إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 12 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني عشر

العشاء في بيت عنيا ودهن مريم ليسوع (ع ١ – ١١)

١ «ثُمَّ قَبْلَ الفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ المَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ».

يوحنا ١١: ١، ٤٣

نعلم من أقوال البشائر الباقية أن يسوع التقى بالقافلة الآتية من بيرية إلى أورشليم لحضور العيد وسار معها إلى أريحا أولاً، وهنالك فتح عيون أعميين، وجدد قلب زكا، وتكلم بمثل «الشريف وعشرة الأمناء» (متّى ١٩: ١٧، ٢٩ ومزمور ١٠: ٣٢، ٤٦ ولوقا ١٨: ٣١، ٣٥ و١٩: ١).

سبق في شرح متّى ٢١: ١ جدول حوادث آخر أسبوع من حياة يسوع على الأرض.

قَبْلَ الفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أي مساء يوم الخميس الثامن من أبريل (نيسان) وهو أول اليوم التاسع منه.

بَيْتِ عَنْيَا انظر شرح متّى ٢٦: ٦. ولعل يسوع قضى فيها مع تلاميذه كل يوم السبت.

٢ «فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ المُتَّكِئِينَ مَعَهُ».

متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣

فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً إكراماً له وإظهاراً لسرورهم بزيارته. وذكر متّى ومرقس أن ذلك العشاء كان في بيت سمعان الأبرص.

وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ كما فعلت منذ ستة أشهر حين تعشى يسوع في بيت عنيا (لوقا ١٠: ٣٨ – ٤٢).

وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ المُتَّكِئِينَ مَعَهُ ذكر البشير اتكاء لعازر مع يسوع تأكيداً لصحة قيامته وبياناً لبعض الدواعي التي حملت مريم على أن تدهن يسوع، وهو شكرها له على إقامة أخيها وإكرامها له.

٣ «فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتلأ البَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ».

١ملوك ١٠: ١٧ وعزرا ٢: ٦٩ ونحميا ٧: ٧١، ٧٣ وحزقيال ٤٥: ١٢ لوقا ١٠: ٣٨، ٣٩ ويوحنا ١١: ٢

فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ هي التي اقتصر متّى ومرقس على أنها امرأة. ولعل سبب ذلك خوفهما عليها من اليهود.

مَناً هو في اليونانية لتراً، وهو وزن يوناني وروماني يعادل نحو مئة درهم. وذكر متّى ومرقس قارورة بدل من «مناً».

نَارِدِين هو من الأطياب الثمينة التي تنافس بها القدماء (نشيد الأناشيد ١: ١٢ و٤: ١٣، ١٤).

وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ قال متّى ومرقس إنها دهنت رأسه، وكان ذلك الغالب في الدهن بالطيب (مزمور ٢٣: ٥ ولوقا ٧: ٤٦). ونستفيد من رواية يوحنا أنها زادت على ما ذكراه أنها دهنت قدميه أيضاً، فأظهرت تواضعها كما أظهرت سخاءها ووفرة شكرها بوفرة الطيب الذي دهنته به.

فَامْتلأ البَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ ذكر ذلك بياناً لحسن الطيب ووفرته.

٤، ٥ «٤ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، المُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ. ٥ لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلفُقَرَاءِ؟».

وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ انظر شرح متّى ١٠: ٤. ذكر متّى ومرقس تذمر التلاميذ (متّى ٢٦: ٨ ومرقس ١٤: ٤) ولم يذكر أيّهم بدأ وهيّج الباقين. أما يوحنا فذكره وذكر أيضاً أن ذلك ما يتوقع من محب المال مثله.

ثلاثَمِئَةِ دِينَارٍ كان الدينار يومئذ أجرة الفاعل في اليوم (متّى ٢٠: ١٠) فتكون قيمة ذلك الطيب ما يعدل أجرة الفاعل في كل أيام العمل من السنة.

٦ «قَالَ هَذَا لَيْسَ لأنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالفُقَرَاءِ، بَل لأنَّهُ كَانَ سَارِقاً، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلقَى فِيهِ».

هذا كلام يوحنا بعد اختباره أحوال يهوذا الإسخريوطي. والظاهر مما ذُكر هنا وفي يوحنا ١٣: ٢٩ أن يهوذا كان قد عُيّن أميناً للصندوق ليحفظ المال الزهيد الذي ليسوع وتلاميذه مما أكرمهم الناس به (لوقا ٨: ٣) وأنه كان خائناً. والأرجح أن التلاميذ لم يعرفوا خيانته إلا بعد ذلك، وإلا ما أبقوه في تلك الوظيفة. وأظهر يومئذ غيرته للفقراء رياءً، تغطية لما شعر به من الغيظ على أن يده لم تصل إلى ثمن ذلك الطيب ليختلس منه.

٧، ٨ «٧ فَقَالَ يَسُوعُ: اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ. ٨ لأنَّ الفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».

متّى ٢٦: ١١ ومرقس ١٤: ٧

انظر شرح متّى ٢٦: ١١، ١٢.

إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ أي لتحنيطي ميتاً، وذلك بحسب احترام يسوع لعملها. أما هي ففعلت ذلك إكراماً له حياً. فلا شك أن كلامه حينئذ عن التكفين كان بالنسبة إليها وإلى التلاميذ وسائر الحاضرين لغزاً. ومخاطبة يسوع للجميع بقوله «اتركوها» يدل على أن التذمر كان من الكل، لا من يهوذا وحده.

وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ في الجسد، لأنه في الروح معنا في كل حين. فعلى الذين يقولون إن المسيح حاضر بناسوته ولاهوته في العشاء الرباني أن يوفِّقوا بين قولهم هذا وقوله: «أما أنا فلست معكم في كل حين». نعم إنّ الخبز والخمر في ذلك العشاء معنا في كل حين، ولكن ناسوت المسيح ليس كذلك.

٩ «فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ اليَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ، فَجَاءُوا لَيْسَ لأجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَل لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَات».

يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤

فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أتى مع ألوف من الذين قدموا من أريحا إلى أورشليم ليحضروا العيد، وانفصل عنهم إلى بيت عنيا، وهؤلاء أخبروا الذين كانوا يطلبونه ويرغبون في مشاهدته عن مجيئه (يوحنا ١١: ٥٥).

مِنَ اليَهُودِ أشار يوحنا «باليهود» هنا وفي ع ١١ إلى أمة اليهود عامة، لا إلى أعداء يسوع خاصة.

فَجَاءُوا سهُل ذلك عليهم لقصر المسافة، لأنها كانت أقل من سفر ساعة. فازدحمت لأن بعضهم رغب في مشاهدة إنسان عاش بعد أن مكث أربعة أيام في القبر.

١٠ «فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً».

لوقا ٢٦: ٣١

رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أكثر هؤلاء الرؤساء صدوقيون (أعمال ٥: ١٧) اتفقوا مع الفريسيين على يسوع (يوحنا ١١: ٤٧).

لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ هذا يدل على عظمة شرهم، فإنهم طلبوا قتل إنسان بريء للتخلص من شهادته بصحة دعوى يسوع أنه المسيح، لأنه ما دام لعازر حياً يتبين فساد تعليمهم في إنكار القيامة (أعمال ٢٣: ٨).

١١ «لأنَّ كَثِيرِينَ مِنَ اليَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ».

يوحنا ١١: ٤٥ وع ١٨

يَذْهَبُون أي يعدلون عن الخضوع لرؤساء الكهنة كما كانوا يفعلون سابقاً، ولا يحترمون تعاليم الكتبة والفريسيين كما اعتادوا.

وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ أنه هو المسيح. ونعتقد أن إيمانهم كان مجرد اقتناع عقلي، وأنه كان وقتياً، زال يوم قُبض على يسوع وحُكم عليه بالموت، وهو لم يفعل شيئاً بغية إنقاذ نفسه.

دخول يسوع باحتفال إلى أورشليم (ع ١٢ – ١٩)

١٢ «وَفِي الغَدِ سَمِعَ الجَمْعُ الكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى العِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ».

سبق الكلام على هذا الاحتفال في شرح (متّى ٢١: ١ – ١١ ومرقس ١١: ١ – ١١). فعل يسوع في ذلك اليوم غير كل ما فعله في كل أوقاته السابقة، فقد كان يأبى قبول إكرام الناس أو تنصيبه ملكاً (متّى ١٢: ١٩). ولكن لما أتت ساعة موته كفارة عن خطايا الشعب أراد أن يجذب إليه الجميع ليسألوه عن غاية موته، ثم يؤمنوا به مصلوباً.

فِي الغَدِ أي غد وصوله (ع ١) أي يوم الأحد.

الجَمْعُ الكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى العِيدِ من الجليل وبيرية حيث رأى يسوع وعرفه.

أَنَّ يَسُوعَ آتٍ سمع ذلك من اليهود الذين أتوا من بيت عنيا لينظروا يسوع ولعازر (ع ١٩) ومن القافلة التي صحبها من أريحا.

١٣ «فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».

متّى ٢١: ٨ ومرقس ١١: ٨ ولوقا ١٩: ٣٥ الخ مزمور ١١٨: ٢٥، ٢٦ ومتّى ٢١: ٩

فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ إكراماً له باعتبار أنه نبي، وإشارة إلى سرورهم. وفوق هذا أن بعضهم خلعوا أثوابهم قدامه في الطريق (متّى ٢١: ١٨).

أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي الخ هذا مقتبس من مزمور ١١٨: ٢٥، ٢٦ واعتبر اليهود أن هذا المزمور يشير إلى المسيح، وكانوا يرتلونه جموعاً في عيدي المظال والفصح. ولا شك أن ترانيم المحتفلين كانت متنوعة. فلا عجب أن اختلفت شهادة البشيرين لفظاً، ولكن المعنى واحد. ولا يُستنتج أن كل ذلك الجمع اعتقد أن يسوع هو المسيح اعتقاداً حقيقياً كما تدل عليه كلمات الترنيمة الاحتفالية، ولكن لا شك أن بعضهم اعتقد ذلك، وأن البعض لم يحسبه سوى نبي يستحق الإكرام.

١٤ «وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».

متّى ٢١: ٧ زكريا ٩: ٩

لم يذكر يوحنا هذه الحادثة إلا لأنها إتمام نبوة، وذكرها بالإجمال، بينما ذكرها سائر البشيرين بالتفصيل.

وَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً لم يكن ذلك على سبيل الاتفاق لأنه أرسل سابقاً تلميذين ليُحضروه له (متّى ٢١: ٧).

١٥ «لا تَخَافِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ».

انظر شرح متّى ٢٤: ٥. وهذه نبوة في زكريا ٩: ٩ نطق بها النبي قبل ذلك بنحو ٥٠٠ سنة. ولم يذكر يوحنا من كلام هذه البنوة ما ذكره متّى، لأنه اهتم بنقل المعنى أكثر من اهتمامه بنقل اللفظ.

١٦ «وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلامِيذُهُ أَوَّلاً، وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ».

لوقا ١٨: ٣٤ ويوحنا ٧: ٣٩ و١٧: ٥ ويوحنا ١٤: ٢٦

لَمْ يَفْهَمْهَا تلامِيذُهُ أَوَّلاً أي في وقت الاحتفال. والذي لم يفهموه هو أن دخول يسوع على ذلك المنوال كان إتماماً للنبوة، وأن ما قاله زكريا في المسيح وملكوته لم يدل على ما ظنوه من أنه ملك أرضي يملك مملكة زمنية، لكن كان هو روحياً وملكوته كذلك. فاعترف يوحنا بجهله وقتئذ معنى النبي.

لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ أي قام من الموت وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٩).

تَذَكَّرُوا حل الروح القدس على التلاميذ ففهموا معنى النبوات المتعلقة بيسوع التي لم يفهموها قبلاً، وتذكروا ما كان يظهر لهم غير ذي شأن، فعلموا أنه إتمام نبوات مهمة.

١٧ «وَكَانَ الجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ».

متّى ٢١: ١٠ و١١ ولوقا ١٩: ٣٧، ٣٨

الجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ أي يهود أورشليم الذين ذهبوا إلى بيت عنيا وشاهدوا إقامة لعازر (يوحنا ١١: ٣١، ٤٥) وربما كان منهم بعض أهل بيت عنيا الذين شاهدوا تلك الإقامة.

يَشْهَدُ بصحة المعجزة وبأن الذي صنعها هو يسوع الذي كان بينهم.

١٨ «لِهَذَا أَيْضاً لاقَاهُ الجَمْعُ، لأنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ».

ع ١١

لِهَذَا أي لشهادة أولئك الشهود التي شاعت بين الناس، ولِما ذُكر في آخر هذا العدد.

لاقَاهُ الجَمْعُ أي الناس الكثيرون الذين أتوا إلى أورشليم لحضور العيد وخرجوا لمشاهدة يسوع والترحيب به.

١٩ «فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لا تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءهُ!».

يوحنا ١١: ٤٧، ٤٨

هذا كلام المغتاظين المتحيرين الآسفين على أن العاقبة كانت غير ما قصدوا وتوقعوا، فكانوا مثل هامان إذ شاهد مردخاي مكرَّماً بعد بغضه إياه وسعيه في قتله (أستير ٦: ١١).

انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لا تَنْفَعُونَ شَيْئاً لم ينجح تكليفهم للعسكر أن يقبضوا عليه (يوحنا ٧: ٣٢ ،٤٥ و٤٦) وكذلك حكمهم بقتله (يوحنا ١١: ٥٣) وإصدار أمرهم بأن كل من يعرف أين هو يدل عليه ليقبضوا عليه (يوحنا ١١: ٥٧). ومع ذلك كله أكرمه الشعب أحسن إكرام. وزاد خوفهم من هياج الشعب إذا شرعوا في القبض عليه.

هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءهُ في هذه الكلام مبالغة اعتاد المغتاظون أن يقولوها، لكن فيه إشارة إلى انتباه عظيم في المدينة، وأن جموعاً كثيرة احتفلوا به. وخاف الفريسيون أن يبتعد الجمهور عنهم بسبب ذلك وعدم رجوعهم إليهم.

طلب اليونانيين مشاهدة يسوع وكلامه المبني على ذلك (ع ٢٠ – ٣٦)

٢٠ «وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي العِيدِ».

أعمال ١٧: ٤ ١ملوك ٨: ٤١، ٤٢ وأعمال ٨: ٢٧

يُونَانِيُّونَ جاءت هذه الكلمة في الإنجيل بثلاثة معانٍ: (١) اليهود الذين سكنوا في غير اليهودية وتكلموا باليونانية (أعمال ٦: ١ و٩: ٢٩). (٢) الوثنيون من اليونان الذين تهودوا وسُموا دخلاء (متّى ٢٣: ١٥). (٣) كل الوثنيين الذين يتكلم أكثرهم باليونانية (يوحنا ٧: ٣٥ وأعمال ١١: ٢٠ ورومية ١: ١٦ و٢: ٩ ،١٠ و٣: ٩). وكان بعض الوثنيين الذين يعبدون آلهة كثيرة يكرمون إله اليهود «يهوه» ويرسلون هدايا إلى هيكله ويأتون إلى أورشليم ليعبدوه كأحد الآلهة. ولذلك عُينت إحدى دور الهيكل لاجتماعهم منذ عهد سليمان وسُميت «دار الأمم» (١ملوك ٨: ٤١ – ٤٣ انظر شرح متّى ٢١: ١٢). والمرجح أن اليونانيين المذكورين هنا هم المتهودون من الوثنيين، كالوزير الحبشي (أعمال ٨: ٢٧) و «اليونانيين المتعبدين» (أعمال ١٧: ٤) وإلا لم يأتوا ليسجدوا في العيد.

ومما يستحق الذكر هنا أنه كما أتى بعض الأمم الكلدانيين من الشرق ليسجدوا ليسوع وقت ميلاده، جاء بعض الأمم اليونانيين من الغرب ليكرموه وهو على وشك أن يموت على الصليب.

٢١ «فَتَقَدَّمَ هَؤُلاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ: يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ».

يوحنا ١: ٤٤

فَتَقَدَّمَ هَؤُلاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ انظر شرح متّى ١٠: ٣. ولا نعرف سبب تقدمهم إلى فيلبس دون غيره من التلاميذ، ولعله كان حينئذ في دار الأمم، ويسوع وسائر التلاميذ في دار أخرى لا يجوز للأمم أن يدخلوها، فأتى اليونانيون إلى هناك ووجدوا فيلبس وسألوه.

مِنْ بَيْتِ صَيْدَا انظر شرح متّى ١١: ٢١.

لم يذكر البشير وقت ذلك السؤال ولا مكانه. ومن المعلوم أن يسوع أمضى الثلاثة الأيام الأولى من الأسبوع الأخير من حياته على الأرض يعلّم الشعب في الهيكل. والأرجح مما قيل في ع ٣٦ أنه كان مساء يوم الثلاثاء، آخر تلك الأيام الثلاثة. ولعل يسوع كان حيئنذٍ في دار الهيكل التي لا يجوز أن يدخلوها. ولم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى يوحنا. والدلائل واضحة على أنه ذكرها ليصل إلى ذكر الخطاب الذي بُني عليها. ولم يذكر يوحنا من كل الحوادث التي جرت منذ مجيء المسيح إلى أورشليم بالاحتفال يوم الأحد إلى أكله الفصح ليلة الجمعة سوى هذه الحادثة. ومما تركه من الحوادث: تطهير الهيكل وتيبيس التينة وضربه خمسة أمثال (هي مثل الابنين، ومثل رب الكرم، ومثل عرس ابن الملك، ومثل العشر العذارى، ومثل الوزنات) وإسكاته الفريسيين والصدوقيين الذين جربوه بالأسئلة، ونبوته بخراب أورشليم وبيوم الدين.

نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ على انفراد لتكون لنا فرصة للحديث معه، وسماع تعليمه، ومعرفة حقيقة ملكوته. والأرجح أنهم شاهدوا دخوله بالاحتفال إلى أورشليم، وسمعوا ما قاله أعداؤه وأصدقاؤه، فمالوا كثيراً لأن يسمعوا منه عن أمره. ونحن نمدحهم، فكثيراً ما يكون مثل موقفهم وسيلة إلى خلاص الراغبين، كما كان من أمر زكا العشار (لوقا ١٩: ١ – ٩).

٢٢ «فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأنْدَرَاوُسَ، ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ».

لأنْدَرَاوُسَ انظر شرح متّى ١٠: ٢، وكان أندراوس من مدينة فيلبس (يوحنا ١: ٤٤) ولعل علة مجيئه إلى أندراوس أولاً ليشاوره شكه في رضى يسوع أن يواجه اليونانيين، لأن ربانيي اليهود كانوا يستنكفون تعليم الأمم الدين اليهودي، ولأن يسوع قال إنه لم يُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى ١٥: ٢٤). وكانت نتيجة مشاورتهما اتفاقهما على إفادة يسوع بطلب أولئك الناس.

قَالَ.. لِيَسُوعَ لم يقل البشير هل قابل المسيح اليونانيين أو لا؟ والأرجح أنه قابلهم بسبب لطفه ورغبته في قبول جميع الذين يطلبونه.

٢٣ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ».

يوحنا ١٣: ٣٢ و١٧: ١

وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا وجه يسوع كلامه أولاً إلى التلميذين. والأرجح أن ذلك كان على مسمع من سائر التلاميذ واليونانيين أيضاً. ولعل جوابه كان لِما علمه من أفكارهم التي تيقظت بمناسبة دخوله أورشليم بالمجد والإكرام من الجميع، ومن إتيان هؤلاء اليونانيين ليطلبوه. واستنتجوا من ذلك أن يسوع على وشك أن يقيم ملكوتاً أرضياً مجيداً. أما هو فاتخذ تلك الفرصة لإصلاح أغلاطهم، وتذكيرهم بما قاله لهم مراراً من أنباء موته. وقد اتخذ مجيء أولئك الناس الأمميين إليه إمارة على قرب موته الذي هو سبب خلاص الأمم، وتمهيد السبيل إلى مجيئهم إليه.

قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لتمجيدي، لكن بغير الطريق التي تظنونها. نعم إني عازم على الصعود إلى السماء والجلوس على يمين الآب في المجد، ولكن موتي استعداد لذلك. فأتت تلك الساعة التي عينها الله بقضائه. وعلامة إتيانها مجيء اليونانيين الأمم كما أعلنت النبوات، فإن الأمم هم الخراف الأخرى التي لأجل جمعها قبل الراعي أن يبذل حياته (يوحنا ١٠: ١٦ – ١٩). واليونانيون باكورة الحصاد العظيم لنفوس الأمم الذين يأتون إلى المسيح طلباً للخلاص.

لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ يتمجد برجوعه إلى مجده الأول في السماء، ثم بامتداد ملكوته بين جميع قبائل الأرض، وقبولهم خلاصه (مزمور ٢: ٨ وإشعياء ٥٣: ١١). والتواضع هو وسيلة ذلك التمجيد، أولاً بالموت على الصليب والنزول إلى القبر، لا بجلوسه على كرسي داود الأرضي كما ظنوا. فأصابوا برأيهم أن يسوع يتمجد، وأخطأوا في كيفية ذلك (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٩).

٢٤ «ٱلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ».

١كورنثوس ١٥: ٣٦

ٱلحَقَّ الحَقَّ هذا تمهيد وتنبيه لكلام ذي شأن كما ذُكر مراراً.

لَكُمْ التفت من مخاطبة التلميذين إلى مخاطبة الجميع من التلاميذ واليونانيين وغيرهم.

إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ أي تُزرع في التربة وتُدفن لتأخذ منها الرطوبة الضرورية للنمو.

وَتَمُتْ عن صورتها وصفاتها الأصلية. ويُعبَّر بالموت عن التغيير العظيم الذي يحدث في الحبوب عندما تتحول من بزور إلى نبات.

تَبْقَى وَحْدَهَا أشار بذلك إلى أمر معلوم، وهو أن الحبة إن لم تُزرع بل حُفظت فوق الأرض حيث لا تصيبها رطوبة تبقى سالمة صحيحة، ولكن بلا منفعة ولا زيادة. أما إن زُرعت في الأرض ودُفنت في التربة ماتت من جهة صورتها الأولى وصفاتها الأصلية، وتنشأ حياة جديدة من موتها، تظهر في النبات ثم في السنبل ثم في القمح.

وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ اتخذ المسيح مبدأ من عالم النبات إيضاحاً لمبدإ من عالم الروح، وهو أن الموت استعدادٌ لحياة أسمى من الأولى وأنفع منها. وقصد المسيح من ذلك أن موته وسيلة إلى حياة العالم. وكان التلاميذ يحزنون كلما أنبأهم بموته، ولم يريدوا التسليم بأن ذلك ممكن. أما هو فأكد لهم أنه إن لم يحدث ذلك بقي هو كحبة الحنطة غير المزروعة. وإن مات كقمحة مزروعة تعطي حصاد نفوس مفديَّة لا تُحصى. ويكون موت المسيح سبب تمجيده بخلاص شعبه المذكور هنا، وبإثابة الله إياه على موته كما وعده (أفسس ١: ٢٠ – ٢٣ وفيلبي ٢: ٨ ، ٩ وعبرانيين ٢: ٩ و١٢: ٢).

وتؤكد لنا هذه الآية أن موته كفارة عن الخطايا ينفع العالم، أكثر من سيرته الطاهرة ومعجزاته الباهرة وتعاليمه الصحيحة.

٢٥ «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».

متّى ١٠: ٣٩ و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ ولوقا ٩: ٢٤ و١٧: ٣٣

جاءت هذه الآية في متّى ١٠: ٣٩ فانظر شرحها هناك و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ ولوقا ٩: ٢٤ و١٧: ٣٣.

نَفْسَهُ أي حياته، لأنه لما خلق الله الإنسان «وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧).

ما قاله يسوع في هذه الآية قاله أولاً لنفع تلاميذه السامعين، فإنهم توقعوا الخير الأعظم من الإثابة الزمنية والشرف والغنى الأرضيين في المملكة الدنيوية التي انتظروا كسائر اليهود أن المسيح ينشئها هنا. وقاله لنفع كل المسيحيين في كل عصر، ليعلّمهم أن الغاية العظمى هي نوال الحياة الأبدية، وأنه يجب عليهم أن يستعدوا لخسران كل شيء لأجلها، حتى حياتهم الجسدية إذا اقتضى الأمر، متمثّلين بسيدهم الإلهي الذي بذل حياته ليعد لهم حياة الأبد.

يُبْغِضُ نَفْسَهُ أي لا يعتبر حياته الجسدية شيئاً بالنسبة إلى فرط محبته للحياة الروحية، أو أنه يفعل ما يظهر أنه يبغض الحياة الجسدية إن خُيّر بينهما، أو أنه يبغضها حقيقة حين يكون شرط حفظها إنكار المسيح وفقدان الحياة الأبدية. وقليلون من الناس يبغضون أنفسهم، وأكثرهم يحبونها ولا يهتمون إلا بها، ولا يبالون بالحياة السماوية.

٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَليَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ».

يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧

قال المسيح هذا لنفع اليونانيين أولاً ثم لكل من يريدون أن يكونوا له تلاميذ. لقد أتى أولئك اليونانيون ليروا يسوع ويسألوه عن شروط التتلمذ له، فأعلن لهم الشروط التي سبق وأعلنها لرسله حين دعاهم، وهي إنكار النفس، واتخاذ يسوع معلّماً ومخلّصاً، والاقتداء به. وهذا هو قانون خلاص اليهود والأمم.

إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي أي إن أراد أن يكون مسيحياً حقيقياً وتلميذاً أميناً.

فَليَتْبَعْنِي في طريق إنكار الذات، وعدم الالتفات إلى شرف هذا العالم وغناه ومجده، متمثلاً بي. وهذا كقول الرسول «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه» (انظر شرح متّى ١٦: ٢٤).

وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي أول شيء وعد المسيح به تلميذه الذي يتبعه بأمانة على الأرض أنه يكون معه في ملكوت مجده، يشاركه في كل ما يناله من السعادة والإكرام (يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧ ورؤيا ٣: ٢١). وفي هذا العدد تعزية وتنشيط للمسيحيين في أوقات الضيق والاضطهاد.

وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ إكراماً لابنه وإنجازاً لوعده. وهذا الأمر الثاني الذي وعد به المسيح تلميذه الأمين، وهذا مما لا يستطيع اللسان أن يعبر عنه، وهو لمن لم ينالوا الإكرام من الناس. ويوافق هؤلاء أن يخسروا الإكرام العالمي الوقتي القليل القدر لينالوا الإكرام السماوي غير المحدود قدراً وزماناً. فكان المسيح كلما قطع رجاء تلاميذه في الخير الأرضي من خدمتهم له قوَّى أملهم في المجد السماوي إثابة على كل ما يخسرونه في تلك الخدمة.

٢٧ «ٱلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَة».

متّى ٢٦: ٣٨، ٣٩ ولوقا ١٢: ٥٠ ويوحنا ١٣: ٢١ لوقا ٢٢: ٥٢ ويوحنا ١٨: ٣٧

ٱلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ معنى النفس هنا مركز الانفعالات. لم يستطع المسيح أن يفتكر في تمجيده دون أن يفتكر في الموصِّل إليه، وهو احتمال عقاب عالم الإثم بموته على الصليب. واضطراب نفسه هنا كاضطرابها في بستان جثسيماني في الليلة التي أُسلم فيها، والصلاة التي قدمها هنا كالصلاة التي قدمها وقتئذ، والنتيجة واحدة هي التسليم إلى مشيئة الآب (لوقا ٢٢: ٣٩ – ٤٤ فانظر الشرح هناك). وأشار الرسول إلى ذلك الاضطراب في عبرانيين ٢: ١٨ و٤: ١٥ و٥: ٧، لأن المسيح إنسان حقيقي كما أنه إله حقيقي، نفرت طبيعته البشرية من ألم نفسه المقدسة لحلوله محل الخطاة واحتماله الموت وعقاب الإثم عنهم. وكما بيّن هذا الاضطراب ناسوت المسيح، برهن أيضاً عظمة ثقل الحمل الذي حمله للكفارة.

وَمَاذَا أَقُولُ؟ خاطب يسوع نفسه بذلك ودلّ به على شدة اضطرابه، فكأنه قال: بماذا أعبر عن خوفي من الألم الروحي ورغبتي في طاعة إرادة أبي؟ فتنازعه أمران: غرائزه الطبيعية، ورغبته الروحية.

أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ أي ساعة الألم (مرقس ١٤: ٣٥). هذه الكلمات تابعة للسؤال السابق غير مستقلة عنه. فكأن المسيح قال: ماذا أقول؟ هل أقول أيها الآب الخ؟ فلو طلب ذلك لاستجاب الله له ونجّاه من الموت، وكانت عاقبة نجاته من الموت هلاك البشر إلى الأبد (متّى ٢٦: ٥٣، ٥٤).

وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا أي لتمجيد أبي بخلاص البشر الذي لا يكون إلا بآلامي وموتي. ولم يرد يسوع أن يطلب إلى الآب النجاة من تلك الساعة، لأن تلك النجاة تنافي غاية مجيئه إلى العالم، فإنه قدم نفسه باختياره ليحتمل لعنة الإثم عن الأثمة، لأن خلاص العالم متوقف على موته (لوقا ٢٤: ٢٦). فهنيئاً لنا بأن المسيح لم يسأل أباه النجاة من تلك الساعة.

أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ من السماء إلى الأرض، ومن المذود في بيت لحم إلى الصليب على تل الجلجثة. ويضارع هذا قول لوقا في سَفَر يسوع الأخير من الجليل إلى أورشليم منذ ستة أشهر حين تمت الأيام لارتفاعه «ثبَّت وجهه لينطلق إلى أورشليم» (لوقا ٩: ٥١).

٢٨ «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً».

متّى ٣: ١٧ و١٦: ١٦، ١٧

مَجِّدِ اسْمَكَ بموتي وكل الآلام المحتومة عليّ بإرادتك لأني أريد أن يتمجد اسمك مهما لحقني من ألم (متّى ٢٦: ٣٩). فهذه الصلاة تدل على تسليم يسوع كل شيء إلى مشيئة الآب في وقت كان ينتظر فيه أشد الضيق. لقد كان تمجيد الآب غاية المسيح العظمى، ويجب أن تكون هذه غايتنا.

فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ وهو قولٌ فهم بعضهم معناه وبعضهم لم يفهمه. قيل في الإنجيل إن الله تكلم من السماء بصوت مسموع على الأرض ثلاث مرات: (١) في معمودية يسوع (متّى ٣: ١٧) و(٢) حين التجلي (متّى ١٧: ٥) و(٣) هنا، وهي قرب زمان صلبه.

مَجَّدْتُ بما مضى من خدمتك قولاً وفعلاً. هذه شهادة الآب بمسرته بعمل ابنه وهي ختم له. ويمكننا أن نقصر هذه الشهادة على عمل المسيح في الأرض من تجسده واحتماله التجربة وصنعه المعجزات وتعليمه، كما يمكننا أن نطلقها على كل عمل الفداء منذ سقوط آدم. فمجَّد الله اسمه بإعلاناته للآباء القدماء، ولأنبياء العهد القديم، وبكل ذبائح الشريعة الموسوية ورسومها وشعائرها في خيمة الاجتماع والهيكل. نعم أن اسم الله تمجد قبل إتيان المسيح بالجسد في كل حوادث الكنيسة الإسرائيلية، لكنه تمجد أكثر بعد مجيئه.

وَأُمَجِّدُ أَيْضاً ذلك بموت المسيح، وقيامته، وسكب الروح القدس بناءً على ذلك، وبتأسيس الكنيسة المسيحية ودخول الأمم إليها.

٢٩ «فَالجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا: قَدْ كَلَّمَهُ ملاكٌ».

اتفق كل السامعين على أنهم سمعوا صوتاً غريباً عالياً من السماء، بدليل ظن بعضهم أنه رعد. واختلفوا في حقيقته لاختلافهم في القرب والبعد من المكان الذي فيه يسوع وتلاميذه، ولاختلاف انتباههم له واهتمامهم بأمور متنوعة، وباختلاف استعدادهم لقبول التأثيرات السماوية. ومثل ذلك أن بعض الناس الذين سمعوا الرسل يتكلمون بألسنة يوم الخمسين حسبوهم سكارى، وأن آخرين قالوا إنهم يتكلمون بعظائم الله. ولعل اليونانيين ظنوا ذلك الصوت رعداً لأنهم لم يفهموا اللغة العبرانية الذي كان الكلام بها.

٣٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ، بَل مِنْ أَجْلِكُمْ».

يوحنا ١١: ٤٢

لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ لم يكن ذلك الصوت لتعزية المسيح وإزالة شكوكه في مسرة الله به، لأنه متيقن من ذلك (يوحنا ١١: ٤١، ٤٢).

بَل مِنْ أَجْلِكُمْ إن الله علم أفكارهم وكلامهم، فكان ذلك الصوت لتعليمهم وإزالة شكوكهم ليقنعهم أن يسوع رسول الله، والله سُرّ به. فإن كانوا لم يستفيدوا كل الاستفادة من ذلك الصوت وقتئذٍ فلهم أن يستفيدوا كذلك بعدئذ عندما يذكرونه

٣١ «ٱلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا العَالَمِ. ٱلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا العَالَمِ خَارِجاً».

متّى ١٢: ٢٩ ولوقا ١٠: ١٨ ويوحنا ١٤: ٣٠ و١٦: ١١ وأعمال ٢٦: ١٨ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٢: ٢ و٦: ١٢

ٱلآنَ أي زمن حدوث ثلاثة أمور هي: مجيء اليونانيين، والصوت من السماء، وموته. ولذلك ثلاث نتائج ذكرها على الأثر، وهي: دينونة العالم، وطرح رئيسه، وجذب المسيح للجميع.

دَيْنُونَةُ هَذَا العَالَمِ (يوحنا ٣: ١٧ – ١٩). العالم هنا عموم الناس على الأرض، وقد دِين العالم لأنه ملكوت الشيطان فإن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (١يوحنا ٥: ٩)، ولأنه صلب رب المجد. والدينونة هنا ليست حساب اليوم الأخير، بل إعلان الله أن العالم أثيم، وأنه أخذ في إزالة كل ما يغيظه فيه، ولا سيما عبادة الأوثان، وما طرأ على الدين اليهودي من الفساد والرياء، واستيلاء الشيطان على قلوب الناس. وأعظم مغضبات الله رفض العالم لابنه. وأظهر الله هذا الحكم في العالم بعد موت ابنه أكثر مما أظهره قبلاً بما فعله من دعوة الأمم من الأوثان إلى الخلاص بابنه.

ٱلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا العَالَمِ أي الشيطان، وسُمي رئيس هذا العالم لخضوع أكثر العالم له وطاعته إياه. وحيث تسود الخطية يملك الشيطان (يوحنا ١٤: ٣٠ و١٦: ١١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢). فطُرح رئيس العالم على أثر دينونة العالم. وتقييد طرحه «الآن» لأن موت المسيح هو علة خراب مملكته «إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسّلاطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٥). وفي ذلك إتمام للنبوة الأولى بالمسيح ونصها «هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين ٣: ١٥ انظر شرح لوقا ١٠: ١٨ وأعمال ٢٦: ١٨ ورومية ١٦: ٢٠ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ١٢: ٧ – ١٢ و٢٠: ٢). وهذه النتيجة لا تحصل دفعة بل تدريجياً.

٣٢ «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الجَمِيعَ».

يوحنا ٣: ١٤ و٨: ٢٨ رومية ٥: ١٨ وعبرانيين ٢: ٩

وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ على الصليب لأموت كفارة عن خطايا العالم، وقد فُسر ذلك في الآية التالية. وبمثل ذلك عبّر عن موته لنيقوديموس (يوحنا ٣: ١٥) ولليهود (يوحنا ٨: ٢٥). ونتيجة ارتفاع يسوع على الصليب ارتفاعه إلى عرش المجد، واستيلاؤه على كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وارتقاؤه إلى يمين الله شفيعاً لنا. ومن نتائجه أيضاً إتيان الأمم إليه بالإيمان، وهدم ملكوت الشيطان.

أَجْذِبُ إِلَيَّ الجَمِيعَ أي الذين يطيعون جذبي ويرضون بالخلاص على يديَّ، لا كل إنسان مطلقاً، بل بشرط الإيمان. ويتضمن قوله «الجميع» كل صنوف البشر من يهود وأمم في كل عصر وبلاد. وهؤلاء اليونانيون هم باكورة حصاد الأمم. وقوله «أجذب» يفيد أنه لا يجبرهم على المجيء بجيوش من الملائكة أو من الناس، بل إنه يقنعهم بالبراهين المقنعة لأذهانهم وضمائرهم، ويضع أمامهم أفراح السماء تشويقاً لهم إليها وأهوال جهنم ترهيباً لهم منها. والجاذب الأعظم لهم تأثير روحه القدوس فيهم.

فالجاذب هو يسوع المسيح، مرتفعاً على الصليب، لا لكونه معلماً ومثالاً لنا. وجذب موته أشد من كل ما سواه من المؤثرات الروحية لما فيه من إظهار المحبة والحنو الإلهي، وهو أن المحب مات من أجل أحبائه، وإظهار جسامة جرم الخطية التي لا يمكن رفعها إلا بموت ابن الله. وهذا ينشئ في قلوبنا الشكر للمسيح. وموت المسيح كان سبب إرساله الروح القدس إلينا.

وبرهان أن ذلك الجاذب هو المسيح بعد صلبه تأثير التبشير به يوم الخمسين، وذلك بعد صلبه. فإن الذين آمنوا في ذلك اليوم وحده زادوا على كل من آمنوا بالمسيح بتعليمه ومشاهدة معجزاته كل مدة حياته على الأرض.

وأشار بقوله «إليَّ» إلى أنه قصد جذب قلوب الناس إليه في كل الزمن المستقبل، لا في الساعات القليلة التي كان معلقاً فيها على الصليب. وذلك يستلزم أن المسيح يكون حياً بعد الموت، وحاضراً بروحه بين شعبه رئيساً له. وفيه تصريح أنه يجذب الجميع إلى نفسه، لا إلى دينه، ولا إلى كنيسته، ولا إلى رسله أو إلى أي مخلوق آخر.

٣٣ «قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ».

يوحنا ١٨: ٣٢

هذا تفسير يوحنا لقول المسيح «ارتفعتُ» بياناً لنوع موت المسيح، وهو الصلب (يوحنا ١٨: ٣٢). وهذا لا يمنع من أن المقصود ارتفاعه إلى السماء بعد موته، وارتفاعه باحترام الناس له بإيمانهم به وعبادتهم له.

٣٤ «فَأَجَابَهُ الجَمْعُ: نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ المَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟».

مزمور ٨٩: ٣٦ و١١٠: ٤ وإشعياء ٩: ٧ و٥٣: ٨ وحزقيال ٣٧: ٢٥ ودانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤، ٢٧ وميخا ٤: ٧ ويوحنا ٣: ١٤

مضمون هذا الاعتراض أن يسوع ادعى أنه المسيح، وما قاله على نفسه هنا منافٍ لقول النبوات في المسيح الموعود به.

نَحْنُ سَمِعْنَا أي نحن الذين نعرف الناموس ونفسره لغيرنا.

النَّامُوسِ أي العهد القديم كما في (يوحنا ١٠: ٣٤).

أَنَّ المَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ هذا حق باعتبار ملكه الروحي، وسند قولهم ما جاء في مزمور ٨٩: ٢٩، ٣٦، ٣٧ و١١٠: ٤ وإشعياء ٩: ٧ وحزقيال ٢٧: ٢٥ ودانيال ٧: ١٣، ١٤ وميخا ٤: ٧. ولكنهم أخطأوا من وجهين: الأول أنهم حسبوا ملكه زمنياً، وأنه يملك على الأرض إلى الأبد ملكاً منظوراً مجيداً يحرر بني إسرائيل من عبودية الرومان، وينشئ فردوساً أرضياً لا نهاية له. والثاني أنه يملك ولا يموت، والحق أنه يتواضع أولاً بالموت ثم يرتفع بالملك الروحي.

كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ يظهر من هذا أنهم فهموا بالارتفاع الآلام والموت، وأنه قصد نفسه بقوله «ابن الإنسان» بناءً على قوله قبلاً (ع ٢٣ وكثير من المواضع) وفهموا أن كلامه منافٍ للنبوات كقول دانيال «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى القَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلسِنَةِ. سُلطَانُهُ سُلطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لا يَنْقَرِضُ» (دانيال ٧: ١٣، ١٤) وأنهم لم يعتبروا ولم يفهموا النبوات الأخرى التي بيّنت أن المسيح يكون مرذولاً ومتألماً مثل قول إشعياء «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ» (إشعياء ٥٣: ٧ ومثله دانيال ٩: ٢٦). ولم يدركوا ما تشير إليه ذبائح العهد القديم. وخلاصة ذلك أنهم سمعوا بأبدية المسيح وهو يقول بموته.

مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ أي من هو هذا الذي يموت؟ إنه ليس مسيح النبوات، فهذا نعرفه وهو مجيد يحيا إلى الأبد، وهذا هو الذي نعتقده ونحتاج إليه. وأما الذي ذكرته فلا نعرفه ولا نريده. وفي كلامهم استغراب وإنكار. فالذين قالوا يوم الأحد «أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب» قالوا يوم الثلاثاء «من هو هذا ابن الإنسان؟» وقالوا يوم الجمعة «اصلبه! اصلبه!». وقالوا القول الأول حين افتكروا في معجزاته. وقالوا الثاني حين ظهر لهم ما في قوله من المنافاة لأقوال الأنبياء. وقالوا الثالث حين سمعوا اتهام الفريسيين له.

٣٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئلا يُدْرِكَكُمُ الظّلامُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلامِ لا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ».

يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢ و٩: ٥، ٤٦ إرميا ١٣: ١٦ وأفسس ٥: ٨ ويوحنا ١١: ١٠ و١يوحنا ٢: ١١

لم يجب يسوع على سؤالهم بالتصريح، إنما أنذرهم من فوات الفرصة لنوال الخلاص، وفي هذا إجابة ضمنية لسؤالهم، وهو أنهم إذا استناروا بنور الحق أدركوا معنى النبوات المتعلقة بالمسيح حق الإدراك، وخلصوا من خطاياهم. وكلامه هنا جار مجرى المثل، وقد بُني على أمر معلوم، وهو أن الذي يقصد السفر يجب أن يسير في النهار. والمعنى أن الوقت الحاضر أهم الأوقات لنجاتهم ونجاة سائر أمتهم من أشد المصائب، ونوال أعظم البركات.

النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ قصد بالنور هنا نفسه لأنه نور العالم (يوحنا ١: ٤ و٨: ١٢ و٩: ٤). وأشار بقوله «معكم زماناً قليلاً» إلى قرب موته (يوحنا ٩: ٤). وإذ كان نور العالم على وشك الغروب كان يوم خلاص اليهود على وشك الانتهاء.

فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُمعنى هذا كمعنى قوله في يوحنا ٨: ١٢ وهو وجوب اغتنام الفرصة لمعرفة الحق ونوال الخلاص ما دام هو بينهم يرشدهم إلى طريق الحياة.

لِئلا يُدْرِكَكُمُ الظّلامُ أي لئلا ينزع الله نعمته منكم ووسائط معرفة الحق ويترككم إلى جهالتكم وعماكم وشقائكم (يوحنا ٨: ١٢ ورومية ١: ٢١ و١يوحنا ٢: ١١). وتم ذلك على أكثر اليهود، إذ هُدمت مدينتهم وتبدد شملهم وبقيت قلوبهم قاسية مظلمة. ويصيب ما أصابهم كل الخطاة الذين يرفضون الإنجيل. وهذا الظلام يدرك بعض رافضي الحق في هذا العالم، ويدرك البعض الآخر في العالم الآتي، وهم الأكثر.

لا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ ظن اليهود أنهم ذاهبون إلى السماء، وجهلوا أنهم برفضهم المسيح عرضوا أنفسهم لخطر السقوط في جهنّم التي لا يعرف أحد شدة ما فيها من الظلام واليأس والشقاء. وما قاله المسيح هنا نبوة إلى ما صار إليه اليهود من ذلك الوقت إلى الآن، فإنهم تائهون في الظلام بلا مرشد ولا غاية.

٣٦ «مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ. تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ».

لوقا ١٦: ٨ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ٢: ٩ الخ لوقا ٢١: ٣٧ ويوحنا ٨: ٥٩ و١١: ٥٤

هذه الدعوة المملوءة رقة وشفقة ومحبة، كقوله «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». وهي نصيحة من أفضل الأصدقاء المخلصين لكل إنسان: أن يستفيد من الوسائط التي وهبها الله له لينال منه أعظم منها. وتلك الوسائط هي نور الضمير، وكلام الله، وإنارة الروح القدس. وكلها من مصدر واحد هو المسيح.

مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ هذا يتضمن أمرين: (١) أن يسوع هو النور. (٢) أنه على وشك تركهم. ومعناه بالنظر إلى اليهود يومئذ أن وقت وجود المسيح بينهم وقت النعمة لهم. ومعناه بالنظر إلينا أن زمن حياتنا على الأرض هو وقت نعمتنا. وفي هذه الآية جواب لليهود على قولهم «من هو هذا ابن الإنسان؟» (ع ٣٤) وهو أنه نور العالم.

آمِنُوا بِالنُّورِ هذا كقوله آنفاً: سيروا في النور، أي اتكلوا عليّ مرشداً ومخلّصاً، فذلك الإيمان يجعلكم أبناء النور. وهو ليس النظر إليَّ مرة بل دائماً، إذ لم يقل: انظروا النور، بل قال: سيروا فيه، وذلك كما سار أخنوخ ونوح مع الله.

أَبْنَاءَ النُّورِ (انظر شرح لوقا ١٦: ٨). قصد المسيح بذلك أن يكونوا مثله، لأنه هو النور، وأن يتعلموا منه لأن النور هو كل علم حق، وأن يكونوا مخلصين لا مرائين لأن النور لا غش فيه، وأطهاراً لأن النور طاهر، ومنيرين لغيرهم لأن النور مضيء وهو صفة مملكة النور وورثتها (أفسس ٥: ٨).

مَضَى وَاخْتَفَى سبب ذلك معرفته أنهم يبغضونه ويقصدون به الشر، وأن وقته لم يأت بعد إذ هو في عيد الفصح، وكان اختفاؤه في يوحنا ٨: ٥٩. والأرجح أنه ذهب إلى بيرية (انظر شرح لوقا ٢١: ٣٧). ثم أتى أيضاً وعلّم في أورشليم ما سيأتي. وظن بعضهم أنه اعتزل الجمع الذي كان حوله وذهب إلى موضع آخر من المدينة وخاطب آخرين.

كفر اليهود وسببه (ع ٣٧ – ٤٣)

٣٧ «وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ».

الآيات ٣٧ – ٤٣ كلام يوحنا على قساوة قلوب اليهود، ورفضهم أوضح البراهين على لاهوت يسوع وأنه المسيح.

أَمَامَهُمْ أي أمام جمهور اليهود.

آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا أي كثيرة، ويحتمل الأصل اليوناني أنها عظيمة أيضا،ً ويدل هذا على أن يسوع صنع معجزات كثيرة لم يذكر يوحنا سوى سبع منها (وهي تحويل الماء خمراً، وشفاء ابن خادم الملك، وإبراء المقعد، وإشباع خمسة آلاف بخمسة أرغفة، والمشي على الماء، وتفتيح عيني الأكمه، وإقامة لعازر) لكنه أشار إلى كثير منها (يوحنا ٢: ٢٣ و٧: ٣ و٩: ١٦ و١١: ٤٧ و١٦: ٢٤). وفي هذا العدد إشارة إلى أن تلك المعجزات كانت برهاناً كافياً لإثبات دعوى يسوع، وصُنعت أمام عيونهم، فكان يجب على اليهود أن يقتنعوا به.

لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي اليهود إجمالاً. ذكر يسوع كفرهم في معرض الاستغراب لقوة البراهين من كثرة المعجزات وعظمتها. وجمع في هذا العدد نتائج كل خدمة يسوع مدة ثلاث سنين ونصف سنة من أولها إلى آخرها فكانت وفق قوله «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَله» (يوحنا ١: ١١).

٣٨ «لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟».

إشعياء ٥٣: ١ ورومية ١٠: ١٦

لِيَتِمَّ أي كان كفرهم على وفق نبوة إشعياء، فليست النبوة سببه، لكنها سبب عدول البشير عن الاستغراب، فإن الله أنبأ بذلك منذ القديم. وتمت تلك النبوة على اليهود في أيام إشعياء كما تمت عليهم في أيام المسيح.

يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا تكلم إشعياء عن نفسه وعن غيره من المنادين بكلمة الله في أيامه وفي الأيام الآتية. وهذا الكلام بدء أصحاح ٥٣ من نبوته. ومعناه: لم يصدِّق خبرنا أحد. والمقصود بالخبر هنا شهادته بآلام المسيح فداءً لشعبه.

اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ ذراع الرب كناية عن قوته بإقامة فادٍ لشعبه، وإعداد خلاصهم على يده. وظهرت ذراع الرب في أعمال يسوع ومعجزاته وتعليمه وقيامته وصعوده، ولم يرها أحد (إشعياء ٥١: ٩ و٥٢: ١٠).

٣٩ «لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً».

إشعياء ٦: ٩، ١٠ ومتّى ١٣: ١٤

لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا أي لعلة ستُذكر في الآية التالية، وهي عمى بصيرتهم وغلاظة قلوبهم، فإن من هذا حاله يتعذَّر عليه الإيمان. فمعنى عدم القدرة هنا كمعناه في قوله «ولم يقدر (أي يسوع) أن يصنع هناك (في الناصرة) ولا قوة واحدة لعدم إيمانهم» (مرقس ٦: ٥). وعلة كفرهم ليست قضاء الله، ولا نبوة إشعياء، بل إرادتهم واختيارهم، فلم يقدروا أن يؤمنوا لأنهم لم يريدوا. وبهذا المعنى قوله «لَمْ يَسْتَطِيعُوا (أي إخوة يوسف) أَنْ يُكَلِّمُوهُ (أي يوسف) بِسلامٍ» (تكوين ٣٧: ٤) وقوله «لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ» (يوحنا ٧: ٧). وقوله «لَنْ يَقْدِرَ (أي الله) أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٣).

٤٠ «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لِئلا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ».

هذا من نبوة إشعياء ٦: ١٠ ونُقلت هذه العبارة في العهد الجديد ست مرات بياناً لرفض اليهود أن يسوع هو المسيح (متّى ١٣: ١٤ و١٥ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ وأعمال ٢٨: ٢٦، ٢٧، ٢٨ ورومية ١١: ٨). فراجِع تفسيرها في بشارتي متّى ومرقس. واقتُبست بشيء من التصرف مع حفظ المعنى. فجاء في بعض المقتبسات نسبة الأغلاط إلى الناس أنفسهم كما في بشارة متّى، وفي بعضها إلى الله كما في هذه الآية، وهو في الأصل منسوب إلى إشعياء نفسه. والحقيقة أنه فِعل الناس أنفسهم لأنهم أغمضوا عيونهم عن الحق وقسوا قلوبهم عن قبوله بإرادتهم واختيارهم، وأن الله قضى أن يتركهم في الحالة التي اختاروها اتباعاً لشهواتهم، كعقاب على ما فعلوه، ولم يمنعهم بروحه القدوس من إغماض عيونهم، ولم يليّن قلوبهم ليحملهم على الإيمان والتوبة. ونُسب ذلك إلى النبي لأن الله بيّن قضاءه بفمه بناء على قساوتهم.

قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لكي لا تدرك عقولهم الحق ولا تشعر قلوبهم بقوته. وهذا نتيجة مناداة إشعياء ووعظ المسيح لا غايتهما (رومية ٧: ٨ – ١١ و٢كورنثوس ٢: ١٥، ١٦).

٤١ «قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ».

إشعياء ٦: ١

قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا أي ما ذُكر من شهادة ونبوة.

حِينَ رَأَى مَجْدَهُ أشار بذلك إلى ما جاء في إشعياء ٦، الذي هو علة النبوة، وهو أنه رأى السرافيم يعبدون الله هاتفين «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» والضمير في «مجده» يعود إلى المسيح. وهذا من أوضح البراهين على أن يسوع هو الله، لأن يوحنا الرسول وهو يتكلم بالوحي صرح أن «السيد» الإلهي الذي رأى إشعياء مجده وقال فيه «لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» هو يسوع المسيح. وهذا على وفق قول بولس أن الذي قاد إسرائيل بالسحاب في البرية هو يسوع ( ١كورنثوس ١٠: ٤). ومن الضرورة أن الذي رآه إشعياء هو الأقنوم الثاني، لأن «الله الآب لم يره أحد قط» (يوحنا ١: ١٨) و «لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ولا يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (١تيموثاوس ٦: ١٦). فإشعياء رأى منذ ٧٠٠ سنة قبل إتيان المسيح الذي لم يره اليهود مع كونه متجسداً بينهم.

٤٢ «وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، لِئلا يَصِيرُوا خَارِجَ المَجْمَعِ».

يوحنا ٧: ١٣ و٩: ٢٢

أراد يوحنا أن يبيّن لقراء إنجيله أن ما قاله، وإن صدق على اليهود إجمالاً، لا يصدق على كل فرد منهم.

آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ أي اقتنعوا اقتناعاً عقلياً بأن يسوع هو المسيح، ولم يكونوا عمياناً غلاظ القلوب كسائر اليهود. ولا يلزم من ذلك أن إيمانهم كان قلبياً حقيقياً خالصاً، وإلا لظهر بإقرارهم، لكنه كان استعداداً للإيمان الصحيح، كما كان من أمر نيقوديموس ويوسف الرامي، فإنهما أظهراً بعدئذ علامات صحة إيمانهما بأعمالهما (يوحنا ١٩: ٣٨، ٣٩ ومرقس ١٥: ٤٣ ولوقا ٢٣: ٥٠، ٥١).

لِسَبَبِ الفَرِّيسِيِّينَ أقوى أعداء يسوع وأشدهم بغضاً، الذين خافهم الرؤساء أنفسهم.

لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ خوفاً من الاضطهاد. إن الإيمان المجرد عن الاعتراف غير كافٍ للخلاص بدليل ما جاء في رومية ١٠: ١٠.

لِئلا يَصِيرُوا خَارِجَ المَجْمَعِ وهذا الحرمان عندهم مصيبة كالموت، فكان الذي يخرجونه من المجمع يُحرم من كل الحقوق الدينية والشخصية وأكثر الحقوق المدنية (راجع شرح يوحنا ٩: ٢٢).

٤٣ «لأنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ».

يوحنا ٥: ٤٤

هذا وصف حال أكثر اليهود، وهو سبب جبنهم عن الاعتراف بالإيمان (يوحنا ٥: ٤٤). ومعنى مجد الناس هنا مدحهم ورضاهم. فأولئك الرؤساء طلبوا مدح الناس أكثر مما يجب ومدح الله أقل مما يستحق، وخالفوا أحكام عقولهم، وشهادات ضمائرهم، وأغاظوا الله، وأهلكوا نفوسهم إن كانوا قد بقوا على تلك الحال، وفعلوا كل ذلك إرضاءً للبشر أمثالهم. ولم يزل حب مجد الناس سبب هلاك كثيرين. وينجو الإنسان من هذا إن تأمل الإنسان في من هو الله، وفي عظمة البركات الناتجة من رضاه، وشدة الهول من غضبه (١يوحنا ٥: ٤).

إثم اليهود لعدم إيمانهم (ع ٤٤ – ٥٠)

٤٤ «فَنَادَى يَسُوعُ: الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَل بِالَّذِي أَرْسَلَنِي».

مرقس ٩: ٣٧ و١بطرس ١: ٢١

فَنَادَى يَسُوعُ أشار البشير إلى أن يسوع رفع صوته لينبه كل الحاضرين ليسمعوا ما يقول، ولم يذكر يوحنا أين ولا متى كان ذلك. ولعله ألقى أول خطابه (ع ٣٠ – ٣٦) في مكان، وبقيته في مكان آخر (ع ٤٤ – ٥٠). وما قيل في هذا الفصل يكرر باختصار ما قاله يسوع سابقاً.

الَّذِي يُؤْمِنُ بِي جاء مثل هذا في يوحنا ٥: ٣٦ و٧: ١٦، ٢٩ و٨: ١٩ و١٠: ٣٥.

لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي أي وحدي. ذلك كقول الله لصموئيل «اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ.. لأنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ» (١صموئيل ٨: ٧). ومعناه أنهم لم يرفضوه وحده (قارن بما في متّى ١٠: ٢٠ ومرقس ٩: ٣٧).

بَل بِالَّذِي أَرْسَلَنِي هذا تصريح بأن الإيمان بالمسيح يتضمن الإيمان بالله الآب، وذلك دليل على الاتحاد التام بين المسيح وأبيه حتى لا يمكن لأحد أن يؤمن بأحدهما دون الآخر. ويجب أن يؤمن بهما معاً لأنهما يعملان عملاً واحداً (يوحنا ٥: ١٦، ٢٠، ٣٦ و١٠: ٢٥، ٣٧) ويعلّمان تعليماً واحداً (يوحنا ٨: ٣٨ و١بطرس ١: ٢١).

٤٥ «وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي».

يوحنا ١٤: ٩

هذا دليل واضح على مساواة الابن للآب. ولو كان بينهما فرق في الجوهر لما ساغ القول به لأنه يستحيل أن يصدق على ملاك أو إنسان. فلو قاله موسى أو إشعياء على نفسه كان تجديفاً فظيعاً، ولكن يسوع كان يقوله مراراً كثيرة (يوحنا ٥: ١٧). وليس المعنى أن الذي يرى المسيح بعين الجسد يرى الآب كذلك، فهذا مُحال (١تيموثاوس ٦: ١٦) بل المراد أن الذي يرى يسوع يرى كل ما يمكن من معلنات الآب، لأنه «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين ١: ٣). وغاية هذه الآية وما قبلها تقوية إيمان تلاميذه به وتقرير تعليمه اتحاده بالآب.

٤٦ «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى العَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لا يَمْكُثُ فِي الظُّلمَةِ».

يوحنا ٣: ١٩ و٨: ١٢ و٩: ٥، ٣٩ وع ٣٥، ٣٦

انظر شرح يوحنا ٨: ١٢ وانظر أيضاً يوحنا ١: ٩ و٣: ١٩.

ولنا في هذا العدد: (١) بيان غاية تجسد المسيح وموته لإنقاذ الناس من سلطة الظلمة ونقلهم إلى ملكوته (كولوسي ١: ١٣). (٢) أن يسوع لنفوس الناس بمنزلة الشمس لأجسادهم، فهو أصل التنوير والبركة والسعادة، وطريق الوقاية من الخطر. (٣) عظمة المسيح وسمو مقامه. (٤) عموم بركة الإنجيل.

لا يَمْكُثُ فِي الظُّلمَةِ أي الجهالة والضلالات المهلكة والشقاء الناتج عن ذلك. والذي لا يمكث في الظلمة يقوده المسيح إلى الله والحق والسماء (يوحنا ٣: ١٩ وإشعياء ٨: ٢٢ و٥٩: ٩ ويوحنا ٢: ٢٢ و١يوحنا ١: ٥).

وفي هذه الآية خمس حقائق ذات شأن: (١) أن العالم في الظلمة. (٢) أن المسيح نور العالم الوحيد. (٣) أن الإيمان هو الوسيلة الوحيدة إلى الاستفادة من المسيح. (٤) أن للمؤمن نوراً روحياً. (٥) أن غير المؤمن يبقى في ظلمة الضلال التي هي مقدمة لظلمة جهنم.

٤٧ «وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لا أَدِينُهُ، لأنِّي لَمْ آتِ لأدِينَ العَالَمَ بَل لأُخَلِّصَ العَالَمَ».

يوحنا ٥: ٤٥ و٨: ١٥، ٢٦ ويوحنا ٣: ١٧

انظر شرح يوحنا ٨: ١٥. تكلم يسوع سابقاً عن امتيازات المؤمنين، وتكلم هنا على خطر الكفرة.

فَأَنَا لا أَدِينُهُ أي الآن، لأن الدينونة ليست من غرضي في مجيئي الأول، إنما هي من أغراضي في المجيء الثاني. قال ذلك إصلاحاً لأخطاء اليهود، كقولهم إن المسيح يأتي ليدين أعداءه وأعداء شعبه وينتقم منهم ويسحقهم.

بَل لأُخَلِّصَ العَالَمَ أي لأجهز الخلاص للجميع، وأدعوهم لقبوله. ولكن لا يستفيد منه سوى المؤمنين «لأنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى العَالَمِ لِيَدِينَ العَالَمَ، بَل لِيَخْلُصَ بِهِ العَالَمُ» (يوحنا ٣: ١٧).

٤٨ «مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَل كلامِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. ٱلكلامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».

لوقا ١٠: ١٦ تثنية ١٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦

مَنْ رَذَلَنِي انظر شرح لوقا ١٠: ١٦. ومعنى «رذلني» أهانني برفضه أني المسيح والمخلص والفادي، بعد كل ما أوردته من البراهين.

فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ انظر شرح يوحنا ٣: ١٨ و٥: ٤٥ و٨: ٣٠. هذا يفيد أن غير المؤمن يُدان، وإن لم يدنه المسيح وقتئذ، والشاهد عليه حاضر ليشهد ويدين أيضاً لكنهم جهلوه.

ٱلكلامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ هذا لا ينفي أن المسيح يدينه كما قيل في (يوحنا ٥: ٢٥ – ٢٧). إنما يبين أن الدينونة تكون بمقتضى الكلام الذي تكلم به المسيح سابقاً، واعتراف المحكوم عليه بأنه سمعه، فيقارن سلوكه به ويدين نفسه، ويشهد بعدل الله الديّان.

فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ يذكر الخاطئ في اليوم الأخير وهو أمام عرش الدينونة كلمات الحكمة والحق والرحمة والإنذار. ويكون الحكم الإلهي وضمير الخاطئ على وفاق في الحكم على الخاطئ لرفضه المسيح، فيصمت ولا ينطق بكلمة.

٤٩ «لأنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ».

يوحنا ٨: ٣٨ و١٤: ١٠ تثنية ١٨: ١٨

لأنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي أي وحدي. انظر شرح يوحنا ٥: ٣٠ و٧: ١٦ – ١٨، ٢٨، ٢٩ و٨: ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٨. هذا علة قوله في الآية السابقة إن كلامه هو الذي يدين، لأن كلامه كلام الله نفسه.

لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً انظر شرح يوحنا ١٠: ٨. إن الذين رفضوا كلام المسيح كأنهم رفضوا كلام الله لا كلام إنسان أو نبي. وليس في ذلك ما يشين لاهوت المسيح أو يدل على عدم مساواته للآب، لأن المسيح تكلم هنا بمنزلة فادٍ ووسيط رضي بمقتضى عهد الفداء أن يكون «رسولاً يأخذ وصية من الآب».

مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ أي المعنى وكيفية التعبير عنه.

٥٠ «وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ».

وَأَنَا أَعْلَمُ علماً ذاتياً وعلماً اختبارياً من مشاهدة نتائج تأثير وصية الآب.

أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وصية الله في كتابه المقدس وهي جوهر الدين المسيحي، وعُبر عنها «بالحياة الأبدية» لأنها مصدر تلك الحياة لكل من يقبلها ويطيعها، وأن غايتها إرشاد الناس إليها بإعلان حقيقتها ووسائط تحصيلها. فكما أن الكتب العلمية تبين شرائع عالم المادة يبين كتاب الله شرائع عالم الروح. وهذا كقول بطرس «إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ» (يوحنا ٦: ٦٨). وقول المسيح نفسه «ٱلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣ و١يوحنا ٣: ٢٢). وما قيل يبين اجتهاد المسيح في حثّ الناس على فهم كلامه وطاعته، لأن حياتهم الأبدية متوقفة عليه. ولذلك نادى به حتى وهو معرَّض للهزء والاضطهاد وخطر الموت. فيجب على المبشرين الآن أن يكونوا أمناء في تعليم الناس بكل مشورة الله، وعلى كل مسيحي أن يكون كذلك لرفاقه وجيرانه.

فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ سبق تفسير هذا في يوحنا ٧: ١٦ – ١٩ وخلاصة معنى هذه الآية مثل ما في يوحنا ١: ١ وهو أن المسيح كلمة الله. فاليهود الذين رفضوا كلام المسيح إنما رفضوا كلام إله آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

هذا نهاية ما ذكره يوحنا من تعليم المسيح للناس عموماً، وكان ذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر من أبريل نيسان. ثم رجع إلى بيت عنيا وقضى هناك ليلتين ويوم الأربعاء كله، وأتى إلى أورشليم يوم الخميس بعد الظهر ليأكل الفصح مع تلاميذه.

وما سيأتي من التعليم هو ما خاطبهم به يسوع وهو متكئ معهم للعشاء.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى