إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 05 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الخامس

شفاء المريض عند بركة بيت حسدا وما نتج عن ذلك (أبريل – نيسان سنة ٢٨م)

١ «وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِليَهُودِ، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».

لاويين ٢٣: ٢ وتثنية ١٦: ١ ويوحنا ٢: ١٣

وَبَعْدَ هَذَا أي بعد مرور المدة بين ما جاء في آخر أصحاح ٤ وأول أصحاح ٥، وهي غالباً نحو أربعة أشهر.

كَانَ عِيدٌ الأرجح أنه عيد الفصح، فإن كان كذلك كانت مدة تبشير المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة.

فَصَعِدَ يَسُوعُ بقيت شريعة موسى سائدة إلى أن مات المسيح، وتمم يسوع أثناء حياته على الأرض كل مطالب تلك الشريعة.

٢ «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ».

نحميا ٣: ١، ٣٢ و١٢: ٣٩

بَابِ الضَّأْنِ كان هذا الباب قرب الهيكل في جانب المدينة الشرقي، والأرجح أنه سُمِّي كذلك لأنهم كانوا يأتون منه بغنم الذبيحة إلى الهيكل.

بِرْكَةٌ.. بَيْتُ حِسْدَا أي بيت الرحمة، ولعلها سُمّيت بذلك لما نسبه الناس إليها من قوة الشفاء. ولا نستطيع اليوم تعيين موقعها. وظن بعضهم أنه ما يُعرف الآن بنبع العذراء الذي يجري ماؤه في قناة تحت الأرض إلى بركة سلوام، وتُسمى أيضاً ببركة الملك (نحميا ٢: ١٤).

لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ الأرجح أنها بُنيت لنفع المرضى الذين كانوا يزدحمون هناك طلباً للشفاء، وكانت مفتوحة من جهة ومسدودة من الجهة الأخرى.

٣ «فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ».

جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى من أصحاب الأمراض المزمنة الذين يئسوا من الشفاء بواسطة الأطباء والأدوية، فلجأوا إلى تلك الأروقة.

عُسْمٍ أي مصابين بتيبُّس مفاصل اليدين أو الرجلين.

يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ هذا يدل على أن ذلك الماء لم يكن نافعاً للشفاء ما لم يتحرك. وأجمع المفسرون على أن ماء تلك البركة كان يجري إليها من عينٍ يجري ماؤها جرياً معتدلاً، وأحياناً يعظم ويجري بشدة. ومعروفٌ أن مياه بعض العيون معدنية تنفع في كثير من الأمراض نفعاً عظيماً. ولعل ماء بركة بيت حسدا كان كذلك يومئذ، لكن حال مائها لم يبقَ على ما كان عليه. ولعل خواصه المعدنية النافعة للمرضى كانت تكثُر عند فيضانه بقوة.

٤ «لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي البِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ المَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ المَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ».

لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ لم يقل إن هذا الملاك كان يُشاهد بالبصر، فلا نحكم أن البشير يخبرنا أن ذلك معجزة، لأنه لو كان كذلك لذكره يوسيفوس وغيره من مؤرخي اليهود. إنما ذكر ذلك بياناً لاعتقاد العامة يومئذ وتعليلهم فيضان الماء فيضاناً دورياً وخواصه المعدنية في الشفاء. ويجب أن لا نستغرب كثيراً اعتقاد العامة بذلك، لأن الناس في كل زمان اعتادوا أن ينسبوا ما يجهلون علته من النافعات إلى خدمة الملائكة. على أن الكتاب المقدس نفسه يعلمنا أن الله يستخدم الملائكة لتوصيل بركاته إلى الناس، فمن استخدامهم العام ما جاء في عدد ٢٠: ١٦ و٢ملوك ٦: ١٧ ومزمور ٣٤: ٧ و٩١: ١١ و١٢ ودانيال ٣: ٣٨ و٦: ٢٢ ولوقا ١: ٢٢ وعبرانيين ١: ١٢. ومن استخدامهم الخاص ما ورد في تكوين ١٩: ١٥ ومتّى ٤: ١١ و١٨: ١٠ ولوقا ١٦: ٢٢ وأعمال ٧: ٥٣ و١٢: ١١.

فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً هذا ما اعتقده العامة، فلا يلزم منه أنه لم يكن يُشفى في السنة إلا مريض واحد. ولعل المقصود أنه لم ينزل في البركة عند تحريك الماء إلا قليلون بالنسبة إلى الجماعة الكبيرة التي كانت تنتظره. ولا شك أن المرضى انتفعوا بذلك الماء نفسياً، فوق منفعة خواصه الطبيعية، لقوة اعتقادهم بمنفعته فور تحريكه.

٥ «وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً».

مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً هذا مدة مرض ذلك الإنسان ولم يُذكر عمره، ولا كم مضى عليه من سني مرضه وهو يتوقع الشفاء بجوار البركة. ويدل طول مدة مرضه على اليأس من الشفاء بالوسائط العادية، وعلى عظمة قوة المسيح على الشفاء. ولعل مرضه كان ضعف الأعصاب أو الشلل الخفيف مما صعَّب حركته (ع ٧). كما لم يكن له صاحب يعتني به (ع ٧). ويدل الحديث على أن مصابه كان نتيجة بعض الخطايا (ع ١٤).

٦ «هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».

وَعَلِمَ عرف يسوع باعتبار لاهوته كل تاريخ ذلك الإنسان في الماضي، كما عرف من أمر المرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٧، ١٨). ورأى علامات الألم على وجهه فأشفق عليه. ولا دليل على أنه شرع في شفاء غيره من جمهور المرضى هناك (ع ٣) فكان كملك مطلق في اختيار من يريد شفاءه.

فَقَالَ لَهُ لم يحمل المسيح على الإقبال إلى ذلك طلب المصاب الرحمة، بل مجرد شفقة المسيح عليه. وللذين أزمنت أمراضهم الآن تعزية عظيمة بأن المسيح يعرف كل مريض في الأرض ومدة مرضه وكل ما يتعلق بذلك، وإن قلبه اليوم رقيق كما كان حين مشى تحت أروقة بركة بيت حسدا.

أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟ غاية المسيح في هذا السؤال إظهار حزنه على مصابه، وإنشاء الرجاء فيه، وتوجيه نظره إليه، وتهيئته بذلك إلى الشفاء. وكذلك فعل بطرس ويوحنا بالمقعد عند باب الهيكل الجميل بقولهما «انظر إلينا» (أعمال ٣: ٤). وكان المسيح يريد أن يجعل شفاء أجساد الناس رمزاً إلى شفاء نفوسهم، فطلب اقتران إرادة الإنسان بإرادة الله للشفاء، ليبين أن الله لا يريد أن يشفي نفس الخاطئ ما لم يُرد الخاطئ نفسه الشفاء. ولعل المسيح أراد بقوله «أتريد أن تبرأ؟» شفاءين: شفاءً جسدياً وشفاءً روحياً، ولم يفهم المريض سوى الأول منهما.

٧ «أَجَابَهُ المَرِيضُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ المَاءُ. بَل بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».

لا شك أن المريض استغرب هذا السؤال، لأنه من البديهي أن كل إنسان يفضل الصحة على المرض. ووجود ذلك المريض عند تلك البركة دليل واضح على رغبته في الشفاء.

لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مضمون جوابه نعم أريد الشفاء، ولكن لا وسيلة لنواله. والظاهر أنه لم يكن يتوقع الشفاء إلا بأن يُلقى في البركة. ولعله رجا أن هذا الغريب الذي سأله يشفق عليه ويساعده على النزول إليها متى تحرك ماؤها. ولا شك في أن مصاب هذا الإنسان كان عظيماً جداً، لأنه علاوة على مضي زمان طويل عليه وهو يقاسي آلام المرض لم يكن له صاحب يحسن إليه ويلقيه في البركة. ومن العجب أنه مع كثرة الألوف في أورشليم لم يلتفت أحد ليساعد ذلك المسكين ليصل إلى البركة. وصرخة «ليس لي إنسان» هي صرخة ملايين المصابين اليوم في الأجساد والأرواح، وحولهم من يقدرون أن يساعدوهم. وعرف يسوع كل أحوال ذلك المريض، فاقترب إليه ليشفيه، فهو صاحب من لا صاحب له ومعين من ليس له معين. وعلة اقترابه من ذلك الإنسان هي علة من السماء لخلاص نفوس الهالكين، كما قال النبي «فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ» (إشعياء ٥٩: ١٦).

يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ تكلم حسب معتقد العامة وهو أن قوة الماء على الشفاء محدودة من أول تحرك الماء إلى أول النازلين فيه.

٨ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».

متّى ٩: ٦ ومرقس ٢: ١١ ولوقا ٥: ٢٤

قَالَ لَهُ يَسُوعُ خرجت قوة الشفاء من المسيح مع خروج الكلام من شفتيه، كما حدث عندما قال ليابس اليد «مُد يدك» (متّى ٣: ٥).

قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ أمره المسيح بثلاثة أعمال لا يستطيع أن يقوم بأيٍّ منها، وذلك امتحاناً لإيمانه وطاعته اللذين بدونهما لا يُظهر المسيح قوته. فمن شاء شفاء نفسه من مرض الخطية يجب أن يُظهر مثل ذلك الإيمان وتلك الطاعة، فينال البرء من يد المسيح التي أبرأت ذلك الرجل. وأمره المسيح أن يحمل سريره ويسير به في أزقة أورشليم بياناً لصحة شفائه، وشهادةً ليسوع بأنه المسيح. وذلك برهان لا يمكن إنكاره، فقد كان المريض مقعداً مدة ٣٨ سنة، فشفاه يسوع بكلمة، فحمل سريره ومشى. وعلم يسوع أن حمل السرير يوم السبت سيكون سبب تذمر اليهود وشكواهم، فأمره به لتكون هناك فرصة توصيل التعليم الصحيح عن حفظ يوم السبت بمقتضى وصية الله خلافاً لتقليدهم.

٩ «فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سَبْتٌ».

يوحنا ٩: ١٤

فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى برئ هذا الإنسان في الحال برءاً تاماً بكلمة يسوع. وأظهر يسوع بذلك قوته الفائقة. وأظهر الرجل إيمانه وطاعته بما فعله. ولعل سريره لم يكن سوى فراش صغير لو تركه لكان فقده.

سَبْتٌ اختار المسيح هذا الإنسان الموضوع الوحيد لرحمته من بين ألوف المرضى في أورشليم، واختار السبت دون غيره من أيام الأسبوع وقتاً لإظهار تلك الرحمة، ليبيّن فيه حقائق مهمة وهي إبطال تقاليد الفريسيين، وبيان أن أفعال الرحمة جائزة في السبت، وإثبات أن ابن الإنسان هو رب السبت.

١٠ «فَقَالَ اليَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: إِنَّهُ سَبْتٌ! لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ».

خروج ٢٠: ١٠ ونحميا ١٣: ١٩ وإرميا ٧: ٢١ ومتّى ١٢: ٢ ومرقس ٢: ٢٤ و٣: ٤ ولوقا ٦: ٢ و١٣: ١٤

لا يَحِلُّ لَكَ قالوا ذلك لزعمهم أن ما فعله يخالف شريعة الله وتقاليد الشيوخ. نعم إن الله نهى عن الأعمال المعتادة في السبت (خروج ٢٠: ٨ – ١٠) ولم يسمح لهم أن يحملوا أحمالاً في ذلك اليوم (عدد ٣١: ١٣ – ١٧ ونحميا ١٣: ١٥ وإرميا ١٧: ٢١). وزاد اليهود على أمر الله كثيراً من أوامرهم (انظر شرح متّى ١٢: ٢). واغتاظ اليهود من أمرين: شفاء يسوع المقعد يوم السبت، وحمل المقعد سريره في ذلك اليوم. فعنفوا المقعَد أولاً على حمله السرير، وطلبوا ثانياً قتل المسيح على إبرائه إياه (ع ١٥، ١٦ ويوحنا ٧: ١٩، ٢٣).

١١ «أَجَابَهُمْ: إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».

مضمون جوابه: إني مجبَر على طاعة أمر من فعل مثل هذه المعجزة بقوته. ومن البديهي أن الله لا يمكِّن إنساناً يأمر بالحرام من صنع عجيبة كهذه.

١٢ «فَسَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ؟».

أظهر اليهود خبث قلوبهم، فلم يسألوا الذي شُفي عن الذي شفاه ليكرموه، بل سألوه عمن قال له احمل سريرك، لينتقموا منه. وغضّوا النظر عن فعل الخير وإظهار الرحمة وإقامة البرهان على قوة إلهية، ولم يلتفتوا إلا إلى أنه خالف تقليد اليهود.

١٣ «أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ، لأنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ، إِذْ كَانَ فِي المَوْضِعِ جَمْعٌ».

أتى المسيح إليه وهو غريب عنه وفعل له الرحمة وانصرف عنه واختلط بالجمهور. والأرجح أن تلاميذه لم يكونوا معه وإلا لما جُهل أمره.

١٤ «بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فلا تُخْطِئْ أَيْضاً، لِئلا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».

متّى ١٢: ٤٥ ويوحنا ٨: ١١

بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ كان يجب على الذي شُفي أن يسأل عن اسم شافيه ويطلبه ليشكره على معروفه، بدلاً من أن المحسن يسأله عنه ويجده.

فِي الهَيْكَلِ الأرجح أنه ذهب إلى الهيكل ليشكر الله على ما ناله من الرحمة، وليقدم تقدمة الشكر. فأحسن بذلك لأن من أول واجبات الذين ينجون من مرض أو خطر أن يشكروا الله في بيته على النجاة (مزمور ١١٦: ١٦ – ١٩).

هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ ذكَّره المسيح بشفائه من مرض طال عليه، ليعلمه أن خطيته كانت على ذلك المرض، ويحمله على طلب شفاء نفسه من داء الإثم، ومعرفة أن لا نفع من شفاء الجسد الوقتي ما دامت علة المرض فيه.

فلا تُخْطِئْ أَيْضاً أبان له المسيح بهذا ثلاثة أمور: (١) إن مرضه الماضي نتيجة خطية مخصوصة لم يذكرها. كما قيل في ١كورنثوس ١١: ٣٠. وكان من علامات لاهوت المسيح أنه عرف سيرة هذا الإنسان الماضية وخطيته السرية التي كانت علة مرضه. وبهذا بيّن العلاقة بين الشر الجسدي والشر الأخلاقي، واجتهد أن يجعل شفاء الجسد من المرض وسيلة إلى شفاء النفس من الخطية كما اعتاد في معجزاته. (٢) إن شرط دوام الصحة لذلك المصاب الامتناع عن تكرير الخطية التي كانت علة مرضه. (٣) إن الرجوع إلى تلك الخطية بعد الشفاء والإنذار تكون سبب موته وهلاكه، لأن الموت والهلاك أشرّ من مرض ٣٨ سنة.

ولا يلزم مما قيل هنا أن كل مرض ينتج عن خطية، لكن كثيراً ما يرسل الله أمراض الجسد لشفاء النفس. فيجب أن يستفيد الإنسان من المرض الذي يعتريه.

١٥ «فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ اليَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ».

سبق أن قال لليهود إنه لم يعلم من أبرأه. ولما علم رجع في الحال وأخبرهم. والأرجح أنه عرف اسم يسوع من الذين كانوا على القرب منه عند الحديث. ولا نظن أنه أراد بهذا أن يؤذي المسيح الذي أحسن إليه، لكنه أراد أن يكرمه. ويُحتمل أنه أنبأ اليهود بهذا خوفاً من أن يقتلوه لحمله السرير إن لم يبرهن لهم أنه فعل ذلك بأمر المسيح.

١٦ «وَلِهَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ».

وَلِهَذَا أي شفاء المقعد وأمره بحمل سريره.

يَطْرُدُونَ يَسُوعَ أي يحرمونه ويسيئون إلى سمعته لأنه وهو نبي يخالف الشريعة. فبدلاً من أن يحترموه لتلك المعجزة امتلأوا حقداً ورغبة في إيقاع الضرر به، لأنه لم يحترم سلطانهم ولا تقاليد الشيوخ.

يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بدعوى أن ذلك أمر الشريعة (خروج ٣١: ١٥). مع أن العلة الحقيقية كانت حسدهم، لأنهم سلَّموا بجواز فعل الرحمة للبهيمة في ذلك اليوم (لوقا ١٤: ٥). فبالأولى يجوز ذلك للإنسان كما فعل المسيح.

١٧ «فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ».

يوحنا ٩: ٤ و١٤: ١٠

برر يسوع نفسه في ما صنع بقوله «إن له سلطاناً من الآب على السبت» وأنه شفى المقعد في ذلك اليوم اقتداءً بالله الذي يعمل في السبت.

أَبِي صرح يسوع في هذا بأنه «ابن الله» بمعنى لا يصدُق على غيره. وفهم اليهود من ذلك أنه يدَّعي المساواة بالآب (ع ١٨). ولم ينكر هو ما فهموه، بل صدَّق عليه.

هذه مناظرة ثانية بين المسيح واليهود. كانت الأولى عندما طهَّر الهيكل من التجارة وأعلن أن الله أبوه بقوله: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يوحنا ٢: ١٦). والثانية عندما نقَّى شريعة السبت من تقاليد الشيوخ، وفيها صرح أيضاُ بأن الله أبوه.

شفي المسيح في السبت مرضى كثيرين وبرّر نفسه بأساليب مختلفة، منها الإشارة إلى ما يفعلونه في يوم السبت للبهائم، ومنها ما فعله داود يوم أكل خبز التقدمة، ومنها ما يفعله الكهنة في السبوت إذ يقدمون الذبائح ويختنون الأولاد. وذكر هنا أن الآب يعمل في السبت!

يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ أي لم يزل يعمل في السبت بعض الأعمال منذ الخليقة إلى الآن. نعم إن الله استراح في اليوم السابع من عمل الخليقة (تكوين ٢: ٢) لكنه داوم على عمل العناية، الذي به يدبر حاجات الخلق. ومن أعماله تسيير الكواكب في أفلاكها، ونزول الأمطار، وجريان الأنهار، وشروق الشمس، وهبوب الرياح، ونمو النبات والحيوان. وفي هذه كلها لا نرى فرقاً بين عمله في السبت وغيره من الأيام. ولو لم يفعل ذلك نهاراً وليلاً وصيفاً وشتاء وسبوتاً وغيرها من الأيام لعمَّ الهلاك الخليقة كلها. وأعمال الله الروحية كتجديد قلوب الناس وتقديسها في أيام الراحة أكثر منها في غيرها.

وَأَنَا أَعْمَلُ أي أعمال الرحمة كما يعمل الله. فشفاء المقعد يوم السبت كحفظ الله البشر أحياء في ذلك اليوم. فإن أصاب اليهود بتخطئة المسيح لأنه تعدى شريعة الله بذلك الشفاء، فإنهم يخطِّئون الآب أيضاً، لأن المسيح فعل ما يفعله الآب. ولم يقتصر المسيح على أن يبيّن حقه في الإبراء بناءً على مشابهته فيه الآب، بل زاد على ذلك بيان مساواته له، وأنه رب السبت كأبيه.

وقد صرح المسيح بمساواته للآب في مواضع كثيرة من هذا الأصحاح، مثل عمله الأعمال التي يعملها الآب (ع ١٩). وأنه عالم بكل ما يقضي به الآب (ع ٢٠). وأنه يحيي الأموات أجساداً وأرواحاً كما فعل الآب (ع ٢١، ٢٨). وأنه ديان العالمين (ع ٢٢). وأنه يستحق الإكرام الذي يستحقه الآب (ع ٢٣). وأنه واضع الشريعة وواهب الحياة الأبدية للمؤمنين (ع ٢٤). وأن دعواه ثبتت بشهادة الله والبشر (ع ٣٢ – ٣٧) وثبتت أيضاً بنبوات الكتاب المقدس (ع ٣٩).

١٨ «فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَل قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ».

يوحنا ٧: ١٩ و١٠: ٣٠ و٣٣ وفيلبي ٢: ٦

وجد اليهود هنا علة ثانية للشكوى على المسيح، وهي أعظم من الأولى لأنهم حسبوها من أفظع التجاديف. فإنهم كانوا يعتقدون أن يسوع إنسان فقط، وهو يقول إنه «ابن الله» بمعنى أنه مساوٍ للآب. والحق أنه لو لم يكن إلهاً لكان مجدفاً، لكنه برهن بأعماله صدق قوله.

يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بناء على ما قيل في لاويين ٢٤: ١٦.

١٩ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ».

ع ٣٠ ويوحنا ٨: ٢٨ و٩: ٤ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠

حمله إنكار اليهود أنه ابن الله على توضيح علاقته بالآب، وهذا يشغل بقية الأصحاح.

لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً لم يقل «أنا لا أقدر» بل قال «لا يقدر الابن» لبيان العلاقة التي سلم بها اليهود وهي أن ابن الله يكون المسيح. ثم إيضاح أنها هي علاقته هو بالآب. وعدم القدرة المنسوب إلى الابن هنا نتيجة عدم الإرادة. وذلك كقولنا «لا يقدر الله أن يكذب» ومثله قوله «لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئاً حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ» (تكوين ١٩: ٢٢). ولا إشارة في هذه الآية إلى أن الابن دون الآب في الجوهر والقدرة والحكمة، بل المقصود استحالة الانفصال بين الأقنومين في الرأي أو في العمل، واستحالة استقلال الابن عن الآب إلى الاتحاد الكلي بينهما والمحبة الكاملة.

إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ في أعمال الخليقة والعناية وسياسة الكون. وهذا يوافق لقب المسيح «كلمة الله». فكما أن كلمة الإنسان تُعلن فكره يعلن المسيح الكلمة أفكار الآب ومشاعره ومقاصده. ولا يقصد المسيح بهذا القول مجرد طاعة الابن للآب في ما فعله لفداء الناس كسفير يعلن أفكار ملكه باعتبار كونه إلهاً وإنساناً معاً، بل باعتباره الإله الأزلي الذي هو والآب واحد (يوحنا ١٠: ٣٠). ويظهر أفكار الله إظهاراً كاملاً لاتحاده الأزلي به. نعم إن الله لم يظهر ذاته لخلائقه إلا بواسطة ابنه، وكل عمل الابن هو إعلان الآب (يوحنا ١: ١٨). ومعنى «ينظر» هنا يعلم (يوحنا ٥: ١٩). والناس ينظرون نتائج أعمال الله فقط، وأما الابن فينظر مقاصد الآب التي هي علة تلك الأعمال.

لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ أي كل أعمال الله المتنوعة يعملها الابن مثله بقدرته وكماله. هذا يوضح مساواة الابن للآب في القدرة والحكمة والمعرفة. ومن له سلطان كسلطان الآب وذراع كذراعه وصوت كصوته، لا بد أن يكون الله (أيوب ٤٠: ٩ وأعمال ١٠: ٣٦ وكولوسي ١: ١٦، ١٧). فبالنظر إلى كون المسيح فادياً هو دون الآب «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً» ولكنه مساوٍ للآب في الجوهر «لأن مهما عمل ذاك يعمله الابن كذلك». فمستحيلٌ أن ينقض المسيح شريعة الله بأعماله أو تجديفه على اسمه، كما اتهمه اليهود.

٢٠ «لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ».

متّى ٣: ١٧ ويوحنا ٣: ٣٥ و٢بطرس ١: ١٧

هذه الآية تبين مساواة الابن للآب لأن الابن يعرف كل أسرار الآب ومقاصده.

لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ هذا هو علة تسمية الأقنوم الثاني من اللاهوت «الابن». وذُكر بياناً لإعلان الآب كل شيء له، ويلزم عن محبته له أن لا يخفي عنه شيئاً، بل يثق به كل الثقة، ويبدي له كل أفكاره. وهذا وفق ما قيل في المسيح «الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ» (يوحنا ١: ١٨).

وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ هذا غير ما يعمله الله مع الناس حتى الأنبياء والرسل، فيلزم أن يكون علم الابن غير محدود ليمكنه أن يدرك كل أفكار الله ومقاصده.

وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً «سيريه» أي يُعيِّن له ما يفعله بين الناس كما يدل عليه سائر العبارة.

أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ أي المعجزات التي صنعها كإبراء المقعد وغيره. ومن تلك الأعمال العظمى ما سيذكره من ع ٢١ – ٣٠ من إقامة موتى الروح، وموتى الجسد، ودينونة العالم.

لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ التأثير الأول من مشاهدة المعجزات هو التعجب والرهبة، وهو تأثير اضطراري واستعداد لتأثير ثان أسمى من الأول، وهو التسبيح لله والإيمان بصانع المعجزة وإكرامه (ع ٢٣). نعم إنهم أغمضوا عيونهم عن معجزة بيت حسدا لكي لا تؤثر فيهم، لكنهم لا بد أن يتأثروا من الأعمال العظمى التي ستأتي.

٢١ «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذَلِكَ الابْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ».

لوقا ٧: ١٤ و٨: ٤٥ ويوحنا ١١: ٢٥ و٤٣

ذُكر في هذه الآية أحد الأعمال العظمى التي ذُكرت في الآية السابقة، وهو إحياء الموتى الذي يتضمن منح الحياة الروحية للنفوس والحياة الجسدية للأجساد (ع ٢٥، ٢٨).

كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَات اعتقد كل اليهود أن للآب هذا السلطان وأنه مما يختص باللاهوت (تثنية ٣٣: ٣٩ و١صموئيل ٢: ٦). وقد أقام الله الأجساد فعلاً على يد النبيين إيليا (١ملوك ١٧) وأليشع (٢ملوك ٤: ٣٢ – ٣٥). ونُسب ذلك إلى الآب (رومية ٨: ١١). والكتاب مشحون بإقامة النفوس.

كَذَلِكَ الابْنُ صرح المسيح بأن سلطانه كسلطان الآب، وأثبت صحة دعواه بإقامة ابنة يايرس (لوقا ٨: ٥٥) وابن أرملة نايين (لوقا ٧: ١٤، ١٥) ولعازر (يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤) وهو يمنح الحياة الروحية لموتى الأرواح بواسطة روحه القدوس الذي يرسله إلى قلوبهم.

يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ الإحياء متوقف على مجرد مشيئة الابن، أي أنه لا يحيي إلا من يريد إحياءه، وأن الوسيلة الوحيدة إلى ذلك الإحياء إرادته وأمره.

٢٢ «لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً، بَل قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ».

متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ وع ٢٧ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٧: ٢ وأعمال ١٧: ٣١ و١بطرس ٤: ٥

هذا عمل ثان من تلك الأعمال العظيمة، أي الدينونة وهو مما يختص بالله.

لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً علة ذلك وعد الآب للابن في عهد الفداء وهو أنه يدين العالم إثابة له على تواضعه الاختياري لفداء العالم (فيلبي ٢: ٥ – ١١). وتستلزم القوة على دينونة الناس القدرة على فحص قلوب الجميع، ومعرفة الأسباب الموجبة لأعمالهم. ولا يقدر على ذلك إلا الله، فيكون المسيح هو الله.

قَدْ أَعْطَى (متّى ٢٥: ٣١ – ٤٥ وأعمال ١٧: ٣١).

٢٣ «لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ».

١يوحنا ٢: ٢٣

لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ هذا قصد الآب في إعطاء الابن أن يحيي الناس ويدين العالم فهو يحبه (ع ٢٠ ويوحنا ٣: ٣٥).

كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ أي أن الله أراد أن يكون إكرام ابنه مساوياً لإكرامه، فيعتبر الناس ابنه ويعبدونه ويسجدون له ويطيعونه. وينتج من ذلك أن الابن مساوٍ للآب، وأنه يجب أن نقدم للابن ما نقدمه للآب من المحبة والإكرام والطاعة، فهذا ما يفعله سكان السماء (رؤيا ٥: ١٢ و٧: ١٠).

مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ ظن اليهود أن غيرتهم للآب توجب عليهم أن لا يعتبروا الابن اعتبارهم له، وأن يحسبوا دعوى المسيح أنه ابن الله تجديفاً. فأوضح لهم أن امتناعهم عن اعتبار الابن هو التجديف، لأن من يأبى إكرام المسيح لجهله أو كبريائه أو عناده يأبى إكرام الآب. لأن الآب والابن ليسا إلهين حتى يستلزم إكرام الواحد سلب إكرام الآخر، بل هما أقنومان وإله واحد متحدان. فإنكار ما للواحد يستلزم إنكار ما للآخر.

أعلن الله إرادته أن تكون إحدى طرق إكرامه إكرام ابنه الذي هو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين ١: ٣). فإذاً لا عبادة حقيقية بلا إكرام الابن، فالذي لا يكرم الابن يهين الله الآب.

الَّذِي أَرْسَلَهُ إهانة السفير تُحسب إهانة لملكه، وإهانة الرسول إهانة لمرسله. وقال هنا إنه لم يأت من تلقاء نفسه لكنه سفير الله مرسَل من السماء إلى الناس، فلذلك يستحق الإكرام الذي تقتضيه منزلته. والنتيجة المشار إليها هنا تبلغ الكمال عند إتمام عمل الفداء، حين يُظهر المسيح مجده بإقامة الموتى، ومحاسبة العالم، وإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين.

٢٤ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ».

يوحنا ٣: ١٦، ١٨ و٦: ٤٠، ٤٧ و٨: ٥١ و١٢: ٤٤ و٢٠: ٣، مزمور ١٤٣: ٢ و١يوحنا ٣: ١٤

تكلم المسيح على الابن في ما سبق بضمير الغائب، وأخذ هنا يتكلم عليه بطريق المخاطب ليبين أن كل ما ذُكر من أمر الابن يصدق عليه، وبدأ كلامه بقوله «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ» تأكيداً وتثبيتاً.

مَنْ يَسْمَعُ تكلم في ما مرّ على نفسه ووظيفته، وأخذ يتكلم هنا على تأثير عمله في المؤمنين. و «السمع» المراد هنا ليس الإدراك بالأذن فقط، بل قبول القلب بالانتباه والوقار والمحبة والإيمان والطاعة أيضاً، كما يُفهم من متّى ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٧ و١٠: ٢٧ وأعمال ٣: ٢٣.

كلامِي أي تعليمي في الله وفي نفسي وواجبات الإنسان وكل الحقائق المعلنة في الإنجيل. فسماع قول المسيح ضروري اليوم كما كان يومها.

وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي أي بالآب الذي أرسل المسيح إلى العالم ليخلص الخطاة (يوحنا ٣: ١٧) ومعنى الإيمان بالآب هنا تصديق شهادته لابنه وفقاً لقول الرسول «مَنْ لا يُصَدِّقُ اللَّهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا اللَّهُ عَنِ ابْنِهِ» (١يوحنا ٥: ١٠ و١١ انظر رومية ٤: ٢٤ و١بطرس ١: ٢١). ونتيجة الإيمان بالآب كنتيجة الإيمان بالابن (يوحنا ٣: ٣٦) وإن أحد هذين الإيمانين مرتبط بالآخر حتى يتعذر أحدهما بدون الآخر، لأن الإيمان بالمُرسِل يستلزم الإيمان بالمُرسَل الذي بدونه لا يُعرف الذي أرسله ولا مراده. وقد ذُكر هنا سماع كلام المسيح والإيمان بالله معاً شرطاً لنوال الحياة الأبدية.

فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي أنه دخل في الحياة الجديدة التي تشمل الولادة الروحية، ومقاومة الخطية، والنمو في القداسة، وراحة الضمير، ومصالحة الله، ومشابهة صورته، وتنتهي بالانتصار على الموت ونوال الطهارة التامة والسعادة الكاملة في السماء إلى الأبد (أعمال ١٣: ٣٩ ورومية ٥: ١). فعندما يؤمن الخاطئ تُغفر خطاياه ويتبرر ويصير وارثاً للسماء.

ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ كما يستحق هو وكل نسل آدم الخاطئ (يوحنا ٣: ١٨) وكما يصيب الذين لا يؤمنون. وعلّة نجاة المؤمن من الدينونة أن الإيمان بالمسيح وبالله المتكلم بواسطته يرفع عنه كل آثامه التي كانت سبب الدينونة (يوحنا ٣: ١٨ و١٠: ٢٨ ورومية ٨: ١).

بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ أي من الموت الروحي إلى الحياة الروحية. وذلك انتقال: (١) من حال الجهالة والشقاء وعدم الشعور بالحقائق الروحية، إلى حال المغفرة والميراث السماوي واللذة بالأمور الروحية والمحبة والطاعة والغيرة لخدمة الله. (٢) من حكم الموت بمقتضى الشريعة، إلى حال التبرير والتبني. (٣) من بين الموتى بالخطية، إلى جماعة الأحياء بالقداسة. ويحدث هذا الانتقال للخاطئ عند توبته وقبوله المسيح، وينتج عن قوة المسيح واختيار الخاطئ، فليس هو إجبارياً ولا مما يُشعر به، بل هو من النعمة بواسطة الإيمان لا من التسلسل من الوالدين المؤمنين ولا من المعمودية ولا من مجرد التعليم.

٢٥ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ».

أفسس ٢: ١، ٥ و٥: ١٤ وكولوسي ٢: ١٣

اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال ذلك لأهمية ما يأتي وبيان أنه موضوع جديد، وهو أمر آخر من الأعمال العظمى التي ذُكرت في ع ٢٠.

إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ بدء هذه الساعة عند مجيء المسيح. وما قيل على أثر هذه العبارة لا يصح قبل ذلك المجيء.

حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ هؤلاء الأموات هم الأموات بالروح (أفسس ٥: ١٤) العائشين في الجهل والمعصية وعدم الشعور بسوء أحوالهم الروحية، وهم تحت حكم الهلاك الأبدي. والموت الجسدي رمز إلى هذا الموت الروحي. وأبان المسيح قدرته على إقامة الموتى في الروح بإحيائه الموتى في الجسد. وذلك لما قال لابنة يايرس «طليثا قومي» ولابن الأرملة «قم» وللعازر «هلم خارجاً». ومعنى «صوت ابن الله» هنا دعوته الأموات إلى الاستيقاظ من جهلهم وغفلتهم وحبهم العالم والخطية، فيسمعون ذلك الصوت بقلوبهم حين يقبلون الدعوة بالإيمان والطاعة. وتم ذلك بأن كثيرين سمعوا صوته وهو على الأرض وآمنوا به. وسمع صوته ثلاثة آلاف نفس في يوم الخمسين، ومنذ ذلك الوقت إلى الآن كل من سمع أصوات المبشرين المنادين بالإنجيل وآمن، سمع صوت ابن الله، وكذلك الذي قرأ كتابه وآمن.

وَالسَّامِعُونَ أي الذين ينتبهون من موتهم الروحي عند سماعهم صوت المسيح ويصغون إليه بالإيمان والطاعة.

يَحْيَوْنَ حياة روحية هي حياة الإيمان والبر والقداسة والطاعة لله، ويدخلون تلك الحياة وهم على الأرض، ويستعدون بذلك للدخول أخيراً في حياة القديسين في السماء. ولا نصيب لغير المؤمنين في هذه الحياة، خلافاً لأحوال المذكورين في ع ٤٠.

٢٦ «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ».

كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ ذلك «الإله الحي» تمييزاً له عن الأوثان الذين بلا حياة، ولأن حياته ذاتية أبدية، ولأنه مصدر حياة كل حي في العالم (تكوين ٢: ٧ ومزمور ١٠٤: ٢٩، ٣٠).

كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أي كما أن الآب حي بالذات ومصدر حياة كل الأحياء كذلك الابن متجسداً. ولم يشر بقوله «أعطى الابن» إلى أن تلك الحياة لم تكن له قبل التجسد، بل قصد أن الله عيَّن للمسيح في ممارسته عمل الفداء أن يكون هو الواهب الحياة لموتى الأرواح وموتى الأجساد.

وفي هذا برهان على لاهوت المسيح، لأنه يستحيل أن يكون للمخلوق حياة كحياة الله ومصدر لكل أحياء العالم، لأن من خصائص الله أن الناس به تحيا وتتحرك وتوجد (أعمال ١٧: ٢٨).

٢٧ «وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ».

ع ٢٢ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١، دانيال ٧: ١٣، ١٤

وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً بالنظر إلى أنه وسيط في عمل الفداء.

أَنْ يَدِينَ أَيْضاً عيّن الله المسيح في نظام الفداء ديّاناً لكل البشر، فإذاً الذي يجلس على عرش الدينونة الابن لا الآب ولا الروح. نعم الله «ديان الجميع» (عبرانيين ١٢: ٢٣) لكنه قضى أن يُجري تلك الدينونة على يد ابنه.

لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ يليق أن يكون ابن الإنسان ديّان الناس لثلاثة أمور: (١) أن الدينونة تكملة عمل الفداء الذي تجسد لأجله، فإن ابن الله صار ابن الإنسان ليموت عن الإنسان ويفديه ويحييه ويشفع فيه ثم يدينه. (٢) إن ذلك إثابة له على تواضعه الاختياري، فإنه وقف أمام كرسي قيافا وكرسي بيلاطس، ودِين ظلماً ولذلك عيّنه الله ديّاناً للعالمين (فيلبي ٢: ٩). (٣) إنه كابن الإنسان عرف ضعف الإنسان وقوة التجربة عليه، فاستعد بهذا لأن يكون ديّاناً شفوقاً كما أنه ديّان عادل.

وقوله «الآب أعطى الابن» يبطل قول سباليوس بأن الآب والابن أقنوم واحد، يتميزان باعتبار ممارسة العمل. وليس في ذلك القول ما يسند قول أريوس بأن الابن مخلوق، لأنه قيل على يسوع باعتبار أنه فادٍ لا بالنظر إلى طبيعته الأصلية.

٢٨ «لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ صَوْتَهُ».

لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا الأرجح أنهم أظهروا بكلامهم أو بإمارات وجوههم أنهم استغربوا ما قاله في أنه «يحيي ويدين». ومضمون قوله في هذه الآية أنه سيريهم سبباً أعظم من هذا للتعجب عندما يبرهن صدق ما قاله فعلاً أمام كل المخلوقات، أي بإقامة أجساد الموتى. وليس ذلك لأنه أعظم مما ذُكر بالذات، بل إنه يجعل المشاهدين يندهشون ويتعجبون أكثر من ذلك، نظراً للأحوال والنتائج.

فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ في اليوم الأخير أي يوم القيامة العظيم.

جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ أي كل الموتى الذين أجسادهم في القبور. فتلك الأجساد وإن اختلط ترابها بتراب الأرض، وحُجبت عن أبصار الناس تحت لجة البحر، تقوم وتشارك أرواحنا في الفرح أو في الحزن. وهذه الآية من أوضح البيّنات على القيامة وعمومها، لأنها قيلت عن جميع الموتى كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء صالحين وأشراراً مؤمنين وكفرة في كل أمة وعصر.

يَسْمَعُ.. صَوْتَهُ الذين يسمعون هم أرواح الموتى عند رجوعها إلى الأجساد، والصوت الذي يسمعونه وقتئذ هو نفس الصوت الذي خاطبهم به لينبههم من موتهم الروحي. وشُبِّه الموت هنا بالنوم الذي ينتبه منه الراقدون بصوت المنادي. والمنادي العظيم هنا هو ابن الله. ولا نعلم كيف يوقظ صوته الموتى. قيل إن ذلك الصوت يقترن بصوت البوق (١ كورنثوس ١٥: ٥٢). وقيل إن «الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ» (١تسالونيكي ٤: ١٦).

وتقتضي إقامة كل الموتى من البر والبحر منذ آدم إلى آخر إنسان يموت، تقتضي قوة إلهية لا يمكن عقل البشر أن يتصوّرها، وأن يسوع يجري كل ذلك بكلمة. وهو برهان قاطع أنه ذو طبيعة إلهية وقدرة غير محدودة.

٢٩ «فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ».

إشعياء ٢٦: ١٩ و ١كورنثوس ١٥: ٥٢ و١تسالونيكي ٤: ١٦، دانيال ١٢: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٢، ٣٣، ٤٦

فَيَخْرُجُ من القبور كما خرج لعازر يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤ فلا بد من أن يسمع الجميع ويخرجوا، ولكن لا يخرج الجميع إلى قيامة الحياة.

الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ أي الذين أظهرت أعمالهم أنهم آمنوا بالمسيح وأطاعوه، لأن الإيمان بلا أعمال لا يخلِّص أحداً (انظر شرح متّى ٢٥: ٣٢ – ٣٦).

إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ سُميت قيامة هؤلاء قيامة الحياة لأنها مدخل إلى الحياة الأبدية، ولأنهم قاموا لكيلا يموتوا أيضاً (رؤيا ٢١: ٤) ولأنهم يشاركون المسيح عند قيامتهم في حياته الممجدة. وكلمة «الحياة» هنا تعم كل خير وبركة وقداسة وسعادة ورضى الله.

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يتضح من هذا أن أعمالهم الشريرة هي العلة الوحيدة لدينونتهم، فلا يمكنهم أن يلوموا إلا أنفسهم.

إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَة سُميت كذلك لأنه يلحقهم بعدها الدينونة والعقاب (دانيال ١٢: ٢. انظر متّى ١٠: ٢٨ و٢٥: ٣٤، ٤٦ وأعمال ٢٤: ١٥ و٢تسالونيكي ١: ٨، ٩ و٢بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٢٠: ٥، ١٢).

وجملة ما قيل في هذا العدد أربعة أشياء: (١) إن بعد القبر حياة، فالموت ليس نهاية كل أمور الإنسان. (٢) إن في العالم الآتي حالين: الحياة والدينونة. (٣) إن القيامة ليست مختصة بالمؤمنين فيتلاشى الأشرار، بل إن الأشرار يقومون كالأبرار. (٤) إن العلامات التي يُعرف بها الصالحون والأشرار ويُميَّزون ويُدانون في اليوم الأخير هي أعمالهم. ولم يذكر بولس قيامة الأشرار في ١كورنثوس ١٥ لأن غايته كانت إقناع المؤمنين بالمسيح بقيامة أجسادهم، ولم يكن من داعٍ للكلام على قيامة غيرهم.

٣٠ «أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَل مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

ع ١٩، متّى ٢٦: ٣٩ ويوحنا ٤: ٣٤ و٦: ٣٨

تكلم في هذه الآية وما يليها إلى آية ٣٩ على الشهود الذين يشهدون بصدق قوله وهم ثلاثة: الآب، ويوحنا المعمدان، وكتَبَة الأسفار المقدسة.

أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً كرر المسيح هنا قوله في ع ١٩ وهو أنه ليس مستقلاً بأعماله باعتبار أنه وسيط، إنما هو نائب الآب ومُجري قضائه وعامل بسلطانه. وفي ذلك إشارة إلى تمام الاتفاق بينه وبين الآب في القصد والعمل. فيكون معنى قوله «لا أقدر» أنه لا يريد، كما نقول إن الله لا يقدر أن يكذب.

كَمَا أَسْمَعُ تكلم هنا جرياً على عادة الناس الذي يسمعون بآذانهم ويبلغون بألسنتهم أخبار مرسليهم. ومقصود المسيح هنا بيان أنه يعلم تمام العلم إرادة الآب التي أتى ليعلنها.

أَدِينُ المعنى أن حكمه في الناس وفي التعاليم الآن وفي اليوم الأخير موافق كل الموافقة لأفكار الله ومقاصده التي يعرفها هو أكمل معرفة.

وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لسببين: (١) ما ذكره سابقاً وهو أنها مبنية على معرفة كل أفكار الله تمام المعرفة. (٢) خلوُّه من الظلم، فمشيئته وفق مشيئة الآب.

لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي الخ لا يستلزم ذلك أن المسيح لو طلب مشيئة نفسه كان حكمه جائراً، بل يدل على أنه ليس أنانياً، ولا يخطئ في الحكم لأنه أتى ليعمل مشيئة الله لا ليُرضي نفسه. وأبان خضوعه التام لمشيئة الآب بصلاته في جثسيماني (لوقا ٢٢: ٢٢). وأشار المسيح بذلك إلى أن اليهود طلبوا مشيئة أنفسهم وإكرامها عندما حكموا ببطلان دعواه خلافاً لما فعله هو.

٣١ «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً».

يوحنا ٨: ١٢، ١٤ ورؤيا ٣: ١٤

في الآيات ٣١ – ٤٠ كلام في شهادة الآب للابن.

إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي قال هذا دفعاً لاعتراض في أفكار اليهود، وهو: إنك تشهد لنفسك وليس مَن يشهد لك. والمعنى: إن كنتُ انفردت بذلك بلا سند فاعتراضكم في محله.

فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً (لوقا ٢٠: ٢١ ويوحنا ٨: ١٣ و١٧). وهذا تصريح من المسيح بقبوله أن يُحكم في دعواه بمقتضى قوانين الشريعة التي لا تثبت الدعوى بأقل من شاهدين (عدد ٣٥: ٣٠ وتثنية ١٧: ٦) والناس ينظرون في صفات الشاهد قبل أن يثقوا كل الثقة بشهادته، والمسيح استشهد الآب وهو أصدق الصادقين. ولعل معنى المسيح هنا: لو أمكن أن أكون منفرداً بشهادتي لأمكن أن تكون كاذبة، لكن ذلك فرض محال فالنتيجة محال أيضاً.

٣٢ «الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ».

متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٨: ١٨ و١يوحنا ٥: ٦، ٧، ٩

الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ أي الآب (ع ٣٦). نعم إنه ذكر أيضاً شهادة يوحنا المعمدان له (ع ٣٣) لكنه لم يشر إليها إلا بياناً أنه لا يستند عليها إثباتاً لدعواه، بل على شهادة الآب.

وَأَنَا أَعْلَمُ الخ أي الآن كما علمت منذ الأزل. قال ذلك بياناً لشرف مقامه واتحاده مع الآب وليذكرهم استحالة شهادة الله للكذب.

٣٣ «أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلحَقِّ».

يوحنا ١: ١٥، ١٩

أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا أشار بذلك إلى اللجنة التي أرسلها الفريسيون إلى المعمدان يوحنا ١: ١٩. والمعنى أنكم أنتم أرسلتم إلى المعمدان وسألتموه شهادته فهو شاهدكم المختار.

فَشَهِدَ لِلحَقِّ (في يوحنا ١: ٢٦، ٢٩، ٣٦). كان يجب أن يقتنعوا بشهادته. كأن المسيح قال لهم: لا تستطيعون أن تنكروا أن المعمدان نبي مخلص بلا غاية شخصية تمنعكم من قبول شهادته، وقد شهد لي، فلي حق أن أتخذ شهادته إثباتاً كافياً لدعواي لو أردت أن أستند على شهادة بشر.

٣٤ «وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ».

وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ أي لا أكتفي بها وحدها، ولا أجعلها جلَّ معتمدي لأني لست مفتقراً لشهادة بشر بأني المسيح. نعم كان المعمدان أعظم الأنبياء، لكنه إنسان وأنا متكل على شاهد أعظم منه.

وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا أي أشير إلى شهادة المعمدان لأنكم طلبتم شهادته، فجاءتكم واضحة صادقة مستوفية تستحق أن تثقوا فيها (متّى ٢١: ٢٣ – ٢٧).

لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ أي أني أشرت إلى شهادة المعمدان لمنفعتكم، لإثبات دعواي لأني في غنى عن ذلك. فإن قبلتم شهادته آمنتم بأني المسيح وخلصتم بي. ولكن برفضكم تلك الشهادة رفضتم رسول الله ورسالته فستهلكون بخطاياكم وعدم إيمانكم.

٣٥ «كَانَ هُوَ السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً».

٢بطرس ١: ١٩، متّى ٢١: ٢٦

كَانَ هُوَ استخدم هنا الفعل الماضي، فقد قال هذا حين كان في الجليل وكان المعمدان في السجن (متّى ٤: ١٢ ويوحنا ٤: ٤٤) ثم قطع هيرودس رأسه بعد ذلك بقليل (يوحنا ٦: ١ ومتّى ١٤: ١٣) ولذلك ذكر المسيح شهادته في الماضي.

السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ هذا تشبيه ووصف ليوحنا باعتبار أنه سابق المسيح، ومرسل ليُهيئ قلوب الناس لقبوله، ويبين لهم ما يعرفونه به. وكثيراً ما يُشبَّه المعلم بالنور (رومية ٢: ١٩ ومتى ٥: ١٤ ويوحنا ٨: ١٢ و١٢: ٤٦) ويُشبَّه كتاب الله بالسراج لأنه يُري الناس طريق القداسة والحق (مزمور ١١٩: ١٠٥) وكذلك فعل المعمدان. وهذه شهادة قوية بعظمة المعمدان، ولاق أن يُشبَّه بالسراج لا بالشمس، لأن السراج لا ينير بذاته لأن الناس يضعون فيه الزيت ويوقدونه لغايات مخصوصة، ولأن نوره وقتي يُطفأ متى أُدركت الغاية التي أُوقد من أجلها. كذلك يوحنا عيًنه الله مرشداً وقتاً معيناً للناس يخبرهم بما أمره الله به ويقودهم إلى «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٨، ١٣).

وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا أشار بذلك إلى ما اشتهرت به كرازة المعمدان حين خرج إليه «أورشليم وكل اليهودية» (متّى ٣: ٥). وخاطبهم يسوع باعتبار الأمة كلها. والأرجح أن كلامه صدق أيضاً على بعض الحاضرين، لأن بعض الفريسيين خرج إلى يوحنا (متّى ٣: ٧) واعتبره الناس نبياً، فكان للمسيح أن يشير إلى شهادته إثباتاً لدعواه لو أراد ذلك.

سَاعَةً أي وقتاً قصيراً. ابتهج شعب اليهود بتعليم يوحنا حين بشرهم بقرب مجيء المسيح قبل أن عرفوا أنه قصد به يسوع الناصري، لكن لما ألحَّ عليهم أن يتركوا خطاياهم ويقبلوا يسوع مسيحاً لهم تركوه. وكان تأثير كرازة يوحنا في اليهود وقتياً، لأن قليلين ممن سمعوا وعظه قبلوا نصيحته وتبعوا يسوع. ولكن لما سُجن وقُتل لم يبالوا بتعاليمه ولا بشهادته.

٣٦ «وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي».

١يوحنا ٥: ٩ يوحنا ٣: ٢ و١٠: ٢٥ و١٥: ٢٤

شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا أي أشد إقناعاً وأقطع حجة وأكثر استحقاقاً للقبول.

الأَعْمَالَ أي المعجزات التي صنعها كشفاء المرضى وفتح عيون العميان وإقامة الموتى. وشهد الآب بصحة دعواه بإعطائه أن يفعل تلك المعجزات. واستشهد المسيح بمعجزاته أربع مرات في هذه البشارة هنا وفي ٣: ٢ و١٠: ٢٥ و١٥: ٢٤. والذي قوَّى شهادة تلك المعجزات أربعة أمور: (١) عددها، فهي كثيرة جداً. و(٢) عظمتها. و(٣) لأن صنع أكثرها أمام أعدائه وأصدقائه. و(٤) لأنها خيرية لا مجرد إظهار قوته.

وكانت طهارة سيرته وجودة تعليمه علاوة على عظمة معجزاته شهادة بصدق دعواه.

أَعْطَانِي الآبُ أي عيّن لي أن أصنعها. أراد أن يبيّن اتحاده بالآب بصنع الآيات كما بيّنه قبلاً بالتعليم.

لأُكَمِّلَهَا أي أتممها جميعاً حتى يمكنني أن أقول وأنا على الصليب في شأن كل عملي باعتبار كوني وسيط الآب ومعلن إرادته «قد أُكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠).

هِيَ تَشْهَدُ لِي أني من عند الله، لأنها أعمال إلهية لا يستطيعها إنسان. ولو استطاع أن يصنعها لا يسمح الله بها لمن لا يرضيه. وقد سلَّم نيقوديموس بصحة شهادة هذه المعجزات (يوحنا ٣: ٢) وسلَّم بها الأعمى الذي شُفي (يوحنا ٩: ٣١ – ٣٣).

٣٧ «وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ».

متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٦: ٢٧ و٨: ١٨، تثنية ٤: ١٢ ويوحنا ١: ١٨ و١تي ١: ١٧ و١يوحنا ٤: ١٢ – ١٤

وَالآبُ نَفْسُهُ هذا فوق ما شهد بواسطة المعجزات. والأرجح أن المعنى هنا أن الآب يشهد بطريقين: (١) بأنبياء العهد القديم (٢) بروحه الذي يخاطب قلوبهم. ولا نقول إن المسيح أشار هنا إلى شهادة الآب المسموعة حين عمّده يوحنا، ولا إلى شهادته له على جبل التجلي، لأن الأرجح أن الأولى لم يسمعها سوى يوحنا، والثانية لم يسمعها سوى ثلاثة من الرسل. والكلام هنا في شهادة الآب له لأمة اليهود كلها.

لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ يمكن أن يكون هذا تفسيراً لما سبق أو توبيخاً لليهود. ولا ندري أيهما المقصود. فإن كان تفسيراً لما سبق يكون قصد المسيح في هذه الآية وما يليها. لا أقول لكم أيها اليهود إن الله أبان لكم شهادته لي بصوت مسموع كما تكلم مع آبائكم في طور سينا، أو أنه ظهر لكم بتلك الشهادة كما ظهر لعيون الآباء القدماء، أو أنه جعلكم تشعرون بها في داخل قلوبكم كالذين يسكن الروح القدس فيهم ويعلّمهم كل حق (يوحنا ٣: ٣٣). بل أقول إن تلك الشهادة بين أيديكم مكتوبة وتتلونها بشفاهكم وأنتم لم تقبلوها.

وإن كان توبيخاً فقصده أنكم أيها اليهود لم تريدوا قط قبول شهادة الله منذ أول مخاطبته إياكم إلى الآن. ويكون معنى «الصوت» أوامر الله و «السمع» طاعتها، فكأنه قال «كلمكم الله في طور سيناء وسمعتم صوته بآذانكم دون قلوبكم» (تثنية ٤: ١٢) و «كلمكم أيضاً بأنبيائه وأبيتم سماعه» (إرميا ٧: ١٣ و١١: ٧، ٨) «وكلمكم بفم ابنه أيضاً فلم تسمعوا. وهو لا يزال يكلمكم بأعمال عنايته وروحه القدوس ولم تصغوا».

ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ لا ريب في هذا إذا أخذناه على ظاهره لأن «الله لم يره أحد قط» (يوحنا ١: ١٨). ولكن معنى «الإبصار» هنا الالتفات بالقلب (كما في ٣يوحنا ٢ و١يوحنا ٣: ٦). وأشار «بالهيئة» إلى الطرق التي أظهر الله وجوده كما أظهر ذلك بالسحابة في البرية (عدد ٩: ١٥، ١٦) وبالحمامة عند معمودية يسوع (لوقا ٣: ٢٢) وبكل الوسائل التي شهد بها الآب لابنه وهو على الأرض، لأن المسيح باعتباره معلن صفات الآب كان يعلّم بينهم ويصنع المعجزات، ولم تكن لهم عيون تنظر علامات كون الله بينهم، ولا آذان تسمع كلامه.

٣٨ «وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ».

لَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ المراد بكلمة الله هنا كل الوسائط التي أظهر بها نفسه للناس، ولا سيما كلامه المكتوب. فهذا كان بين أيديهم، وفي تابوت العهد، وفي المجامع، وعلى صفحات ذاكرتهم. لكنه لم يكن على صفحات قلوبهم. لقد ادَّعى اليهود أنهم غيورون على كلمة الله، لكنهم لم يدركوا معناها الروحي ولم يحبوها ولم يشاءوا أن يتأملوا فيها ويطيعوها. ولو ثبتت كلمة الله فيهم لظهر تأثيرها في سيرتهم.

لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ الخ هذا برهان على أن كلمة الله ليست ثابتة فيهم منذ أول إعلانها لهم، فلو قبلوا شهادة الأنبياء وثبتت فيهم لأعدَّت قلوبهم لقبول المسيح عند مجيئه. ولأن الأنبياء شهدوا لهم، فبرفضهم المسيح رفضوا كلمة الله الشاهدة له.

٣٩ «فَتِّشُوا الكُتُبَ لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي».

إشعياء ٨: ٢٠ و٣٤: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٩ وع ٤٦ وأعمال ١٧: ١١، تثنية ١٨: ١٥، ١٨ ولوقا ٢٤: ٢٧ ويوحنا ١: ٤٥

فَتِّشُوا الكُتُبَ أبان المسيح في آية ٣٧ أن الآب شهد له بالأعمال التي أعطاه أن يصنعها. وأعلن في هذه الآية شهادة ثانية من الآب وهي ما كتب من أمره في الأسفار المقدسة. ومعنى قوله «فتشوا الكتب» اجتهدوا أن تعرفوا المعنى الروحي للكتب لتتحقَّقوا ما هي شهادة الآب ولا سيما شهادته لابنه. نعم إن اليهود يفتشون الكتب بغية المعرفة العقلية وحفظ الألفاظ، لكنهم لم يلتفتوا إلى المعنى الروحي.

ويحتمل تعبير «فتشوا الكتب» في أصله اليوناني معنى «أنتم تفتشون الكتب». فيكون قصد المسيح على ذلك توبيخ اليهود على أنهم بعد أن درسوا الكتب رفضوا شهادتها للمسيح.

لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وهو ظن في محله، لأن كتب الوحي ترشد الناس إلى الحياة الأبدية لا باقتنائها فقط أو بمجرد تلاوتها، بل بأن يصحب ذلك روح الله الذي يجعل المطالع يفهم المعنى ويستفيد منه الفائدة الروحية.

وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي أي الكتب التي تظنون أن لكم فيها حياة أبدية هي نفسها التي تشهد لي. ومعنى هذه العبارة أن خلاصة تعليم أسفار العهد القديم لا سيما ما كُتب في إشعياء ٥٣ ودانيال ٩: ٢٦، ٢٧ هي الشهادة للمسيح والإعلان أن به الحياة الأبدية. وهي «تشهد لي» بثلاث طرق: (١) النبوات والمواعيد الصريحة، (٢) الرسوم أو الرموز كالذبائح وما شابهها، (٣) أشخاص العهد القديم الذين كانوا رموزاً إلى المسيح كموسى وداود وغيرهما.

٤٠ «ولا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ».

يوحنا ١: ١١ و٣: ١٩

لا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ ما أعظم الفرق بين اعتقادهم وعملهم، فإنهم طلبوا الحياة ورفضوا الذي أتى بها، مع أن الكتب المقدسة شهدت له أنه معلم ومخلِّص، لكنهم لم يقبلوا براهينها فابتعدوا عن الحياة الأبدية المعلنة فيها. ولم يقتنعوا بالبراهين لأنهم لم يريدوا أن يأتوا إليه، وليس لأن البراهين أو عقولهم كانت ضعيفة.

لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ المسيح هو الطريق والحق والحياة (يوحنا ١٤: ٦) وغاية مجيئه منح الحياة. والإتيان إليه هو الطريق الوحيد لنوال الحياة الأبدية (يوحنا ١٠: ١٠). وهذه الحياة روحية أبدية (غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣ وأفسس ٢: ١٠) ويتضح مما قيل هنا أن المانع الوحيد للناس من نوال الحياة الأبدية فساد الإرادة، لا كثرة الخطايا، ولا قضاء الله، ولا محدودية الفداء، ولا قلّة المعرفة، ولا ضعف البراهين. فمتى أراد الإنسان أن يكون تلميذاً ليعرف طريق الخلاص أراد الله أن يكون معلماً له. وينبوع الكفر الأصلي في الإرادة لا في العقل.

٤١ «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ».

ع ٣٤ و١تسالونيكي ٢: ٦

قصد يسوع هنا أنه لا يخاطبهم لأنه يطلب مجد نفسه بجعلهم تلاميذه، فلو أنه طلب ذلك لكان معناه أنه ملك زمني كما يشتهي اليهود. ولم يعلن المسيح هنا غايته، لكن من الواضح أنها مجد الآب وخلاص النفوس. ولم يطلب المسيح قط مجداً من الناس بل من الله (فيلبي ٢: ٩).

٤٢ «وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ».

تثنية ٦: ٤، ٥

قَدْ عَرَفْتُكُمْ أي أدركت أسرار قلوبكم، وكل العلل التي تحملكم على رفضكم إياي، لأنها مكشوفة لي دائماً.

أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ هذا هو السبب الأول لرفضهم المسيح. نعم إنهم ادَّعوا عبادة الإله الحق وإكرامه وطاعته، لكن قلوبهم خلت من المحبة الخالصة له. وأظهروا عدم حبهم برفضهم نبيَّه وكلامه وابنه، ولذلك لم يفهموا كتابه ولا عرفوا إرادته ورفضوا شهادته. لقد اشتكوا على المسيح بأنه خالف شريعة الله ولم يقدس السبت، لكنهم لم ينتبهوا إلى أنهم خالفوا الشريعة الأولى والعظمى وهي شريعة المحبة (تثنية ٦: ٥).

٤٣ «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ».

أَنَا قَدْ أَتَيْتُ… وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي هذا دليل قاطع على عدم محبتهم لله لأنه رفضوا رسوله وشهادته له. لا مناسبة بين يسوع الوديع المتواضع القلب والفريسيين المدَّعين المتكبرين البخلاء الحساد المرائين.

بِاسْمِ أَبِي صرحت لكم أني جئت بأمر الله الآب لعمل مشيئته وطلبت دائماً مجده. وطاعتي له هي سبب تأسيسي ملكوتاً روحياً لا زمنياً. والمعجزات التي صنعتها حُجة قاطعة على أني أتيت باسمه وسلطانه.

إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ في هذا تاريخ لماضٍ ونبوَّة بمستقبل، فإن اليهود كانوا يميلون دائماً إلى قبول المسحاء الكذبة الذي غايتهم مجد أنفسهم. والمسحاء الكذبة الذين أعلنوا أنهم «المسيح» كثيرون جداً (انظر شرح متّى ٢٤: ٥).

فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ شبيه الشيء منجذب إليه. طلب اليهود ملكاً أرضياً فاستعدوا لقبول من يدّعي ذلك الملك. فأكرمهم مثل هذا وتملقهم ليصل إلى غايته وارتقائه، فلذلك سرّوا به.

٤٤ «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟».

يوحنا ١٢: ٤٣، رومية ٢: ٢٩

في هذا العدد علة ثانية لعدم قبول اليهود للمسيح وشهادة الآب له، وهي رغبتهم في المجد الدنيوي وتفضيلهم إياه على المجد الذي من عند الله. والاستفهام هنا للتنبيه على استحالة اتفاق الضدين.. فمن المحال أن تؤمنوا ما دمتم على هذه الحال التي تمنع قلوبكم من قبول شهادة الله للمسيح الحق. فقد كانوا يتوقعون مسيحاً يعظمهم ويمجدهم. فلو جاء يسوع باحتفال ومجد وسلطان ملكي لتبعوه بغية أن يشاركوه في مجده. ولهذا صعب عليهم أن يتبعوه وهو معلم وديع وملك روحي.

وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ افتخر اليهود بتمسكهم بتوحيد الله وفق قوله بلسان كليمه موسى «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) وأنهم مجدوه بذلك، ولكنهم بطلبهم المجد لأنفسهم سلبوا المجد منه. فلو تركوا مجد أنفسهم بغية مجد الله لنالوا مدح ضمائرهم في الدنيا وثواب السماء في الآخرة، لأن الإنسان لا يمكن أن ينال المجد من الله ما لم ينكر ذاته (يوحنا ١٢: ٤٣).

٤٥ «لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ».

رومية ٢: ١٢

لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ المسيح أتى ليخلِّص لا ليشكو. ولو أراد أن يشكو لما احتاج إلى شكواه لأنه يوجد شاك آخر كاف.

يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى ليس المعنى أن موسى يشكوهم فعلاً إلى الله، بل إن كتب موسى التي يقرأونها كل يوم في مجامعهم تدينهم، كأنه هو الذي يتكلم، لأنهم ادَّعوا أنهم تلاميذه وأنهم يعتبرون كلامه كل الاعتبار، لكنهم رفضوا مضمون كتبه، أي الشهادة للمسيح. ولا يعين هنا وقت تلك الشكاية، فهي ليست مختصة بيوم الدين، بل هي عليهم دائماً ما لم يؤمنوا بالمسيح.

الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ اتكلوا لتبريرهم في اليوم الأخير على شدة حفظهم كل ما أمر به في الشريعة التي جاء بها موسى، فكانوا كأنهم يتوقعون أن يقوم موسى من قبره ويشهد لهم بأمانتهم، لكن الأمر على خلاف ما توقعوا، لأن موسى يشكوهم إلى الآب بدلاً من أن يشهد لهم. وما قاله المسيح هنا ينقض كل أساس ما اتكل اليهود عليه لخلاص نفوسهم، لأن موسى يطلب دينونتهم من الله، وهو الذي رجوا أن يبررهم.

٤٦ «لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي».

تكوين ٣: ١٥ و١٢: ٣ و١٨: ١٨ و٢٢: ١٨ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥ و١٨ ويوحنا ١: ٤٥ وأعمال ٢٦: ٢٢

لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي الإيمان بأحدهم يستلزم الإيمان بالآخر، فالذي يقبل تعليم موسى قبولاً صحيحاً لا بدّ أن يقبل تعليم المسيح، لشدة العلاقة الواضحة بينهما. واليهود لم يدركوا المعنى الروحي من تعاليم موسى ورموزه كالذبائح والتطهيرات والكهنوت، ولذلك لم يستعدوا لقبول المسيح المشار إليه بكل هذا التعليم.

لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي إني نسل المرأة «الذي يسحق رأس الحية» (تكوين ٣: ١٥)، ونسل إبراهيم الذي «به تتبارك جميع قبائل الأرض» (تكوين ١٢: ٣)، و «شيلون الذي له يكون خضوع شعوب» (تكوين ٤٩: ١٠)، و «الكوكب الذي يبرز من يعقوب والقضيب الذي يقوم من إسرائيل» (عدد ٢٤: ١٧)، والنبي «الذي يقيم لك الرب إلهك من وسطك من إخوتك مثلي» (تثنية ١٨: ١٥ – ١٨).

والكلام هنا وفق قول الرسول «قد كان الناموس مؤدبنا (المربّي) إلى المسيح» (غلاطية ٣: ٢٤) وأن شريعة موسى الطقسية وكل رسومها وشعائرها رموز إلى المسيح (كولوسي ٢: ١٧). وكانت حيّة النحاس التي رفعها موسى في البرية إشارة إلى المسيح مرفوعاً على الصليب (عدد ٢١: ٩ ويوحنا ٣: ١٤).

هذه الآية شهادة واضحة من المسيح بأن الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى هي من وحي الله لموسى (قارن لوقا ٢٤: ٤٤ برومية ١٠: ٥).

٤٧ «فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلامِي؟».

تقول هذه الآية ما قالته آية ٤٦ بتغيير اللفظ، أي أن رفض شهادة موسى يستلزم رفض تعليمي، لأن تلك الشهادة هي الوسيلة إلى معرفة صحة دعواي. فكأنه قال: تدَّعون أنكم تلاميذ موسى وأنكم تعتبرون كلامه وتوقّرونه نظراً لكثرة من تمسكوا به من الأتقياء في قرون كثيرة، ومع ذلك لم تؤمنوا بذلك الكلام حق الإيمان. فلا عجب أنكم لم تؤمنوا بكلامي وأنتم تحتقرونني وتبغضونني.

ولم يخبرنا البشير بتأثير هذا الكلام في اليهود، لكن نستنتج مما نقرأه في مواضع أُخرى أنه أثار غضب اليهود عليه وبغضهم له وإصرارهم أن يقتلوه (ع ١٨).

وفي هذه المخاطبة اثنتا عشرة حقيقة ذات شأن: (١) الاتحاد الكلي بين الآب والابن. (٢) شرف الابن وإرساليته الإلهية. (٣) حقوق المؤمن. (٤) إحياء الموتى بالروح. (٥) الدينونة والديان. (٦) قيامة الجسد. (٧) قيمة شهادة المعجزات. (٨) وجوب درس الكتاب المقدس. (٩) فساد مشيئة الإنسان. (١٠) محبة مجد الناس علة الكفر. (١١) قيمة كتب موسى بالنظر إلى أنها تشهد للمسيح. (١٢) حقيقة حفظ يوم الراحة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى