إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 13 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث عشر

إنباء يسوع بخراب أورشليم وبمجيئه الثاني وبنهاية العالم ص ١٣

سبق الكلام على نبؤات هذا الأصحاح في شرح بشارة متّى ص ٢٤. وذكر هذا ثلاثة من البشيرين وهم متّى ومرقس ولوقا واستوفى متّى الكلام عليه أكثر من غيره. وتفصيله الآتي حسب ما أنبأ مرقس.

الأحوال حين ذلك الإنباء ع ١ إلى ٤

١ – ٤ «١ وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا مُعَلِّمُ، ٱنْظُرْ مَا هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ وَهٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةُ؟ ٢ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةَ ٱلْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. ٣ وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ، تُجَاهَ ٱلْهَيْكَلِ، سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: ٤ قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هٰذَا، وَمَا هِيَ ٱلْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هٰذَا؟»

متّى ٢٤: ١ ولوقا ٢١: ٥، لوقا ١٩: ٤٤، متّى ٢٤: ٣ ولوقا ٢١: ٧

انظر الشرح متّى ٢٤: ١ – .٣

فِيمَا هُوَ خَارِجٌ هذا خروج المسيح الأخير من الهيكل وذهب بعده شرقاً إلى وادي قدرون وجبل الزيتون.

مِنَ ٱلْهَيْكَلِ يصح أن يسمى هذا الهيكل بالهيكل الثالث. فالأول بناه سليمان في سبع سنين وأكمله في نحو سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد. وكان عجيباً في غناه وجماله ومجده وبقي قائماً أربع مئة سنة ثم هدمه نبوخذنصر ملك بابل سنة ٥٨٦ ق. م. والهيكل الثاني بناه زربابل على أساس الأول بأمر قورش الفارسي نحو سنة ٥٢٠ ق. م. ونهبه أنطيوخوس أبيفانيس سنة ١٧٠ ق. م. ثم نهبه كراسوس القائد الروماني سنة ٥٤ ق. م وأخذ منه ما قيمته ٢٠٠٠٠٠٠ ليرة إنكليزية. وأخذ هيرودس الكبير يصلّح ويوسّع الهيكل الثاني في سنة ١٧ ق. م وأكمل معظمه في ٨ سنين وتمّمه هيرودس أغريباس الثاني سنة ٦٤ للميلاد ولعظمة ذلك التغيير صار يستحق أن يُسمّى بالهيكل الثالث. وهذا هدمه تيطس الروماني سنة ٧٠ ب. م.

وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ نسب مرقس الخطاب إلى واحد من التلاميذ لأنه كان نائباً عن البقية كما يظهر من قول متّى في هذا الشأن.

عَلَى ٱنْفِرَادٍ (ع ٣) أي عن الشعب لا عن التلاميذ. ولم يكن كلامه مقصوراً على الأربعة الذين سألوه بل هو للاثني عشر (متّى ٢٤: ٣).

مَتَى يَكُونُ هٰذَا (ع ٤) يظهر من كلام متّى أن التلاميذ سألوه عن ثلاثة أمور وهي خراب أورشليم وعلامات مجيئه الثاني ونهاية العالم.

التحذير من الخداع بعلامات كاذبة ع ٥ إلى ٨

٥ – ٨ «٥ فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: ٱنْظُرُوا! لاَ يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. ٦ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. ٧ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا، لأَنَّهَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ ٱلْمُنْتَهَى بَعْدُ. ٨ لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَٱضْطِرَابَاتٌ. هٰذِهِ مُبْتَدَأُ ٱلأَوْجَاعِ».

إرميا ٢٩: ٨ وأفسس ٥: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ٣، متّى ٢٤: ٨

انظر شرح بشارة متّى ٢٤: ٤ – ٨.

يظهر من تحذير المسيح أن تلاميذه توقعوا أن ملكوته يقوم بالقوة والمجد في الحال بدون أن يلم به شيء من الاضطهاد والضمائر التي قضى بها الله عليه. ونصح المسيح تلاميذ بأربعة أمور وهي الحذر والسهر والثبوت والصلاة. وذكر أربعاً من العلامات الكاذبة وهي:

(١) الأنبياء الكذبة و(٢) أخبار حروب

(٣) حدوث الزلازل و(٤) المجاعات

شدائد تلاميذ المسيح ع ٩ إلى ١٣

٩ – ١٣ «٩ فَٱنْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. ١٠ وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ١١ فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ فَبِذٰلِكَ تَكَلَّمُوا، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. ١٢ وَسَيُسْلِمُ ٱلأَخُ أَخَاهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. ١٣ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ».

متّى ١٠: ١٧ و١٨ و٢٤: ٩ ورؤيا ٢: ١٠، متّى ٢٤: ١٤، متّى ١٠: ١٩ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٤ وأعمال ٢: ٤ و٤: ٨ و٣١، ميخا ٧: ٦ ومتّى ١٠: ٢١ و٢٤: ١٠ ولوقا ٢١: ١٦، متّى ٢٤: ٩ ولوقا ٢١: ١٧، دانيال ١٢: ١٢ ومتّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ١٣ ورؤيا ٢: ١٠

راجع شرح بشارة متّى ٢٤: ٩ – ١٣.

أنبأ المسيح هنا باضطهادات مخصوصة تأتي على المسيحيين قبل خراب أورشليم بعضها من الأعداء الخارجيين وبعضها من أصدقائهم وأقربائهم ولكنه عزاهم بوعده أنه يثبتهم بالخلاص أخيراً على ثبوتهم وصبرهم.

فَٱنْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ ذلك لا لكي يهربوا من الاضطهاد بل ليتوقعوه ويستعدوا له لئلا ينكروا المسيح. ولم يذكر متّى في هذا النبأ ما ذكره مرقس فيه في الآية التاسعة والآية الحادية عشرة لان متّى ذكره قبلاً (متّى ١٠: ١٨).

يُكْرَزَ أَوَّلاً بِٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ (ع ١٠) هذه الغاية هي التي أراد المسيح أن يسعى التلاميذ إليها وهي توزيع إنجيله في الأرض وهذا التوزيع شرط لإتيانه ثانية ولنهاية شدائد الكنيسة أي أن المسيح لا يأتي وشدائد كنيسته لا تنتهي إلا بعد انتشار الإنجيل في كل الأرض. وفي كلام المسيح تلميح إلى أن مصائب المسيحيين ذريعة إلى بث بشرى الخلاص لأن دم الشهداء بذار الكنيسة والشهداء أفضل شهود الإنجيل.

نصائح للمسيحيين عند خراب أورشليم ع ١٤ إلى ٢٣

١٤ – ٢٣ «١٤ فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ» ٱلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ ٱلنَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي – لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ – فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، ١٥ وَٱلَّذِي عَلَى ٱلسَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ إِلَى ٱلْبَيْتِ وَلاَ يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، ١٦ وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. ١٧ وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. ١٨ وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. ١٩ لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ٱبْتِدَاءِ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلَّتِي خَلَقَهَا ٱللّٰهُ إِلَى ٱلآنَ، وَلَنْ يَكُونَ. ٢٠ وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ ٱلرَّبُّ تِلْكَ ٱلأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلٰكِنْ لأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ قَصَّرَ ٱلأَيَّامَ. ٢١ حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا ٱلْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا. ٢٢ لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، لِكَيْ يُضِلُّوا – لَوْ أَمْكَنَ – ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. ٢٣ فَٱنْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ».

دانيال ٩: ٢٧ ومتّى ٢٤: ١٥، لوقا ٢١: ٢١، لوقا ٢٩: ٢٣ و٢٣: ٢١، دانيال ٩: ٢٦ و١٢: ١ ويوئيل ٢: ٢ ومتّى ٢٤: ٢١، متّى ٢٤: ٢٣ ولوقا ١٧: ٢٣ و٢١: ٨، ٢بطرس ٣: ١٧

لا فرق بين أنباء مرقس وأنباء متّى في هذا الشأن فراجع شرح إنجيل متّى في ذلك (متّى ٢٤: ١٥ – ٢٥).

إنباء بحوادث قبل مجيء المسيح الثاني وقبل نهاية العالم ع ٢٤ إلى ٣١

٢٤ – ٣١ «٢٤ وَأَمَّا فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلضِّيقِ، فَٱلشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، ٢٥ وَنُجُومُ ٱلسَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَٱلْقُّوَاتُ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. ٢٦ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُّوَةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، ٢٧ فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاءِ. ٢٨ فَمِنْ شَجَرَةِ ٱلتِّينِ تَعَلَّمُوا ٱلْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً، تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَرِيبٌ. ٢٩ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ. ٣٠ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ. ٣١ اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».

دانيال ٧: ١٠ و١٢: ١ وصفنيا ١: ١٥ ومتّى ٢٤: ٢٩ الخ ولوقا ٢١: ٢٥، دانيال ٧: ١٣ و١٤ ومتّى ١٦: ٢٧ و٢٤: ٣٠ وص ١٤: ٦٢ وأعمال ١: ١١ و١تسالونيكي ٤: ١٦ و٢تسالونيكي ١: ٧ و١٠ ورؤيا ١: ٧، متّى ٢٤: ٣٢ ولوقا ٢١: ٢٩ الخ، إشعياء ٤٠: ٨

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ هذه الأيام ليست محصورة بما قبل خراب أورشليم بل تشتمل على كل الزمان الذي قبل مجيء المسيح الثاني.

لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ قال يسوع أن النبؤة أي في نحو أربعين سنة وذلك يكون رمزاً إلى نجازها الأكمل والأعظم بعد زمان طويل بل لم يُعين.

كتم الله وقت مجيء المسيح الثاني ع ٣٢ و٣٣

٣٢، ٣٣ «٣٢ وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَلاَ ٱلابْنُ، إِلاَّ ٱلآبُ. ٣٣ اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ ٱلْوَقْتُ».

متّى ٢٤: ٤٢ و٢٥: ١٣ ولوقا ١٢: ٤٠ و٢١: ٣٤ ورومية ١٣: ١١ و١تسالونيكي ٥: ٦

ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ أي يوم المجيء الثاني ونهاية العالم وهو اليوم المذكور في ع ٢٤ – ٢٧.

وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ فالذي لم يعلنه الله لملائكته لا حق للتلاميذ أن يتوقعوا معرفته.

وَلاَ ٱلابْنُ لم يذكر هذه العبارة سوى مرقس وفيها سرّ عظيم هو حقيقة التجسد الإلهي. فمن يسلمون بحقيقة اتحاد طبيعة المسيح البشرية بطبيعته الإلهية لا يرون فيها ما يعثرهم. فهو كقول لوقا «إن المسيح كان ينمو بالحكمة والقامة» (لوقا ٢: ٥٢). وانه كان «يتعجب» (متّى ٨: ١٠). وأنه بكى وجاع ونام «وتعلم الطاعة» (عبرانيين ٥: ٨). وتجرّب (متّى ٤: ١ – ١١). فتلك كغيرها مما ذكرنا تبرهن أن للمسيح طبيعتين أي أنه إنسان تام كما أنه إله تام وهو تارة يتكلم باعتبار كونه إنساناً كما تكلم عند موت لعازر بقوله «أين وضعتموه» (يوحنا ١١: ٣٤). وطوراً باعتبار كونه الله كما تكلم عند إقامة لعازر بقوله «هلم خارجاً» (يوحنا ١١: ٤٣). فإذاً قوله «ولا الابن» كان باعتبار كونه إنساناً.

اُنْظُرُوا كرّر المسيح هذا الأمر في هذا الأصحاح أربع مرات وهذا التكرير دليل على هول التجارب التي يعرّض التلاميذ لها وشدة الخطر عليهم منها.

اِسْهَرُوا وَصَلُّوا (انظر شرح متّى ٢٤: ٤٢).

لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ جهل التلاميذ وقت مجيء المسيح ثانية لم يسوّغ لهم إهمال الاستعداد له بل يجب أن يحملهم على زيادة الانتباه والتوقع. لأن ما جهل وقت حدوثه يمكن أن يحدث في أي وقت كان. ويحتمل أن يكون ذلك المجيء في أي يوم كان وفي أي ساعة كانت. ومهما كان من الريب في زمن مجيئه فلا ريب البتة في المجيء عينه. فيجب أن نكون «مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (تيطس ٢: ١٣). وعلى ذلك يجب علينا أن لا نقول مضى زمن مجيئه ولا أن نتوقعه في المستقبل البعيد ولا أن نعين سنة ذلك المجيء بل ينبغي أن ننتظره بالإيمان كل حين.

مَثل المسافر ع ٣٤ إلى ٣٧

٣٤ – ٣٧ «٣٤ كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ ٱلسُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى ٱلْبَّوَابَ أَنْ يَسْهَرَ. ٣٥ اِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ ٱلْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ ٱللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ ٱلدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً. ٣٦ لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! ٣٧ وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: ٱسْهَرُوا».

متّى ٢٤: ٤٥ و٢٥: ١٤، متّى ٢٤: ٤٢ و٤٤

انظر تفسير بشارة متّى ٢٤: ٣٧ – ٤٢.

ذكر متّى علاوة على ما قال مرقس هنا تنبيه التلاميذ على أن مجيء المسيح يكون بغتة كما كان الطوفان في أيام نوح. ومثل مجيء السارق ليلاً وتحريضهم على الاستعداد. وعلى ذلك ذكر مثل العذارى ومثل الوزنات وتكلم على حوادث يوم الدين. وإثابة الذين على يمين الديّان وعقاب الذين على يساره.

كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ هذا إشارة إلى حال الكنيسة من وقت صعود المسيح إلى وقت مجيئه الثاني لأن ربها غير ظاهر لعينيها فكأنه مسافر عنها.

بَيْتَهُ المراد به هنا الكنيسة.

وَأَعْطَى عَبِيدَهُ ٱلسُّلْطَانَ أي وهب لرسله السلطة الكافية لإنشاء كنيسته على الأرض. ثم لخدم الكنيسة الذين بعدهم أن يجروا أمور تلك الكنيسة وفق ما تركه فيها من أوامره. وذلك السلطان ليس سلطاناً مطلقاً لأن المسيح لم يقم له من ينوب عنه على الأرض لكنه هو يسوس الكنيسة ويرشد معلميها ومدبريها بكلامه وبروحه.

لِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ يظهر من ذلك أن لا أحد في كنيسة المسيح معفىً من الخدمة سواء كان ذا سلطان أو كان تحت سلطان كبيراً كان أو صغيراً غنياً أو فقيراً. وعليه أن لا يترك العمل إلا إلى أن يأتي السيّد (لوقا ١٩: ١٣). والعمل المكلف به هو أن يمجد الله ويضيء كنور في العالم. ويكون كالملح فيه. وأن يأتي بأثمار كثيرة. وأن يكون شاهداً أميناً للمسيح قولاً وفعلاً. وأنه بعد أن يكمل عمله على الأرض يخدم الله في هيكله السماوي نهاراً وليلاً (رؤيا ٧: ١٥).

وَأَوْصَى ٱلْبَّوَابَ أمر المسافر بواب بيته بالسهر دون غيره من الخدم لأن وظيفته الخاصة أن يترقب من يأتي إلى البيت فيكون منها أن يترقب قدوم سيده. وهذا التمييز بين الخدم كما هو في المثل ضروري في البيت الحقيقي لأن الذين يعملون داخل البيت لا يمكنهم أن يراقبوا ما يكون خارج البيت. وأما خدم البيت المجازي الذي هو كنيسة المسيح فوظيفتهم العملان أي السهر والخدمة. والسهر لا يمنعهم عن الخدمة والخدمة لا يمنعهم عن انتظار المسيح والسهر لقدومه.

أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ ٱللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ ٱلدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً هذا وفق تقسيم الرومانيين لليل فإنهم كانوا يقسمونه إلى أربعة هُزُع كل هزيع ثلاث ساعات. أما المساء فهو من المغرب إلى نهاية الساعة الثالثة منه. وأما نصف الليل فهو نهاية الهزيع الثاني. وأما صياح الديك فهو ثلاث ساعات بعد نصف الليل. وأما الصباح فمن نهاية صياح الديك إلى الصباح. وهذا من مصطلحات العامة. وأما في مصطلح العكسر فيعبر عن تلك الأقسام بالهزيع الأول والهزيع الثاني الخ. وخاطب المسيح في هذه الآية تلاميذه كأنهم حقيقة خدَم بيته الذين قد وكّل إليهم ماله. وإنما آثر المسيح أن يأمرهم بالسهر دون غيره من الفضائل والأعمال لأن السهر يقتضي انتباه كل قوى الجسد وقوى العقل فمن سهر لا يغفل عن سائر واجباته.

وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ هذا نص صريح على أن كلام المسيح غير مقصور على التلاميذ بل هو لكل مسيحي في كل زمان ومكان إلى أن يأتي.

ٱسْهَرُوا يتبيّن من هذا ان المسيح يأمر كل المسيحيين بأن يكونوا كالبوابين وكالخدم للعمل وأوصاهم بالسهر لئلا يحملهم جهلهم وقت مجيء المسيح على النوم فيأتي ويجدهم نياماً.

ويتضمن النوم المقصود هنا إهمال الواجبات ونسيان الأوامرّ وتكذيب وعده بالمجيء ثانية وإهانة ذلك السيد. وذلك النوم هو نتيجة التسليم لأهواء الجسد وتأثير هذا الدنيا دون تأثير العالم الآتي.

وخلاصة هذا المثل:

(١) أنه على كل مسيحي أن يتوقع مجيء المسيح ثانية للدينونة وهذا التوقع نتيجة الإيمان بأنه حيٌ وأنه صادق بما وعد.

(٢) أن يكون مجتهداً في إتمام عمل ما وُكل إليه في غياب المسيح. ويُثبت ذلك ما قيل في مثل الخادم الأمين والخادم غير الأمين (متّى ٢٤: ٤٥ – ٥١). ومثل العشر العذارى ومثل الوزنات والإنباء بأحوال يوم الدين (متّى ص ٥). ولنا من ذلك أن المسيح يخاطبنا دائماً ويقول:

  1. «ٱسْهَرُوا» لأن الرب يأتي في ساعة لا تعلمونها.
  2. «ٱسْهَرُوا» لأنه يراقبكم ليرى أنيام أنتم أم ساهرون.
  3. «ٱسْهَرُوا» لئلا تدخلوا في تجربة لأن أعداءكم كثيرة وساهرة وعليكم أخطار من داخل ومن خارج.
  4. «ٱسْهَرُوا» لأنه عليكم مسؤولية ذات شأن في كنيسة الله وهي وقاية رعيته من الذئاب الخاطفة (أعمال ٢٠: ٢٩).
  5. «ٱسْهَرُوا» لأنه بعد قليل من السهر يكون لكم راحة وأمن وثواب.
  6. «ٱسْهَرُوا» لأنه عُيّن يوم لحساب كل مسيحي على قدر سهره وهو على الأرض.

ولأن حلول الأجل أو مجيء ساعة موتنا مجهول عندنا كما نجهل يوم مجيء الرب فيجب أن نستعد للموت كما يلزم أن ننتبه لذلك المجيء.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى