إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

شفاء المفلوج في كفرناحوم ع ١ إلى ١٢

١ «ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضاً بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ».

متّى ٩: ١ ولوقا ٥: ١٨

كَفْرَنَاحُومَ كانت هذه المدينة مسكنه الخاص مدة تبشيره في الجليل (متّى ٩: ١).

فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ هذا يدلنا على أنه دخل المدينة خفية لئلا يزدحم الناس عليه وأن بعضهم رآه في بيت فأذاع الخبر. ولم يذكر اسم صاحب ذلك البيت. والأرجح أنه بطرس.

٢ «وَلِلْوَقْتِ ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ ٱلْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَةِ».

ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ قال لوقا أنه كان بين أولئك الكثيرين «فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ» (لوقا ٥: ١٧).

يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَة أي بقوله الذي سبق في ص ١: ١٥. فليس من الضروري أن تكون المناداة بالإنجيل محصورة في المعابد وفي يوم الرب. بل يجب أن نغتنم كل فرصة مناسبة لذلك اقتداء بالمسيح الذي بشر على الجبل وفي البرية وفي البيت وفي السفينة حين كان السامعون ألوفاً أو حين لم يكن ممن يسمعه سوى امرأة واحدة كما كان عند بئر يعقوب قرب السامرة.

٣ «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ».

مَفْلُوجاً راجع الكلام على مرض الفالج (متّى ٨: ٦). والكلام على شفائه في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٢ – ٨).

يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ لم يذكر عدد الحملة سوى مرقس وزاد متّى ولوقا أنهم كانوا يحملونه على فراش وهذا يدل على أن الفالج عمّ كل جسده فلم يستطع حركة.

٤ «وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْجَمْعِ، كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا ٱلسَّرِيرَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ».

لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ وعلة ذلك ما ذُكر في ع ٢.

كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ صعدوا على السطح إمّا من خارج البيت أو من بيت أحد الجيران (لوقا ٥: ١٩). ولعلّ ذلك السقف كان سقف ساحة الدار وأنه كان ظلة لمنع شمس الصيف فرفعوا منه ما هو كاف لتركه فراغاً يُدلى منه وهو على فراشه. وما أتوه دليل على شدة رغبتهم في حصول مفلوجهم على الشفاء وعدم اكتراثهم بالموانع الكثيرة وشدة إيمانهم بقوة المسيح واستعداده لمنح الشفاء. فعلينا أن نظهر مثل هذه الرغبة مع مثل ذلك الإيمان في الشفاء الروحي لنا ولأصحابنا.

٥ «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».

رَأَى إِيمَانَهُمْ أي علم إيمان المفلوج وإيمان أصحابه من أعمالهم ومن معرفته قلوبهم إذ لا دليل على أنهم فاهوا بكلمة.

قَالَ لِلْمَفْلُوجِ اعتبر المسيح أعمال أولئك الناس صلاة له فأظهر بذلك استعداده لمساعدة الذين يلجأون إليه.

مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ كان مرض ذلك المفلوج من خير البركات له لأنه كان علّة تقرّبه إلى المسيح ونواله مغفرة خطاياه وشفاء نفسه إلى الأبد. وكثيرون غيره منذ ذلك اليوم إلى الآن وجدوا مصائبهم بركات لهم لاقترابهم بها إلى المسيح.

وأظهر المسيح بذلك أن الخطيئة علة كل مرض فلزم بالضرورة رفع السبب لرفع المسبب. وكان المفلوج محتاجاً إلى شفائين شفاء الجسد وشفاء النفس. أما المفلوج وأصحابه فكانوا مهتمين بشفاء جسده متوقعين قول المسيح شُفي مرضك. وأما المسيح فحوّل أفكارهم إلى شفاء الداء الأعظم وقال «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وأراد أيضاً أن يعلن سلطانه على مغفرة الخطايا قدام أعدائه.

٦، ٧ «٦ وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: ٧ لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟».

أيوب ١٤: ٤ وإشعياء ٤٣: ٢٥

ٱلْكَتَبَةِ هم من اليهودية ممن امتلأت قلوبهم حسداً وبغضاً للمسيح (لوقا ٥: ١٧).

بِتَجَادِيفَ مرّ الكلام في شرح بشارة متّى على السبب الذي حسبوا به كلام المسيح تجديفاً (متّى ٩: ٣).

٨ «فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هٰكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟».

متّى ٩: ٤

شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أي عرف أفكارهم بقوته الإلهية لأنه فاحص القلوب.

لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ هم فكروا في قلوبهم «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا» (ع ٦ و٧). فأجابهم على أفكارهم بقوله «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا» ولا بد من أنهم تعجبوا من معرفته أسرار قلوبهم. ولم يكن تفكيرهم لاعتبارهم حقوق الله أو لحيرتهم من جهلهم سلطان يسوع بل لحسدهم وبغضهم إياه.

٩ «أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟».

متّى ٩: ٥

انظر شرح بشارة متّى ٩: ٤ – ٦. ادَّعى المسيح سلطانين سلطان معفرة الخطايا وسلطان شفاء الأمراض وهما سيّان عنده في السهولة. فلو كان خادعاً كان أيسر عليه أن يقتصر على ادعائه السلطان على المغفرة لأن لا أحد من الناس يقدر أن يعلم هل غفرت خطايا المفلوج أو لا.

١٠، ١١ «١٠ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا – قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: ١١ لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ».

اختار المسيح ما هو أصعب على الخادع دفعاً لظن الناس أنه خادع وهو أن يشفي المرض لأن الخداع يظهر بذلك حالاً. وقدرته على المعجزة الظاهرة في الجسد برهان قدرته على المعجزة الباطنة في النفس. فلنا من ذلك هذه القاعدة وهو أن الذي يدّعي السلطان على مغفرة الآثام ورفع القصاص الأبدي الذي تستحقه يجب عليه أن يبرهن صحة دعواه بإزالة نتيجة الإثم الوقتية المنظورة في الجسد.

١٢ «فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!».

انظر شرح بشارة متّى ٩: ٧

فَقَامَ وكان شفاء جسده برهاناً على شفاء نفسه.

مَجَّدُوا ٱللّٰهَ الذين مجدوا الله هم المشاهدون سوى الكتبة ولنا من ذلك أربعة أمور:

  1. أن تيقن الناس قوة المسيح هو تمجيد الله الآب. وهذا وفق قوله «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا ٥: ٢٣).
  2. الفرق بين أعمال المسيح وأعمال رسله. فإن الرسل لم يدعوا قط السلطان على مغفرة الخطايا (قابل بهذا ما قال بطرس في أعمال ٨: ٢٢ – ٢٤).
  3. لطف المسيح بتعزيته المفلوج وبتوبيخه الكتبة فإنه وبخهم بألطف أسلوب.
  4. إن شفاء ذلك المريض رمز إلى خلاص الخاطئ من الخطيئة ووجه الشبه بين الأمرين ثلاثة أمور:
  • الأول: عجزهما. أما عجز المفلوج فظاهر وأمّا عجز الخاطئ فبيّنه الله في كتابه (إشعياء ٤٠: ٣٠ ويوحنا ٦: ٤٤ و١٥: ٥).
  • والثاني: وجوب الإيمان وعدم الاكتراث بالموانع في الإتيان إلى المسيح.
  • والثالث: القوة التي منحها الله المفلوج ليقوم والخاطئ ليتوب ويؤمن (فيلبي ٤: ١٣).

دعوة متّى ووليمته وتعليم يسوع فيها للكتبة والفريسيين ع ١٣ إلى ١٧

١٣، ١٤ «١٣ ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. ١٤ وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ».

متّى ٩: ٩ ولوقا ٥: ٢٧ و٢٨

مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٩ – ١٣).

لاَوِيَ وهو متّى واحد من الاثني عشر رسولاً. دعاه المسيح وهو مجتهد في وظيفته كما كان بطرس ويوحنا وابنا زبدي مجتهدين في مهنتهم. وعند ما دعاه المسيح بصوت مسموع دعاه الروح القدس مخاطباً نفسه فأطاع. وكان عشاراً فصار رسولاً وكاتب أول سفر في العهد الجديد وبركة للعالم.

١٥ «وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ».

متّى ٩: ١٠

فِي بَيْتِهِ أي بيت متّى (لوقا ٥: ٢٩). وكان يسوع يذهب إلى الولائم لا رغبة في الطعام بل انتهازاً لفرص عمل الخير وتعليم الناس وجذب قلوبهم إليه بمخالطتهم.

ٱلْعَشَّارِينَ مرّ الكلام على منزلة العشارين بين اليهود في شرح بشارة متّى (راجع متّى ٥: ٤٦).

١٦، ١٧ «١٦ وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ؟ ١٧ فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».

متّى ٩: ١٢ و١٣ و١٨: ١١ ولوقا ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ١٠ و١تيموثاوس ١: ١٥

في هذين العددين أربعة أمور:

  • الأول: تعليم المسيح أن الخطيئة مرض النفس المميت.
  • الثاني: إن المسيح هو الطبيب الذي عيّنه الله لمعالجة النفوس المصابة بداء الإثم. فإنه يعرف المرض والعلاج. وهو لا يعجز عن شفاء مرض مهما اشتد داؤه. وهو شفوق حنون قريب إلى كل من يدعوه ومستعد لإجابة الدعوة ولم يدعه أحد إلا أجابه. وله كل الاختبار في العلاج. ويعالج مجاناً. ومن عالجه لا يمرض أيضاً للموت. ولا طبيب للنفس سواه.
  • الثالث: إن كثيرين من المصابين بداء الإثم يظنون أنهم أصحاء.
  • الرابع: إن الذين يشعرون بأمراضهم الروحية هم الذين ينالون منه الشفاء لا غيرهم.

سؤال تلاميذ يوحنا والفريسيين المسيح ومجاوبته إياهم ع ١٨ إلى ٢٢

١٨ « وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟».

متّى ٩: ١٤ ولوقا ٥: ٣٣

مرّ الكلام على هذا الخطاب في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ١٤ – ١٧). وكان تلاميذ يوحنا غيورين جداً على حفظ شريعة موسى الطقسية والعوائد اليهودية فأشبهوا بذلك الفريسيين. وفي سؤالهم هذا للمسيح ضربٌ من العتاب عليه لأنه لم يوصِ تلاميذه بالاعتناء بحفظ تلك الطقوس.

١٩ – ٢٢ «١٩ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو ٱلْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. ٢٠ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ٢١ لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَاٰلْمِلْءُ اٰلْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ اٰلْعَتِيقِ فَيَصِيرُ اٰلْخَرْقُ أَرْدَأَ. ٢٢ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ اٰلْخَمْرُ اٰلْجَدِيدَةُ اٰلّزِقَاقَ، فَاٰلْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَاٰلّزِقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَة».

أجابهم المسيح بثلاثة تشابيه الأول من عوائد العرس. والثاني من مصطلحات الخياطة. والثالث من عوائد الناس في حفظ الخمر. وخلاصة ذلك أنه لا يمكن أن تنحصر الديانة الإنجيلية الجديدة في طقوس الشريعة اليهودية القديمة كما يمارسها الفريسيون لأن الديانة الجديدة ديانة روحية عامة وهي ديانة النمو والحرية والحياة فلا يمكنها أن تكون في عبودية نظام طقسي ضيق.

قطف التلاميذ السنابل في السبت وكلام المسيح في ذلك ع ٢٣ إلى ٢٨

٢٣، ٢٤ «٢٣ وَٱجْتَازَ فِي ٱلسَّبْتِ بَيْنَ ٱلّزُرُوعِ، فَٱبْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. ٢٤ فَقَالَ لَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: ٱنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي ٱلسَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟».

تثنية ٢٣: ٢٥ ومتّى ١٢: ١ ولوقا ٦: ١

مرّ الكلام على قطف التلاميذ السنابل يوم السبت وعلى ما يتعلق بحفظ يوم الراحة في عهد الإنجيل في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ١ – ٨). ولعلّه مرّت مدّة ليست بقصيرة بين دعوة متّى وهذه الحادثة. ولعلّ التلاميذ كانوا راجعين يومئذ من الاحتفال بعيد الفصح في أورشليم لأن السنابل لا يؤكل حبها إلا بعد نحو أسبوع أو أسبوعين بعد الفصح. ولم يتهم الفريسيون التلاميذ بالسرقة لأن الشريعة أباحت ما فعلوه (تثنية ٢٣: ٢٥) بل لاموهم على إتيانهم ذلك في السبت.

٢٥، ٢٦ «٢٥ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ ٱحْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ، ٢٦ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ ٱلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟».

١صموئيل ٢١: ٦، خروج ٢٩: ٣٢ و٣٣ ولاويين ٢٤: ٩

أَمَا قَرَأْتُمْ نتعلم من جواب المسيح للفريسيين أن أفضل طريق لدفع شبهات المعترضين في الدين أن يُجاوبوا بنصوص الكتاب الإلهي.

أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ ذُكرت هذه الحادثة في ١صموئيل ٢١: ١ – ٩ وهناك أن أخيمالك رئيس الكهنة. وجاء في موضع آخر أن أبيآثار ابن أخيمالك (١صموئيل ٢٢: ٢٠). فذكر المسيح أن داود دخل في أيام أبيآثار خيمة الشهادة قبل أن صار كاهناً ونعته برئيس الكهنة لأنه صار رئيس كهنة بعد أبيه واشتهر بهذا اللقب عند اليهود في عصر المسيح. ولعله خدم مع أبيه في الخيمة كما كان يفعل ابنا عالي الكاهن. وربما هو الذي ناول داود خبز التقدمة ولهذا آثر المسيح ذكره على ذكر أبيه. وظن بعضهم ولعلّ ظنهم صحيح أنه كان لكل من الوالد ووالده اسمان وهما أبيآثار وأخيمالك. ويدل على ذلك أنه جاء أن أخيمالك ابن أبيآثار (٢صموئيل ٨: ١٧ و١أيام ٢٤: ٦) وهذا يحقق لنا أن أخيمالك كان يسمى بأبيآثار أيضاً.

٢٧ «ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: ٱلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ، لاَ ٱلإِنْسَانُ لأَجْلِ ٱلسَّبْتِ».

ٱلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ ذكر مرقس هذا القول دون غيره من البشيرين. وهو يدل على بقاء يوم الراحة ووجوب حفظه ما دام الإنسان على الأرض. وذلك الوجوب لسببن:

  • الأول: عموم ذلك اليوم. لأنه لم يعيَّن لليهود فقط بل لكل نسل آدم لحاجة طبيعة البشر الجسدية والروحية إليه.
  • والثاني: غاية تعيينه. فإن الله عيّنه في الفردوس لنفع الإنسان وجدد ذلك التعيين في طور سينا لا نيراً على الناس بل بركة لهم. فهو كونه يوم الرب ووجوب حفظه إطاعة لأمر الرب ولإكرامه لم يخل من كونه يوم الإنسان لسعادته وخيره جسداً ونفساً في الحال والاستقبال. وهو رمز إلى الراحة الأبدية (عبرانيين ٤: ٩).

وأوضح المسيح في بشارة متّى (متّى ١٢: ١ – ٨) شريعة يوم الراحة عند المسيحيين أحسن إيضاح وأبان أنه يجوز فيه ثلاثة أنواع من الأعمال، الأول الأعمال الضرورية. والثاني أعمال الرحمة والثالث الأعمال التي تقتضيها عبادة الله.

لاَ ٱلإِنْسَانُ لأَجْلِ ٱلسَّبْتِ خلق الإنسان أولاً ثم عُيّن السبت لخيره (تكوين ٢: ١ – ٢). فغاية الله من تعيين السبت إنما هي نفع الإنسان وتقديسه وسيلة إلى ذلك النفع. فلا يجوز تفسير الوصية الآمرة بحفظه بما يحرم الإنسان خيره الحقيقي. ولكن الفريسيين جعلوا تقديس السبت عين الغاية لا الوسيلة إليها فأوجبوا على الإنسان أن يدوس خيره إذا لم يمكن الحصول عليه مع تقديس ذلك اليوم. وهذا مناف لإرادة الله. ولا يلزم من أن يوم الراحة لأجل الإنسان جواز التصرّف فيه كما يشاء. والله سبحانه وتعالى حباً للإنسان وعناية بخيره الأعظم أمره أن يستريح في ذلك اليوم من الأعمال غير الضرورية والتنزهات الدنيوية وأن يشتغل ذلك اليوم بالقيام بالواجبات الروحية. ومن الضرر للإنسان لا النفع أن يشغله بالأعمال التي حرمت فيه.

٢٨ «إِذاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضا».

متّى ١٢: ٨

ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أي يسوع. فإنه إذا كان مخلص البشر حق له السلطان على كل ما يختص بالإنسان. ولأن تقديس الإنسان يوم الراحة نفع له في الدنيا والآخرة عين ابن الإنسان رباً لذلك اليوم ليثبت الذين يقدسونه ويهب لهم أفضل البركات السماوية ويعاقب كل من يدنسه. وعلى ذلك صح أن يسمى يوم الراحة بيوم الرب.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى