إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث

محاورة يسوع لنيقوديموس ع ١ إلى ٢١

١ «كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ».

مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود ادعوا زيادة تقواهم على تقوى الناس وحفظهم كل وصايا الشريعة وتقاليد الشيوخ بتدقيق وأكثر هذه الفرقة قاوم المسيح في كل خدمته أشد مقاومة.

نِيقُودِيمُوسُ هذا الاسم يوناني لكنه كان شائعاً بين اليهود في ذلك العصر. وذُكر مرتين غير هذه في هذا الإنجيل (ص ٧: ٥٠ و١٩: ٣٠).

رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ من مجلس السبعين فإن بعض أعضاء ذلك المجلس كان من الكهنة وبعضه من العامة (ص ٧: ٥٠).

٢ «هٰذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَه».

ص ٧: ٥٠ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٩ ص ٩: ١٦ و٣٣ وأعمال ٢: ٢٢ و١٠: ٣٨

جَاءَ إِلَى يَسُوعَ نعلم من معاملة المسيح له أنه لم يأت جاسوساً ولا مرائياً ولا طالب الخلاص لكنه سمع بشهادة يوحنا المعمدان له للجنة التي أرسلها المجلس وبمعجزات يسوع وأعماله في الهيكل ودعواه وتحقق أنه مُرسل من الله وتوقع أن يتعلم منه أموراً جديدة.

لَيْلاً قصد نيقوديموس أن يأتي إلى يسوع ليلاً فلم يكن اتفاقاً لأنه كان كلما ذُكر اسمه يُذكر معه أنه جاء إلى يسوع ليلاً (ص ٧: ٥٠ و١٩: ٣٩). وسبب ذلك إما الخوف من أصحابه في المجلس أن يعتبروه من تلاميذ يسوع ويعاتبوه على ذلك وإما الحياء من الشعب.

يَا مُعَلِّمُ هو ترجمة «ربي» وقد مر الكلام عليه في ص ١: ٣٨. فأظهر له بذلك إكراماً عظيماً لأن هذا اللقب لم يكونوا يلقبون به أحداً إلا من تعلم في المدارس ولم يكن يسوع كذلك ص ٧: ١٥.

أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً عرف ذلك من أنه لم يكن له من معلم أرضي ومن الآيات التي صنعها ص ٢: ٢٣. فحكم بأنه يقدر لكونه نبياً على إجابته على مسائل كثيرة في الدين عسرت عليه.

لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ حكمه بذلك صواب لأن الله لا يسمح لخادع بقوة على صنع معجزة حقيقية لإثبات الكذب بها. نعم إنّ الأنبياء الكذبة كانوا يأتون بعض الغرائب كسحرة مصر لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما فعل يسوع. ومراد نيقوديموس بما في آخر هذه العبارة أن الله كان مع يسوع كما كان مع إبراهيم ويوسف ودانيال وهذا دون ما كان يستحقه المسيح وما دلت عليها المعجزات التي صنعها. وقول نيقوديموس «نعلم» يشير إلى أنه حاور جماعة من رفقائه في المجلس وأنهم سلموا له بما قاله هنا. ولا بد من أن نيقوديموس قصد بكلامه المدح والتعظيم ليسوع وأن يكون كلامه مقدمة لما أراده من المسائل.

٣ «فَقَالَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰه».

ص ١: ١٣ وغلاطية ٦: ١٥ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٣: ٥ ويعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣ و١يوحنا ٣: ٩

فَقَالَ يَسُوعُ لم يسأله نيقوديموس شيئاً عما كان كلام المسيح جواباً له لأنه إجابة على أمر كان قد قصد أن يسأله إياه. ولعل نيقوديموس كان يقصد أن يسأل يسوع عن رأيه في شأن ملكوت المسيح.

ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا يشير إلى تيقن المتكلم ما يقوله وإلى سلطانه وأهمية الموضوع.

إِنْ كَانَ أَحَدٌ يهودياً أو غير يهودي.

لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ أشار بذلك إلى الولادة الجديدة الروحية فهو مثل قوله «الذين ولدوا… من الله» (ص ١: ١٣) ومثل ما في (١يوحنا ٢: ٢٩ و٣: ٩). وبيّن ضرورية تغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً كأنه وُلد ثانية ويحدث ذلك عندما يتوب ويؤمن.

لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مرّ الكلام على معنى ملكوت الله في الشرح متّى ٣: ٢. وقوله «يرى» بمعنى يدخل كما يظهر من ع ٥. وبما ان ملكوت الله ملكوت روحي كان الذين يدخلونه محتاجين إلى الولادة الروحية. فرؤية الملكوت الروحي تتوقف على وجود الحياة الروحية وهذه تتوقف على الولادة الروحية. وتعليم هذه الولادة من أعظم مبادئ دين المسيح الأساسية. وصرح المسيح بأنها ضرورية لكل إنسان بلا استثناء من عالٍ أو دون أو خاطئ أو بار في عيون الناس. وعلة ذلك أن الطبيعة البشرية قد فسدت منذ سقوط آدم فلا يخلص إلا من وُلد ثانية من الروح القدس.

وظن نيقوديموس كسائر اليهود أن ملكوت الله خارجي زمني دنيوي. وأن لكل يهودي حقاً أن يدخله بناء على أنه ابن إبراهيم. ولكن المسيح علمه أن تلك الولادة الطبيعية لا تنفع اليهود شيئاً وأن الذي يحتاجون إليه هو الولادة الجديدة.

وهذا التلعيم ذُكر في العهد القديم أيضاً (تثنية ١٠: ١٦ وإرميا ٤: ٤ و٣٠: ٣٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٥). وعبّر عنه أيضاً بالخليقة الجديدة (٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥) و «بالقيامة من الأموات» (يوحنا ٥: ٢٤ وأفسس ٢: ١).

وكان من عادة المسيح أن يخاطب كل إنسان حسب استعداده إلى قبول تعليمه. مثال ذلك أمره للرئيس الغني المتكل على غناه أن يبيع ما له ويوزعه على الفقراء (لوقا ١٨: ٢٢). وللجموع الطالبة الخبز بقوله «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (ص ٦: ٢٧). وللمرأة السامرية التي أتت لتستقي ماء بأن تستقي الماء الحي (ص ٤: ١٠). ولهذا الفريسي المتكل لتبريره على أنه ابن إبراهيم بأن «يولد من فوق». وخاطبه المسيح بهذا الكلام لكي ينفي أفكاره الدنيوية الزمنية في شأن ملكوت المسيح. فحقق له أن ملكه روحي لا زمني. وان غايته لم تكن الانتصار على الرومانيين بل على الطبيعة البشرية الفاسدة ونجاة النفس من رق الشيطان لا اليهود من رق قيصر. وعلمه أيضاً أن هذا الملكوت ليس لليهود خاصة بل للناس المتجددي القلوب من كل أمة.

٤ «قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ ٱلْإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».

في جواب نيقوديموس إشارة إلى التعجب والحيرة وطلب زيادة الإيضاح لأن الولادة الثانية على ظاهر معناها محال. نعم إنّه يصعب علينا تصديق أن معلماً لاهوتياً عالماً مشهوراً لا يفهم من كلام المسيح إلا ظاهر المعنى الجسدي أي الولادة الطبيعية ويغفل عن المعنى الروحي الذي قصده المسيح من أن تعليم تجديد القلب من تعاليم العهد القديم التي عرفها نيقوديموس ودرسها وعلمها (مزمور ٥١: ١٠ و٨٦: ١١ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦).لكن نعلم أنه يصعب على القلب الطبيعي أن يدرك الحقائق الروحية. فالمرأة السامرية لم تفهم مراد المسيح «بالماء الحي» والتلاميذ لم يفهموا ما عناه المسيح «بخمير الفريسيين» ويهود كفرناحوم لم يفهموا ما قصد المسيح «بالخبز النازل من السماء». على أن تعليم الولادة الجديدة لم يزل إلى اليوم من أصعب الحقائق على القلب البشري. ولا دليل على أن نيقوديموس حمل كلام المسيح على نفسه أي أنه هو يجب أن يولد ثانية. ولعله قصد ما معناه أن مثل ذلك التغير الأدبي العظيم الذي أشار إليه المسيح يستحيل على البالغ الذي اعتاد الشر كما يستحيل على الشيخ أن يولد ثانية ولادة طبيعية.

٥ «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».

مرقس ١٦: ١٦ وأعمال ٢: ٣٨

ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ كرره بياناً لأهمية الكلام وسلطان المتكلم.

لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ هذا تكرير لقوله «لا يولد من فوق» مع شيء من التفسير. ولم يشر المسيح هنا إلى ولادتين ولادة الماء وولادة من الروح لأنهما ولادة واحدة فالأولى رمزية والأخرى حقيقية وقُدمت الرمزية تمهيداً لفهم الثانية. والمعنى أن الولادة من فوق هي الولادة من الروح القدس الذي يطهر القلب كما يطهر الماء الجسد. وكثيراً ما أُشير بالماء في العهد القديم إلى تطهير القلب من الخطيئة (مزمور ٥١: ٢ وإشعياء ٥٣: ١٥ وحزقيال ٣٦: ٢٥ وزكريا ١٣: ١).

وقد ورد مثل هذا أي ذكر الرمز والمرموز معاً في قول يوحنا المعمدان في المسيح «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» وهذه العبارة بمعنى العبارة التي نحن في شرحها إلا أنه فيها النار بدل الماء وكلاهما رمز إلى التطهير. وعدم ذكر الماء في الآية الثامنة إشارة إلى كون الولادة من الروح هو الأمر الجوهري. والأرجح أنه ليس هنا من إشارة إلى وجوب المعمودية على أن الكتاب نص على وجوبها في عدة أماكن غير هذا. ولو سلمنا بأن المعمودية مشار إليها هنا لوجب أن يخلص كل من اعتمد وأن يهلك كل من لم يعتمد وهذا خلاف تعاليم الكتاب الصريحة. وخلاصة ما عناه المسيح هنا هو أنه كما يتطهر جسد الإنسان بالماء كذلك يجب أن تتطهر نفسه وتتجدد بالروح القدس.

لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الخ هذا تفسير لقوله «لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» ع ٣ ومعناه أنه لا شركة له في بركات ذلك الملكوت.

٦ «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ».

ذكّر المسيح نيقوديموس بما كان قد تحققه من المماثلة الطبيعية بين الوالد والمولود ليحقق له لزوم الولادة الروحية لأن كل والد حي يلد مثله. ومعنى «الجسد» هنا البشر أو الإنسان في الحال التي وُلد عليها من الضعف والفساد. فالإنسان الخاطئ الفاسد لا يستطيع أن يلد إلا من كان مثله في الخطيئة والفساد (تكوين ٥: ٣ وأيوب ١٤: ٤). فإذن كل من ولدوا من البشر فاسدون لا يستحقون أن يدخلوا ملكوت الله. ولو وُلد الشيخ ثانية من أمه كما قال نيقوديموس لوُلد خاطئاً دنيوياً فإذاً من المحال أن تتوقع وجود الحياة الروحية في مصدر أرضي. ولا يدخل المسيح تحت قوله «المولود من الجسد جسد هو» لأنه وُلد من مريم ولادة خارقة الطبيعة بفعل روح الله. نعم إنّه «صَارَ جَسَداً» (ص ١: ١٤) لكنه لم يشارك الجسد في الخطيئة (٢كورنثوس ٥: ٢١).

وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ الخ الروح السماوي مصدر كل حياة روحية وهو المصدر الوحيد لذلك. فالإنسان الذي استمد حياة جديدة من الروح هو روحي ويستطيع أن يدرك الأمور الروحية ويشترك في البركات الروحية ويقدر على الأعمال الروحية كالمحبة والإيمان والطاعة والمشابهة لله الطاهر القدوس (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).

ولم يذكر المسيح هنا وجوب الولادة من الماء وهذا دليل على أن الأمر الجوهري هو الولادة الروحية التي التطهير بالماء رمز إليها.

٧، ٨ «٧ لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. ٨ اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوح».

جامعة ١١: ٥ و ١كورنثوس ٢: ١١

لاَ تَتَعَجَّبْ عرف المسيح أفكار نيقوديموس مما ظهر من هيئته وكلامه أي علم من ذلك أنه لم يقتصر على التعجب بل كان على وشك أن يرفض ذلك التعليم كأمر يجاوز التصديق البشري ومما لا يُدرك. اعترض نيقوديموس على تعليم المسيح الولادة الجديدة بقوله «كيف يمكن أن يكون» فأخذ يسوع يبيّن له أنه يصدق أموراً غير هذا الأمر عسرة الوقوع مثله فلا حق له أن يرفض ذلك التعليم لهذا السبب.

اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ شبّه سابقاً فعل الروح بالماء وشبهه هنا بالريح. لا أحد يقدر أن يرى الريح أو أن يخبر بمصدرها أو غايتها وهي غير خاضعة لأمره لكنه مع ذلك لم ينكر وجودها عندما يسمع صوتها. فأوجب المسيح بذلك على نيقوديموس أن لا ينكر حضور الروح القدس وفعله في قلب الإنسان لأنه لا يراه ولا يعرف كيف يعمل.

والمشابهة هنا أو وجود الريح وقوتها يعرفان من فعلها كذلك وجود الروح القدس وقوته يعرفان بفعله وهو ما يحدثه من التغيير في قلب الإنسان وأعماله كما كان لشاول الطرسوسي المضطهد فإن المسيح شهد له بقوله «هوذا يصلي» (أعمال ٩: ١١). وكما كان للوثنيين في أفسس من أنهم آمنوا بالمسيح وأحرقوا كتبهم السحرية الثمينة (أعمال ١٩: ١٩).

هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ يشبه فعل الريح فعل الروح في ثلاثة أمور:

  • أولاً: أن «الريح تهب حيث تشاء» والروح يفعل حيث يريد أي أنه حر مستقل بأعماله.
  • ثانياً: أن الريح تأتي وتذهب غير منظورة والروح يفعل في قلب الإنسان فعلاً سريّاً لا يدركه إلا من يفعل هو فيه.
  • ثالثاً: أن قوة الريح عظيمة لا تقاوم وقوة الروح في تغيير الأفراد والجماعات لا تُحصى ولا تُحدّ.

٩ «فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».

ص ٦: ٥٢ و٦٠

كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُظهر هذا السؤال قدر صعوبة إدراك العقل البشري للحقائق الروحية. والفرق بين سؤال نيقوديموس هنا وسؤاله في العدد الرابع أن السؤال الأول يتضمن رفض تعليم الولادة الجديدة بناء على كونه محالاً كولادة الشيخ ثانية. والسؤال هنا يتضمن عدم قبوله ذلك التعليم بناء على أنه غريب مخالف لما اعتاده هو. وهذا ظاهر من قول المسيح «وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا… وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ» (ع ١١ و١٢).

آراء نيقوديموس الفريسية منعته من إدراك كل معنى المسيح الروحي وحملته على أن ينفر مما فهمه منه. ولا ريب أنه في هذا السؤال طلب إلى المسيح زيادة إيضاح معناه كأنه لا يريد التسليم بشيء ما لم يدركه كل الإدراك. كذا عادة الناس أبداً أن يطلبوا إيضاحاً في الدين لا يطلبونه في العلوم الطبيعية لأنهم لا ينكرون المعلومات لتعلقها ببعض المجهولات.

هٰذَا أي ما قاله المسيح في حقيقة الولادة الجديدة ووجوبها.

١٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هٰذَا!».

لم يجب المسيح نيقوديموس على سؤاله في الحال لكنه وبخه أولاً على جهله ثم أتى بالجواب في العدد الرابع عشر وهو الإيمان بالمسيح.

وتضمن كلام المسيح أنه كان على نيقوديموس أن يفهم تعليم الولادة الجديدة لأنه معلم ديني للشعب وقد درس أسفار العهد القديم وأدعى معرفة حقيقتها وذلك التعليم فيه على غاية الإيضاح (مزمور ٥١: ١٠ وإرميا ٤: ٤ وحزقيال ١٨: ٣١ و٣٦: ٢٦) فاستحق اللوم على جهله ذلك. وهكذا كثيرون يقرأون الكتب المقدسة كل أيام الحياة وبعضهم يعلمونها وهم لا يدركون حقائقها لأنه لا يقبلونها كالأولاد ولا يطلبون تعليم الروح. وكثيرون من أرباب العلوم والفلسفة يجهلون مبادئ الدين المسيحي.

١١ «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا».

متّى ١١: ٢٧ وص ١: ١٨ و٧: ١٦ و٨: ٢٣ و١٢: ٤٩ و١٤: ٢٤، ع ٣٢

نَتَكَلَّمُ عبّر المسيح هنا عن نفسه بصيغة الجمع كما في مرقس ٤: ٣٠. فيحتمل أنه جمع معه الآب والروح ولعله جمع معه كل من وُلدوا ثانية وتعلموا من الروح.

بِمَا نَعْلَمُ حقق لنيقوديموس أنه تكلم بسلطان ويقين وأنه يعلم حقائق عرفها منذ الأزل لا كسائر الأنبياء الذين تكلموا بما تعلموا ولا كالكتبة الذين علموا تقاليد الناس.

وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا لم يشر بذلك إلى مجرد ما قاله لنيقوديموس في ذلك الوقت بل إلى كل تعليمه علناً في اليهودية. ومعناه أنكم أيها الفريسيون ترفضون شهادتي مع أني أثبتها بالمعجزات.

١٢ «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟».

حقق له يسوع أن لا نفع له من أن يعلمه حقائق الدين السامية ما لم يقبل مبادئه البسيطة.

ٱلأَرْضِيَّاتِ أي التعاليم المتعلقة بالولادة الجديدة وفعل الروح القدس في قلب الإنسان. وسُميت «أرضيات» لوجوب حدوثها على الأرض ولأن نتائجها ظاهرة هنا. فجيب أن يختبرها كل إنسان في هذه الحياة وهي مما يستطيع العقل البشري أن يحكم بها أي بأنه هل حصل عليها الإنسان أو لا. وهي مما تشبه بالاشياء الأرضية كالماء والريح. وذهب بعضهم أن المسيح أشار بالأرضيات إلى كل تعاليمه التي أعلنها لليهود منذ بدء خدمته كوجوب التوبة وحقيقة ملكوته الجديد وتجديد القلب وقداسة السيرة. وكل هذه الأمور أُعلنت قبلاً في أسفار العهد القديم وصارت من المسلمات المحققة عند أهل الأرض.

وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أظهر نيقوديموس عدم إيمانه بقوله «كيف يكمن أن يكون هذا» وأظهر اليهود عدم إيمانهم برفضهم تعاليم المسيح.

ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي الحقائق التي لا يستطيع العقل التوصل إليها ولا الحكم بمجرد قواه. ولم تُعلن إلا بالوحي وهي مما يُقبل بالإيمان. ولعل المسيح قصد بها المواضيع التي أتى نيقوديموس يسأل عنها من جهة ملكوت الله والمسيح المنتظر أو سؤال نيقوديموس في ع ٤ و٩ عن كيفية عمل الروح أي تجديده للقلب وعلة أنه ينتخب البعض ويترك الآخر وهي مما يختص بقضاء الله في السماء (تثنية ٢٩: ٢٩). والأرجح أن مراد المسيح «بالسماويات» الأمور التي قصد بيانها في ع ١٤ و١٥ وهي لاهوته وكون الفداء بموته على الصليب ومحبة الله لكل العالم وكون الإيمان به شرط الخلاص ودينونة الذين لا يؤمنون.

١٣ «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ».

أمثال ٣٠: ٤ وص ٦: ٣٣ و٣٨ و٥١ و٦٢ و١٦: ٢٨ وأعمال ٢: ٣٤ و ١كورنثوس ١٥: ٤٧ وأفسس ٤: ٩ و١٠، ص ١: ١٨

أكد المسيح لنيقوديموس أنه لا يقدر أحد أن يعلن له هذه السماويات إلا هو. وأبان أنه هو المعلن الإلهي للحقائق السماوية.

لَيْسَ أَحَدٌ أي لا أحد ممن هم الآن على الأرض.

صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ ثم هبط إلى الأرض لينبئ الناس بما شاهده هناك. فإذن لا أحد من الناس يقدر أن يعلن أسرار السماء وحقائقها مما عاينه وسمعه إلا المسيح.

ولا إشارة في ذلك إلى الذين ماتوا بالإيمان وصعدوا إلى السماء بأرواحهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب أو إلى من انتقل إلى السماء بالجسد كأخنوخ وإيليا (تكوين ٥: ٢٤ و٢ملوك ٢: ١١) إنما أشار إلى الباقين على الأرض الذين يمكننا أن نسألهم عن الحقائق السماوية.

إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي المسيح وهو لم يكن قد صعد بالجسد لكن لكونه ابن الله كما أنه ابن الإنسان لا يحتاج أن يصعد كأحد الناس ليعلم أمور السماء ويخبر بها أهل الأرض. والمعنى أنه كان يعلم ما لم يعلمه أحد من الناس إلا بالصعود من الأرض إلى السماء. فقوله «ابن الإنسان الذي هو في السماء» يتضمن كل ما يقتضي الصعود. وهذه الآية تثبت أزلية المسيح وطبيعته الإلهية. وهو يمتاز عن كل الذين أعلنوا ما لله من الآباء الأقدمين والأنبياء والرسل بأنه الساكن العُلى منذ الأزل وأتى الأرض لكي يعلم الناس ويخلصهم. وكثيراً ما يُنسب إلى المسيح أنه نزل من السماء كقوله «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ» (ص ١٦: ٢٨). ومثله ما في (ص ٦: ٣٣ و٣٨).

ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ أي الكلمة الذي صار جسداً (ص ١: ١٤ و٥١).

ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ هذا مثل قول البشير «اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» (ص ١: ١٨) وفي ذلك زيادة على كون المسيح نزل من السماء أنه كان يسكن بالروح في السماء مع أبيه في كل المدة التي كان فيها بين الناس بالجسد. وهو تصريح بلاهوت المسيح واحد «السماويات» التي لم يؤمن اليهود بها ع ١٢ أي أن ابن الإنسان وهو على الأرض يخاطب الناس هو في السماء أيضاً. لأنه ابن الله فهو يملأ الكون السموات والأرض في وقت واحد (ص ١: ١ و٦: ٦٢ و١٧: ٥) وله حياتان متوازيتان حياة في الجسد على الأرض وحياة مع الآب في السماء وله طبيعتان متميزتان إحداهما إلهية والثانية إنسانية ومع ذلك ليس هو سوى أقنوم واحد.

وخلاصة ما قصده المسيح من إفادة نيقوديموس في هذا العدد هي أنه إذا أراد أن يعلم الأمور السماوية فليتعلم منه إذ لا يستطيع أن يتعلم من غيره.

١٤ «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ».

عدد ٢١: ٩ ص ٨: ٢٨ و١٢: ٣٢

أعلن يسوع لنيقوديموس في هذه الآية الأمر الثاني من السماويات وهو أن المسيح معيّنٌ للآلام والموت. وتخليص الناس لا بارتفاعه على عرش المجد والسلطان بل على الصليب. وفي كل ذلك إعلان عجيب لمحبة الله العالم.

كَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ عدد ٢١: ٦ – ٩. رُفعت الحية النحاسية على راية كانت في معسكر إسرائيل حيث يراها كل من أراد أو كانت تُحمل فيه وتُعرض على عيون كل الإسرائيليين. وحفظها بنو إسرائيل وهم يجولون في البرية وأتوا بها إلى الأرض المقدسة ثم اتخذوها وثناً وعبدوها فكسرها حزقيا الملك (٢ملوك ١٨: ٤).

فِي ٱلْبَرِّيَّةِ تجاه جبال أدوم وهي برية التيه أو فاران جنوبي جبل هور.

هٰكَذَا يَنْبَغِي لكي يوفي مطاليب شريعة الله والعدل حقه بمقتضى قضاء الله الأزلي ونبوءات الكتاب المقدس لأنه لا نعلم غير موت المسيح طريقاً يكون بها الله باراً ويبرر الخاطئ (رومية ٣: ٢٦). وقد أكد الكتاب أيضاً أنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ٢٢) (انظر أيضاً لاويين ١٧: ١١ ولوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧ و٤٦).

أَنْ يُرْفَعَ على الصليب ليموت بالآلام والهوان كما تبيّن في ص ٢: ٣٣ و٣٤. وأشار المسيح إلى ذلك أيضاً في ص ٨: ٢٨. فانتظر نيقوديموس أن يُرفع المسيح على العرش الملكي باحتفال وقوة ومجد لكن المسيح صرّح له أنه ينبغي أن يُرفع أولاً على صليب العار ثم يُرفع بذلك ملكاً ومخلصاً على عرش المجد السماوي (أعمال ٤: ٣٠ و٣١ وفيلبي ٢: ٨ و٩ وعبرانيين ٢: ٩).

صُوِّرت الحيّة النحاسية على صورة الحيّات السامة لكنها لم تكن سامة فكذلك أتى المسيح في صورة الجسد الخاطئ لكنه كان بلا خطية (رومية ٨: ٣ و٢كورنثوس ٥: ٢١ و١بطرس ٢: ٢٢ و٢٤). وعُومل كما يعامل الخاطئ ليفدي الخطاة. ومعنى هذه الآية كمعنى قول المعمدان في المسيح «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (ص ١: ٢٩).

١٥ «لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».

ع ٣٦ وص ٦: ٤٧

في هذا العدد بيان علة رفع يسوع على الصليب والطريق التي بها يكون المسيح المصلوب واسطة الخلاص وذلك لا لمجرد كونه مصلوباً بل لكونه موضوع الإيمان أيضاً. وكما أنه لم يكن سبيل إلى شفاء الذين لدغتهم الحيّات من الإسرائيليين إلا نظرهم إلى الحيّة النحاسية كذلك لا طريق للخطأة إلى نوال الحياة الأبدية إلا الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً.

كُلُّ مَنْ هذا يعم كل البشر بلا استثناء فالخلاص بالإيمان بالمسيح معروض على كل نسل آدم الساقط.

يُؤْمِنُ بِهِ الإيمان المراد هنا ليس مجرد تصديق العقل وجود المسيح ولاهوته وموته من أجل الخطأة بل قبوله بالقلب والإرادة والاتكال عليه مخلصاً وحيداً كافياً وتسليم النفس إلى يديه لأجل الخلاص (أعمال ١٦: ٣١ وعبرانيين ١٢: ٢).

لحظة عين خلصت إسرائيلياً ملدوغاً من الموت الجسدي ولحظة إيمان تُخلص نفس الخاطئ من الموت الأبدي وفي الأمرين كليهما الشرط الوحيد هو النظر (عدد ٦١: ٩ وإشعياء ٤٥: ٢٢).

لاَ يَهْلِكَ أي لا يقاسي القصاص على خطيئته في جهنم.

بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا يتضمن زيادة على نجاة الأثيم من الهلاك رضى الله والقداسة والسعادة الكاملتين الدائمتين في السماء وأن يُحسب باراً ويُجعَل وارثاً لمجد السماء وغناها.

١٦ «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».

رومية ٥: ٨ و١يوحنا ٤: ٩

هذه الآية إنجيل مختصر.

هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰه أعلن المسيح هنا أن أصل الفداء محبة الله فالإنسان مع أنه أثيم مستحق غضب الله لم تكن إحساسات الله من جهته إحساسات الغضب والانتقام بل عواطف المحبة. وجاء مثل هذا في ٢يوحنا ٤: ٧ – ١١. والمحبة هنا ليست محبة الرضى والمسرة كمحبة الله لسكان السماء بل محبة الحنو والشفقة على الذين هم عرضة للهلاك الأبدي ولا ملجأ لهم والرغبة في إنقاذهم ومباركتهم.

ٱلْعَالَمَ لا الملائكة فقط والمختارين ولا الأمة اليهودية فقط كما زعم نيقوديموس كسائر اليهود أن المسيح لهم دون غيرهم وأن رحمة الله مختصة بهم بل كل نسل آدم. وجاء «العالم» بهذا المعنى أيضاً في (ص ١: ١٠ و٢٩ و٦: ٣٣ و٥١ و٨: ١٢ ورومية ٣: ١٩ و٢كورنثوس ٥: ١٩ و١تيموثاوس ٢: ٤ وعبرانيين ٢: ٩ و٢بطرس ٣: ٩ و١يوحنا ٢: ٢ و٤: ١٤). وهذه الحقيقة من «الحقائق السماوية» التي صعب على اليهود التسليم بها وهي أن محبة الله تعمّ الأمم كما تعمّ اليهود وأن المسيح مخلص للجميع.

حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ هذا مقياس محبة الله لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل عنه لا العالم أو الملائكة بل أفضل موهبة في السماء وهي ابنه الوحيد يسوع المسيح فهو «عطية الله» (ص ٤: ١٠) و «عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (٢كورنثوس ٩: ١٥). وسمي المسيح عطية لأنه قُدّم لنا مجاناً إذ ليس لأحد حق فيه ولا يستطيع أن يثيبه على عمله. ولا يخفى ما في تقديم تلك العطية من إنكار الذات والنفقة العظيمة.

والله بذل ابنه لا ليملك باحتفال ويُكرم ويُمدح من الناس بل ليكون مهاناً مرذولاً ولا يُسخر به مصلوباً وميتاً لفداء البشر (رومية ٤: ٢٥ و٨: ٣٢). وعلة عطية المسيح للعالم ليست محبة العالم لله بل محبة الله للعالم.

سمّى المسيح نفسه في هذه الآية «ابن الله»: وسمّى نفسه في الآية التي قبلها «ابن الإنسان» لكي يعلم نيقوديموس أنه ذو طبيعتين. وقد مر الكلام على معنى كون المسيح ابن الله في الشرح ص ١: ١٤. وذهب البعض أن في هذا العدد تلميح إلى ما أتاه إبراهيم فإنه كان مستعداً لبذل ابنه الوحيد إسحاق طوعاً لأمر الله وأظهر بذلك محبته لله (تكوين ص ٢٢) فالله أعطى الإنسان الخاطئ أكثر مما رضي تعالى أن إبراهيم يعطيه.

كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ جاء في تفسير هذه في الآية السابقة. الله أحب العالم كله لكن الذين يستفيدون من تلك المحبة هم المؤمنون فإنه لا ينال الخلاص الذي أعده إلا هم. إنّ الله فعل كل ما اقتضاه خلاص البشر ببذل ابنه والابن فعل كل ما اقتضى ذلك بموته على الصليب من أجلهم فبقي على الناس أن يفعلوا ما عليهم وهو أن يؤمنوا بيسوع مصلوباً فالإيمان بيسوع هو الشرط الوحيد لنوال كل فوائد «عطية الله التي لا يُعبر عنها».

بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا المقصود من عطية الله وهو خلاص الهالكين.

١٧ «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَم».

لوقا ٩: ٥٦ وص ٥: ٤٥ و٨: ١٥ و١٢: ٤٧ و١يوحنا ٤: ١٤

بيّن المسيح في هذه الآية حقيقة أخرى «من الحقائق السماوية» وهي غاية مجيء المسيح. زعم نيقوديموس أن غايته دينونة أكثر العالم أي جميع الأمم ولا سيما الرومانيين.

لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ استحق العالم الدينونة فكان من الحق والعدل لو أرسل الله ابنه ليدينه لكنه اختار أن يظهر رحمته للخطاة بإرساله ليعد له الخلاص.

وما قيل هنا لا ينفي أن تكون غاية المسيح من مجيئه الثاني أن يدين غير المؤمنين كما أُعلن في ص ٥: ٢٢ و٢٧ وأعمال ١٧: ٣١ و٢كورنثوس ٥: ١٠ بل يبيّن علّة مجيئه الأول وهو إتيانه للخلاص لا كما ظن نيقوديموس أنها إنقاذ اليهود من عبودية الرومانيين بل إنقاذ العالم من عبودية الشيطان والإثم والموت.

بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ بشرط أن يؤمن العالم به. ولعل سبب قوله «ليخلص به العالم» بدل على أن يقول «ليخلص العالم» يبيّن أنه على العالم مسؤولية الإيمان لتحصيل الخلاص.

١٨ «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيد».

ص ٥: ٢٤ و٦: ٤٠ و٤٧ و٢٠: ٣١

تفيد هذه الآية أن مجيء المسيح وإن لم تكن غايته الدينونة يستلزم دينونة بعض الناس. وهي تقسم العالم إلى شطرين المذنبين والمبررين وذلك باختيارهما رفض المسيح أو قبوله.

اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ هذا مثل ما قيل في ص ٥: ٢٤ ورومية ٨: ١. ومعنى «لا يُدان» أنه بُرر لأجل المسيح وانتقل من الموت إلى الحياة (١يوحنا ٣: ١٤) وغُفرت خطاياه واُنقذ من لعنة الناموس ويحصل على كل ذلك عندما يؤمن.

ٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ الكلام هنا ليس على دينونة مستقبلة بل على دينونة حاضرة. وهذه الدينونة قد جلبها الخاطئ على نفسه بخطاياه والحاكم عليه بتلك الدينونة ضميره وشريعة الله. فلا حاجة إلى إتيان المسيح ليدينه دينونة أخرى فهو باق في الحال الأصلية لعدم إيمانه كأن المسيح لم يمت وهالك بآثامه. وبما أن الحاكم الأول ثابت عليه وهو «أن النفس التي تخطئ تموت» لا تبقى حاجة إلى حكم ثانٍ ودينونة ثانية.

لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ أي لأنه لم يستفد من الطريق الوحيد الذي أعده الله للنجاة. فيكون كالإسرائيلي الملدوغ الذي أبى أن ينظر إلى الحية النحاسية. ويكون فوق ذلك قد استهان بنعمة الله فزاد إثماً على إثمٍ (عبرانيين ١٠: ٢٩) ولا خطية تضر النفس مثل الكفر بالنعمة.

بِٱسْمِ أي بكل ما تُعلن به صفاته وأعماله. وأحد تلك الأسماء «يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى ١: ٢١).

ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ ليس لله ابن آخر ليأتي للخلاص إذا رُفض هذا. وتسميته «بالوحيد» تشير إلى عظمته واعتبار الآب إياه. فعلى قدر عظمة المسيح تعظم خطيئة من لم يؤمن به.

وبمقتضى نص هذه الآية أن الإنسان الذي يدان لا حق له في أن يلوم آدم على ذلك أو أن ينسب دينونته إلى الخطية الأصلية إنما يجب عليه أن يلوم نفسه لأنه لم يؤمن بالمسيح الذي يرفع الخطيئة وينجو به من كل دينونة.

١٩ «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً».

ص ١: ٤ و٩ و١٠ و١١ و٨: ١٢

هذه الآية تفيدنا أن الناس يدينون أنفسهم برفضهم المسيح.

وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ أي علة الدينونة وذلك لأنها أظهرت أحوال قلوبهم من صالحة وطالحة بمعاملتهم للمسيح ودينه.

إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ أي المسيح (ص ١: ٧) لأنه أعلن طريق الخلاص وأشرق به نور الإنجيل (متّى ٤: ١٦ وإشعياء ٩: ٢ و٦٠: ١).

وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ الظلمة هنا مستعارة للخطية والضلال وكل ما هو مضاد للحق. فالناس لا يهلكون لجهلهم الحق بل لرفضهم إياه اختياراً ولم يضلوا لعدم النور بل لمحبتهم ظلمة الإثم. فليس من علة لهلاك الناس سوى فساد قلوهم وعواطفهم. إن الله وضع أمام الإنسان النور وترك له الحرية في اختياره أو رفضه ففضل باختياره الجهل والانخداع والأوهام الدينية وسائر أنواع الضلال فجلب الهلاك على نفسه (هوشع ٤: ١٧ ورومية ١: ٢٨).

لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً أعمال الإنسان ترجمان أفكاره وعواطفه وخصاله فلو أتوا إلى النور أي المسيح وآمنوا به لاضطروا إلى الانفصال عن كل الأعمال الشريرة التي أحبوها ومعظم المانع للناس من قبول الحق هو شر قلوبهم لا جهلهم. فأعمال الفريسيين الشريرة منعتهم من الاقتناع بالبراهين أن يسوع هو المسيح وأن تعليمه من السماء.

٢٠ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُه».

أعمال ٢٤: ١٣ و١٧ وأفسس ٥: ١٣

كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ أي كل من يرتكب الشرور ولا يرجع عنها أو كل إنسان لم يتجدد قلبه.

يُبْغِضُ ٱلنُّورَ أي يكرهه ويبتعد عنه لأنه يُعلن شره لنفسه فيؤنبه ضميره فلا يرى وسيلة إلى الراحة إلا بهربه من النور (١ملوك ٢٢: ٨ أمثال ١٥: ١٢) ويظهر سيئاته لغيره فيوبخه عليها. وكثيراً ما حُكم في عصور الجهل بأن بعض الرذائل فضائل فيكره أهل الشر النور لأنه يكشف شرورهم.

وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ الخ هذا نتيجة بغض النور والخوف من توبيخ الضمير لأن يبغضه الإنسان ويخفافه يبتعد عنه.

ولنا من هذه الآية أربع فوائد:

  • الأولى: إن إحدى غايات الإنجيل توبيخ الناس على خطاياهم.
  • الثانية: سبب بغض أكثر الناس في كل عصر للإنجيل ومقاومتهم إياه. وهو أنه يوبخ على الظلم والخداع والزور والبغض والحسد والبخل والقساوة والسكر والزنا وكل الخطايا التي يكشف الإنجيل الحجاب عن فظاعتها.
  • الثالثة: أن أحوال قلوب الناس تُعرف من معاملتهم للإنجيل. فإن الصالحين يحبونه والأشرار يبغضونه (يوحنا ١٨: ٣٧).
  • الرابعة: أنه توجد دينونة قبل دينونة اليوم الأخير وهي دينونة الإنسان لنفسه. فالحكيم يطلب طريق التبرير ما دام في إمكانه.

٢١ «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ».

مزمور ١٥ ولوقا ٨: ١٥

وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ أي النقي المتجدد القلب الذي يحب الحق ويفعله ويطيع الضمير ويسير بمقتضى ما حصل عليه من النور ويسر بأن يقوده روح الله.

فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ أي يميل قلبه إلى المسيح وإنجيله ويسر بالحق ويُرحب به ويسير بمقتضاه فلا يخاف توبيخ ضميره له مما يُظهره النور ولا ما يعلنه له من صفات الله وإحساساته من جهته. ومن يُقبل إلى النور يواظب على درس الكتاب المقدس وعلى سؤال الروح القدس أن يرشده إلى فهم ذلك الكتاب وينتهز كل الفرص لمعرفة الحق والنجاة من الضلال.

لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ لا يخاف أن يُدان بواسطة النور على رياء وخداع وشر عمل ومشاركة للشيطان. وإن أظهر النور أن شيئاً من أعماله شريرة وهو غافل عنه سُرّ بذلك وأسرع إلى تركه.

أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ أي عُملت طوعاً لأمر الله وإرضاء له تعالى وهي كأعمال الله ونتيجة إرشاد روحه القدوس. والإتيان إلى النور هو عينه من الأعمال المعمولة بالله.

وهذه نهاية المحاورة بين المسيح ونيقوديموس ولم يذكر البشير تأثيرها في نيقوديموس. والأرجح أنه استفاد منها كما يستدل مما ذُكر في (ص ٧: ٥٠ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٩). وفي هذا الفصل أي من ع ١ إلى ع ٢١ بيان حقائق عظيمة منها عمل أقانيم اللاهوت الثلاثة وهو محبة الآب للعالم وموت المسيح على الصليب وفعل الروح القدس في تجديد قلب الإنسان ومنها فساد الطبيعة البشرية وحقيقة الولادة الثانية ومنزلة الإيمان في خلاص الخاطئ ومعظم علة دينونة الهالكين.

معمودية يوحنا وشهادته للمسيح ع ٢٢ إلى ٣٦

٢٢ «وَبَعْدَ هٰذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَكَانَ يُعَمِّدُ».

ص ٤: ٢

وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد كل ما يتعلق بالفصح الأول حين كان يسوع في مدينة أورشليم (ص ٢: ٢٣).

إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ترك قاعدة البلاد التي هي أورشليم وجال في الأرض المجاورة لها.

واليهودية هي القسم الجنوبي من الأقسام الثلاثة التي قُسمت إليها الأرض المقدسة في عصر المسيح وهي ممتدة من برية التيه في الجنوب قرب بئر السبع إلى تخوم السامرة في الشمال وتلك التخوم إلى أمد ثماني ساعات من أورشليم وتمتد من الأردن في الشرق إلى سهل الفلسطينيين في االغرب. والأرجح أن المسيح شغل بذلك الجولان ثمانية أشهر أو تسعة لأن الفصح كان في آذار وهو ذهب إلى السامرة في كانون الأول قبل بداءة الحصاد بأربعة أشهر (يوحنا ٤: ٣٥). ولم يذكر متّى في إنجيله خدمة المسيح في اليهودية ولو ذكرها لكان موضع ذكرها في الأصحاح الرابع من إنجيله بين العدد ١١ و١٢ منه.

وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ أي في محال مختلفة في أرض اليهودية.

وَكَانَ يُعَمِّدُ لم يعمد هو نفسه بالماء بل تلاميذه كانوا يفعلون ذلك بأمره وسلطانه (ص ٤: ٢) فكان عمل المسيح وقتئذ التبشير والتعليم. فالأرجح أن تلك المعمودية كانت كمعمودية يوحنا المعمدان وهي معمودية التوبة بغية إرشاد الناس إلى المسيح. وكانت مناداة تلاميذ المسيح مثل مناداة يوحنا وهي قوله «ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ»(متّى ١٠: ٧) ولعل الغاية من تلك المعمودية كانت إقرار المعمودين بأن يسوع هو المسيح، ولم نسمع بعد أن تقدم يسوع في الخدمة أنهم عمدوا. ولم تكن معمودية الروح قد أُجريت يومئذ (ص ٧: ٣٩). والمعمودية المسيحية رُسمت بعد قيامة المسيح (متّى ٢٨: ١٩) ومورست أولاً في يوم الخمسين (أعمال ٢: ٤٢).

٢٣ «وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ، لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُون».

١صموئيل ٩: ٤ ومتّى ٣: ٥ و٦

عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لم يتحقق موقعا هذين المحلين إلى الآن والأرجح أنهما غربي الأردن وشرقي شكيم أي نابلس. والقرينة تدل أنهما قرب الموضع الذي مكث فيه المسيح وتلاميذه بعض الوقت.

مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ كثرة الجموع الذين قصدوا يوحنا المعمدان اقتضت كثرة الماء لهم ولبهائمهم فلا يلزم من ذاك شيء من جهة كيفية معموديته.

٢٤ «لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي ٱلسِّجْنِ».

متّى ١٤: ٣

ذاك في مدة خدمة المسيح في اليهودية لأنه حين أُلقي يوحنا في السجن ترك يسوع اليهودية وذهب إلى الجليل (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). والغاية من النبإ في هذه الآية بيان أن خدمة يوحنا وخدمة يسوع بقيتا مدة معاً وأن خدمة المسيح لم تبتدئ وقت سجن يوحنا وأن خدمة يوحنا لم تنته عند ابتداء يسوع بالكرازة. وقد مر استيفاء الكلام على سجن يوحنا في شرح ع ١٢ من ص ٤ من بشارة متّى وع ٢٠ من ص ٣ من بشارة لوقا.

٢٥ « وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ ٱلتَّطْهِيرِ».

تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا تبع بعض تلاميذ يوحنا المعمدان المسيح ص ١ وبقي الآخرون (وهم الأكثر) معه. وموضوع المباحثة هنا حُسب عند اليهود ولا سيما عند الفريسيين من أهم المواضيع. ولم يتضح هنا أي شيء من أمور التطهير كان مدار البحث عليه. ولعله منزلة المعمودية في التطهير ثم أنفعية إحدى المعموديتين معمودية يوحنا أو معمودية المسيح وأنه هل تغني الثانية عن الأولى. لأن القرينة تدل على أن تلك المباحثة لم تنشأ إلا والمعموديتان جاريتان معاً ومتجاورتان.

ووقع بعد ذلك مباحثة بين المسيح والفريسيين من جهة التطهير الخارجي والداخلي (مرقس ٧: ٥ ولوقا ١١: ٣٩).

٢٦ «فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هُوَذَا ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ، ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ، هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ».

ص ١: ٧ و١٥ و٢٧ و٣٤

فَجَاءُوا أي تلاميذ يوحنا.

ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ يدل كلام تلاميذ يوحنا على الحسد والغيرة من نجاح عمل المسيح ووفرة اعتبار الناس له ومما يشير إلى ذلك عدم ذكرهم اسم يسوع. والظاهر أنهم توقعوا مشاركة يوحنا لهم في ذلك. ولا يمكن أن يحدث هذا كله لولا جهلهم عظمة يسوع وحقيقة النسبة بينه وبين معلمهم.

ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ قالوا هذا إشارة إلى ما ذُكر في ص ١: ٢٩ وإلى أن يسوع كان مديوناً ليوحنا بتلك وأنه أنكر معروفه بمباراته له في المعمودية وصرف اعتبار الناس عن يوحنا إليه.

وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ أي كل الذين يأتون إلى يوحنا ص ٤: ١ وهذه علة هياجهم أي خوفهم من زوال اعتبار الناس لمعلمهم. ولا ريب في أن غيرتهم حملتهم على شيء من المبالغة بقولهم «الجميع» الخ والواقع أن كثيرين أتوا إليه. وهذه ليست المرة الوحيدة التي فيها أظهر الناس لأجل طائفتهم أو رئيسها الغيرة التي كان يجب عليهم أن يظهروها للمسيح نفسه.

٢٧ «فَقَالَ يُوحَنَّا: لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».

١كورنثوس ٤: ٧ وعبرانيين ٥: ٤ ويعقوب ١: ١٧

أما يوحنا فلم يشارك تلاميذه في غيرتهم ولم يتأثر من كلامهم. ومضمون كلامه أن كل النجاح من الله. وأنه هو عيّن لكل منا مقامه وعمله وقوته في الكلام والعمل وتأثيره في الناس. وأن عظمة يسوع من الله وبرهان على أنه هو المسيح المرسل من السماء فلا داعي للغيرة والحسد لما قضى الله به وهو لم يعطني مقام المسيح فأنا لست سوى سابقه.

٢٨ «أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ».

ص ١: ٢٠ و٢٧، ملاخي ٣: ١ ومرقس ١: ٢ ولوقا ١: ١٧

تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ ذكّر يوحنا تلاميذه شهادته ليسوع ليبينوا مَنَّه عليه. أما هو فنبههم على معنى شهادته ص ١: ٢٠ و٢٥ – ٢٧ وأن الشيء الذي غاظهم من تقدم يسوع على يوحنا هو الواجب أن يكون بمقتضى تلك الشهادة.

إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ كالمنادي أمام الملك (لوقا ٣: ٣ – ٦) فإني لم آت لأجمع شعباً واعتباراً لنفسي بل لأهيئ الطريق قدام المسيح فنجاحه نجاحي وغاية مجيئي.

٢٩ «مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ ٱلْعَرِيسِ ٱلَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ».

متّى ٢٢: ٢ و٢كورنثوس ١١: ٢ وأفسس ٥: ٢٥ و٢٧ ورؤيا ٢١: ٩، نشيد الأناشيد ٥: ١

أظهر يوحنا بهذا نسبته إلى المسيح وهي أمران الأول أنه دونه في المقام والثاني أنه راضٍ ومسرور بذلك. ولا مقتضى لطلب معنى لكل ما في هذا التمثيل والجوهر فيه الأمران المذكوران.

مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ هذه قاعدة عامة تصح في كل عرس وهو أن العروس للعريس. جعل يوحنا هنا المسيح بمنزلة العريس وجعل نفسه بمنزلة الصديق الذي يكون الوسيط في الخطبة ويعتني بأمور العرس في حينها. فبالطبع يكون العريس المقدم في الاعتبار وقت العرس. له العروس والاعتبار والإكرام وأما صديق العريس فلا يستحق شيئاً من ذلك الاعتبار ولا يتوقعه بل يفرح لفرح العريس.

يَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ اعتبر يوحنا شيوع الخبر بنجاح يسوع وتأثير تعليمه وإتيان الكل إليه بمنزلة سمع الصديق لصوت العريس عتد ابتهاجه فيفرح معه.

إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ الذي أغاظكم بإتيان الجميع إليه هو الذي سرني السرور الكامل.

ومن أراد الوقوف على وجه الشبه بين العروس والكنيسة في الكتاب المقدس فليطالع (إشعياء ٦٢: ٥ وإرميا ٣: ٣١ وأفسس ٥: ٢٦ و٣٢ ورؤيا ٩: ٢١). ولا دليل على أن يوحنا قصد تشبيه الكنيسة بالعروس هنا إنما ذكرها إتماماً للمعنى.

٣٠ «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ».

أظهر يوحنا بهذا الكلام التواضع الحقيقي وقصد به إزالة كل ما خامر قلوب تلاميذه من أفكار الحسد ليسوع.

يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ يزيد أي أن الله قضى أن يكون كذلك وهو لائق بذاته لكونه مسيحاً وملكاً فلا بد من أن يزيد مجده وسلطانه بلا نهاية إلى الأبد وأن يكثر عدد تابعيه وتأثيره فيهم.

وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ كما ينقص نور كوكب الصبح عند طلوع الشمس لانتهاء وظيفتي وهي كوني سابق الملك والمنادي بقدومه عن مجيء الملك نفسه.

وكذلك نقصت قيمة الرموز الموسوية عند ظهور المرموز إليه ونقص اعتبار نظام العهد القديم الذي كان يوحنا من أتباعه وزادت قيمة النظام الإنجيلي وسوف يزيد على الدوام.

ويجب على كل خادم للإنجيل أن تكون غايته كغاية يوحنا المعمدان وهي اشتياقه إلى أن يمجد المسيح بتبشيره وأن يهدي إليه الضالين في قفر الهلاك لا أن يكون هو الممجد المكرم المحبوب.

٣١ «اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ».

ع ١٣ وص ٨: ٢٣، متّى ٢٨: ١٨ وص ١: ١٥ و٢٧ ورومية ٩: ٥، ١كورنثوس ١٥: ٤٧، ص ٦: ٢٣ وأفسس ١: ٢١ وفيلبي ٢: ٩

الكلام في هذا العدد والأربعة التابعة له أيضاح لما قيل في العدد الثلاثين في عظمة المسيح وأفضلية شأنه على شأن يوحنا المعمدان.

اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ أي المسيح (ع ١٣ وص ٦: ٣٣ و٨: ٢٣) وأفضلية يسوع على يوحنا تقوم بموجب هذه الشهادة بمصدره السماوي لأن يوحنا لم يقصد هنا أن تعليم المسيح من السماء بل أنه هو نفسه من هنالك لأن المسيح لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً أيضاً فأتى «من فوق» حين اتخذ طبيعة الإنسان فوجب أن يسمو على الجميع عظمة واعتباراً.

فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن يرأس كل خدم الدين من أنبياء وملائكة ومرسلين أمام وجهه بمقامه وسلطانه (رومية ٩: ٥ وعبرانيين ١: ١ و٢ و٤: ١٤).

وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ أي كل إنسان مثلي أصله من هنا مخلوق من التراب ويرجع إليه.

هُوَ أَرْضِيٌّ كسائر البشر ضعيف ناقص أفكاره وأعماله وإحساساته من متعلقات هذه الأرض فهو دون ذاك الذي هو من فوق.

وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ أي يتكلم إنساناً مجرداً محدود العلم ناقص الإدراك. نعم إنّ تعليم يوحنا المعمدان بالنسبة إلى تعليم الكتبة والفريسيين كان سماوياً ولكنه بالنسبة إلى تعليم المسيح أرضي.

اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن المسيح يفوق كل الأنبياء والمعلمين والمبشرين بعلمه وبكل صفات طبيعته وبمجده وسلطانه.

٣٢ «وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا».

ع ١١ و٨: ٢٦ و١٥: ١٥

وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ أبان يوحنا أن تعليم المسيح إلهي كما شهد بأن طبيعته إلهية ومصدره سماوي. وبما أن المسيح أتى من السماء يقدر أن يشهد بالأمور السماوية من اختباره مما رآه وسمعه هنالك ومن علمه بكل أفكار الله كما شهد لنفسه في ع ١١ وص ٥: ١٩ و٣٠: و٨: ٣٨. فما تكلم به يوحنا المعمدان إنما تكلم به كخادم ينقل كلام سيده ولا يدرك كل معناه ولكن ما تكلم به المسيح تكلم كابن في ما رآه وسمعه في بيت أبيه. وقوله «رآه وسمعه» كناية عن العلم الكامل. ومفاد شهادة يوحنا المعمدان أن تعليم المسيح حقٌ يقين لا ريب فيه وأظهر بذلك فضل المسيح على كل معلمي البشر الذين لا يستطيعون أن يتكلموا إلا بما تعلموه من الروح القدس أو من أمثالهم من الناس.

وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا هذا رد من يوحنا المعمدان على قول تلاميذه «الجميع يأتون إليه» فكأنه قال لهم ما علمته غير ما ظننتم. فإنّه علم أن مجلس السبعين وأكثر الأمة اليهودية رفضوا قبول يسوع مسيحاً ولذلك قال ما قال. وليس معناه نفي قبول بعض أفراد الناس للمسيح كما يتبين من الآية الآتية. فمعناه أنه مع إتيان الجميع إليه كما قلتم لم يقبل شهادته ويؤمن به إلا قليلون فإتيان أكثرهم إليه كان وقتياً ولغايات مختلفة (ص ٦: ٢٦ و٦٦ ومتّى ٢٦: ٥٦).

٣٣ «وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ».

رومية ٣: ٤ و١يوحنا ٥: ١٠

مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ المراد بقبول شهادة المسيح هنا تصديق دعواه والإيمان به وإخضاع القلب له.

فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ أي أن الإيمان بالمسيح هو الإقرار بصدق الله الذي تكلم أولاً بلسان يوحنا المعمدان نفسه لأنه سمع قول الله في يسوع «هذا هو ابني الخ». وشاهد علامة من الله بنزول الروح القدس عليه كحمامة فتحقق بها أنه هو المسيح. فمن صدق المسيح صدق الله المتكلم بلسان يوحنا.

ثانياً: بألسنة الأنبياء الذين تنبأوا بوحي الله وتمت نبوءتهم بالمسيح.

ثالثاً: بواسطة المعجزات التي صنعها المسيح وشهد بها الله بصدق دعوى ابنه.

رابعاً: بلسان المسيح عينه الذي هو كلمة الله والمعلن للناس كلام أبيه.

ومعنى قوله «ختم أن الله صادق» أنه أثبت صدق الله كل الإثبات بناء على أن الناس عادة يثبتون شهادتهم بالختم. فإذاً كل مؤمن بالمسيح يشهد بصدق الله. وجماعات المسيحيين في كل عصرهم جيوش شهود ختموا ويختمون على شهادة المسيح بصدق الله. وأما الذين ينكرون المسيح وتعليمه فكانهم يبذلون جهدهم في أن يجعلوا الله كاذباً (١ يوحنا ٥: ١٠).

٣٤ «لأَنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ».

ص ٧: ١٦ ص ١: ١٦

ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ أي المسيح، وكثيراً ما ذُكر المسيح أنه مرسل من الله ولذلك سُمّي «رسول اعترافنا» (عبرانيين ٣: ١) ولكنه ليس كسائر الرسل لأنه من السماء ع ٣١ وأُرسل ليكون المسيح المخلص.

يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ هذا شرح ما قيل في العدد السابق وهو أن تصديق المسيح تصديق لله لأن المسيح لم يتكلم من عنده كما يمكن الإنسان أن يتكلم بل إنّه مُرسل إلهي من السماء أتى ليعلن للناس أفكار الله وكلامه الذي أراد الله أن يعرفه الإنسان ويأمر يسوع أن يتكلم به.

لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ أي الروح القدس. والمعنى أن الله لم يعط ابنه مقداراً قليلاً من الروح القدس لأن القليل المحدود يُوزن ويُكيّل بخلاف الوافر غير المحدود. وقد رأى يوحنا المعمدان الروح القدس نازلاً على المسيح بهيئة حمامة وعرف انه امتلأ من ذلك الروح (ص ١: ٣٢ و٣٣ ولوقا ٤: ١) وكان يسوع حاصلاً على كل مواهب الروح ومستعداً لإعلان أسرار الله. والكلام على المسيح هنا باعتبار كونه وسيطاً وكلمة الله المتجسد لا باعتبار كونه ابن الله المتحد منذ الأزل بالروح القدس. فمسحه الله بروحه لكي يمارس وظيفته ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه (إشعياء ٦١: ١ وأعمال ١٠: ٣٨).

أعطى الله سائر الأنبياء من روحه في أوقات معينة لغايات خاصة. أما المسيح فكان روح الله عليه أبداً وكان هو ممتلئاً منه.

٣٥ «اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ».

متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ولوقا ١٠: ٢٢ وص ٥: ٢٠ و١٣: ٣ و١٧: ٢ وعبرانيين ٢: ٨

اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ زاد يوحنا المعمدان هذا على ما قاله آنفاً بياناً لأفضلية المسيح عليه وهو أن المسيح ابن وأن يوحنا وسائر الأنبياء والمعلمين ليسوا سوى خدام. وعرف أن الآب يحبه بالوحي والإعلان بصوت مسموع وهو قول الآب من السماء «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». وكانت محبة الآب للمسيح أعظم من محبته لسائر أتقيائه الناس والأنبياء والرسل كما أن محبة الآب للإبن تكون أعظم من محبته للخدم (ص ١٧: ٢٤).

وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ باعتبار كونه الوسيط لأمرين. الأول أن يكون قادراً على ممارسة عمل الفداء. والثاني الإثابة له على اتضاعه الاختياري.

وهذا وفق ما قيل في متّى ١١: ٢٧ وأفسس ١: ٢١ و٢٢ وفيلبي ٢: ٩ وكولوسي ١: ١٩ – ٢٠ انظر أيضاً الشرح متّى ٢٨: ١٨ وهذا أي قوله «دفع كل شيء في يده» زيادة على قوله في الآية السابقة في شأن إعطائه الروح وتمييز بين ما وهبه الله للأنبياء من البشر من المواهب المعينة والقوة المحدودة وما أعطاه للمسيح. قابل هذا بما في (مزمور ٢: ٧ – ٩). وأشار بقوله «في يده» إلى تصرف المسيح في كل شيء كما يشاء.

٣٦ «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ».

حبقوق ٢: ٤ وص ١: ١٢ وع ١٥ و١٦ وص ٦: ٤٧ ورومية ١: ١٧ وايوحنا ٥: ١٠

هذا البيان الأخير لأفضلية المسيح وهي قائمة ببيان أفضلية الإيمان به. فالحياة والموت أي السماء وجهنم بقبول ذلك الذي كان «مع المعمدان في عبر الأردن» (ع ٢٦) أو برفضه.

اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ أي يقبله مخلصاً وحيداً كافياً ويتكل عليه ويعترف به. فإنه لكونه الابن كان الإيمان به. حياة النفس ورفضه موتها.

لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ المراد بالحياة هنا الحياة الروحية هي نجاة النفس من دينونة الخطية ولعنة الناموس وحصولها على غفران الخطايا والسلام مع الله والميراث السماوي. والكلام هنا غير مقصور على المستقبل بل يعم ما تناله النفس في حال قبولها المسيح فإنها في ذلك الوقت عينه «تنتقل من الموت إلى الحياة» وتحصل على بداءة السعادة التي تكون في السماء بلا نهاية. وهذا مطابق لقول المسيح في ع ١٥ و١٦ و١٨.

لَنْ يَرَى حَيَاةً ما دام غير مؤمن فلا يكون له أقل نصيب في بركات الحياة الروحية في هذا العالم ولا في العالم الآتي. ولأن المسيح المصدر الوحيد لتلك الحياة كان من لم يتحد به خالياً منها وليس له ملجأ من عواقب إثمه.

بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ أي الغضب الذي يوجبه الله على الخاطئ لخطيئته. وكل البشر عرضة لذلك الغضب لأنهم خطاة وفقاً لقول الرسول «وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً» (أفسس ٢: ٣). وهذا الغضب هو الذي احتمله المسيح بدلاً من الخطأة والذي ينجو منه كل من يؤمن باسمه (رومية ٢: ٨ وأفسس ٤: ٣١ وكولوسي ٣: ٨ ورؤيا ١٩: ١٥) وقوله إنّ هذا الغضب يمكث على غير المؤمن يفيد أنه يمكث عليه الآن ويبقى إلى الأبد لسبب خطيئته كأن يسوع لم يمت عنه. وزاد على نفسه الغضب برفضه النعمة التي عرضها الله عليه بواسطة ابنه.

والله لا يظهر في هذا العالم غضبه على الخطأة غير المؤمنين لأنه يسر بأن يعطيهم فرصة للتوبة (٢بطرس ٣: ٩) ولأن يسوع يشفع فيهم (لوقا ١٣: ٨) لكنه لا يبقى بعد الموت وموقف الدين سوى غضب بلا رحمة.

وليس في ما قيل هنا ما ينافي «أن الله محبة» لأن الله أعد طريق النجاة من ذلك الغضب لكل إنسان وكلفه ذلك ما لا يُحد. وما جاء في هذه الآية شهادة يوحنا المعمدان الأخيرة للمسيح وخلاصة كل ما قاله فيه وهو تحذيره الأخير لتلاميذه وللأمة اليهودية. والأرجح أن المعمدان سُجن بعد ذلك بقليل. ولم يذكر البشير سجنه وموته مع ما يتعلق بها من الحوادث لأنه حسب قارئ بشارته عارفاً بذلك وهي ليست من مقاصد إنجيله. لكن ما قيل في ص ٥: ٣٥ يشير إلى أن خدمته كانت قد انتهت يومئذ. وأفضلية المسيح على يوحنا المعمدان خمسة أمور:

  • أولاً: أصل المسيح ع ٣١.
  • ثانياً: تعليمه فإنه تكلم من اختباره وكان تصديقه تصديق الله نفسه ع ٣٢ و٣٣.
  • ثالثاً: أن له الروح بلا كيل ع ٣٤.
  • رابعاً: أنه ابن الله وله كل سلطان ع ٣٥.
  • خامساً: أن نتيجة قبوله أو رفضه ذات شأن عظيم جداً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى