إنجيل يوحنا | 09 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح التاسع
شفاء يسوع الأعمى وخطابه المبني على ذلك ع ١ إلى ٤١
١ «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ».
وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ الأرجح أن ذلك كان في مدخل الهيكل أو على القرب منه حيث كان يجتمع المتسولون (أعمال ٣: ٢) ولم يتضح لنا أمتعلقة الحوادث التي في الأصحاحين السابقين بحوادث هذه الأصحاح أم منقطعة عنه وذلك ليس من الجوهريات لكن نعلم أن حوادث هذا الأصحاح كانت في يوم السبت (ع ١٤) من الوقت الذي شغله بهذه الخدمة في اليهودية وأوله من بداءة الأصحاح السابع ونهايته العدد ٣٩ من ص ١٠ وهو نحو شهرين.
رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى في معجزة شفاء يسوع للأعمى ستة أمور تستحق الاعتبار.
- الأول: أنه لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى يوحنا.
- الثاني: أنه ذكرها بكل تدقيق.
- الثالث: أنها واحدة من المعجزات الثلاث التي ذُكر أن يسوع صنعها في اليهودية (والمعجزات التي ذكرها يوحنا سبع، ثلاث صُنعت في اليهودية وأربع صُنعت في الجليل).
- الرابع: أنها إحدى المعجزات التي توقع اليهود أن يصنعها المسيح عند إتيانه بناء على قوله تعالى بلسان إشعياء «يَسْمَعُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلصُّمُّ أَقْوَالَ ٱلسِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ ٱلْقَتَامِ وَٱلظُّلْمَةِ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ» (إشعياء ٢٩: ١٨).
- الخامس: أنها من الآيات التي أوردها يسوع دليلاً على أنه هو المسيح بقوله «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ الخ» (متّى ١١: ٤ و٥).
- السادس: أنها صُنعت علانية في إنسان معلوم وفي موضع مشهور وأمام كثيرين حتى لا يستطيع اليهود إنكارها. وكانت علة جلوس الأعمى هنالك الاستعطاء ع ٩. وشفاه المسيح تبرعاً أي من دون أن يسأله أحد وذلك كشفائه المقعد عند بركة بيت حسدا (ص ٥: ٦).
مُنْذُ وِلاَدَتِهِ كونه وُلد أعمى لم يُبق من أمل أن يبرأ بواسطة بشرية. وكان إبراؤه في عيون الشعب أعجب من إبرائه لو أنه كان عُمي بعد البصر. ولعل هذا الأعمى كان ينادي بأنه وُلد أعمى تحريكاً لشفقة المارين به فعرف التلاميذ ذلك من مناداته.
٢ «فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟».
ع ٣٤
فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ تدل إحاطة تلاميذه به ومخاطبته إياهم باطمئنان على أن الأحوال يومئذ كانت خلاف الأحوال التي عرفناها من آخر الأصحاح التاسع. ولعل المسيح وقف عند الأعمى فوجه بذلك أبصار التلاميذ إليه فأخذوا يسألون عن أموره.
مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ الخ هذا السؤال كان موضوع بحث طويل عند اليهود واختلفت فيه آراء علمائهم كثيراً. ونسبوا كل المصائب الأرضية إلى خطايا مخصوصة (ع ٣٤ انظر شرح لوقا ١٣: ١ – ٤) وصعب عليهم تصحيح ذلك القانون مع مولود أعمى فرفعوا أمرهم وهم في حيرة منه إلى المسيح. ولقولهم «من أخطأ هذا» (أي هذا اخطأ) سند وهو اعتقاد بعض اليهود التناسخ وأن الذي في جسد يعاقب على خطيئته في جسد آخر تنتقل نفسه إليه. واعتقاد آخرين أن الولد يستطيع أن يخطئ قبل ولادته بناء على ما قيل في (تكوين ٢٥: ٢٢ ومزمور ٥١: ٥). ولقولهم «أم أبواه» أي «أخطأ أبواه» سند وهو اعتقاد أكثر اليهود أن علة مصائب الأولاد قبل الولادة خطايا والديهم بناء على ما قيل في (خروج ٢٠: ٥ و٣٤: ٧ وعدد ١٤: ١٨ و٣٣ وإرميا ٣٢: ١٨). ولا ريب أن في نفس كل إنسان ما يحمله على أن ينسب عموم المصائب في الأرض إلى الخطيئة. ويوافق ذلك شهادة الكتاب المقدس في (تكوين ٣: ١٦ – ١٩ وفي رومية ٥: ١٢ – ١٩). وحاصله أن مصائب نسل آدم نتيجة معصيته. وغلط اليهود أنهم جعلوا المصائب نتائج خطايا مخصوصة.
٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ».
ص ١١: ٤
لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ أي أن عماه ليس نتيجة خطيئة مخصوصة منه ولا من أبويه. ولا يلزم من قول المسيح هنا أن ذلك الأعمى كان بلا خطيئة وأن أبويه كانا كذلك. ولم ينكر المسيح أن خطايا الوالدين قد تجلب على أولادهم الأمراض والموت لأن ذلك من الواقعات المشاهدة (خروج ٢٠: ٥). ولم ينكر أنه قد يكون بعض الخطايا علة بعض المصائب أو الأمراض وأشير إلى ذلك في (مرقس ٢: ٥ ويوحنا ٥: ١٤ ولاويين ٢٦: ١٦ وعدد ١٢: ١٠ وتثنية ٢٨: ٢٢ و٢ملوك ٥: ٢٧) لكنه نفى أن يكون مصاب ذلك الأعمى من هذا الباب.
لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ المعنى أن الله سمح بحكمته غير المحدودة أن يصيب هذا الإنسان ذلك المصاب لكي يظهر الله قوته ومحبته بشفائه ولكي يثبت دعوى يسوع أنه المسيح وأنه نور العالم بواسطة إبرائه وليجعله وسيلة إلى نشر التعاليم الروحية في الشعب ولكي يُقاد الأعمى عينه إلى الإيمان بالمسيح لشفاء نفسه وخلاصه الأبدي بواسطة بر جسده.
ولنا في هذه الآية أربع فوائد:
- الأولى: وجوب أن نشفق على المصابين وأن لا نلومهم أو نحتقرهم كأن الله قد غضب عليهم.
- الثانية: وجوب أن لا ننسب كل مصيبة إلى خطيئة مخصوصة فنغلط بذلك غلط أصدقاء أيوب.
- الثالثة: أن هذا يعزينا إذا و قعنا في المصائب إذ نعلم أن الله سمح بها لأسباب اقتضتها حكمته مثل أن تكون وسيلة إلى إظهار رحمته وقوته ومحبته وتمجيده تعالى وواسطة نعمة لنا (أمثال ٣: ١٢ وعبرانيين ١٢: ٦ و١١ ورؤيا ٣: ١٩).
- الرابعة: أنه يجب على المصابين الصبر لأنه ربما لم يظهر لهم قصد الله من مصائبهم إلا بعد زمان طويل وربما لم يظهر لبعضهم إلا بعد أن يدخل السماء.
٤ «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ».
ص ٤: ٣٤ و٥: ١٩ و٣٦ و١١: ٩ و١٢: ٣٥ و١٧: ٤
يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ يشير هذا إلى أن المسيح شعر برغبة شديدة في فتح عيني ذلك الأعمى بناء على رغبته في إرضاء الله علاوة على ميله إلى نفع الناس نفوساً وأجساداً. ويشير أيضاً إلى أن إبراءه ذلك الأعمى يهيج اليهود على مقاومته وبغضه. وقوله هنا وفق قوله في وقت آخر «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠).
أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الأعمال التي أمرني بعملها من إعلان الله للناس وإتمام عمل الفداء وهي تشبه أعمال الآب الذي أرسلني لأنها أعمال القوة والمحبة والرحمة والبركة. ومعلوم أن فتح عيني ذلك الأعمى من تلك الأعمال.
مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ الخ أي كلما سنحت الفرصة المناسبة. وهو مجاز مبني على أن وقت العمل المعتاد هو النهار وأن العمل يعسر في الليل وقد يستحيل. ويعبر بالنهار عن مدة حياة الإنسان التي أعطاه الله إياها للعمل فيها وبالليل عن موته حين ينتهي عمله (جامعة ٩: ١٠). وتكلم هنا المخلص باعبتار كونه إنساناً مدة خدمته على الأرض قصيرة لكي يعلم فيها الناس شفاهاً ويصنع معجزاته. وذكر قصر الوقت لأنه على شدة رغبته في العمل بلا انقطاع. وكانت سنو حياته على الأرض نحو ثلاث وثلاثين ونصف ومدة خدمته نحو ثلاث ونصف. وكان قد بقي من تلك المدة نحو ستة أشهر. وما ذكره من قصر خدمته الأرضية لا يناقض ما مفاده في موضع آخر أنه يجري أعماله في الكنيسة والعالم بروحه بعد ارتفاعه إلى السماء. وفي هذه الآية علتان:
الأولى: علة الإبراء وهي أن يعمل أعمال الله.
الثانية: أن يشفي الأعمى في ذلك اليوم يوم السبت ولا يُبقي شفاءه إلى يوم آخر. ودلّ على ذلك بقوله «يأتي ليل» الخ.
٥ «مَا دُمْتُ فِي ٱلْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ».
ص ١: ٥ و٩ و٣: ١٩ و٨: ١٢ و١٢: ٣٥ و٤٦
هذا شرح إجمالي لكل أعمال خدمته وبيان أن فتح عيني الأعمى جزء من تلك الأعمال لكونه رمزاً إلى هبته البصيرة لعميان النفوس بالجهل والخطيئة.
فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ انظر شرح ص ٨: ١٢. خلاصة معنى هذا أن المسيح معلم البشر ومرشدهم إلى السماء ومُعلن الله لهم لكي يروا الحق. وفتح عيون العمي بالجسد رمز إلى فعله الروحي في النفوس. وعلى هذا نبوءة إشعياء (إشعياء ٢٩: ١٨ و٣٥: ٥ و٤٢: ٧) وهذه الأية موضوع كل ما في هذا الأصحاح من التعليم والعمل.
٦ «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى».
مرقس ٧: ٣٣ و٨: ٢٣
صنع المسيح معجزات كثيرة في الحال بلا واسطة إنما هنا أتى المعجزة بخلاف ذلك لسبب لم نتحققه ولعله بيان أنه غير مقيّد بطريقة واحدة في إظهار آياته فإنه أبرأ يوماً أحد العميان باللمس (متّى ٢٠: ٣٤) وفتح يوماً آخر عيني غيره بأن تفل في عينيه ووضع يديه عليه (مرقس ٨: ٢٣). ولعله قصد بذلك أن ينشئ في الأعمى رجاء للشفاء وإيماناً بالشافي فيعده بذلك لقبول تلك النعمة وأن يجعله ينسب الإبراء إلى المسيح لأنه اقترب منه وتكلم معه وطلى عينيه بالطين حتى أنه لما برئ ورآه عرف أنه هو الذي أبرأه من مجرد سمع صوته.
حسب بعض الناس التفل على العين ووضع الطين عليها علاجاً لبعض أمراضها ونسبوا مثل ذلك إلى ماء بركة سلوام وظنوا أن ذلك على ما فعل المسيح بالأعمى وما أمره به. لكنه معلوم أنه لا شفاء لمولود أعمى من طين أو تفل أو ماء بركة إنما شفاؤه بقوة إلهية فقط.
٧ «وَقَالَ لَهُ: ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً».
نحميا ٣: ١٥ ولوقا ١٣: ٤ ٢ملوك ٥: ١٤
ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ أي اغسل عينيك. ذلك شرطاً لنواله البرء وامتحاناً لإيمانه وطاعته كما امتحن الله نعمان الآرامي أو السرياني (٢ملوك ٥: ١٠).
فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ انظر شرح (لوقا ١٣: ٤ ويوحنا ٥: ٢). وكانت هذه البركة إلى جنوبي الهيكل منخفضة عنه وذُكرت في (نحميا ٣: ١٥ وإشعياء ٨: ٦) وكان اسمها قديماً «شيلوه» وتسمى اليوم بركة سلوان.
ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ فسر ذلك لإفادة اليونانيين «فمرسل» معنى شيلوه وهي لفظة عبرانية من الفعل شله أو أرسل وجاءت بهذا المعنى في (أيوب ٥: ١٠ وحزقيال ٣١: ٤). ولم تتحقق علة تفسير يوحنا لها هنا لكن ذهب البعض إلى أن المسيح قصد بإرسال الأعمى إلى تلك البركة ليذكره اسمها أن الذي شفاه مرسل من الله. نعم إنّ المسيح كان ينبوع شفاء للعالم كما كانت بركة سلوام لذلك الأعمى ولكن ذهابهم إلى أنه قصد ذلك هنا ضعيف.
فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً ذلك مختصر حادث غريب عظيم سارٍ. وأظهر هذا الأعمى بذهابه واغتساله إيماناً وطاعة. والأرجح أنه أبصر وهو يغتسل. ولا عجب من اسطاعته أن يبلغ البركة وهو أعمى لأنه كان في سن الأربعين وقد اعتاد الجولان كثيراً. والأرجح أنه أتى من البركة إلى بيته رأساً لأنه أول من شاهده بصيراً جيرانه. ولا دليل على أنه رجع إلى حيث شفاه المسيح لكي يراه ويشكره.
٨ «فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟».
فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً عرف الجيران كل ما يتعلق به لقربهم منه وكذلك الذين اعتادوا أن يمروا به كل يوم في الأزقة أو عند باب الهيكل وهو يستعطي وكلهم عرفوا أنه أعمى.
أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي قالوا ذلك تعجباً وحيرة لأن اختبارهم في الماضي كان خلافاً لمشاهدتهم حينئذ. وكان لهم أمران عرفوه بهما وهما عماه وتسوله. وعدم ذكر تسوله في العدد الأول لا ينافي ما قاله عارفوه هنا لأن العميان يغلب أنهم يسألون الصدقات لعجزهم عن الأعمال.
٩ «آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا هُوَ».
آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ اختلف الناس في آرائهم في ذلك الأعمى كاختلاف معرفتهم به. فالذين قالوا «هذا هو» هم الجيران الذين عرفوه من صغره. والذين قالوا «أنه يشبهه» هم الذين لم يروه إلا بعض الأحيان وهو يستعطي. ولا ريب في ان انفتاح عينيه غيّر منظره كثيراً.
١٠ «فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ ٱنْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟».
المتكلمون هم الجيران والذين ذُكروا معهم في ع ٩ والجماعات الذين أتوا عند سماعهم النبأ الغريب بإبصار الأكمه وعجبوا جميعاً من ذلك رغبوا في معرفة علة برئه.
١١ «أَجَابَ: إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَٱغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَٱغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ».
ع ٦ و٧
هذا نبأ الواقع بأسلوب بسيط بلا زيادة. ولم يذكر أن المسيح تفل على الأرض لأنه لم يره حينئذ. ولم يذكر من أنبأه بأن شافيه يسوع ولعل بعضهم أخبره به عند ما أمره أن يذهب إلى بركة سلوام وكان هذا الأعمى بسؤاله عن اسم المحسن إليه أفضل من ذلك البصير الذي شفاه المسيح عند بركة بيت حسدا (ص ٥: ١٣).
١٢ «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ».
أَيْنَ ذَاكَ لعلهم أرادوا أن يروا ذلك الشافي ذا القوة العجيبة أو أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إلى الرؤساء لأنه فتح عيني الأعمى في سبت.
لاَ أَعْلَمُ يدل كلامه هذا على أنه لم يرجع إلى حيث كان المسيح عندما أبرأه وإلا لقال تركته هنا والأرجح أنه ليس ببعيد عنا.
١٣ «فَأَتَوْا إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ بِٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى».
ص ١١: ٤٦
الذين أُتي إليهم بالأعمى هم أعضاء مجلس السبعين إذ لا حق لغيرهم أن يخرج أحداً من المجمع كما فعلوا ع ٣٤. وكان من أعضاء المجلس بعض الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٦) ولكن أكثرهم كان من الفريسيين وهم أشد غيرة ومقاومة للمسيح فقيل للجميع «فريسيون». وعلة إتيان البعض بالأعمى إلى ذلك المجلس ظنهم أن أمراً غريباً كهذا يستحق نظر المجلس فيه. وقصد أكثرهم شكاية المسيح بإبرائه إياه في سبت وكانت عاقبة عملهم تأدية شهادة جديدة بدعوى يسوع أنه هو المسيح على لسان الأعمى الذي برئ وفرصة جديدة لتبيين المسيح صحة تعليمه.
١٤ «وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ ٱلطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ».
ذكر البشير هذا لغايتين:
الأولى: بيان أن يسوع اعتاد أن يأتي أعمال الرحمة في السبوت وعلّم اليهود بذلك كيف يجب أن يحفظوا ذلك اليوم خلافاً لتقاليدهم.
الثانية: بيان على بغض اليهود للمسيح ومقاومتهم إياه كما ظهر منهم في هذا الأصحاح. ولم تكن مقاومتهم إياه لغيرتهم على الوصية الرابعة بل لأن يسوع أبطل تقاليدهم وخفض سلطتهم بين الشعب. انظر شرح (ص ٥: ١٦ وشرح متّى ١٢: ١٠ وشرح لوقا ١٢: ١١ – ١٦ و١٤: ١ – ٥).
١٥ «فَسَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَٱغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ».
أَيْضاً الظاهر أن المجلس سمع النبأ منقولاً عنه على ألسنة العامة فأرادوا أن يسمعوه من لسانه. أو لعل المراد أن المجلس سأله ما سأله الجيران إياه سابقاً ع ١٠.
فَقَالَ لَهُمْ الخ أجابهم كما أجاب الجيران أولاً إلا أنه ترك اسم يسوع واسم المكان الذي اغتسل به. ولعله لم يذكرهما لأنهما معلومان والأرجح أن علة تركه اسم يسوع معرفته أن أكثر أعضاء المجلس أعداء ليسوع فلم يرد التفصيل دفعاً لتهيجيهم.
١٦ «فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ. آخَرُونَ قَالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ؟ وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ».
ص ٣: ٢ وع ٢٣ ص ٧: ١٢ و٤٣ و١٠: ١٩
يتبيّن من هذه الآية أنه كان المجلس حزبين الحزب الأكبر يرغب في الحكم على يسوع بأي وجه كان والأصغر يميل إليه شيئاً.
هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ أي ليس بنبي أرسله الله ولا بتقيٍّ. قالوا هذا مع تسليمهم بوقوع المعجزة فتكون النتيجة أنه أتاها بقوة الشيطان كما في (متّى ٩: ٣٤).
لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ كان لديهم أمران ونتيجتان الأول الشفاء ونتيجته أن الشافي من الله. والثاني أن الشفاء كان في يوم السبت ونتيجته أن الشافي ليس من الله فأغمضوا عيونهم عن الأول ولم يتلفتوا إلا إلى الثاني. ولم يخطر على بالهم إمكان أن يغلطوا في حكمهم بطريق حفظ السبت فرأوا وجوب تحريم كل الأعمال حتى أعمال الرحمة في يوم السبت ولذلك حكموا أن يسوع خاطئ. ولولا بغضهم المسيح وقصدهم أن يتخلصوا من دعواه ما حكموا ذلك الحكم عليه واتخذوا الدين ستراً لحقدهم ومكرهم.
كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ هذا قول الحزب الثاني الذي كان منه أناس كنيقوديموس ويوسف الرامي ويحتمل أن منهم غمالائيل فهم نظروا إلى المعجزة فقط واستنتجوا منها استحالة أن يكون المسيح خادعاً محتالاً بناء على اعتقادهم أن الله لا يهب صنع المعجزات للاثيم الماكر. وهذا وفق قول نيقوديموس سابقاً (ص ٣: ٢). وقد ظهر من جوابهم أنهم خائفون لأنهم لم يقولوا صريحاً أن أعمال هذا الرجل برهان على أنه نبي لكن أوردوا ما يلزم عنه هذا المعنى على سبيل الاستفهام للبحث فكأنهم قالوا انظروا هل يمكن الخاطئ رفيق الأبالسة أن يأتي عمل الرحمة وقوة كما أتى هذا.
وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ حدث مثل هذا الأنشقاق مرتين آخريين (ص ٧: ٤٣ و١٠: ١٩).
١٧ «قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ».
ص ٤: ١٩ و٦: ١٤
قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى قال ذلك المجلس كله بغية أن يقف كل من الحزبين على ما يسند قوله.
مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ سلموا أن الأعمى الذي شُفي يعلم من أمر شافيه أكثر مما يعلمه غيره وسألوه لعدم معرفتهم ماذا تكون شهادته ولكنهم لما علموا أن شهادته مما يثبت دعوى يسوع أنه المسيح أنكر أكثرهم وقوع المعجزة وطردوا الإنسان هازئين به لتأديته تلك الشهادة. ولعل الأكثر سأل الأعمى ذلك السؤال بغية أن يكون في جوابه ما يوقع الشك في حدوث المعجزة أو ما يدل على كون يسوع أتى ذلك بالسحر.
فَقَالَ إِنَّهُ نَبِيٌّ هذا خلاف قول أكثر المجلس «هذا الإنسان ليس من الله» (ع ١٦). اقتنع ذلك الإنسان أن قوة الذي أبرأه سماوية وأن الشافي مرسل من الله على أنه لم يكن يعلم أنه المسيح ابن الله إذ لم يقل «النبي» بل «نبي» كأحد الأنبياء مثل إيليا وأليشع. وظهر مما ذُكر أن ذلك الرجل شجاعاً محباً للحق لأنه شهد تلك الشهادة ليسوع أمام المجلس الذي أكثر أعضائه أعداء يسوع علانية.
١٨، ١٩ «١٨ فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ. ١٩ فَسَأَلُوهُمَا: أَهٰذَا ٱبْنُكُمَا ٱلَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ؟».
فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ اليهود هنا الرؤساء وهم أعضاء المجلس. وعلة عدم تصديقهم عدم إرادتهم التسليم بالشهادة التي نتيجتها تمجيد يسوع. ومن أغرب الأمور أن عدم إرادة التسليم تعمي الذهن عن صحة البراهين.
دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ عجز اليهود عن أن يروا شيئاً في شهادة الابن الذي كان أعمى تناقض دعوى يسوع فلجأوا إلى سؤال والديه آملين أن يكذبا وينكرا أنه ابنهما أو أنه وُلد أعمى خوفاً منهم أو إكراماً لهم. فسألوهما ثلاث مسائل رجاء أن يجدوا في جواب إحداها ما يبطل دعوى المسيح وهي «هل هذا ولدكما. وهل وُلد أعمى. وبأي واسطة أبصر».
٢٠، ٢١ «٢٠ أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ: نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱبْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، ٢١ وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ فَلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ. ٱسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ».
أظهرا صدقهما بعدم إنكار كونه ابنهما وأنه أبصر وأظهرا الجبن والضعف في ترك جواب المسئلة الثالثة على أبنهما إذ خافا أن يكرما يسوع بجوابهما. أما المجلس فأضر نفسه بهذه المسائل إذ أثبت بشهادة شاهدين آخرين أن ذلك الرجل وُلد أعمى وأبصر.
فَلاَ نَعْلَمُ (ع ٢١) نتج قولهما هذا عن خوفهما ولعل فيه شيئاً من الصدق إذ لم يعرفا كل أحوال الحادثة ولم يكونا شاهدا عين واستحضرها المجلس حين أبصر ابنهما ولم يكن لهم وقت كاف للاستخبار عما وقع.
هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ كان السن الكامل عند اليهود سن الثلاثين.
٢٢ «قَالَ أَبَوَاهُ هٰذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ ٱعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ.
ص ٧: ١٣ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٨ وأعمال ٥: ١٣ ع ٣٤ وص ١٦: ٢
لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا هذا اتفاق الرؤساء بين أنفسهم ولا ريب في أنهم كانوا قد أعلنوا ذلك حتى عرفه أبو الأعمى. ولم يكن في طاقة الرؤساء أن يخرجوا أحداً من المجمع لأن ذلك كان من حقوق المجلس وإنما تعاهدوا على أمل أن يقنعوا المجلس ليحكم بما أرادوا.
يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ اي يُحرم من الحقوق الدينية والاجتماعية. وكان عند اليهود ثلاثة أصناف من الحرم.
- الأول: أن يمنع المحروم ثلاثين يوماً من كل مخالطة لأقربائه.
- الثاني: أن يمنع من ذلك مدة حياته ومن مخالطة كل واحد من اليهود إلا لمقتضيات الحياة الضرورية.
- الثالث: فصله التام عن كل واحد من الشعب وقتله إن أمكنهم. ولم يُعلم أي صنف أرادوا هنا ولكن لا ريب في أنه كان حرماً هائلاً.
٢٣ «لِذٰلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: إِنَّهُ كَامِلُ ٱلسِّنِّ، ٱسْأَلُوهُ».
هذا علة تركهما جواب المسئلة الثالثة لابنهما لأنهما لو جاوبا بشيء في شأن الشفاء لحسبه اليهود اعترافاً بصحة دعوى يسوع وأخرجا من المجمع.
٢٤ «فَدَعَوْا ثَانِيَةً ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ».
يشوع ٧: ١٩ و١صموئيل ٦: ٥ ع ١٦
الظاهر أن الرؤساء أخرجوا الأعمى من موضع الاستنطاق بعد سؤالهم أبويه «أهذا ابنكما» ع ١٩ وهنا استدعوه ثانية ليحملوه بالتجديف على النطق بما يفسد شهادته أو على إنكارها.
أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ أي اذكر أنك في حضرة الله وتكلّم بالحق. وهذا ضرب من استحلاف الشاهد اعتاده اليهود كما يظهر من قول يشوع لعاخان «فَقَالَ يَشُوعُ لِعَخَانَ: يَا ٱبْنِي، أَعْطِ ٱلآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ، وَٱعْتَرِفْ لَهُ» الخ (يشوع ٧: ١٩) ومثله ما في (١صموئيل ٦: ٥ وإرميا ١٣: ٦). والاستحلاف بهذا اللفظ مبنيٌّ على اعتقاد أن الله يتمجد بإظهار الحق لأنه إله الصدق والقوة والسلطان يثبت الصادقين ويعاقب الكاذبين. ومطلوب الرؤساء مع ذلك أن يكذب وينكر شهادته الاولى.
نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ أي نحن أرباب المعرفة القادرون على تمييز الحق من الباطل اتفقنا في المجلس أنه يستحيل أن الله يهب قوة الشفاء لمن يتعدى الشريعة ع ١٦ فإذاً أنت كاذب فاعترف بكذبك.
٢٥ «فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ».
أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ لم يسلم بأن يسوع خاطئ ولم ينكر ذلك بياناً أنه غير ملزم به.
إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً انزل هذا الأمر منزلة كل ما يعلمه لشدة أهميته حتى أنه لا أهمية لغيره من معلوماته بالنسبة إليه وهو كقول المسيح للشاب «يعوزك شيء واحد» (مرقس ١٠: ٢١ ولوقا ١٠: ٤٢) وهو بالحقيقة صرح بأمرين الأول أنه كان أعمى والثاني أنه أبصر. وترك لهم الحكم بأن يسوع خاطئ فأعطى مجداً لله بثبوته على الشهادة الأولى والصدق.
يستعير الناس قول الأعمى هنا لتغيّر قلب الخاطئ عندما يؤمن. فيصح أن يقول كنت أعمى والآن أبصر أي كنت أجهل الروحيات والآن أعلمها بالاختبار.
٢٦ «فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟».
لم ينل أعضاء المجلس مقصودهم أي حمل الأعمى على إنكار شهادته فأمروه أن يعيد القصة من أولها أملاً أن يجدوا فيها شيئاً من التناقض أو يقفوا على شيء يخطئون المسيح به أو يتخلصون به من حيرتهم. ثم أنهم رجعوا عن سؤالهم عن الواقع وأخذوا يسألونه عن الكيفية.
٢٧ «أَجَابَهُمْ: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟».
استثقل ذلك الرجل تكريرهم سؤاله وعرف سوء غايتهم أنها ليست الوقوف على الحق بل التشفي من المسيح بجعلهم إياه ينكر الحق الذي تحققه بالمشاهدة والاختبار.
وَلَمْ تَسْمَعُوا أي لم تصدقوا.
أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ قال هذا على سبيل التهكم فكأنه قال ألعل غايتكم من تكرير السؤال والفحص أن تؤمنوا به لأن فعلكم يستلزم ذلك.
٢٨ «فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى».
فَشَتَمُوهُ وشتمهم ما جاء بعد هذا أي قولهم أنه تلميذ ليسوع المحتال.
أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ قابلوا يسوع بموسى وقابلوا أنفسهم بالأعمى بأنهم تلاميذ موسى وبأنه تلميذ يسوع بناء على غيرتهم في حفظ السبت الذي أمر موسى بتقديسه وبأن يسوع دنس السبت بشفائه فيه. وعلى ذلك رأوا استحالة أن يكون كلاهما (يسوع وموسى) نبيّين وأنه لا بد من أن يكون أحدهما كاذباً.
٢٩ «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ».
ص ٨: ١٤
مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ وذلك يثبت أنه نبّي أخذ سلطانه ورسوليته من الله سبحانه وتعالى. وهذا من الأمور المعلومة المحققة فلا بد من أننا نحن تلاميذ موسى نُرضي الله الذي أرسله.
وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي لا برهان على أن الله أرسله وكل أمره مجهول ولا ندري أمجنون هو أرسله إبليس أم عاقل تكلم من نفسه. وعذرهم على رفضهم المسيح هنا عكس العذر الذي أوردوه سابقاً وهو قولهم «هٰذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ص ٧: ٢٧). وقولهم «من أين هو» مبني على أن أصل الإنسان دليل على طبيعته كسؤال اليهود عن معمودية يوحنا (متّى ٢١: ٢٥) وكسؤال بيلاطس ليسوع «من أين أنت» (ص ١٩: ٩).
٣٠ «أَجَابَ ٱلرَّجُلُ: إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ».
ص ٣: ١٠
أظهر الأعمى في هذا الجواب حكمة وشجاعة عظيمة.
إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً الأمر العجيب هنا أن رؤساء الشعب الروحيين الذين وظيفتهم أن يفحصوا في دعاوي المدّعين النبوءة ويحكموا بصدق الواحد وبكذب الآخر يعترفون أنهم لم يعرفوا يسوع من أين هو ومن أين سلطانه وهو أتى بمعجزة لا يستطيع أن يفعلها أحدٌ من البشر.
٣١، ٣٢ «٣١ وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهٰذَا يَسْمَعُ. ٣٢ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى».
أيوب ٢٧: ٩ و٣٥: ١٢ ومزمور ١٨: ٤١ و٣٤: ١٥ و١٦ و ٦٦: ١٨ وأمثال ١: ٢٨ و١٥: ٢٩ و٢٨: ٩ وإشيعاء ١: ١٥ وإرميا ١١: ١١ و١٤: ١٢ وحزقيال ٨: ١٨ وميخا ٣: ٤ وزكريا ٧: ١٣
نَعْلَمُ أي نحن البشر. هذا العلم محصل غريزة الإنسان واختباره.
لاَ يَسْمَعُ أي لا يجيب السؤال ولا سيما سؤال القوة على صنع المعجزات.
لِلْخُطَاةِ أي المصرّين على خطاياهم فهو كقول داود «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور ٦٦: ١٨ انظر أيضاً مزمور ٥٠: ١٦ و١٠٩: ٧ وأمثال ١: ٢٨ و١٥: ٨ و٢٨: ٩ وإشعياء ١: ١٥ و٥٩: ١ و٢ وإرميا ١١: ١١ و١٤: ١٢ وحزقيال ٨: ١٨ وميخا ٣: ٤).
وفي استدلال الأعمى هنا ثلاث قضايا:
- الأولى: المبدأ العام وهو أن الله لا يسمع للخطاة أي الأنبياء الكذبة المحتالين.
- الثانية: أن الله قد سمع ليسوع لأن الذي فعله لا يمكن أن يُفعل إلا بقوة إلهية.
- الثالثة: نتيجة تينك القضيتين اللتين هما مقدمتا قياس حمليّ وهي أن يسوع ليس بخاطئ بل هو من الله.
لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى ميز فتح عيني مولود أعمى عن غيره من الآيات والعجائب التي يمكن أن تكون بوسائط بشرية ففضل بذلك يسوع على موسى وسائر الأنبياء لأنه ليس في كل أنباء الكتاب المقدس خبر أن أحداً منهم فتح عيني مولود أعمى.
٣٣ «لَوْ لَمْ يَكُنْ هٰذَا مِنَ ٱللّٰهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً».
ع ١٦
مِنَ ٱللّٰهِ أي من أتقياء الله ورسله.
لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً من مثل ما صنعه من المعجزات. ومثل ذلك سمع الله لإيليا النبي في جبل الكرمل وعدم سمعه لكهنة البعل. فهذا الأعمى الجاهل أظهر بقوله حكمة في الدين أكثر من الحكمة التي أظهرها فيه رؤساء الدين الحكماء وهذا وفق قول المسيح «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى ١١: ٢٥).
٣٤ «قَالُوا لَهُ: فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجا».
ع ٢ وع ٢٢
عجز الرؤساء أن يحملوا الأعمى على الكذب بالتهديد وبالتملق وخجلوا بعجزهم عن دفع حجته وشهادته الواضحة للحق وغضبوا من تجاسره على تعليمهم وتعجبه من جهلهم فانتقموا منه قولاً وفعلاً وشفوا به غيظهم من المسيح أيضاً.
فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أشاروا بذلك إلى عماه منذ خليقته واتخذوا ذلك دليلاً على خطيئته المخصوصة وحلول غضب الله عليه كأنه دخل العالم ولعنة الله على وجهه وهذا نقض لإنكارهم أنه وُلد أعمى ع ١٨.
وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا حسبوا ما قاله الأعمى في ع ٣١ و٣٢ تعليماً لهم فأنِفوا وغضبوا شديداً لأنه أميّ جاهل ادّعى أنه لا يعلم ما لا يعلمه معلمو الشريعة. وأن المولود وعليه علامات الخطيئة يأخذ يعلم الفريسيين الذين هم أقدس البشر (على زعمهم).
فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً أي طردوه من المجلس وقطعوه من الشعب كما سبق في شرح ع ٢٢ وكان ذلك عند اليهود مخيفاً كأنه الموت. وقدر أرباب المجلس على هذا الحكم بأكثر الأصوات وإن اعترض البعض او سكتوا. ولم يزل أعداء الحق الروحي منذ أيام الفريسيين يقاومون أهله بالشتم والحرم.
٣٥ «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟».
متّى ١٤: ٣٣ و١٦: ١٦ ومرقس ١: ١ وص ١٠: ٣٦ و١يوحنا ٥: ١٣
الأرجح أنه مضت مدة ما بين هذه الآية والآية التي قبلها لأن شيوع خبره كذلك يقتضي مرور شيء من الزمان.
فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ سمعه ذلك باعتبار كونه إنساناً لا ينفي أنه علم ما كان بلاهوته وعرف أيضاً علة إخراجه وهي ثبوته في الاعتراف بالحق من جهة شفائه والإقرار بأن يسوع نبي.
فَوَجَدَهُ لم يذكر متى وجده ولا أين وجده لا ريب في أن المسيح طلبه لكي يعزي قلبه ويقوي إيمانه ويعلمه ويشفع شفاءه الجسدي بشفائه الروحي. وفي هذا وفق ما اختبره داود أوضحه بقوله «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وما وعد المسيح بقوله «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (لوقا ٦: ٢٢).
أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ أي بالمسيح الموعود به. عبّر اليهود عن المسيح «بابن الله» بناء على ما قيل في مزمور ٢: ٧ و٨٩: ٢٧ لكنهم فضلوا أن يسموه بابن داود متوقعين أن يجلس في كرسي داود كملك أرضي (متّى ٢٢: ٤٢). لكن يسوع أراد أن يُظهر أن ملكوته روحي لا أرضي فسمى نفسه «بابن الله».
٣٦ «أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟».
لم يقل ذلك لشكه بل لرغبته في المعرفة إذ لا يقر بأكثر مما يعرف. فكأنه قال نعم أني أؤمن بالمسيح المنتظر لكن لا أعرف أحداً له حق أن يُسمى بهذا الاسم. فإنه لم يرَ المسيح قبل هذا إنما سمع صوته قبل أن أبصر وعرفه أن هو الذي أبرأه إما بصوته أو بوصف الناس إيّاه له. واعتقد أنه نبي فهو قادر أن يصف له المسيح ويعلمه من هو. ويشبه سؤاله هذا سؤال شاول الطرسوسي وهو قوله «من أنت يا سيد» (أعمال ٩: ٥).
٣٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ».
ص ٤: ٢٦
صرّح المسيح بجوابه كما صرح بجوابه للمرأة السامرية (ص ٤: ٢٦) وذلك لأنه كان مستعداً لقبول كلامه.
قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ أي تشاهد المسيح الآن بعينيك وتسمع صوته بأذنيك.
٣٨ «فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ».
أُومِنُ يَا سَيِّدُ لا بد من أنه كان مستعداً لهذا الإيمان بفعل الروح القدس في قلبه وبتأمله في المعجزة وفي قوة الذي صنعها.
وَسَجَدَ لَهُ أي عبده باعبتار أنه ابن الله كما فعل توما بعد قيامة يسوع إذ قال «ربي وإلهي». ولم يظهر أحد مثل إيمان الأعمى سوى قليلين قبل قيامة المسيح. وبلغ ذلك الإيمان في درجات (١) أنه ذكره بقوله «إنسان يقال له يسوع» ع ١١. و(٢) أنه نبي ع ١٧. و(٣) أنه من الله ع ٣٣. و(٤) أنه المسيح كما هنا.
نرى مما قيل في هذه الآية أن يسوع باعتبار كونه «نور العالم» أوضح كونه كذلك بما فعله لهذا الأعمى وهو أنه مكنه من رؤية ضوء الشمس الحقيقي بعيني جسده ورؤية شمس البر بعيني نفسه.
ولا نسمع شيئاً بعد من أمر هذا الإنسان والعجب من أن الفريسيين لم يطلبوا قتل يسوع لإبرائه ذلك الأعمى يوم السبت كما فعلوا عندما أبرأ المقعد عند بركة بيت حسدا في ذلك اليوم (ص ٥: ١٦).
٣٩ «فَقَالَ يَسُوعُ: لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ».
ص ٣: ١٧ و٥: ٢٢ و٢٧ و١٢: ٤٨ متّى ١٣: ١٣
لا مناقضة بين ما قيل هنا وما قيل في ص ٣: ١٧ و١٢: ٤٧ حيث قال يسوع أنه لم يأت للدينونة لأن الدينونة المذكورة هنا غير الدينونة المذكورة هناك. وعاقبة التي هنا عمى قلوبهم لأنهم أبوا أن ينظروا الحق. وعاقبة التي هنالك هلاك الأشرار في جهنم فالمسيح أتى أولاً للخلاص لا للدينونة لكن أعمال الناس أوجبت الدينونة عليهم طبعاً وهو يأتي ثانية للدينونة لا للخلاص. فقوله هنا متعلق بقوله «أنا هو نور العالم» وهو بيان نتيجة إيمان البعض به ورفض البعض إياه. فالمتسول الأعمى آمن به فانتقل من الظلمة الجسدية أولاً إلى النور الجسدي ثم من الظلمة الروحية إلى النور الروحي.
لِدَيْنُونَةٍ أي لتمييز أناس عن أناس وإعلان ما في قلوب الفريقين. وكان إتيانه امتحاناً لباطن كل إنسان. وهذا كقول سمعان الشيخ لمريم «إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ الخ» (لوقا ٢: ٤٣ و٣٥). وقول الرسول أن المسيح «صار رأس الزاوية» للبعض «وحجر صدمة وصخرة عثرة» لآخرين (١بطرس ٢: ٦ – ٨) وكذا قول بولس في (٢كورنثوس ٢: ١٦). وحين أتى إلى العالم اجتمع إليه كل أبناء النور ذوي الأفكار الروحية وأما الجسدانيون أبناء هذا الدهر فانضموا إلى أعدائه من جنود ملكوت الظلمة.
حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبهم الفريسيون عمياناً وهم الذين سماهم يسوع «بالأطفال» (متّى ١١: ٢٥ ولوقا ١٠: ٢١) وهم المتواضعون البسطاء الجهلاء الذين يطلبون المعرفة كالمرأة السامرية والأعمى الذي فتح عينيه. ومعنى قوله «يبصر الخ» ينالون البصيرة الروحية النيرة ويرون طريق الحق والواجبات والخلاص (ص ١٠: ٩).
وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبون أنفسهم من أهل النظر وهم الفريسيون المتكبرون المبررون أنفسهم الذين يظنون أن لهم كمال النور الروحي وأنهم لا يحتاجون إلى النور الذي من فوق يدعون أن لهم مفتاح المعرفة (لوقا ١١: ٥٢) وأنهم هم الحكماء والفهماء المذكورون آنفاً (متّى ١١: ٢٥ انظر أيضاً رومية ٢: ١٧ و ١كورنثوس ١: ٢١ و٣: ١٨) وهذا يصدق على أكثر الأمة اليهودية. ومعنى قوله «يعمي» يتبين لهم عماهم ويؤخذ منهم من النور ما يظهر أنه لهم ويًُتركون إلى الظلمة التي اختاروها وذلك قصاص كاف لهم لأنهم يأكلون من ثمر أعمالهم إذ أحبوا الظلمة أكثر من النور. وما قاله يسوع هنا يصدق على كل فرد وأمة. والقسم الأول من هذه الآية يصدق بالأكثر على الأمم والقسم الثاني يصدق بالأكثر على اليهود.
٤٠ «فَسَمِعَ هٰذَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟».
رومية ٢: ١٩
أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ هذا الاستفهام ضرب من التهكم كأنهم قالوا نحن علماء الشريعة فكيف تخاطبنا بمثل ذلك أتحسبنا عمياً بالروح. وهو إنكار أيضاً فكأنهم قالوا لسنا بالعميان.
٤١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ».
ص ١٥: ٢٢ و٢٤
لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ العميان هنا إما عمي البصيرة وإما الشعور بالعمى الروحي. فإن كان قصد المسيح الأول كان المعنى أنكم لو كنتم عمي البصيرة حقيقة لا نور عقل لكم ولا نور الضمير أو نور الوحي لم تُحسب عليكم مسؤولية ولا خطيئة لأن المسؤولية على قدر الإدراك والمعرفة فالذي لا واسطة له لمعرفة الحق ولا قدرة على التمييز بين الحلال والحرام لا يدينه الله على عمايته. فكان خيراً لكم لو كنتم كما ذُكر إذ لا يكون عليكم حساب. وإن كان قصده الثاني فالمعنى لو شعرتم بجهلكم واعترفتم به لكنتم بلا خطيئة بالنسبة إلى خطيئتكم الآن لأنه يُرجى حينئذ أنكم تبصرون في المستقبل إذ أنا أشفيكم ولكن ما دمتم تظنون أنكم تبصرون أكثر من غيركم وتغمضون عيونكم عن الحق والإعلان السماوي ولا تسألون شفائي فلا رجاء فيكم.
وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ أي أنتم أنفسكم تقرون أن لكم وسائط معرفة الحق فإذاً لا حجة لكم إن ادعيتم أنكم رفضتموني لجلهكم أني المسيح إذ لكم النبؤات المتعلقة بي ومعجزاتي وكلماتي ونور العقل ونور الضمير ومع كل هذه الوسائط والبراهين أمام عيونكم حولتم نظركم عن الحق أني أنا المسيح.
فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ لأنه ثبت أن عمايتكم اختيارية وأنكم جنيتموها على أنفسكم فلم تُشف. وذلك لأنكم لم تؤمنوا بالمسيح وتطلبوا الشفاء منه وهو الطبيب الوحيد لهذا الداء. وإنما كانت خطيئة هؤلاء اليهود باقية لأنها هي التجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة له لأنه إنكار الحق الواضح. ومعنى بقائها أنه لا مغفرة لها ولا فداء ولا شفاعة.
لا تزال الحال حال الأمة اليهودية إلى هذا اليوم إذ لم تزل الخطيئة العظيمة باقية عليهم وهي رفضهم يسوع الناصري مسيحهم.
السابق |
التالي |