إنجيل مرقس | 05 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل مرقس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الخامس
شفاء المجنون في كورة الجدريين ع ١ إلى ٢١
١، ٢ «١ وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ. ٢ وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ ٱسْتَقْبَلَهُ مِنَ ٱلْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِس».
متّى ٨: ٢٨ الخ ولوقا ٨: ٢٦ الخ
قد مرّ الكلام على شفاء هذا الإنسان في شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢٨ – ٣٤). وذكر متّى ما لم يذكره مرقس منها أنه كان مجنون آخر مع المجنون الذي ذكره مرقس هنا ولوقا في إنجيله (لوقا ٨: ٢٧). وربما كان السبب لاقتصار مرقس ولوقا على ذكر واحد منهما لأنه أشهر من الثاني. ولا منافاة بين قول متّى وقول مرقس ولوقا لأن مرقس ولوقا لم يقولا لم يكن سوى مجنون واحد. وزاد مرقس على قول متّى ما يوضح به النبأ وذلك أن المجنون كان كالوحش الضاري لا يقدر أحد أن يربطه ولا بسلاسل وأنه كان يصيح منفرداً على الجبال ويجرح جسده بالحجارة وأنه رأى يسوع من بعيد وجرى إليه وأنه صرخ بصوت عال عند ما وصل إليه واستحلفه بالله أن لا يعذبه وشدة رغبة الشياطين في أن لا يطردهم من تلك الكورة وأنه كان عدد الخنازير هناك ألفين والفرق العظيم بين ما كان عليه المجنون قبل شفائه وما صار إليه بعده وسؤاله أن يتبع المسيح بالذات وأمر المسيح إياه أن يذهب ويخبر عما كان له وكثرة شيوع الخبر في تلك البلاد.
إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ أي إلى الجانب الشرقي.
كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ كانت هذه الكورة قُبالة الجليل شرقاً (لوقا ٨: ٢٦) وكان لهما اسمان بالنسبة إلى المدينتين المشهورتين فيها وهما جرجسة وجدرة فسميت أحياناً بكورة الجرجسيين (متّى ٧: ٢٤) وأحياناً بكورة الجدريين كما هنا. وجدرة هي قاعدة بلاد بيريّة على الجنوب الشرقي من بحر الجليل وتسمى خربها اليوم أم قيس وفيها أناس قليلون يسكنون في مغاير واسعة هنالك.
إِنْسَانٌ ذكر متّى إنساناً آخر معه (متّى ٨: ٢٨). والأرجح أن الذي ذكره مرقس هو أشهرهما.
رُوحٌ نَجِس أي شياطين لأنه أراد بالروح النجس الجنس لا الفرد كما يظهر من الآية الثانية عشرة. والأرجح أن ذلك الإنسان من مدينة جدرة (لوقا ٨: ٢٧).
٣ – ٥ «٣ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي ٱلْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، ٤ لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ ٱلسَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ ٱلْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّـلَهُ. ٥ وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي ٱلْجِبَالِ وَفِي ٱلْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِٱلْحِجَارَةِ».
قَدْ رُبِطَ كَثِيراً ذكر متّى أن علة ذلك هياجه وتعرضه للمارين بالأذى (متّى ٨: ٢٨).
فَقَطَّعَ ٱلسَّلاَسِلَ من المشهور أن المجانين تظهر منهم في الغالب قوّة غير معتادة في العقلاء.
كَانَ دَائِماً هذا يدل على أنه جُنّ منذ زمن طويل وأنه كان جنونه مستمراً حتى لم يستطع أن يعود إلى بيته كما يتهيأ لبعض المجانين أحياناً.
لَيْلاً وَنَهَاراً وهذا يدل على أن جنونه حرمه النوم.
يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ كان صياحه من شدة تعذيب الشياطين له وهم حملوه على أن يجرّح جسده. وهذه الأحوال كلها دليل على أن جنونه كان غير عادي وأنه كان يزداد شدة لأنهم كانوا يقيدونه في أول الامرّ ثم عجزوا عن ذلك أخيراً. وذكر مرقس كل هذه الأمور ليبيّن عظمة معجزة المسيح في شفاء ذلك المجنون.
٦ – ٨ «٦ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، ٧ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي! ٨ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ٱخْرُجْ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ».
ص ١: ٢٣ – ٢٦
يعسر على القارئ أن يعرف أي الأفعال المذكورة هنا للإنسان وأيها للشياطين.
مِنْ بَعِيدٍ لا بد أن المجنون رأى يسوع وجرى إليه وهو في البحر لأن متّى قال أنه استقبله عندما خرج من السفينة (متّى ٨: ٢٨). وعرف المسيح من الشياطين الذين فيه.
رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ يجب أن ننسب هذا الفعل إلى المجنون لا إلى الشياطين لأنهم يفضلون البعد عن المسيح على القرب منه. والظاهر أن المجنون مع كثرة الشياطين الذين فيه لم يزل مالكاً بعض اختياره وحريته.
وَصَرَخَ كان هذا الصراخ فعل الشياطين فإنهم استخدموا نطق ذلك الإنسان وعلّته أمر المسيح إياهم أن يخرجوا منه.
مَا لِي وَلَكَ الخ كان الجري والسجود اللذين أتاهما الإنسان للاستغاثة به من الشياطين. وأما كلمات الصراخ هنا فكانت كلمات الشياطين أتوها بياناً لغيظهم من تعرض المسيح لهم ورغبتهم في تركه إياهم في ما هم عليه. والذي تكلم من الشياطين بتلك الكلمات ناب عن سائرهم.
ِأَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰه لم يقصد الشياطين التجديف بهذا الاستحلاف بل شدة التضرع على أن المسيح لم يعذبهم بصرامة أشد مما حكم الله عليهم به إذ أذن لهم أن يبقوا على الأرض زماناً قبل أن يُقيَّدوا في الجحيم.
٩ «وَسَأَلَهُ: مَا ٱسْمُكَ؟ فَأَجَابَ: ٱسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ».
ص ١٦: ٩
مَا ٱسْمُكَ لم يظهر مَن المخاطب هنا. فإن كان الإنسان كان مراد المسيح أن يُرجعه إلى وجدانه بتذكره اسمه. وإن كان الشياطين فهو لم يسألهم عن أسمائهم لجهله إياها بل ليظهر للحاضرين هول النازلة في ذلك المجنون وعظمة قدرته على إخراج الأرواح النجسة.
لَجِئُونُ أي جيش وهو اسم فرقة من العساكر الرومانيين عددها الكامل ٦٠٠٠ عُني به هنا عدد كثير وتُرجم في أفسس ٦: ١٢ وكولوسي ٢: ١٥ بالأجناد.
١٠ «وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ ٱلْكُورَةِ».
وَطَلَبَ أي شيطان واحد بالنيابة عن الجميع.
لاَ يُرْسِلَهُمْ طلبوا أمرين الأول أن يتركهم على ما هم فيه (ع ٧). والثاني أن يبقيهم في تلك الكورة إن لم يسمح أن يبقيهم في المجنون وتمام هذا الطلب في (ع ١٢).
ٱلْكُورَةِ أي بلاد الجدريين. ولنا من ذلك أن الله سمح للشياطين ببعض الحرية في الجولان في هذا العالم وبأن يجرّبوا الناس وأن يكون زمن سجنهم وتعذيبهم في المستقبل. وذكر متّى أنهم سألوه هل أتى ليعذبهم قبل الوقت (متّى ٨: ٢٩). وذكر لوقا أنهم سألوه أن لا يرسلهم إلى الهاوية (لوقا ٨: ٣١).
ولا نعلم هل بقي للشياطين سلطان على أجساد الناس وعقولهم الآن. لكن نتيقن أن لهم سلطاناً على تجربتنا للإثم بواسطة أفكارنا وشهواتنا بدليل قول بطرس «أَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (١بطرس ٥: ٨). فلذلك يجب أن نخاف ونحترس منهم ونلجأ إلى الله دائماً بقولنا لا تدخلنا في التجربة بل نجنا من الشرير.
١١ – ١٣ «١١ وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ ٱلْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ ٱلْخَنَازِيرِ يَرْعَى، ١٢ فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ ٱلشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: أَرْسِلْنَا إِلَى ٱلْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا. ١٣ فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبَحْرِ – وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَٱخْتَنَقَ فِي ٱلْبَحْر».
انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٣١ و٣٢). لم يزد مرقس على ما قال متّى سوى تعيينه عدد الخنازير. والذين ينكرون دخول الأرواح النجسة في الناس وأن الجنون هنا ليس سوى اختلال مرضي في قوى الدماغ أو هو الصرع المعروف وأن المسيح سماه جنوناً وفقاً لعرف العامة فعليهم أن يفسروا سبب هلاك الخنازير في هذه الحادثة.
١٤ – ١٦ «١٤ وَأَمَّا رُعَاةُ ٱلْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. ١٥ وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا ٱلْمَجْنُونَ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱللَّجِئُونُ جَالِساً وَلاَبِساً وَعَاقِلاً، فَخَافُوا. ١٦ فَحَدَّثَهُمُ ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ ٱلْخَنَازِيرِ».
فِي ٱلْمَدِينَةِ أي في جدرة أو جرجسة. فالرعاة أخبروا بالأمر أهل المدينة وأهل القرى وأبناء السبيل حتى اجتمع خلق كثير وأبان متّى كثرة المجتمعين بقوله «كل المدينة».
مَا جَرَى أي ما حدث من أمر المجنون.
ٱلْمَجْنُونَ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱللَّجِئُونُ أي الذي عرفوا أنه كان مجنوناً لما سكنه الشياطين.
جَالِساً على غير عادته من الجولان في الجبال. والجلوس دلالة على الهدوء والراحة. قال لوقا أنه كان جالساً عند قدمي يسوع بياناً لشكره ومحبته لشافيه.
لاَبِساً على غير عادته فإن لوقا قال أنه «كان لا يلبس ثوباً».
عَاقِلاً ظهر لهم ذلك من هيئته وحركاته.
فَخَافُوا وذلك مما رأوه لاعتقادهم من علامات قوة المسيح غير العادية فهابوا يسوع لاعتقادهم أنه أعظم من كل إنسان.
ٱلَّذِينَ رَأَوْا هم الذين شاهدوا المعجزة وهم غير الرعاة الذين لم يروا سوى غرق الخنازير وعلموا ما كان قبله بالسماع.
١٧ «فَٱبْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ».
متّى ٨: ٣٤ وأعمال ١٦: ٣٩
انظر شرح إنجيل متّى ٨: ٣٤. إن الناس هنالك لم يلتفتوا إلا إلى خسارتهم وخافوا كثيراً من أمثالها إن بقي المسيح في أرضهم. ولم يلتفتوا إلى رحمة المسيح للمجنون بشفائه إياه. ولم يفتكروا في أمثال ذلك من أعمال الرحمة التي يمكنه أن يعملها بينهم.
وكذلك كثيرون من الناس يغلقون أبواب قلوبهم دون المسيح خيفة أن تلحقهم خسارة دنيوية من دخوله قلوبهم.
١٨ «وَلَمَّا دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ ٱلَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ».
لوقا ٨: ٣٨
طلب ذلك شكراً ومحبة للمسيح ورغبة في القرب منه.
١٩ «فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ: ٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ ٱلرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ».
فَلَمْ يَدَعْهُ لعلّ المسيح أبى إجابة طلب الذي كان مجنوناً لعلمه أن بقاءه في بلاده خير من ذهابه معه. وأنه يمجد المسيح بشهادته له بين أهله أكثر مما يمجده باتباعه إياه. فإن المسيح قبل أن يخرج من تلك التخوم حسب طلب السكان لكنه ترك فيها مبشراً ينوب عنه وهو الذي شفاه.
إِلَى أَهْلِكَ علم المسيح أن أهله اهتموا به وحزنوا عليه كثيراً فأراد تعزيتهم بمشاهدتهم إياه سليماً عاقلاً. وكل من نال من المسيح شفاء نفسه من مرض الخطيئة يجب عليه أن يخبر أهله وأصدقاءه أولاً بقوة الطبيب الروحاني وجودته. فعلى المسيحي أن يشهد للمسيح أولاً في بيته ويظل كذلك إلى آخر حياته وفقاً لقول داود «هَلُمَّ ٱسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ ٱلْخَائِفِينَ ٱللّٰهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي» (مزمور ٦٦: ١٦).
وَأَخْبِرْهُمْ كثيراً ما منع المسيح الذين شفاهم من إذاعة خبره لكنه أمر المجنون الذي شفاه بالمناداة لأنه لم يكن خطر من أن يقوم أهل بيريّة ليجعلوه ملكاً كما أراد أهل الجليل ولا خوف من ازدحام الناس عليه.
٢٠ «فَمَضَى وَٱبْتَدَأَ يُنَادِي فِي ٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ».
فِي ٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ هي أشهر المدن في بيريّة ولم يتحقق كل أسمائها. والأرجح أنها سكيثا بولس وهي أكبرها وجدرة. وجرجسة أو جرسة. وبلاَّ وتُسمى اليوم فحلا وهي المدينة التي هرب إليها المسيحيون وقت خراب أورشليم وهبّوس. وديون. وفلادلفيا. وكناثا. ودمشق. ورافانة. ومرّ الكلام على العشر المدن في شرح إنجيل متّى ٤: ٢٥ فارجع إليه.
وما أعظم تغيّر ذلك الإنسان فإنه كان قبلاً مسكناً لشياطين كثيرة تعذبه وهولاً لكل جيرانه فصار تلميذاً ليسوع مؤمناً سعيداً مبشراً بالإنجيل الجيران والأصدقاء. والانتصارات الروحية اليوم ليست بأقل تأثيراً من الانتصارات في تلك الأيام.
شفاء نازفة الدم وإقامة ابنة يآيروس ع ٢١ إلى ٤٣
٢١ «وَلَمَّا ٱجْتَازَ يَسُوعُ فِي ٱلسَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى ٱلْعَبْرِ ٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ».
متّى ٩: ١ ولوقا ٨: ٤٠
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي الجانب الغربي من البحر. والمحل الذي اجتاز إليه هو كفرناحوم (متّى ٩: ١) وسُميت مدينته.
وَكَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ نعلم مما جاء في بشارة متّى أن المسيح كان قبل وصول يايرس بقليل في وليمة في بيت متّى يحاور الفريسيين وتلاميذ يوحنا المعمدان. ولنا من ذلك أن بيت متّى كان على شاطئ البحر أو أن المسيح خرج من بيته وذهب إلى الشاطئ.
٢٢ – ٢٤ «٢٢ وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْمَجْمَعِ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، ٢٣ وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا. ٢٤ فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ».
متّى ٩: ١٨ ولوقا ٨: ٤١
مرّ الكلام على هاتين المعجزتين في الشرح (متّى ٩: ١٨ – ٢٦). وزاد مرقس في خبر ابنة الرئيس أن اسم الرئيس يايرس وأن ابنته كانت صغيرة وأنها على آخر نسمة وأن جمعاً كثيراً رافق يسوع وتلاميذه وهم ذاهبون إلى بيت يايرس. وزاد في خبر نازفة الدم أنها تألمت كثيراً من أطباء كثيرين وأنها أنفقت كل مالها بغية الشفاء باطلاً وأنها عندما شفيت جف ينبوع دمها وأنها شعرت برجوع الصحة إليها وأن المسيح التفت ونظر حوله ليرى من لمسه وأن المرأة دنت إليه مرتعدة وسجدت له واعترفت بكل ما كان منها وأنه أتى الرسل في أثناء ذلك من بيت يايرس يخبرونه بموت ابنته وأن المسيح لما وصل إلى بيت الرئيس لم يسمح بالدخول لسوى والدي البنت وبطرس ويوحنا ويعقوب. وبيّن بأوضح أسلوب ضجيج النائحين والنادمين. وذكر كلمات المسيح بعينها وهي قوله «طاليثا قومي» وأن الابنة قامت ومشت حالاً وأنها كانت في سن الثانية عشرة وأن المسيح أمر بأن يقدم لها طعام وأنه أوصى والديها كثيراً بعدم إشاعة خبر المعجزة. وأما لوقا فذكر بعض ما ذكره مرقس. ومما لم يذكره سوى متّى أنه كان هنالك مزمّرون.
يَايِرُسُ هذا مثل يائير في العبراني (عدد ٣٢: ٤١ وقضاة ١٠: ٣).
ٱبْنَتِي قيل في إنجيل لوقا أنها ابنته الوحيدة (لوقا ٨: ٤٢) وقيل في ع ٤٢ أنها ابنة اثنتي عشرة سنة. أما متّى فنقل الخبر بالمعنى وأما مرقس فنقله بلفظه.
عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ هذا قول يايرس ومراده به أنه لم يبق بينها وبين الموت إلا قليل جداً حتى ظن احتمال موتها قبل وصوله إلى يسوع وهذا الذي حمله على أن يقول للمسيح «إِنَّ ٱبْنَتِي ٱلآنَ مَاتَتْ» (متّى ٩: ١٨).
جَمْعٌ كَثِيرٌ اعتاد الناس أن يجتمعوا حول المسيح ويتبعوه لمشاهدة معجزاته ولكن زاد اجتماعهم هنا لاسم يايرس ورفعة مقامه فرغبوا في أن يظهروا غيرتهم له وشعورهم بمصابه واهتمامهم بنتيجة التجائه إلى المسيح.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ٢٦ وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ».
لاويين ١٥: ٢٥ ومتّى ٩: ٢٠
تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ هذ دليل على شدة مرضها فإن أعظم مختبري الطب لم ينفعوها شيئاً ولعلهم وصفوا لها أدوية كثيرة شديدة التأثير زادت آلامها. فإذا كانت في شر حال لأن مرضها أتلف قوتها ونجسها في عين الشريعة (لاويين ١٥: ٢٥ و٢٦) وبقيت كذلك سنين كثيرة وافتقرت ويئست من كل علاج ولم تتوقع في المستقبل سوى زيادة المرض ثم الموت.
٢٧ – ٢٩ «٢٧ لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي ٱلْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، ٢٨ لأَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ. ٢٩ فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ ٱلدَّاءِ».
انظر الشرح متّى ٩: ٢٠ و٢١.
سَمِعَتْ بِيَسُوعَ أي بما أتاه من معجزات الشفاء. ومما ذُكر في هذه الآيات ظهر لنا صحة إيمانها وإن كان ضعيفاً ويُثبت ذلك اعتقادها الشفاء بلمس الهدب المقدس من ثوب ذلك النبي العظيم (عدد ١٥: ٣٧ – ٤٠ وتثنية ٢٢: ١٢).
مِنْ وَرَاءٍ لكي لا ينتبه أحد لها.
وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ لم تكن قوّة الشفاء في ثوب المسيح فإنها في مشيئته. فلا تتوقف على لمس ولا على كلام. ووهمها الممتزج بإيمانها لم يمنع المسيح من إبرائها. ولنا من ذلك أن أفضل طريق لإزالة الأوهام من عقول الناس أحياناً تقوية الإيمان وتوجيه الأفكار إلى المسيح لا مقاومتها رأساً فإنها قد تزول بذلك من ذاتها.
٣٠ «فَلِلْوَقْتِ ٱلْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ ٱلْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِٱلْقُّوَةِ ٱلَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟».
لوقا ٦: ١٩ و٨: ٤٦
مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي لم يسأل ذلك لجهله من لمسه بل ليحمل اللامسة على الإقرار بإيمانها به وليعلن المعجزة لغيرها وليهب لها بركة أفضل من بركة الشفاء التي وهبها لها. ولا ريب في أن المسيح عرف مصابها وهو الذي منحها الإيمان واستعمل قوته على الشفاء حين لمست ثوبه.
٣١ «فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: أَنْتَ تَنْظُرُ ٱلْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟».
فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ أي بلسان بطرس نيابة عنهم (لوقا ٨: ٤٥). وقالوا ذلك لأنهم لم يعرفوا ما حدث للمرأة ولا غاية المسيح من سؤاله. واستغربوا ذلك السؤال لاعتقادهم أنه قصد اللمس المعتاد والشعب يزحمه من كل جهة. وأما هو فسأل عمن لمسه بغية الشفاء وناله.
٣٢ «وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى ٱلَّتِي فَعَلَتْ هٰذَا».
وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لم يأت ذلك بغية التفتيش عن مجهول بل ليرى اللامسة. وهي عرفت مقصوده من نظره إليها (لوقا ٨: ٤٧) واتخذتها دعوة إلى الدنو منه والإقرار بما حدث. ولا بد من أن المسيح بنظرته إليها أظهر لها الرقة والشفقة فسكن بذلك بعض روعها على التقدم إليه. وكان من لطف المسيح أنه دعاها إلى ما ذُكر بعد نوالها الشفاء لا قبله.
٣٣، ٣٤ «٣٣ وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ ٱلْحَقَّ كُلَّهُ. ٣٤ فَقَالَ لَهَا: يَا ٱبْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. ٱذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ».
متّى ٩: ٢٢ وص ١٠: ٥٢ وأعمال ١٤: ٩
خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ اعتراها ذلك طبعاً لأنها امرأة دعيت أمام جماعة كثيرة من الرجال. وزاد خوفها كون مرضها محسوباً عندهم نجساً وتوقعها لوم المسيح والجمع لأنها دنستهم باقترابها منهم.
يَا ٱبْنَةُ لم يذكر في بشارة من البشائر الأربع ان المسيح دعا امرأة غير هذه بلفظة ابنة. ولا ريب في أن تلك اللفظة أزالت كل ما عراها من الخوف. وما قاله بعد ذلك عزّى قلبها وأثبت لها علناً ما نالته سراً وأكد لها دوام شفائها وكماله. ومدح إيمانها المرضي له والمانح الخلاص لها (أفسس ٢: ٨).
٣٥، ٣٦ «٣٥ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: ٱبْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ ٱلْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» ٣٦ فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ ٱلْكَلِمَةَ ٱلَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ: لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ».
لوقا ٨: ٩
قَائِلِينَ لم يذكر متّى مجيء هؤلاء. ودلّ قولهم «لِمَاذَا تُتْعِبُ ٱلْمُعَلِّمَ» أنهم ممن يعتبرون المسيح ولا يريدون أن يتعب عبثاً وأنهم يئسوا من كل نفع من ذهاب المسيح لأن الابنة ماتت واعتقادهم أن قوة المسيح لا تنفع تلك الابنة شيئاً بعد تسلط الموت عليها لأن المسيح لم يُقم ميتاً قبلها. فلم يعلم الناس أن له سلطاناً على الإقامة من الموت. ولم يذكر لوقا في كلامه على هذه الحادثة غير رسول واحد من دار الرئيس ولكن ذكر إرسال واحد لا ينفي ذهاب غيره معه.
فَسَمِعَ يَسُوعُ يظهر من ذلك أن المخبرين أخبروا يايرس وحده غير قاصدين أن يسمع يسوع.
فَقَالَ أسرع يسوع إلى تقوية إيمانه قبل أن يستطيع إظهار حزنه أو يأسه.
آمِنْ فَقَطْ أي صدّق أن ترجع ابنتك إليك حية صحيحة وأن لي سلطاناً على إقامة الموتى كما لي على شفاء الأحياء. وكان إيمان يايرس شرطاً ضرورياً لاستعمال المسيح ذلك السلطان. ولا ريب أن إيمانه كان قد تقوى بما شاهده من أمر شفاء نازفة الدم في الطريق وإن كان ما حصل له من العوائق في ذلك تجربة لإيمانه.
٣٧ «وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ».
تبعه الجمع حتى بلغ البيت ولكن يسوع لم يدع أحداً يدخل معه سوى والديها وثلاثة من الرسل (لوقا ٨: ٥١) وهؤلاء الثلاثة هم الذين انتخبهم من الاثني عشر ليكونوا معه في جبل التجلي وفي جثسيماني وقت اكتئابه (ص ٩: ٢ و١٤: ٣٣).
٣٨، ٣٩ «٣٨ فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. ٣٩ فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ ٱلصَّبِيَّةُ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ».
يوحنا ١١: ١١
انظر الشرح متّى ٩: ٢٣ و٢٤. التفت مرقس اكثر التفات إلى ضجيج النائحين وولولتهم ولم يذكر ما ذكره متّى من أمر المزمرين. ولا يلزم من منع المسيح إياهم عن البكاء تحريمه إياه في الحزن لأنه منعهم عنه وقتئذ لأنه كان في غير محله.
٤٠ – ٤٢ «٤٠ فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَٱلَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ ٱلصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً، ٤١ وَأَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا، قُومِي. (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). ٤٢ وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً».
انظر الشرح متّى ٩: ٢٥
فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ يدل على إيمان يايرس أنه سمح بإبطال المناحة وصرف النادبين.
طَلِيثَا قُومِي هذه عبارة سريانية كان يستعملها في أيام المسيح بعض أهل فلسطين في محادثاتهم المعتادة. وكانت اليونانية يومئذ اللغة الأكثر شيوعاً. وترجمة مرقس إياها إلى اليونانية من الأدلة على أنه كتب إنجيله للقراء الرومانيين الذين كانوا يتكملون باليونانية وقتئذ ومثل ذلك ترجمته «بوانرجس» (ص ٣: ١٧) و «قربان» ص ٧: ١١ و «إفثا» (ص ٧: ٣٤) و «إيلي إيلي إالخ» (ص ١٤: ٣٥) و «أبا» (ص ١٤: ٦٣).
وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ أي رجعت الحياة إليها حالاً. وعادت إليها الحياة دفعة لا كما كان من أمر الصبي الذي أحياه الله بصلاة أليشع النبي (٢ملوك ٤: ٣٤ و٣٥).
وَمَشَتْ فكان ذلك تحقيقاً لعود صحتها بتمامها.
ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ذكر ذلك بياناً أنها ليست في الطفولية بل في سن تستطيع فيه المشي إذا كانت سليمة.
بُهِتُوا أي دهشوا عجباً وحق لهم أن يتحيروا لأنهم شاهدوا التي تحققوا موتها عادت حية (لو ٨: ٥٣) ولم يعهدوا مثل ذلك.
٤٣ «فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذٰلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ».
متّى ٨: ٤ و٩: ٣٠ و١٢: ١٦ و١٧: ٩ وص ٣: ١٢ ولوقا ٥: ١٤
لعلّ سبب توصيته إياهما مثل ما ذُكر في الشرح متّى ٩: ٣٠. ومن ذلك اعتزال تهيج الناس وحسد الرؤساء وعاقة عمله الروحي. ولكن مثل هذه المعجزة لا يمكن كتمه. وقد ذكر متّى أنه «خَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا» (متّى ٩: ٢٦).
لِتَأْكُلَ أمر بذلك إثباتاً لعودتها إلى الحياة الحقيقية كما أتى مثل ذلك في نفسه (لوقا ٢٤: ٣٠ ويوحنا ٢٠: ٢٧ و٢١: ١٣). ولعلّ علة ذلك علمه بأن الابنة محتاجة إلى الطعام وأن والديها ينسون إطعامها لشدة فرحهما بعودة حياتها. فلا قلب أرق من قلب المسيح وهو أكثر شفقة من قلب الوالدة على ولدها. نعم إنّ المسيح أقامها بوسائط خارقة الطبيعة ولكنه أراد أن تقتات بوسائط طبيعية.
ما أعظم التغيّر الذي حدث في بيت يايرس من دخول المسيح إليه وما أشد سرعة تبدل أصوات الحزن بأصوات الفرح. وذلك المخلّص لا يزال مستعداً لدخول بيوتنا اليوم إذا دعوناه ويهب لنا ولأولادنا بركات روحية أعظم من الإحياء الجسدي وهي إقامة النفوس من الموت الروحي. وفرح الوالدين في ذلك البيت يومئذ برجوع الابنة إليهما عربون فرح المسيحيين يوم القيامة باجتماعهم بمن توفاهم الله من أولادهم الصالحين.
إن معجزات المسيح في إقامة الموتى ثلاث إذا قطعنا النظر عن إقامته نفسه. أولها إقامة بنت يايرس على أثر موتها وصنعها قدام قليلين. وثانيهما إقامة الشاب ابن الأرملة في نايين بعد موته بساعات وأتى ذلك جهاراً قدام كثيرين. وثالثهما إقامة لعازر بعد موته بأربعة أيام وتوقع بداءة فساد الجسد وأقامه أمام كثيرين من الأصحاب والأعداء. وفي كل منها أقام الميت بأمره بدون صلاة سوى تقديم الشكر عند قبر لعازر. وبذلك أظهر سلطانه المطلق على الموت لأن الموت أُجبر أن يُطلق أسراه بأمر المسيح سواء أسرهم قديماً أم أسرهم حديثاً. فلماذا يخشى المسيحيون الموت ومفتاح الموت والحياة في يد المسيح.
السابق |
التالي |