنا ١٧: ١٢، على أن المسيح لم يقصد مجرد الحفظ الجسدي بل أراد الحفظ الروحي أيضاً. فلو سمح أن يمسكهم العسكر ويأتي بهم إلى حضرة قيافا وبيلاطس لكان ذلك علة لملاشاة إيمانهم، فمنع عنهم بذلك تجربة لا يستطيعون حملها لكي لا تهلك نفوسهم. والأرجح أنه في هذا الوقت أظهر لهم يهوذا العلامة المتفق عليها فقبّله بياناً أن الذي سلم نفسه هو الذي أتوا ليقبضوا عليه (متّى ٢٦: ٤٩).
١٠ «ثُمَّ إِنَّ سِمْعَانَ بُطْرُسَ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ، فَاسْتَلَّهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذُنَهُ اليُمْنَى. وَكَانَ اسْمُ العَبْدِ مَلخُسَ».
متّى ٢٦: ٥١ ومرقس ١٤: ٤٧ ولوقا ٢٢: ٤٩، ٥٠
راجع تفسير متّى ٢٦: ٥١. وذكر يوحنا وحده اسم الضارب والمضروب. ولا شك أن كليهما كان قد مات قبل أن يكتب يوحنا بشارته بزمن طويل. وما فعله بطرس هنا وفق ما عُهد من أخلاقه وأعماله، لأنه كان سريعاً في الكلام والعمل بدون التأمل في العواقب، وسريع الانتقال من الشجاعة إلى الجبن. ولم يذكر شفاء ملخس إلا لوقا (لوقا ٢٢: ٥١).
١١ «فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: اجْعَل سَيْفَكَ فِي الغِمْدِ. الكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألا أَشْرَبُهَا؟».
متّى ٢٠: ٢٢ و٢٦: ٣٩، ٤٢
انظر شرح متّى ٢٦: ٥٢.
الكَأْسُ انظر شرح متّى ٢٠: ٢٢. أظهر المسيح بذلك استعداده لحمل الألم الذي يقتضيه خلاص البشر، واستعار له كأساً مرة، وكان قد صلى قائلاً «يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس». ثم قال مسلماً بقضائه «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الكَأْسُ إلا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (متّى ٢٦: ٤٢). وأظهر هنا تمام رضاه أن يشربها. والكلام هنا متعلق بما سبق من صلاته في البستان، ولم يذكره يوحنا بناءً على أنه كان معلوماً عند قرّاء بشارته. وما في هذه الآية توبيخ لبطرس على مقاومته للعسكر، ومنع له عن الاستمرار في المقاومة.
١٢ «ثُمَّ إِنَّ الجُنْدَ وَالقَائِدَ وَخُدَّامَ اليَهُودِ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ وَأَوْثَقُوهُ».
ع ٣ أعمال ٤: ١
انظر شرح متّى ٢٦: ٥٠. يظهر من هذا أن كل فرقة من فرق ذلك اللفيف اشتركت في تقييد يسوع، كأنهما حسبا إفلاته خطراً عظيماً يجب كل الحذر منه. ولم يظهر أدنى تأثير من معجزة شفاء ملخس فيهم.
محاكمة المسيح أمام حنان وإنكار بطرس (ع ١٣ – ٢٧)
١٣ «وَمَضَوْا بِهِ إِلَى حَنَّانَ أَوَّلا، لأنَّهُ كَانَ حَمَا قَيَافَا الَّذِي كَانَ رَئِيساً لِلكَهَنَةِ فِي تِلكَ السَّنَةِ».
متّى ٢٦: ٥٧ لوقا ٣: ٢ ع ٢٤
لم يذكر هذه المحاكمة أحد من كتبة البشائر سوى يوحنا.
حَنَّانَ انظر شرح يوحنا ١١: ٤٩ ومتّى ٢٦: ٣ ولوقا ٣: ٢.
أَوَّلاً قال ذلك تمييزاً لوقوفه ثانية أمام قيافا. وقد ذُكر في ع ٢٤ وفي سائر البشائر. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن سلطان رئيس الكهنة كان يبقى له بعد عزله. ولذلك كان يُسمى أحياناً برئيس الكهنة (أعمال ٤: ٦ ولوقا ٣: ٢). وكان حنّان شريكاً لصهره وسائر رؤساء الكهنة في مؤامراتهم على المسيح، وكان متقدماً في الشرف والسلطة حتى حق له أن يحاكم المسيح أولاً في الوقت الذي كان فيه قيافا يرسل رسله إلى سائر أعضاء المجلس يدعوهم للاجتماع إن لم يكونوا قد اجتمعوا. والأرجح أن حنّان كان ساكناً في جزء من قصر رئاسة الكهنة الذي كان يسكنه قيافا، وأن ساحة القصر كانت مشتركة.
١٤ «وَكَانَ قَيَافَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى اليَهُودِ أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ».
يوحنا ١١: ٥
انظر شرح يوحنا ١١: ٤٩، ٥٠. أشار يوحنا إلى ما قاله قيافا سابقاً بعد إقامة يسوع لعازر ليبيّن أن لا رجاء لحكم مثل ذلك القاضي بالعدل، إذ رأى قبلاً وجوب أن يموت المسيح لخدمة الأمة سواء كان بريئاً أو مذنباً.
١٥ – ١٨ «١٥ وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ، وَكَانَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الكَهَنَةِ. ١٦ وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفاً عِنْدَ البَابِ خَارِجاً. فَخَرَجَ التِّلمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ البَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. ١٧ فَقَالَتِ الجَارِيَةُ البَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلامِيذِ هَذَا الإِنْسَانِ؟ قَالَ ذَاكَ: لَسْتُ أَنَا. ١٨ وَكَانَ العَبِيدُ وَالخُدَّامُ وَاقِفِينَ، وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْراً لأنَّهُ كَانَ بَرْدٌ، وَكَانُوا يَصْطَلُونَ، وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفاً مَعَهُمْ يَصْطَلِي».
متّى ٢٦: ٥٨، ٦٩ ومرقس ١٤: ٥٤، ٦٦ ولوقا ٢٢: ٥٤، ٥٥ ويوحنا ٢١: ٧ و٢٤
انظر شرح متّى ٢٦: ٥٧، ٥٨. ولم يذكر يوحنا أن الرسل هربوا جميعاً بعد القبض على يسوع، واقتصر على ذكر أنه هو وبطرس تبعاه ليعرفا ما سيجري له.
وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ (ع ١٥) هذا التلميذ كان يوحنا وأشار إلى نفسه بمثل ذلك (يوحنا ٢٠: ٢، ٣، ٤، ٨).
مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ لا نعرف سبب تلك المعرفة. وذكر يوحنا ذلك ليبين سبب الإذن له في الدخول، وأن بطرس سُئل عن علاقته بيسوع، ولم يُسأل يوحنا عن ذلك.
عُرف يوحنا أنه تلميذ المسيح ولم يضره الخدام بشيء، فلو اعترف بطرس أنه من تلاميذه ربما ما كان يصيبه أدنى أذىً، لأن من سألوه ليسوا من أرباب السلطان.
أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً؟ أشارت بقولها أيضاً إلى أن يوحنا كان هناك، وأنها عرفت أنه من تلاميذ المسيح.
١٩ «فَسَأَلَ رَئِيسُ الكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تلامِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ».
فَسَأَلَ رَئِيسُ الكَهَنَةِ هو حنان (انظر شرح ع ١٣). وكان هذا الفحص مقدمة للفحص أمام قيافا وأعضاء المجلس الذي ذكره متّى ومرقس. وكان القصد منه الوقوف على ما يشتكون به يسوع. ولعل حنان كان يأمل أن يستجوب يسوع قبل التئام المجلس بمحاورة بسيطة يحمله أثناءها على الإقرار بما يكون سبباً للشكوى عليه.
عَنْ تلامِيذِهِ أي عن عددهم ومقامهم وأسمائهم. ولعل بطرس سمع هذا السؤال فحمله على إنكار أنه من تلاميذ يسوع. وغاية حنان من هذا السؤال شكوى يسوع لبيلاطس، إذا أقر بكثرة تلاميذه بأنه يسعى للثورة على القيصر.
وَعَنْ تَعْلِيمِهِ ليعرف هل له تعاليم سرية تنافي شريعة موسى أو قوانين الدولة الرومانية، ليشكوه بالتجديف أو بالخيانة.
٢٠ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ العَالَمَ علانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي المَجْمَعِ وَفِي الهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ اليَهُودُ دَائِماً. وَفِي الخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».
متّى ٢٦: ٥٥ ولوقا ٤: ١٥ ويوحنا ٧: ١٤، ٢٦، ٢٧، ٢٨ و٨: ٢ إشعياء ٤٥: ١٩ و٤٨: ١٦
خلاصة جواب المسيح أنه كان يعلّم دائماً جهاراً لا خفية، فلو كان في تعليمه منافاة للدين أو السياسة لعلّمه سراً. ولكن كل تعليمه وغاياته كانت معلنة للجميع.
٢١ «لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلتُ أَنَا».
أشار بذلك إلى أنه ليس من العدل أن يسأل القاضي المتهم عما يحمله به على الشكوى على نفسه، وأبان له أن لا حاجة له إلى أن يسأله عن تعليمه، لأن الذين سمعوه كثيرون ويشهدون عليه إن كان قد تكلم بما لا يليق.
٢٢ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً، قَائِلاً: أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الكَهَنَةِ؟».
إرميا ٢٠: ٢ وأعمال ٢٣: ٢
وَاحِدٌ مِنَ الخُدَّامِ أي من خدام حنّان أو خدام الهيكل الذين أتوا لمراقبة يسوع. وكانت هذه الضربة أول لطمة لوجه ذلك البار من أيدي الأثمة.
أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الكَهَنَةِ؟ اتهمه بالوقاحة لأنه بريء طلب حقه بجسارة.
٢٣ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟».
متّى ٥: ٣٩
إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً أي بغير الاحترام الواجب لرئيس الكهنة أو لمنزلته.
فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ لأعاقَب بمقتضى شريعة موسى (خروج ٢٢: ٢٨).
وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ وبَّخ المسيح ضاربه بهذا لأنه ضرب إنساناً لم يثبت عليه ذنب. وفي هذا بيان أن أمر المسيح في متّى ٥: ٣٩ لا يمنع من اعتراض المظلوم بلطف وحلم على الظالم.
٢٤ «وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الكَهَنَةِ».
متّى ٢٦: ٥٧ وع ١٣
قارن هذه الآية بالآية الثالثة وبما في متّى ٢٦: ٥٧. علة ذكر يوحنا هذه الآية دفع توهّم القارئ أن يسوع لم يُحاكم عند اليهود إلا أمام حنّان. وأشار إلى المحاكمة الثانية بلا تفصيل، وقد فُصلت في متّى ٢٦: ٥٩ – ٦٦ ومرقس ١٤: ٥٥ – ٦٤.
مُوثَقاً أوثقه الذين قبضوا عليه (ع ١٢) فأرسله حنّان في وثاقه، أو أنه أوثقه بعد أن فكه. ولما بلغ حيث قيافا وسائر أعضاء المجلس فكوه، ثم أوثقوه حين أرسلوه إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١).
٢٥ – ٢٧ «٢٥ وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفاً يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلامِيذِهِ؟ فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. ٢٦ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذُنَهُ: أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي البُسْتَانِ؟ ٢٧ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضاً. وَلِلوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ».
متّى ٢٦: ٦٩، ٧١ ومرقس ١٤: ٦٩ ولوقا ٢٢: ٥٨ متّى ٢٦: ٧٤ ومرقس ١٤: ٧٢ ولوقا ٢٢: ٦٠ ويوحنا ١٣: ٣٨
انظر شرح متّى ٢٦: ٧٢ – ٧٤. الظاهر من أنباء البشائر أن إنكار بطرس ليسوع ثلاثاً كان في أثناء محاكمة يسوع أمام حنّان وأمام قيافا كما فصّل يوحنا. وأما متّى ومرقس فذكراه بعد نهاية المحاكمتين ليظل الكلام في المحاكمة متصلاً.
فَقَالُوا (ع ٢٥) لنا من خبر مرقس أن البوّابة أخبرت إحدى رفيقاتها بأمر بطرس. ولنا من خبر متّى أن تلك أخبرت سائر الخدام المجتمعين، فعيروا بطرس أنه من تلاميذ يسوع.
نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذُنَهُ (ع ٢٦) كلام هذا الإنسان علة إنكار بطرس لثالث مرة. ولنا من خبر متّى أن كلامه حمل غيره من القيام هناك على تعيير بطرس قائلاً «إن لغته تشهد عليه أنه جليلي» (متّى ٢٦: ٧٣). ولم يذكر يوحنا أقسام بطرس لينفي أنه تلميذ ليسوع، ولا نظر يسوع إليه، ولا خروجه من الدار وتوبته.
وقوف المسيح أمام بيلاطس (ع ٢٨ –٤٠)
٢٨ «ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الوِلايَةِ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الوِلايَةِ لِكَيْ لا يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الفِصْحَ».
متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١ ولوقا ٢٣: ١ أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
انظر شرح متّى ٢٧: ١، ٢، ١١ – ٢٦ ومرقس ١٥: ٢ – ١٥ ولوقا ٢٣: ٢ – ٢٥. ترك يوحنا تفاصيل محاكمة يسوع ليلاً أمام قيافا ومجلس السبعين، ونبأ محاكمته صباحاً أمام مجلس اليهود، وقد ذُكر في متّى ٢٨: ١ ومرقس ٥: ١ ولوقا ٢٢: ٦٦ – ٧١. وترك تصريح يسوع مرتين أمام ذلك المجلس بأنه المسيح ابن الله الذي به حكموا عليه بالتجديف واستحقاقه الموت، لأنها كانت حينئذ من الأمور المشهورة، ولكنه أطال الكلام على ما جرى أمام بيلاطس.
دَارِ الوِلايَةِ بنى هذه الدار هيرودس الكبير، وكانت منزلاً لولاة الرومان في أيام الأعياد، إذ كانوا يأتون إلى أورشليم من قيصرية مركز الولاية. وكانت تلك الدار مجاورة للهيكل.
حكم مجلس اليهود على يسوع بالموت (متّى ٢٦: ٦٦) ولكنهم أتوا به إلى بيلاطس لينفذ حكمهم، إذ لم يكن لهم سلطان أن ينفذوا الحكم.
وَكَانَ صُبْحٌ الأرجح أنه لم يكن قد مرّ أكثر من ساعة من شروق الشمس.
وَلَمْ يَدْخُلُوا.. لِكَيْ لا يَتَنَجَّسُوا حسب اليهود دخولهم بيوت الأمم تنجيساً لهم (أعمال ٩: ٢٨) واعتبروه كلمس جثة الميت (لاويين ٢٢: ٤ – ٦ وعدد ٥: ٢) وكانت دار الولاية من بيوت الأمم.
فَيَأْكُلُونَ الفِصْحَ ليس خروف الفصح المخصوص، لأن المسيح أكله مع تلاميذه في الليلة السابقة، وهي مساء ١٤ من نيسان، وهي الوقت المعيّن في شريعة موسى (خروج ١٢: ٦ ولاويين ٢٣: ٥). ولكن المقصود «بالفصح» في هذه الآية ما يأكله اليهود من الفطير وذبائح السلامة المفروضة في سبعة أيام العيد. كما أن «الفصح» يُطلق على مجموع تلك الأيام السبعة (عدد ٢٨: ١٦ – ٢٤ وتثنية ١٦: ٢، ٣ و٢أيام ٣٠: ٢٢ و٣٥: ٧ – ٩).
ومما ذُكر هنا يتبيّن أن رؤساء اليهود كانوا يفضلون الطهارة الجسدية على الطهارة الروحية، فلم يخافوا من تدنيس نفوسهم بقتل يسوع البار، وخافوا من تنجيس أجسادهم! احترسوا من أن يتدنسوا بدخولهم بيت غريب، ولم يلتفتوا إلى نجاسة قلوبهم بما فيها من إثم!
٢٩ «فَخَرَجَ بِيلاطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟».
فَخَرَجَ بِيلاطُسُ سبق الكلام على هذا الوالي الروماني في شرح متّى ٢٧: ٢. ذهب من الدار إلى ساحة أمامه حيث وقف اليهود احتراماً لعقائدهم، وتسليماً لإرادتهم.
أَيَّةَ شِكَايَةٍ؟ سألهم ذلك لعلمه أمورهم، أو لمشاهدته يسوع موثقاً بين يديه. وهذا السؤال مما اعتاد الحكام أن يسألوه لمن يأتون بمشكوٍّ عليه.
٣٠ «أَجَابُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!».
رفض رؤساء الكهنة أن يرفعوا الدعوى عليه، آملين أن بيلاطس يحكم عليه بالقتل لمجرد طلبة الرؤساء، فكأنهم قالوا: فحصناه فوجدناه مذنباً فحكمنا عليه بأنه مستوجب الموت، وأتينا به إليك لتجري حكمنا لا لتحاكمه. ولم يجيبوا بيلاطس بقولهم إن يسوع «مجدّف» خوفاً من أن يرفض كل دعاويهم كما فعل غاليون الوالي الروماني في كورنثوس (أعمال ١٨: ١٥، ١٦) لأن التجديف عند الرومان ليس جناية.
٣١ «فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ. فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا».
رفض بيلاطس طلبهم أن يحكم على يسوع بدون فحص، لأن ذلك ينافي الشريعة الرومانية، فإنه إن كان قد ارتكب ذلك أكثر من مرة إرضاءً لليهود، لم يرد أن يفعل ذلك في هذه الدعوى. ويبين جوابه أنه لم يرد أن يدخل فيها، إذ علم أنها اضطهاد ديني، وأن شكواهم زور، إذ لم يتوقع من مجلس اليهود أن يسلموا إنساناً للموت لمجرد طلبه تحرير أمة اليهود من نير الرومان.
خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ أي بما أنكم حكمتم حسب شريعتكم. فكان لليهود سلطان أن يُخرجوا البعض من المجمع وإجراء بعض القصاص، دون الموت.
لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً انظر شرح متّى ٢٧: ٢. قتل اليهود بعض الناس في ثورة عامة على خلاف الشريعة كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٩، ٦٠). والأرجح أن الذي منعهم من قتل يسوع الخوف من أن يحدث شغب في الشعب (متّى ٢٦: ٥). ومعنى قولهم «لا يجوز لنا»: لا نرضى عقاباً له سوى الموت، وهذا في سلطانك لا في سلطاننا، فلا نستطيع أن نفعل كما قلت. فاعترفوا بذلك أنهم تحت عبودية الرومان خلافاً لقولهم في يوحنا ٨: ٣٣، وشهدوا أنه أتى الوقت المعيّن في النبوات لمجيء المسيح، فقد قيل «لا يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين ٤٩: ١٠).
٣٢ «لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ».
متّى ٢٠: ١٩ ويوحنا ١٢: ٣٢، ٣٣
انظر متّى ٢٠: ١٩ ويوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢، ٣٣. لو قتل اليهود المسيح بغير واسطة الرومان لقتلوه رجماً (تثنية ١٣: ٩، ١٠ و١٧: ٥ – ٧). وأما الصلب فهو عقاب روماني، فنفَّذ اليهود مقاصد الله وما تكلم به يسوع في أمر موته، بإتيانهم بالمسيح إلى بيلاطس.
٣٣ «ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ مَلِكُ اليَهُودِ؟».
متّى ٢٧: ١١
وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ على انفراد.
ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ كان قد خرج منها لاستقبال اليهود (ع ٢٨).
أَأَنْتَ مَلِكُ اليَهُودِ؟ هذا السؤال ناتج عن تهمة اليهود المذكورة في (لوقا ٢٣: ٢) وهي قولهم «وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ» وجاءوا بهذه التهمة حين رفض بيلاطس طلبتهم الأولى أن يحكم عليه بدون فحص. والكلمة الهامة في هذه الجملة هي «أنت» ومعنى قوله «أنت»: هل يمكن أن تكون ملكاً وأنت ضعيف وديع مهان مشكو عليك؟
٣٤ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟».
لم يسأله يسوع عن ذلك لجهله إيّاه بل لينبّه ضميره، ويثبت بجواب بيلاطس نفسه براءته. ومعنى سؤاله: هل رأيت منّي في كل مدة حكمك شيئاً يحملك على أن تظنني أريد خيانة الدولة الرومانية أو عصيان قيصر؟ أو هل أخبرك بذلك آخرون؟ وحذره بهذا من أن يُخدَع ويصدّق دعوى الأعداء الكاذبة. وذكَّره به أنه لو كانت دعواهم صحيحة لعرف بها قبل ذلك.
أو لعل المسيح قصد بذلك السؤال أن يبيّن لبيلاطس مراده بلفظة «ملك» قبل أن يجاوبه على سؤاله، فكأن المسيح قال له «إن أردت بالمُلك ما يعنيه الرومان به، أي هل أنا ملك أرضي كقيصر؟ قلتُ لا! ولكن إن أردت به ما يقصده اليهود على ما في نبواتهم، فالجواب: نعم. واليهود عرفوا أن المسيح ادَّعى أنه ملك روحي، وأرادوا أن يفهم بيلاطس أنه ادّعى أنه ملك أرضي. ولم يكن بيلاطس محتاجاً لإبطال هذه الدعوى لأنه أرد معرفة مصدر الشكوى. فلو كان مصدرها قائداً رومانياً أو أحد جواسيسه لاستحقَّت أن ينظر فيها. لكنه كان يعلم أنه يستحيل أن يرفعها إليه اليهود بإخلاص لأن أعظم ما يرضيهم أن يقوم بينهم رجل يرفع عنهم نير الرومان!
٣٥ «أَجَابَهُ بِيلاطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلتَ؟».
أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أظهر بيلاطس شيئاً من الحدة والكبرياء في هذا الجواب، وأنكر أنه استعمل لفظة «ملك» بمعنى يهودي، وموضحاً أنه استعملها بمعنى روماني، أي أراد بها ملكاً أرضياً.
أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ هذا جواب بيلاطس للمسيح على قوله ما معناه: أنت المشتكي أم غيرك؟ فمعنى جواب بيلاطس أنه ليس المشتكي، وأنه لم يرَ شيئاً من علامات العصيان في ما فعله، وأن مصدر الدعوى يهودي.
مَاذَا فَعَلتَ؟ أي لماذا يتهمك شعبك بادعائك أنك ملك بلا سبب؟ دافع عن نفسك.
٣٦ «أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا العَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا العَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لا أُسَلَّمَ إِلَى اليَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا».
١تيموثاوس ٦: ١٣ دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ ولوقا ١٢: ١٤ ويوحنا ٦: ١٤ و٨: ١٥
مَمْلَكَتِي هذه الكلمة جواب لقول بيلاطس «أنت ملك اليهود» ومعناها: نعم، إني رئيس مملكة.
لَيْسَتْ مِنْ هَذَا العَالَمِ أي ليست كما ادعى اليهود، وليست أرضية مستندة على جيوش وأسلحة ماديّة، وليست لغاية دنيوية، ولا مستندة على وسائط عالمية، ولا قائمة بقوة إجبارية، ولا مقاومة فيها لمملكة قيصر ولا غيرها من ممالك الأرض. هذا مراده سلباً. أما مراده إيجاباً فهو أن أصل مملكتي روحي من السماء، وهي تسود على ضمائر الناس وقلوبهم طوعاً واختياراً، وسلطته روحية، ويقوم انتصارها بانتشار الحق. ويظهر أعظم مجدها في السماء.
هذه المملكة أُسست على موت المسيح، ويسوسها روح المسيح، وشريعتها إرادة الله، وغايتها مجد الله وخلاص الناس وسعادتهم الأبدية.
لَوْ كَانَتْ.. لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ ذكر المسيح أمراً واحداً إثباتاً لأن مملكته ليست من هذا العالم. ومن المعلوم أن أتباع المملكة الأرضية يحاربون عنها. أما المسيح فلم يأذن لأحد من الكثيرين الذين تبعوه أن يحامي عنه، وسلم نفسه بلا معارضة إلى من قبضوا عليه، كما أمكن بيلاطس أن يستعلم من جنود الرومان التي جاءت به.
الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا أي قد وضح الأمر أن مملكتي لا تختص بهذا العالم، فلذلك يجب أن لا تخاف منها. والبرهان على ذلك أني واقف أمامك موثقاً، فإنما سلّمت نفسي ومنعت خدامي عن المحاربة.
٣٧ «فَقَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ لأشْهَدَ لِلحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».
يوحنا ١٧: ١٧، ١٩ ويوحنا ٨: ٤٧ و١يوحنا ٣: ١٩ و٤: ٦
أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ هذا هو سؤاله في ع ٣٣ بترك لفظة اليهود. لا يخلو سؤاله من شيء من التعجب، كأنه كان يتوقع أن يسوع ينكر أنه ملك. فكأن بيلاطس قال ليسوع: لقد اعترفت أنك ملك، وقلت إن مملكتك ليست من هذا العالم، فكيف يمكن ذلك؟
أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ أي نعم كما قلت. انظر شرح متّى ٢٧: ١١ و لوقا ٢٣: ٣.
لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ لأشْهَدَ لِلحَقِّ هذا شرح لقوله إنه ملك وبيان الهدف من تجسده ومجيئه من السماء إلى الأرض، وهي إقامة مملكة الحق، وإعلان حق الله الأزلي للناس (يوحنا ١: ١٨). وكان شاهداً للحق بكلامه وعمله ولا سيما موته. وكانت شهادة المسيح للحق سلاحه الوحيد لتشييد مملكته. إذاً ليس هو مقاوماً لأحد من ملوك الأرض. وهو جواب مناسب يُجاوب به روماني، لأن فلاسفة الرومان ادّعوا أنهم أهل الحق الخالص العاري عن أوهام الناس وضلالاتهم. ولأن المسيح أتى إلى هذا العالم ليشهد للحق، وجب أن يكون الحق من أثمن الكنوز، وأن يجتهد في اقتنائه. والحق الخاص الذي أتى المسيح ليعلنه هو أن الإنسان خاطئ هالك، وأن الله رحيم أعدّ الخلاص مجاناً بواسطة ابنه لكل الذين يتوبون ويؤمنون.
كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي أي الذي يحب الحق ويقبله ويطيعه هو من رعيتي أهل مملكتي. فإذاً عرشي الملكي في قلوب الناس (يوحنا ٣: ٢١ و٦: ٤٥ و٧: ١٧ و٨: ٤٧ و١٠: ١٦).. فيجب أن نتخذ المسيح معلماً وملكاً، ونطيع أوامره طاعة كاملة.
٣٨ «قَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: مَا هُوَ الحَقُّ؟. وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى اليَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً».
متّى ٢٧: ٢٤ ولوقا ٢٣: ٤ ويوحنا ١٩: ٤، ٦
مَا هُوَ الحَقُّ؟ هذا ليس سؤال محب للحق يطلب الإرشاد من رب الحق، بدليل أنه انصرف قبل أن يسمع الجواب، فكأنه قال: لا أحد يعرف حقيقة الحق أو يستطيع أن يوضحه، فكم بالحري أنت! ولا فائدة لك ولا لي من معرفة ذلك أو جهله. فإن أكثر علماء الرومان كانوا حينئذ قد فقدوا كل ثقة بديانتهم الوثنية، ولم يكونوا قد عرفوا الدين المسيحي، فتسلط عليهم الكفر بالدين.
خَرَجَ أَيْضاً إِلَى اليَهُودِ إلى الساحة حيث ترك رؤساء الكهنة وأخبرهم بنتيجة استجوابه ليسوع وهي أنه ملك مثل هذا ليس عدواً لقيصر، فهو بريءٌ.
أتى يسوع ليكون ذبيحة إثم، فاقتضى الأمر أن يكون «حملاً بلا عيب» وبرهان أنه كذلك شهادة بيلاطس الذي أسلمه إلى الموت، وهي قوله: «أنا لست أجد فيه علة واحدة». فكان يجب على بيلاطس أن يطلق يسوع في الحال، ولكنه لم يفعل ذلك خوفاً من اليهود لئلا يشتكوه لطيباريوس قيصر على ذنوب كثيرة كان قد ارتكبها في محاكمات سابقة. لكنه حاول أن يرفع عن نفسه مسؤولية الحكم على يسوع. واتخذ لذلك عدة وسائل: الأولى، ذكرها لوقا ولم يذكرها يوحنا، وهي أنه أرسله إلى هيرودس حاكم الجليل الذي كان قد أتى وقتئذ إلى أورشليم لأجل العيد، فلم يستفد من ذلك شيئاً، لأن هيرودس أبى أن يحمل المسؤولية، فردَّه بدون أن يحكم بأنه مذنب (لوقا ٢٣: ٦ – ١٢). والثانية ذكرها يوحنا بالاختصار في الآيتين الآتيتين.
٣٩، ٤٠ «٣٩ وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ اليَهُودِ؟. ٤٠ فَصَرَخُوا أَيْضاً جَمِيعُهُمْ: لَيْسَ هَذَا بَل بَارَابَاسَ. وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصّاً».
متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦ ولوقا ٢٣: ١٧ أعمال ٣: ١٤ لوقا ٢٣: ١٩
انظر شرح مرقس ١٥: ٨ ولوقا ٢٣: ٦ – ١٢. أطال لوقا الكلام على ذلك أكثر من يوحنا. ونستنتج مما قيل في بشارة مرقس أن الشعب صرخ عندما خرج بيلاطس طالباً أن يُطلق لهم أسيراً كعادته في العيد. والظاهر أن بيلاطس ظن الشعب يطلبون إطلاق يسوع إذا خيّرهم بينه وبين باراباس، وترك لهم أن يحكموا بصلب أحدهما وإطلاق الآخر. وقصد بذلك أن ينجو من تلويم الرؤساء إذا أطلق يسوع بقوله إن الشعب أجبره على ذلك. ولعله سمع نبأ سرور الشعب بيسوع في أول ذلك الأسبوع يوم احتفلوا بدخوله إلى أورشليم، وكان قد عرف أن الرؤساء طلبوا قتل يسوع حسداً (متّى ٢٧: ١٨) وأن الشعب أحبه وأكرمه. ولعله رأى أن تنزيل يسوع منزلة المذنب كباراباس يشفي غليل رؤساء اليهود من جهته.
لَيْسَ هَذَا بَل بَارَابَاسَ مرّ الكلام على باراباس في شرح متّى ٢٦: ١٥ – ١٨. كان قاتلاً، فضلاً عن أنه لص (لوقا ٢٣: ١٩). ولا شك أن بيلاطس تعجب من هذا الصراخ والكلام، إذ كان يتوقع خلافه (راجع مرقس ١٥: ١١). والظاهر أن أصحاب المسيح كلهم سكتوا، وبذلك صدق على الشعب قول بطرس يوم الخمسين «يَسُوعَ، الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ القُدُّوسَ البَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ» (أعمال ٣: ١٣، ١٤). فأظهروا أنهم أحبوا لصاً قاتلاً أكثر من يسوع المسيح البار. وفشلت هذه الوسيلة الثانية التي حاول بها بيلاطس أن يطلق يسوع. وزادت الأمر صعوبة، لأنه أظهر للرؤساء ضعفه، وأنه يخاف مقاومتهم لأنه لم يستطع أن يطلق يسوع باعتباره باراً، وسمح بأن يحسبه مذنباً، راجياً أن يطلب الشعب إطلاقه.
السابق |
التالي |