إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث

شفاء يابس اليد ومؤامرة الأعداء على يسوع ع ١ إلى ٦

١ – ٦ «١ ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى ٱلْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. ٢ فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي ٱلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. ٣ فَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لَهُ ٱلْيَدُ ٱلْيَابِسَةُ: قُمْ فِي ٱلْوَسَطِ! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ ٤: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟. فَسَكَتُوا. ٥ فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى. ٦ فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ».

متّى ١٢: ٩ الخ ولو ٦: ٦ الخ، متّى ١٢: ١٤ و٢٢: ١٦

مرّ الكلام على شفاء المسيح ذلك الإنسان في المجمع يوم السبت بكلمة أمام عيون مبغضيه المقاومين في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٩ – ٤). وترك مرقس هنا ما ذكره متّى من سقوط الخروف في السبت في حفرة. وذكر ما لم يذكره متّى في هذا الشأن وهو أنه نظر حوله إليه بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم. وأن الهيرودسيين وافقوا الفريسين في المؤامرة على المسيح.

بِغَضَبٍ لنا من ذلك أن بعض أنواع الغضب جائز وهو الغضب على الخطيئة إذا كان ممزوجاً بالحزن والشفقة على الخاطئ. فالمسيح لم يرد بغضبه أذى من غضب عليهم ولا الانتقام منهم.

غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ أظهروا تلك الغلاظة بعدم تأثرهم من البراهين القاطعة على صحة لاهوته وعدم شعورهم بتخطئة بعضهم إياه وقصدهم قتله وعدم انتباههم لدعوة المحبة وإنذارات الدينونة. والذي يقسي ويغلظ هو الاستمرار على الخطيئة ومقاومة الضمير والروح القدس. فغلاظة القلب من أشد الأخطار على صاحبها فيجب أن نحترس منها كل الاحتراس.

ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ راجع شرح بشارة متّى ٢٢: ١٦ لأن فيه ما يكفي من الكلام عليهم. والمعجزة المذكورة هنا هي إحدى سبع صنعها المسيح في السبت. الأولى ما ذُكرت هنا. والثانية شفاء المجنون في كفرناحوم (ص ١: ٢١). والثالثة شفاء حماة بطرس (ص ١: ٢٩). والرابعة شفاء إنسان في بيت حسدا في أورشليم (يوحنا ٥: ٩). والخامسة شفاء امرأة بها روح ضعف ثماني عشرة سنة (لوقا ١٣: ١٤). والسادسة إبراء إنسان مستسق (لوقا ١٤: ٢). والسابعة فتح عيني إنسان وُلد أعمى (يوحنا ٩: ١٤). وصنع المسيح تلك المعجزات في السبت ليظهر أن عمل الرحمة في ذلك اليوم جائز ومُرض لله وليوبخ الفريسيين على ما استعبدوا الناس به من تقليداتهم المتعلقة بذلك اليوم.

لِكَيْ يُهْلِكُوهُ قصدوا ذلك لأن يسوع قدوس وهم خطاة ولأن قداسته كانت توبيخاً دائماً لهم على خطيئتهم ولأنه كشف الحجاب عن ريائهم ولأنه علّم ما ينافي تقاليدهم وبذلك نقص سلطانهم على الناس واعتبار الناس إياهم وأفحمهم قدام الشعب. ففضلوا قتل موبخهم على ترك آثامهم التي وبخهم عليها. ووافق الهيرودسيون الفريسيين على قتله لغايات سياسية علاوة على حسدهم وتعصبهم الديني. لأنهم أرادوا أن يكون هيرودس أنتيباس أو غيره من العائلة الهيرودسية ملكاً على اليهودية والسامرة بدلاً من بيلاطس الوالي. فخافوا أن دعوة المسيح الملك تمنعهم من نوال بغيتهم.

وكان الهيرودسيون أعداء للفريسيين لأنهم صدوقيون وأجازوا إعطاء الجزية لقيصر إرضاء للرومانيين وحرّم الفريسيون ذلك. ومع ذلك اتفق الفريقان على المسيح لإمكان الاتفاق بين كذب وكذب آخر ولكن لا يمكن أن يكون اتفاق بين الحق والكذب لأنه ليس بينهما سوى الحرب الدائمة.

انتشار صيت يسوع وازدحام الناس في معتزله ع ٧ إلى ١٢

٧ «فَٱنْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَمِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ».

عند البحر أي بحر الجليل والمراد هنا البراري المجاورة لذلك البحر وقصدها المسيح توارياً عن مراقبة أعدائه ومؤامراتهم عليه لأن وقت موته لم يكن قد أتى وكان تجنبه الخطر من باب الحكمة.

مِنَ ٱلْجَلِيلِ مرّ الكلام على هذا في شرح بشارة متّى (متّى ٢: ٢٢).

ٱلْيَهُودِيَّةِ هي الجزء الجنوبي من الأرض المقدسة.

٨ «وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ. وَٱلَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ، جَمْعٌ كَثِيرٌ، إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ».

تكوين ٢٥: ٣٠ و٣٢: ٣ و٣٦: ٨ و٢١ وتثنية ٢: ٤ و٥ ويشوع ٢٤: ٤ وإشعياء ٢١: ١١ و٣٤: ٥، متّى ٤: ٢٥ و١١: ٢١

أُورُشَلِيمَ ذكرها بخصوصها مع أنها من اليهودية ليبين أن الذين أتوا إلى المسيح لم يكونوا من القرى فقط بل من قاعدة البلاد عينها وهي مركز العلم والغنى والسلطة.

أَدُومِيَّةَ هي إلى الجنوب الشرقي من فلسطين وجنوبي بلاد موآب (تكوين ٢٥: ٣٠). وكانت عائلة هيرودس منها. وكانت في أيام المسيح تحت حكم الحارث حمي هيرودس أنتيباس أي أبي زوجته الأولى.

عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي بيرية وهي شرقي الأردن وتسمى في الكتاب المقدس غالباً بعبر الأردن لأن كتبة الأناجيل كانوا ساكنين غربيهُ.

حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ انظر شرح بشارة متّى (متّى ١١: ٢١). ويتبين من ذلك أن الذين أتوا إلى المسيح لم يكونوا من اليهود فقط بل كان بعضهم من الأمم. وأبان مرقس في هذين العددين أكثر من سائر البشيرين إلى أي بعد بلغ صيت المسيح وصنوف تلك الجموع التي أتت إليه.

٩ «فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ، كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ».

تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ الأرجح أن هذه السفينة كانت لبعض تلاميذه طلبها ليبعد فيها قليلاً عن الشعب لكي يخاطبهم بدون أن يزدحموا عليه. والظاهر أنه لم يأت ذلك إلا بعد ما احتمل مشقّة ازدحامهم طويلاً وهو يعلمهم ويشفي مرضاهم.

١٠ «لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ، حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ».

ذكر البشير هذا بياناً لعلة ازدحامهم عليه فلو علّمهم كسائر الربانيين لاكتفوا أن يسمعوه بلا ازدحام لكنه شفى مرضاهم أيضاً. والذين شفوا بقوا هنالك ليسمعوا أقواله والذين لم يشفوا حينئذ كانوا يبذلون ما في وسعهم ليدنوا منه رغبة في الشفاء وعلى ذلك لم تبق فرصة للتعليم ولا للشفاء.

لِيَلْمِسَهُ الظاهر أنهم أتوا ذلك لاعتقادهم أنه لا ينال الشفاء إلا بالاتصال التام به.

دَاءٌ المراد بالداء هنا مطلق المرض.

١١ «وَٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: إِنَّكَ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!».

ص ١: ٢٣ و٢٤ ولوقا ٤: ٤١، متّى ١٤: ٢٣ وص ١: ١ و٢٤

وَٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ أي الناس الذين دخلتهم الشياطين.

خَرَّتْ لَهُ الخ استخدم الشياطين لهذا أعضاء الذين سكنوهم. ولا ريب في أن غايتهم من ذلك كانت شريرة ولعلها خداع الناس وإيهامهم أن المسيح شريك إبليس يفعل معجزاته بواسطته.

١٢ «وَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ».

متّى ١٢: ١٦ وص ١: ٢٥ و٣٤

لم يذكر مرقس هنا شفاء هؤلاء المجانين ولكن نعلم أنهم شفوا من قول متّى «فَشَفَاهُمْ (أي المرضى) جَمِيعاً» (متّى ١٢: ١٥). ولم يظهر من كلام مرقس هنا من الذين أوصاهم المسيح بأن لا يظهروه الأرواح النجسة أم الذين شفوا فإن كانوا الأرواح فقصده بوصيته منع الضرر الذي ينتج من شهادتهم وإن كانوا الذين شفاهم وعرفوا أنه ابن الله من شهادة الشياطين واختبارهم قوته فقصده أن لا ينتشر صيته في إبراء الأمراض لئلا يعاق عن عمله الروحي لأنه كان يرغب في إثبات دعواه بكلامه أكثر مما يرغب في إثباتها بأعماله.

تعيين المسيح اثني عشر رسولاً ع ١٣ إلى ١٩

١٣ – ١٥ «١٣ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ وَدَعَا ٱلَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. ١٤ وَأَقَامَ ٱثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، ١٥ وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ ٱلأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ ٱلشَّيَاطِينِ».

متّى ١٠: ١ ولوقا ٦: ١٢ و٩: ١، متّى ١٠: ١ الخ

مرّ الكلام على تعيين الرسل في شرح إنجيل متّى (متّى ١٠: ١ – ٤). وشغل يسوع الليلة التي قبل هذا التعيين بالصلاة (لوقا ٦: ١٢). وعينوا قبل إرسالهم للتبشير بمدة. ولكن متّى جمع التعيين والإرسال في خبر واحد.

ٱثْنَيْ عَشَرَ علة جعل الرسل اثني عشر ثلاثة أمور:

  1. الموافقة لعدد أسباط إسرائيل.
  2. أن يكون عددهم كافياً لتأدية الشهادة التامة بكل تعاليمه وأعماله الجوهرية مدة خدمته وبقيامته بعد موته.
  3. أن يكونوا كفاة للذهاب إلى جهات مختلفة ونشر إنجيله في كل المسكونة التي كانت معروفة يومئذ وتنظيم ملكوته الجديد في العالم بين اليهود أولاً ثم بين كل الناس.

واختار المسيح أولئك الرسل في أول خدمته ليقفوا على كل تعاليمه ويشاهدوا كل أعماله وليثقفهم كما شاء. وذكر مرقس ثلاثة أسباب لانتخاب المسيح إياهم.

  • الأول: أن يكونوا معه (أي أن يتعلموا منه).
  • والثاني: أن يرسلهم للكرازة.
  • والثالث: أن يصنعوا المعجزات. وخص بالذكر منها إخراج الشياطين كأنه أوضح الأدلة على قدرته ولاهوته.

١٦ – ١٩ «١٦ وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ ٱسْمَ بُطْرُسَ. ١٧ وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا ٱسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ٱبْنَيِ ٱلرَّعْدِ). ١٨ وَأَنْدَرَاوُسَ، وَفِيلُبُّسَ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ، وَمَتَّى، وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ، وَسِمْعَانَ ٱلْقَانَوِيَّ، ١٩ وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ».

يوحنا ١: ٤٢ ص ٩: ٣٨ و١٠: ٣٧ ولوقا ٩: ٥٤، متّى ١٠: ٤

مرّ الكلام على الرسل في شرح بشارة متّى (متّى ١٠: ٢ – ٤).

بُوَانَرْجِسَ اسم سرياني معناه ابنا الرعد لم يذكره سوى مرقس. والأرجح أن المسيح سمى به ذينك التلميذين إشارة إلى ما في طبيعتهما من الغيرة والحدة وعلامات ذلك ظهرت فيهما في ص ٩: ٣٨ و١٠: ٣٧ ولوقا ٩: ٥٤. وهذا ما أعدّ يعقوب ليكون الشهيد الأول بين الرسل ويوحنا أن يكتب سفر الرؤيا. وظن بعضهم أن المسيح سماها بذلك إيماء إلى ما سيظهر منهما من الفصاحة والقدرة على الوعظ.

ثُمَّ أَتى إِلَى بَيْتٍ أي رجع إلى مسكنه في كفرناحوم ذُكر قبلاً أنه كان في جوار البحر (ع ٧) وذُكر بعدئذ أنه صعد إلى الجبل (ع ١٣) وذُكر هنا انه رجع إلى المسكن.

اجتهاد بعض أصحابه وبعض اعدائه أن يمنعوه من التبشير ع ٢٠ إلى ٣٠

٢٠ «فَٱجْتَمَعَ أَيْضاً جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ».

ص ٦: ٣١

ازدحم الناس عليه عند رجوعه إلى كفرناحوم كما ازدحموا قبلاً (ص ٢: ١ و٢). وشدة رغبتهم في سمع كلامه ونوال الشفاء ومشاهدة معجزاته شغلت كل وقت المسيح حتى لم تبق له فرصة لتناول الطعام. ولا يلزم من قول الإنجيل «حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ» أنهم لم يذوقوا طعاماً بل أنهم لم يستطيعوا الأكل بالترتيب كعادة الناس في بيوتهم لأن نظام البيت تشوش لكثرة الناس.

وترك مرقس هنا أنباء حوادث كثيرة جرت في نحو تلك المدة. والأرجح أن المسيح وعظ حينئذ وعظه على الجبل لأن ذلك كان بعد انتخابه الرسل.

٢١ «وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!».

يوحنا ٧: ٥ و١٠: ٢٠

سَمِعَ أي بلغتهم أنباء أسفاره ومعجزاته وتعلميه وازدحام الناس عليه.

أَقْرِبَاؤُهُ الأرجح أنهم إخوته وأمه لأنه ذكر في هذا الأصحاح إتيانهم إليه (ع ٣١).

خَرَجُوا أي من الناصرة. وذُكر وصولهم إلى يسوع وهو في كفرناحوم في ع ٣١. وذكر مرقس قبل هذا تأثير انتشار صيت المسيح في عامة الناس في بلاد كثيرة (ع ٧ و٨) وتأثيره في الكهنة (ع ٦). وأخذ يذكر هنا تأثير ذلك في أقرباءه.

لِيُمْسِكُوهُ قصدوا بذلك أن يُرجعوه معهم إلى الناصرة لكي يستريح من أتعابه ويحتمي من رؤساء الكهنة الذين تآمروا عليه. وقوله ليمسكوه يدل على أن أقرباءه حسبوه قاصراً عن الاهتمام بصحته وحياته وعاملوه كمن ليس له تمييز.

مُخْتَلٌّ لعلّهم ظنوا التجليات الإلهية شغلت كل قواه العقيلة وغلبتها حتى ذهل عن الضروريات الجسدية. ونسب فتسوس مثل ذلك إلى بولس بقوله «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). وبولس عينه نسب مثل ذلك إلى نفسه بقوله «لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰه» (٢كورنثوس ٥: ١٣). ونعلم مما قال يوحنا أن أقرباءه لم يكونوا يومئذ مؤمنين به (يوحنا ٧: ٥). وكانت سيرة يسوع في ذك تختلف اختلافاً كثيراً عما عهدوا منه مدة ثلاثين سنة سكن فيها معهم. فلم يبق لهم لبيان ذلك الاختلاف سوى القول بذلك الاختلال. ولا يزال أهل العالم إلى الآن يظنون الأتقياء الذين يغيرون لله غيرة عادية لخلاص نفوسهم وخلاص نفوس غيرهم مختلين.

٢٢ «وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ ٱلَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ، وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».

متّى ٩: ٣٤ و١٠: ٢٥ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ و٥٢ و١٠: ٢٢

وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ تكلم الإنجيلي في العدد السابق على تأثير صيته في أقربائه وإتيانهم ليمنعوه عن ممارسة خدمته ولم يتم نبأ ذلك على الأثر بل أبقاه إلى آخر الأصحاح. وأخذ يتكلم على ما أتى به أعداء يسوع من منعهم إياه عن ذلك. ومرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٢ و٢٣). وقال متّى أن الذين قاوموه هنا كانوا من الفريسين. وبيّن مرقس أنهم فرقة منهم وهم الكتبة وأنهم نزولوا من أورشليم. وأرسل رؤساء الشعب في أورشليم لجنة تسأل يوحنا المعمدان عن أمره (يوحنا ١: ١٩) وأرسلوا لجنة أخرى إلى يسوع لا لتسأل عن أمره بل لتراقبه وتمنع تأثير تعليمه ومعجزاته بنمائمهم وتهمهم الخبيثة.

بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ لم يستطع الكتبة إنكار معجزاته فلم يبق لهم إلا أحد أمرين وهو إما أن يقروا بصحة دعواه بناء على تلك المعجزات وإما ينسبوه إلى الأرواح النجسة فاختاروا الأخير.

فإذا كان أمر المسيح أن أقرباءه حسبوه مختلاً ورؤساء الدين اتهموه بأنه شريك الشياطين أفمن الغريب أن يقع على بعض تلاميذه اليوم اللوم والإهانة من الاصدقاء والأعداء.

٢٣ – ٢٦ «٢٣ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟ ٢٤ وَإِنِ ٱنْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ ٱلْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. ٢٥ وَإِنِ ٱنْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. ٢٦ وَإِنْ قَامَ ٱلشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَٱنْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ، بَلْ يَكُونُ لَهُ ٱنْقِضَاءٌ».

متّى ١٢: ٢٥ الخ

مرّ الكلام على أسلوب المسيح في دفع تهمة الكتبة وإبانة بطلانها في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٤ – ٣٠).

بِأَمْثَالٍ أي بيّن مراده باستعارات مما اعتاده الناس من أمر المملكة والعائلة والشخص. وأثبت استحالة فعل الشيطان (الذي هو أحيل المخلوقات) ما يعتزل الناس فعله في الأمور الثلاثة المذكورة ليقينهم أن ذلك مما يجلب الخراب على المملكة والعائلة والشخص.

٢٧ «لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَّوَلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ».

إشعياء ٤٩: ٢٤ ومتّى ١٢: ٢٩

انظر شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٩).

٢٨ – ٣٠ «٢٨ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ ٱلْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي ٱلْبَشَرِ، وَٱلتَّجَادِيفَ ٱلَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. ٢٩ وَلٰكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً. ٣٠ لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً».

متّى ١٢: ٣١ ولوقا ١٢: ١٠ و١يوحنا ٥: ١٦

انظر شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٣١ و٣٢). أظهر المسيح في هذه الأعداد خطيئة الناس الذين اتهموه بهذه التهمة وعظمة العقاب الذي استوجبوه وأوضح لهم أنهم جدفوا على الروح القدس لأنهم نسبوا إلى الشياطين المعجزات التي صنعها المسيح بقوة الروح القدس ولأنهم أتوا ذلك عمداً لحسدهم وبغضهم لا سهواً أو جهلاً.

ولنا من هذا أن الخطيئة التي لا تُغفر تختلف عن سائر الخطايا بأنها رفض الحق عمداً وارتداد عن الله عناداً ومقاومة العقول والضمائر كرهاً للإنجيل. فإن ذلك كله مقاومة للروح القدس الذي وظيفته إنارة القلوب وإقناعها بالحق. فأعمال أولئك الكتبة كانت منافية لفعل الروح القدس لأنهم أفرغوا جهدهم في منع النور من الدخول إلى قلوب الناس وفي إطفاء ما دخلها منه.

إتيان أقرباء يسوع إليه ع ٣١ إلى ٣٥

٣١ – ٣٥ «٣١ فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. ٣٢ وَكَانَ ٱلْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ. ٣٣ فَأَجَابَهُمْ: مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟ ٣٤ ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى ٱلْجَالِسِينَ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، ٣٥ لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».

متّى ١٢: ٤٦ ولوقا ٨: ١٩

راجع تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٤٦ – ٥٠).

إِخْوَتُهُ ذكر متّى أسماءهم وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا (متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣). وقال متّى أن المسيح أشار بيده إلى تلاميذه حين قال «ها أمي وإخوتي» وقال مرقس أنه نظر حوله إليهم حين قال ذلك وقصد البشيرين واحد وهو تعيين المشار إليه وفي قوليهما بيان استقلال كل منهما بما كتبه. وفي هذا الفصل بيان عظمة الإكرام للتلاميذ الطائعين وعظمة الثواب الذي سينالونه. وفيه خير تعزية لمن يتركهم أصدقاؤهم لأجل حبهم المسيح فهم وإن تركهم الأصحاب ليسوا بلا صاحب لأن يسوع نفسه يحبهم ويعتني بهم ويحسبهم من عائلته. فيستطيعون أن يقولوا مع داود النبي «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وفيه أيضاً تحذير وإنذار لمضطهدي تلاميذ المسيح لأنهم يضطهدون أعضاء عائلة ملك الملوك ويصدق عليهم قول سليمان الحكيم «أَنَّ وَلِيَّهُمْ قَوِيٌّ. هُوَ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْكَ» (أمثال ٢٣: ١١).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى