رومية

الرسالة إلى رومية | 09 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى رومية

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح التاسع

 

انتهى القسم الأول من هذه الرسالة بنهاية الأصحاح الثامن كما ذُكر في مقدمة تفسيرها وموضوعه التبرير بالإيمان. وهنا بداءة القسم الثاني وموضوعه رفض اليهود الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح ورفض الله إياهم على ذلك ودعوته الأمم. وهذا القسم يشغل (ص ٩ وص ١١) ففي ص ٩ أظهر الرسول أولاً أسفه على رفض الله لليهود (ع ١ – ٥) ثم أبان أنه يحق لله أن يرفضهم ويقبل الأمم شركاء في فوائد ملكوت المسيح (ع ٦ – ٢٩). وأن علّة كل ذلك إباء اليهود التبرير بالإيمان وقبول الأمم إياه (ع ٣٠ – ٣٣). وفي ص ١٠ أعلن أسباب رفض الله لليهود ودعوته للأمم وكون ذلك موافقاً لنبوءات العهد القديم. وفي ص ١١ أوضح أن رفض الله لليهود ليس عاماً ولا دائماً.

إظهار بولس حبه لإخوته الإسرائيليين وأسفه على رفضهم التبرير بالطريق التي أعدّها الله وهي الإيمان بيسوع المسيح ع ١ إلى ٥

١ «أَقُولُ ٱلصِّدْقَ فِي ٱلْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

ص ١: ٩ و٢كورنثوس ١: ٢٣ و١١: ٣١ و١٢: ١٩ وغلاطية ١: ٢٠ وفيلبي ١: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٧

في هذه الآية ثلاث عبارات بمعنًى واحد لغاية واحدة وهي إزالة كل شكوك اليهود في صدق ما شرع في بيانه وخلوص محبته.

أَقُولُ ٱلصِّدْقَ فِي ٱلْمَسِيحِ أي أنا متحدٌ بالمسيح الذي «هو الحق» فنسبتي إليه تجبرني على كلام الصدق والحق.

لاَ أَكْذِبُ ما أثبته في العبارة الأولى إيجاباً أثبته هنا سلباً ومثل هذا ما في (إشعياء ٣٨: ١ ويوحنا ١: ٢٠).

ضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي ضميره مرشد بالروح القدس فلو كذب شهد عليه بالكذب لكنه شهد له أنه يتكلم بالحق. وليس في هذه الآية من قَسم إنما هي مجموع عبارات مترادفة للتوكيد.

٢ «إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ!».

ص ١٠: ١

اتهم بعض اليهود بولس بأنه خائنٌ لشعبه (أعمال ٢١: ٣٣ و٢٢: ٢٢ و٢٥: ٢٤) فقال ما في هذه الآية دفعاً لتلك التهمة. وعلّة حزنه المذكور هنا رفض شعبه للإنجيل وتعرضهم بذلك لأعظم النوازل الزمنية والروحية.

٣ «فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُوماً مِنَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ».

خروج ٣٢: ٣٢

مَحْرُوماً المحروم في العهد القديم هو المُسلَّم للهلاك ممنوعاً فداؤه (لاويين ٢٧: ٢٨ و٢٩ وتثنية ٧: ٢٦ ويشوع ٦: ١٧ و١٨ و١صموئيل ١٥: ٢١). وهو في العهد الجديد الذي عُرِّض للعنة الله (١كورنثوس ١٢: ٣ و١٦: ٢٢ وغلاطية ١: ٨ و٩). ظن بعضهم أن معنى الرسول بقوله «كنت أود لو أكونه أنا نفسي محروماً من المسيح» هو رغبته في الموت فداء عن إخوته لكن ذلك لا يقوم بكل معنى المحروم ويمنعه قوله «من المسيح». وظن آخر أن معناه الانقطاع من الكنيسة المسيحية وهذا أيضاً قاصر عن الحرم من المسيح. ورأى غيره أن الرسول عبّر عن إحساسه حين كان يهودياً ولكن لا موضع لهذا التعبير حينئذ لأن غايته إظهار محبته لشعبه في الحال. واليهود لم يتهموه بأنه يبغضهم حين كان يضطهد المسيحيين بل اتهموه بذلك بعد أن آمن بالمسيح. والذي حمل المفسرين على تلك الأقوال ظنهم أن أخذ الكلام على ظاهر معناه يلزم منه أن بولس كان يود أن ينفصل عن المسيح لأجل شعبه وأن يكون خاطئاً هالكاً إلى الأبد وأنه فضل محبته لشعبه على المحبة للمسيح. لكن كلامه لا يستلزم ذلك لأن مراده أنه ود أن ينفصل عن المسيح ويهلك لو كان ذلك جائزاً له ويمكن خلاص شعبه به. فكأنه قال إن امكنني تحصيل خلاص شعبي باحتمالي أعظم الخسائر والآلام فأنا مستعد لذلك. ولا أحسب سعادتي وخيري شيئاً بالنسبة إلى سعادتهم وخيرهم. فإرادة بولس ان يحتمل أشد الآلام وأعظم الخسارة لأجل شعبه لا تستلزم إرادته أن يكون خاطئاً وعدواً للمسيح. فقوله هذا كقول داود «يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضاً عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ ٱبْنِي» (٢صموئيل ١٨: ٣٣). وكقول موسى لله «وَٱلآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ وَإِلاَّ فَٱمْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ ٱلَّذِي كَتَبْتَ» (خروج ٣٢: ٣٢). فتمثل بولس بالمسيح الذي فدى الخطأة بموته عنهم (١كورنثوس ٢: ١٦ وفيلبي ٢: ٥ – ٨) ولكن ما كان ممكناً وجائزاً للمسيح لم يكن ممكناً وجائزاً لبولس.

أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ زاد هذا على قوله «إخوتي» تمييزاً لإخوته بالتناسل من إبراهيم عن إخوته الروحيين المؤمنين معه بالمسيح.

٤ «ٱلَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلاشْتِرَاعُ وَٱلْعِبَادَةُ وَٱلْمَوَاعِيدُ».

تثنية ٧: ٦ ويوحنا ١: ٤٧ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٥ خروج ٤: ٢٢ وتثنية ١٤: ١ و٣٢: ٦ وإشعياء ١: ٢ وإرميا ٣١: ٩ خروج ٢٥: ٢٢ ولاويين ٩: ٦ و١صموئيل ٤: ٢١ و١ملوك ٨: ١١ ومزمور ٦٣: ٢ و٧٨: ٦١ أعمال ٣: ٢٥ وغلاطية ٤: ٢٤ وعبرانيين ٨: ٨ – ١٠ مزمور ١٤٧: ١٩ عبرانيين ٩: ١ أعمال ١٣: ٣٢ وص ٣: ٢ وأفسس ٢: ١٢

بيّن بولس في هذه الآية والتي تليها أنه لم يغفل عن امتيازات اليهود ليرضيهم ويقودهم بذلك إلى الإيمان بالمسيح.

إِسْرَائِيلِيُّونَ سمّى الله يعقوب إسرائيل بياناً لمسرّته به (تكوين ٣٢: ٢٨) ولذلك كانت تسمية ذريته بالاسرائيليين بياناً أنهم شعب الله الخاص.

لَهُمُ ٱلتَّبَنِّي أي أن الله اختارهم من الأمم أهلاً لبيته وخصهم برضاه وحمايته ومعرفة حقه وغير ذلك من البركات (خروج ٤: ٢٢ وتثنية ١٤: ١ وإشعياء ١: ٢ وإرميا ٣: ٤ و٣١: ٩ وهوشع ١١: ١ وملاخي ١: ٦).

وهذا التبني ليس هو المشار إليه في (ص ٨: ١٤) وهو المبني على الإيمان بالمسيح وتجديد الروح القدس للقلب فالتبني اليهودي كان رمزاً إلى ذاك.

ٱلْمَجْدُ أي العلامة الظاهرة لوجود الله بين اليهود وكانت تلك العلامة عمود السحاب والنار في البرية والنور في الخيمة وفي الهيكل (خروج ٤٠: ٣٤ و٢٩: ٤٣ و١ملوك ٨: ١١ و٢أيام ٥: ١٤ وحج ٢: ٧).

ٱلْعُهُودُ جُمع العهد هنا لأن الله عاهد اليهود مراراً كثيرة منذ أيام إبراهيم ومن هذه العهود ما ذُكر في (تكوين ١٢: ١ – ٣ و١٣: ١٤ – ١٧ و١٥: ١ – ٢١ و١٧: ١ – ٢٢ و٢٢: ١٥ – ١٨ و٢٦: ١ – ٥ و٣٤ و٢٨: ١٣ – ١٥ و٣٥: ٩ – ١٢ و٤٦: ٣ و٤).

ٱلاشْتِرَاعُ في طور سيناء (خروج ص ٢٠) فإن اليهود امتازوا عن الأمم بحصولهم على الشريعة وافتخروا بذلك (تثنية ٤: ٥ و٦ ومزمور ١٤٧: ١٩ و٢٠ ورومية ٢: ١٨ – ٢٠ و٣: ٢).

ٱلْعِبَادَةُ أي الرسوم الموسوية التي كانت تُمارس في الخيمة والهيكل.

ٱلْمَوَاعِيدُ التي أنبأ بها الأنبياء وأخصها المتعلقة بالمسيح (أعمال ٢٦: ٦ و٧ وغلاطية ٣: ١٦ و٢١ وعبرانيين ٧: ٦).

٥ «وَلَهُمُ ٱلآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».

تثنية ١٠: ١٥ وص ١١: ٢٨ ولوقا ٣: ٢٣ وص ١: ٣ ويوحنا ١: ١ وأعمال ٢٠: ٢٨ وعبرانيين ١: ٨ و١يوحنا ٥: ٢٠ إرميا ٢٣: ٦

ٱلآبَاءُ إبراهيم وإسحاق ويعقوب (خروج ٣: ٦ و١٣ و١٥ و١٦ وأعمال ٣: ١٣).

مِنْهُمُ أي من الإسرائيليين.

ٱلْمَسِيحُ وهو أعظم مجد الأمة اليهودية.

حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي باعتبار كونه إنساناً انظر تفسير (ص ١: ٣ و١تيموثاوس ٣: ١٦ و١يوحنا ٤: ٢).

لو كان المسيح مجرد إنسان لم يكن من داع لقوله «حسب الجسد» فيلزم أنه كان ذا طبيعة أخرى إلهية.

ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً هذا نعت طبيعته الروحية مفاده أن المسيح هو الله وهذا على وفق قول يوحنا الرسول فيه أنه والآب جوهر واحد وأنه خالق كالآب (يوحنا ١: ١ – ٣) وعلى وفق ما قيل فيه في (أفسس ١: ٢٠ – ٢٢ وفيلبي ٢: ٦ و١٠ وكولوسي ٢: ٩ وتيطس ٢: ١٣ ورؤيا ١٥: ٣ و١٩: ١٦). ولا منافاة بين هذه الأقوال وقوله أنه لأجل عمل الفداء «أخلى نفسه وأخذ صورة عبد» (فيلبي ٢: ٧).

مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ هذا حمد وعبادة للمسيح الإله.

آمِينَ أي ليكن كذلك. قال هذا إثباتاً لصحة كلامه وختماً عادياً لعبادته التي قدّمها للمسيح.

ومما يستحق الاعتبار هنا أن الرسول أكثر من الكلمات المتوالية الموضحة لاهوت المسيح احترازاً من أن تضلّ الكنيسة بعده.

فوائد

  1. إن الروح القدس لا يفارق المؤمنين بالحق فإنه ينير عقولهم ويرشد ضمائرهم لكي يتحققوا صلاح ما يقولون وما يعملون إلى حد يقصرون عنه بالطبيعة (ع ١).
  2. إن قانون أقوالنا وأعمالنا هو أن تكون في المسيح أي كما يليق بالمتحدين بالمسيح (ع ١).
  3. إنه يجب علينا أن ننكر أنفسنا لنفع غيرنا إلى حد لا نخالف عنده قانون ما يجب علينا لله. فمن لا يبالون بهلاك الوثنيين لجهلهم طريق الخلاص فهم ليسوا كبولس في أسفه على إخوته اليهود وليسوا كمن بكى على أورشليم ومات عنا على الصليب (ع ٣٢).
  4. إن انضمام الإنسان إلى جماعة الله المنظورة وحصوله على الفوائد المتوقفة على ذلك خير عظيم ولكن هذا وحده لا يحقق له الخلاص (ع ٤).
  5. إن تسلسل الإنسان من أسلاف أتقياء شرف وبركة فيجب الشعور به والشكر عليه (ع ٥).
  6. إنه قد أوضح لنا أحسن إيضاح أن المسيح إنسان حق وإله حق. فما أعظم شرف طبيعتنا لذلك وكم يجب علينا أن نعتبر المسيح ونطيعه ونثق به ونسرّ (ع ٥).

إنه يحق لله أن يرفض اليهود ويدعو الأمم ع ٦ إلى ٢٤

٦ «وَلٰكِنْ لَيْسَ هٰكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ قَدْ سَقَطَتْ. لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ».

عدد ٢٣: ١٩ وص ٣: ٣ يوحنا ٨: ٣٩ وص ٢: ٢٨ و٤: ١٢ و١٦ وغلاطية ٦: ١٦

أشار الرسول في ما سبق من الآيات إلى أن شعب إسرائيل مرفوض بإظهار أسفه عليه وباستعداده أن يحتمل من أجلهم شرّ النوازل لو أمكنه أن ينجي ذلك الشعب من ذلك يقسي قلوب إخوته عليه حتى لا يلتفتوا إلى ما يقوله. وأشار أيضاً في هذه الآية إلى ذلك الرفض وأنه لا يلزم منه أن الله يخلف وعده لأن هذا الوعد ليس لجميع نسل إبراهيم.

لَيْسَ هٰكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ قَدْ سَقَطَتْ عنى الرسول أنه لا يلزم مما أشار به إلى رفض الله شعبه أنه تعالى أخلف وعده. والمراد «بكلمة الله» هنا وعده تعالى لإبراهيم ولنسله ولا سيما وعده لهم بالمسيح والخلاص به. ظن اليهود أن مواعيد الله لأولاد إبراهيم بالطبيعة الذين أخذوا علامة الختان أكدت أن لهم كل فوائد ملكوت المسيح وأنهم لا يحتاجون لنيل الخلاص إلا إلى قولهم «إن لنا إبراهيم أباً» ولذلك ظنوا الدلالة على رفض الله إيّاهم كالدلالة على أنه مخلف وعده. أما الرسول فصرّح بأن الله أمين في وعده وأن رفضهم لأن وعده تعالى لم يكن لكل بني إسرائيل بلا استثناء. ومعنى «سقطت» هنا أُخلت أو أُبطلت على نحو ما جاء في (لوقا ١٦: ١٧).

لَيْسَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ لم ينكر بولس وعد الله لإسرائيل إنما أنكر قول اليهود بأنه مقصور عليهم فبرهن أولاً أنه لبعض نسل إبراهيم (ع ٦ – ٩). ثم برهن أنه لأحد ابني رفقة (ع ١٠ – ١٣). ذهب بعضهم أن معنى العبارة ليس كل الذين تسلسلوا من يعقوب تسلسلاً طبيعياً هم شعب الله الخاص وورثة الوعد لأن الله لم يختر عيسو من ورثة وعده مع أنه ابن يعقوب.

وذهب الآخر إلى أن مراد الرسول أنه ليس كل شعب إسرائيل هو شعب الله الحقيقي أي أن الولادة الطبيعية لا تستلزم وراثة الوعد. وعلى ذلك معنى «إسرائيل» هنا هو شعب الله عند الناس. ومعنى «إسرائيليون» شعب الله عنده تعالى وهذا هو الأرجح وهو يوافق قول الرسول «لأَنَّ ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلاَ ٱلْخِتَانُ ٱلَّذِي فِي ٱلظَّاهِرِ فِي ٱللَّحْمِ خِتَاناً» (ص ٢: ٢٨).

٧ «وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعاً أَوْلاَدٌ. بَلْ «بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ».

غلاطية ٤: ٢٣ تكوين ٢١: ١٢ وعبرانيين ١١: ١٨

وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعاً أَوْلاَدٌ أي كونهم سلالة إبراهيم الطبيعية لا يحقق لهم أنهم ورثة الوعد لأن الوعد لأولاد إبراهيم الروحيين الذين يماثلونها في الإيمان بدليل قوله «ٱعْلَمُوا إِذاً أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ… إِذاً ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ» (غلاطية ٣: ٧ – ٩ انظر أيضاً ص ٤: ١٢). ولنا من هذه الآية ومما سبقها أنه ليس كل أولاد إبراهيم ولا كل أولاد يعقوب شعب الله الخاص الحقيقي.

بَلْ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ هذا برهان على صحة ما سبق وهو قول الله في (تكوين ٢١: ١٢) حين طرد إبراهيم هاجر وإسماعيل وكان إسماعيل ابنه كإسحاق لكن الله لم يختر أنه يكون وراث العهد ولم يحسبه من نسل إبراهيم الروحي وهذا دليل قاطع على أن الله لم يقصد بمواعيده كل أولاد إبراهيم الطبيعيين وما صح على إسماعيل يصح على أولاده الستة من قطورة (تكوين ٢٥: ١ – ٤). ولنا من ذلك أنه تعالى يتصرف بتوزيع بركاته كملك مستقل فإنه كما رفض إسماعيل وأولاد قطورة مع كونهم أولاد إبراهيم كذلك له أن يرفض اليهود في عصر الرسل مع أنهم سلالة إبراهيم.

٨ «أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ ٱلْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً».

يوحنا ١: ١٣ وغلاطية ٤: ٢٨ و٢٩

أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ ٱلْجَسَدِ أي المولودون منه ولادة طبيعية كإسماعيل وأولاد قطورة.

بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ أي الذين يعتبرهم الله أولاداً له بمقتضى قصده ووعده كما كان من أمر إسحاق في أول الأمر ثم من أمر كل أولاده الروحيين «الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة رجل بل من الله».

والموعد في الآية هو ما ذُكر في (تكوين ١٥: ٤ و٥ و١٧: ١٥ و١٦ و١٩ و٢١). وما في هذه الآية مثل قوله «لكن الذي من الجارية وُلد حسب الجسد وأما الذي من الحرة فبالموعد» وهذا مخالف كل المخالفة لآراء اليهود لأنهم ظنوا أن نسبتهم إلى إبراهيم أوجبت لهم البنوة لله وكل بركات وعد الله لإبراهيم. والخلاصة أن لله حق أن يرفض اليهود الجسدانيين غير المؤمنين وأن يدعو المؤمنين من الأمم.

يُحْسَبُونَ نَسْلاً أي يعتبرهم الله أولاده الروحيين ويعاملهم بمقتضى ذلك أي أنه يخلّصهم ويمجّدهم.

٩ «لأَنَّ كَلِمَةَ ٱلْمَوْعِدِ هِيَ هٰذِهِ: أَنَا آتِي نَحْوَ هٰذَا ٱلْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱبْنٌ».

تكوين ١٨: ١٠ و١٤

ما في هذه الآية تفسير لقوله أن «أولاد الموعد» هم أولاد إسحاق وبرهان على أن هذا الموعد لأولاد الله الروحيين.

لأَنَّ كَلِمَةَ ٱلْمَوْعِدِ هِيَ هٰذِهِ هذا تعليل لما سبق وبيان أن أولاد الموعد هم نسل إسحاق.

آتِي نَحْوَ هٰذَا ٱلْوَقْتِ الخ هذا جوهر ما قاله الله لإبراهيم في (تكوين ١٨: ١٠ و١٤). ومعنى قوله «نحو هذا الوقت» مثله بعد سنة أو هو اصطلاح شائع بينهم على المدة بين بدء الحبل ويوم الولادة. وكون ولادة إسحاق خارقة العادة في بعض الأحوال لا يستلزم أنها كذلك في سائر الأحوال.

١٠ «وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضاً وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا».

تكوين ٢٥: ٢١

لَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ إن اختيار الله اسحاق على إسماعيل ليس بالدليل الوحيد على أنه تعالى يختار بمجرد مسرته من يشاء وارثاً لبركة الموعد بقطع النظر عن كل تسلسل طبيعي.

بَلْ رِفْقَةُ أَيْضاً الخ ما صح في شأن إبراهيم وأولاده من الدليل صح في شأن رفقة وولديها بزيادة إيضاح لأنه ربما قال أحد أن علّة اختيار الله إسحاق على إسماعيل لأنه ابن الحرة وإسماعيل ابن الجارية وعلّة اختياره على أولاد قطورة أنه أكبر منهم سناً. ولا سبيل إلى ذلك في الدليل هنا فإن الله اختار يعقوب على عيسو وهما ابنا أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدة ولو وُجدت علّة لإيثار أحدهما على الآخر لكان الإيثار لعيسو لأنه وُلد أولاً وهما توآمان لكن الله اختار الأصغر. وهذا دليل على أن الله يفعل حسب مشيئته المطلقة يختار من يشاء ويترك من يشاء. والنتيجة التي قصدها بولس من ذلك هي أنه كما فعل الله في أمر يعقوب وعيسو يمكنه أن يفعل يومئذ في أمر اليهود والأمم أي يختار من يشاء ويدعوه ويمجده. وقال الرسول «إسحاق أبونا» لأنه يهودي ومعظم خطابه هنا لليهود.

١١ «لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ ٱللّٰهِ حَسَبَ ٱلاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ ٱلأَعْمَالِ بَلْ مِنَ ٱلَّذِي يَدْعُو».

ص ٤: ١٧ و٨: ٢٨ وأفسس ١: ١١ و٢تيموثاوس ١: ٩

هذا دفع لاعتراض مضمر وهو أن الله يختار الواحد على الآخر بناء على صلاح عمله وإن عمل إسحاق كان أحسن من عمل إسماعيل ولذلك اختير الأول على الثاني.

وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّ اً في وقت الوعد لرفقة. وهذا دليل على أن لا علّة لاختيار الله بعض الناس على بعض سوى مشيئته. فإن يعقوب لم يكن قد فعل شيئاً من الصلاح لكي يحبه الله ويختاره وأن عيسو لم يكن ارتكب شيئاً من الطلاح ليبغضه الله ويرفضه.

لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ ٱللّٰهِ حَسَبَ ٱلاخْتِيَارِ قال بعضهم أشار الرسول هنا إلى ما قصده الله قبل تأسيس العالم (أفسس ١: ٤ و٣: ١١) وبذلك أثبت قضاءه حتى لا يتغير ولا يسقط (ع ٦). ولو عُلق ذلك القضاء على استحقاق الإنسان لأمكن أن يتغيّر ويسقط. ولكن المرجح أن معنى الرسول أن الله أعلن قضاءه للناس ليظهر لهم أن كون علّة اختياره بعضهم للخلاص مجرد مشيئته المطلقة لا أعمالهم وأن ذلك أمر ثابت لا ريب فيه. وهذا مثل قوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩ انظر أفسس ١: ١١ و٣: ١١).

لَيْسَ مِنَ ٱلأَعْمَالِ أي أن أعمال الناس الصالحة ليست علّة اختيار الله إياهم للخلاص.

بَلْ مِنَ ٱلَّذِي يَدْعُو أي من الله الذي يختار ويدعو ويخلص من يشاء فإنه لم يختر بعض الناس لأنهم آمنوا وأطاعوا بل اختارهم ليؤمنوا ويطيعوا. ولا ينتج من هذا أنه ليس عند الله من سبب لاختياره بعض الناس دون بعض لأنه تعالى منزه عن العمل اتفاقاً فعنده علّة كافية لذلك إلا أنه لم يبينها لنا لكنه بيّن أنها ليست أعمالهم.

وعجزنا عن التوفيق بين قضاء الله وحرية الإنسان لا يستلزم منه بطلان أحد الأمرين بل يثبت أن عقل الإنسان قاصر عن إدراك أسرار الله.

١٢ «قِيلَ لَهَا: إِنَّ ٱلْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ».

تكوين ٩: ٢٥ – ٢٧ و٢٥: ٢٣

ما في هذه الآية متعلق بقوله «وليس ذلك فقط الخ» في (ع ١٠) وقول الله لرفقة يثبّت أن اختياره يعقوب لم يكن لأعماله وهو مُقتبس من (تكوين ٢٥: ٢٣) على ما في ترجمة السبعين وقد تم بعض التمام في يعقوب وعيسو لأن إسحاق فضّل يعقوب على عيسو بالبركات وجعله الوارث ويعقوب اخذ بكورية عيسو (تكوين ٢٧: ٢٩٠ و٣٧ و٤٠) ولكن معظم هذه النبوءة تم في نسلهما في القرون المتوالية. فامتاز الإسرائيليون أي أولاد يعقوب على الأدوميين أي أولاد عيسو في الزمنيات حين أخضعهم داود (٢صموئيل ٨: ١٤). وعزّيا وأمصيا (٢ملوك ١٤: ٧ و٢٢). وحين أخضعهم كل الخضوع يوحنا هركانوس المكابي ولكن كان معظم امتيازهم في الروحيات وهو حصولهم على بركات الله التي وعد بها إبراهيم.

١٣ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ».

ملاخي ١: ٢ و٣

كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ هذا مقتبس من (ملاخي ١: ٢ و٣). والمراد «بيعقوب وعيسو» الشعبان المتسلسلان منهما بدليل القرينة وهو قوله «أَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَاباً وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ ٱلْبَرِّيَّةِ».

يجب أن نفهم من نسبة الحب والبغض إلى الله ما يليق به تعالى لأنه منزّه عن الخطيئة. فمعنى «أحببت يعقوب» شفقت عليه وفضّلته على أخيه أو عاملته معاملة المحِب للمحًب أي أني أعطيت أمة اليهود (نسل يعقوب) الشريعة ومعرفة الإله الحق وجعلت المسيح يولد منهم وعرضت عليهم كل بركات ملكوته. ومعنى «أبغضت عيسو» لم أحبه أو أحببته أقل مما أحببت أخاه وجاء البغض في هذا المعنى في (متّى ١٠: ٣٧ ولوقا ١٤: ٢٤). أو أن المعنى أني عاملت الأدوميين أولاد عيسو معاملة المُبغِض للمبُغَض لأني لم أخترهم ولم أعطهم ما أعطيته اليهود من البركات الروحية. وكثيراً ما جاء البغض في الكتاب المقدس بمعنى الحب القليل وهو هنا كذلك. فيكون معنى العبارة أحببت يعقوب كثيراً واخترته وأحببت عيسو قليلاً ولم أختره (انظر تكوين ٢٩: ٣٠ و٣١ وتثنية ٢١: ١٥ وأمثال ١٣: ٢٤ ومتّى ٦: ٢٤ ولوقا ١٤: ٢٦). وتعليم هذه الآية أن الله ملك مُطلق يُظهر نعمته لمن يشاء ويمسكها متى شاء. ولا أحد يستطيع أن يثبت على الله أنه ظلم عيسو أو نسله ما لم يثبت أنه عاقبه ونسله بما لا يستحقون على خطاياهم وأن علّة هلاكهم قضاء الله لا شرّهم لأن عيسو قد ترك إله آبائه والديانة التي تربى فيها وتوغل في عبادة الأوثان هو ونسله وكذا كانت حالهم يوم تكلم ملاخي عليهم كما تدل عليه القرينة (ملاخي ١: ٤).

١٤ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ ٱللّٰهِ ظُلْماً؟ حَاشَا!».

تثنية ٣٢: ٤ و٢أيام ١٩: ٧ وأيوب ٨: ٣ و٣٤: ١٠ ومزمور ٩٢: ١٥

فَمَاذَا نَقُولُ؟ جاء بولس بهذا السؤال توصلاً لدفع اعتراض كما جاء في (ص ٣: ٥ و٦: ١). ومعناه ما نتيجة ما قيل في قضاء الله.

أَلَعَلَّ عِنْدَ ٱللّٰهِ ظُلْماً؟ أي هل نقول هذا أو ننسب الظلم إلى الله لأنه يختار من يشاء.

حَاشَا! هذا جوابه الأول على ذلك السؤال وهو تنزيه ونفي. والجواب الثاني ما أورده من أدلة الكتاب على أنه لله أن يختار إنساناً دون آخر ليكون إناء لرحمته. وخلاصة تلك الأدلة أن الله صرّح بأن ذلك من حقوقه وأنه مارسه على الدوام.

١٥ «لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ».

خروج ٣٣: ١٩

في هذه الآية دليل أن الله لا يظلم بقضائه وهو تصريحه بأن القضاء من حقوقه.

لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى الخ هذا مقتبس من (خروج ٣٣: ١٩) على ما في ترجمة السبعين وهو ما كلم الله به موسى على طور سيناء حين سأله أن يريه مجده وأجابه بأنه يعطيه سؤله لمجرد نعمته وسلطانه المطلق لا بالنظر إلى استحقاقه فاتخذه بولس برهاناً أن الله لا يظلم إذا رحم أو شفق على من أراد لأنه تعالى صرّح بأن ذلك من حقوقه وأنه كامل في كل صفاته فيستحيل أن يقول ما ليس بحق فهو صادق في أقواله عادل ومستقيم في أحكامه.

والفرق بين الرحمة والرأفة أن الرأفة أشد من الرحمة أو أن الرحمة ظاهرة والرأفة باطنة.

١٦ «فَإِذاً لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَرْحَمُ».

هذه الآية نتيجة التي قبلها.

لَيْسَ اسم «ليس» ضمير يعود إلى قضاء الله بالخلاص على ما يُفهم من القرينة.

لِمَنْ يَشَاءُ من الناس أي أن قضاء الله لا يتوقف على إرادة البشر مهما كانت شديدة لأنه ليس تحت سلطانهم.

وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى أي أن ذلك القضاء لا يتوقف على اجتهاد الإنسان أو أعماله مهما اجتهد أو عمل.

وخلاصة هذه الآية أمران:

الأول: إن الله القدوس الحكيم الملك المطلق يختار من يريده لرأفته فحقّ اختيار المحسَن إليه للمحسِن لا لسواه.

الثاني: إن في هذه الآية مبدأً عاماً في بيان حقوق الله يصح على موسى في طلبه أن يرى مجده تعالى وعلى الشعب الذي اختاره والشعب الذي رفضه وعلى كل فرد من أفراد الناس يختاره للخلاص أو يتركه. وليس في ذا من مناف لقوله «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ» (فيلبي ٢: ١٢). لأن كلام الرسول هنا على علّة اختيار الله بعض الناس للخلاص منذ الازل وأن ذلك بمجرد رحمته لا بإرادتهم ولا بسعيهم وكلامه في الرسالة إلى الفيلبيين على الشروط التي وُضعت على الناس لكي يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين (٢بطرس ١: ١١).

ويتضح من هذه الأية أن الخطأة لا يمكنهم أن يستحقوا الخلاص بصلواتهم واجتهادهم لأن الخلاص هبة النعمة الإلهية.

١٧ «لأَنَّهُ يَقُولُ ٱلْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: إِنِّي لِهٰذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِٱسْمِي فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ».

مرقس ١٥: ٢٨ وغلاطية ٣: ٨ و٢٢ خروج ٩: ١٦

في هذه الآية دليل ثان على أن لله حق الاختيار وهو تصريحه بأنه يظهر غضبه على من يشاء كما صرّح بأنه يظهر رحمته لمن يشاء.

لأَنَّهُ يَقُولُ ٱلْكِتَابُ أي الله في كتابه والمقول في (خروج ٩: ١٦) على ما في ترجمة السبعين.

لِفِرْعَوْنَ ملك مصر الظالم العاتي الذي ملك سنة ١٦٥٢ ق. م وهو اسم لكل ملك من ملوك مصر. والكلام المذكور هنا هو ما أمر الله موسى أن يكلم فرعون به بعدما أصابه بالضربة السادسة ولم يزل عاصياً.

أَقَمْتُكَ أي جعلتك ملكاً وأبقيتك حياً متسلطاً.

لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي صرّح الله هنا بأن غايته من إقامة فرعون ملكاً إظهار عظمة قدرته بواسطة المعجزات التي فعلها بيد موسى لينقذ بني إسرائيل من العبودية ويغلب فرعون المقاوم والمانع من ذلك الإنقاذ.

لِكَيْ يُنَادَى بِٱسْمِي كما نودي به بترنيمة الخروج التي منها قوله «يَسْمَعُ ٱلشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ ٱلرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ ٱلرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ» (خروج ١٥: ١٤ و ١٥).

فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ أي بين كل القبائل التي بلغها يومئذ ما فعل الله في مصر والأمم التي تفرّق بينهم اليهود بعد ذلك وقصوا عليهم نبأ نجاتهم من مصر وضربات الله للمصريين وبين كل من يقرأون الكتاب اليوم.

١٨ «فَإِذاً هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ».

هذه الآية نتيجة قول الله لموسى في (ع ١٥) ولفرعون في (ع ١٧).

يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ كما قيل في (ع ١٥).

يُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ كما قيل في (ع ١٧). ومعنى «التقسية» هنا يُفهم من قوله في سفر التثنية «لَمْ يَشَأْ سِيحُونُ مَلِكُ حَشْبُونَ أَنْ يَدَعَنَا نَمُرَّ بِهِ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ قَسَّى رُوحَهُ وَقَوَّى قَلْبَهُ الخ» (تثنية ٢: ٣٠ انظر أيضاً يشوع ١١: ٢٠ وإشعياء ٦٣: ١٦) وهي عكس التليين. والمقصود من العبارة أن الله لم يستحسن أن يلين قلب فرعون بمعنى أنه لم يمنعه من تقسية القلب التي هي نتيجة طبيعية من الاستمرار على الخطيئة. والبرهان على ذلك قول الكتاب بضع مرات أن فرعون هو الذي قسّى قلب نفسه (خروج ٨: ١٥ و٣٢ و٩: ٣٤ و١٠: ١٦) فالله لم يجعل فرعون يخطئ لكنه لم يهب له الروح القدس لمنعه من أن يعمل بمقتضى شر قلبه. إنه رفع عنه الضربات التي كان من تأثيرها عند حدوثها تليين قلبه وقتياً وإمالته إلى سمع صوت الله وإطلاق شعبه. وكان رفع يده تعالى عند بعد كل ضربة لوعده بالطاعة علّة لتقسية قلبه. وكثيراً ما ذُكر في الكتاب المقدس أن رفع ما يمنع الإنسان من الإثم وتركه ليعمل بمقتضى أهواء قلبه كما تُرك فرعون هو من عقاب الله للأثيم على تمرده (ص ١: ٢٤ و٢٨ ومزمور ٧١: ١١ و١٢ وعبرانيين ٣: ٣ و٨ و١٣). ولا شيء في معاملة الله لفرعون مما يمنعه من أن يختار ويعمل كما يشاء فكان فرعون حراً بمقاومته لموسى ومخالفته لضميره وإهانته لله.

١٩ «فَسَتَقُولُ لِي: لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ، لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟».

٢أيام ٢٠: ٦ وأيوب ٩: ١٢ و٢٣: ١٣ ودانيال ٤: ٣٥

في هذه الآية دفع لاعتراض آخر يمكن الإنسان أن يورده على تعليم الرسول. وخلاصة هذا الاعتراض أن تعليم الاختيار ينزع من الإنسان حريته والمسؤولية عما فعل. وبسطه ما معناه أنه إذا كان الله اختار كل إنسان أو رفضه قبل وجوده في العالم وقضى بتوبته وإيمانه وخلاصه أو بإصراره على الإثم وهلاكه فبأي حق يعاقب الشرير الذي لم يتب.

لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ أي بأي حق يلومنا الله على تقسية قلوبنا وهو الذي قساها. وفي هذا السؤال فرض ما ليس بحق وهو أن الله يجعل الناس خطأة والصحيح أن الناس هم الذين جعلوا أنفسهم خطأة والله يقضي بأن يبقوا في خطاياهم أو أن لا يبقوا فيها. وليس للإنسان حق على الله أن يطلب منه الخلاص من الخطيئة التي هو ارتكبها ومن عواقبها.

مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟ أي لا يستطيع أحد أن يقاوم قصد الله. ومعنى الاعتراض أن الله قضى بأن نكون خطأة ولا يمكننا أن نقاوم مشيئة الله القادر على كل شيء. وفي هذا الاعتراض فرض ما ليس بصحيح وهو أن الله مرتض بكل ما قضى به. والدليل على بطلان ذلك قوله تعالى «قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال ٣٣: ١١) ومعلوم أن الله قضى بموت الشرير.

٢٠ «بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ؟ أَلَعَلَّ ٱلْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هٰكَذَا؟».

لوقا ١١: ٢٨ أيوب ٣٣: ١٣ إشعياء ٢٩: ١٦ و٤٥: ٩ و٦٤: ٨

بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ؟ لم يأت الرسول بهذا السؤال دفعاً للاعتراض السابق لكنه دفعه في الجملة التالية من هذه الآية وما بعدها إلى الآية التاسعة والعشرين. على أنه أتى به تبكيتاً للمعترض على جسارته ووقاحته باتهامه الله تعالى بارتكاب مثل ذلك الظلم وهو أنه يجبر الإنسان على الإثم ويعاقبه عليه. وفي ذلك ادعاء أن المعترض مساو لله قادر أن يحكم بما يجوز له أن يفعله وبما لا يجوز. والصحيح أن الله المنزه عن الخطيئة يُصرّح بأن له حق الاختيار وكان هذا التصريح يجب أن يكون كافياً لإقناع كل عاقل أن ذلك من حقوق الله وأنه محال أن يظلم أحداً. ولكن المعترض جاهل خاطئ غير قادر أن يحكم في مثل تلك المسئلة. فعلى كل إنسان اختلف رأيه عن رأي الله المعلن في كتابه في مسئلة من المسائل أن يقر بأنه هو المخطئ وأن الله هو المصيب.

وفي ذلك الاعتراض فرض آخر باطل وهو أن الله ملزوم بأن يرحم كل الناس. والصحيح أن من كمال الله أن يعامل الناس جميعاً بمقتضى العدل لكنه غير مكلف بأن يرحم أحداً. إن الناس كلهم أخطأوا وليس أحد منهم يستحق أن يطلب الرحمة فإذا شاء الله أن يرحم قليلين أو كثيرين فله الحق المطلق ومن الجسارة والإثم أن ينكر المخلوق ذلك على خالقه.

أَلَعَلَّ ٱلْجِبْلَةَ تَقُولُ الخ هذا مثل قول إشعياء «وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ. خَزَفٌ بَيْنَ أَخْزَافِ ٱلأَرْضِ. هَلْ يَقُولُ ٱلطِّينُ لِجَابِلِهِ: مَاذَا تَصْنَعُ؟» (إشعياء ٤٥: ٩). ومعنى «الجبلة» هنا المجبول أي المخلوق. ومعنى السؤال أنه ليس للمخلوق أن يعترض على خالقه كأنه مساوٍ له ولا يجوز له أن يتكلم في قضاء الله إلا بكل تواضع وتوقير. فرفع الله شأن الإنسان وجعله أنقص من الملائكة قليلاً لا ينفي سلطان خالقه عليه ومنحه الحياة والعقل والاختيار لم يجعله مستقلاً عن باريه.

ليس المراد الرسول هنا الكلام على اختيار الله المتعلّق بخلقه الأشياء من العدم متنوعة إنما مراده إثبات حقه تعالى أن يختار بعض خطأة البشر للخلاص ويترك سائرهم. فالاعتراض الذي دفعه الرسول ليس قول الإنسان لله «لماذا خلقتني خاطئاً» لأن ذلك لا يعتقده أحد إنما هو قوله «لماذا تركتني خاطئاً ولم تخترني للخلاص» والجواب الأول على هذا أن لله أن يفعل ما يشأ فله أن يغفر للخاطئ وأن يؤاخذه وليس مجبراً عدلاً على أن يرحم أحداً (ع ٢٠ و٢١). والجواب الثاني أنه يعامل من لم يخترهم بأحسن مما يستحقون فإنه يعاملهم بالصبر وطول الأناة مع أنهم استحقوا العقاب العاجل على آثامهم فهو لا يظلمهم البتة (ع ٢٢). والجواب الثالث أن رحمة الله تعظم باختياره بعض الخطأة للخلاص وليس منهم من يستحقه (ع ٢٣ – ٢٩).

٢١ «أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى ٱلطِّينِ أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟».

أمثال ١٦: ٤ وإرميا ١٨: ٦ و٢تيموثاوس ٢: ٢٠

هذه الآية بسط للجزء الثاني من الآية ٢٠ وما فيها من التمثيل مذكور أيضاً في (إشعياء ٢٩: ١٦ و٤٥: ٩ وإرميا ١٨: ٦).

أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ المراد «بالخزّاف» هنا الله باعتبار كونه حاكماً أدبياً لا باعتبار كونه خالقاً.

سُلْطَانٌ أي حق كما في (متّى ٢١: ٢٣).

عَلَى ٱلطِّينِ أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ الخ المراد بالكتلة من الطين الخطأة من الناس أي الذين صاروا خطأة بسوء استعمالهم لحريتهم. إن الرسول لم يقل إن لله أن يخلق الناس خطأة ثم يعاقبهم بل قال «إن له أن يختار بعض أولئك الخطأة للحياة الأبدية وأن يترك الباقين ليأخذوا أجرة خطيئتهم التي هي الموت الأدبي». فكما أن الطين في يد الخزاف وله أن يختار هل يصنع منه كل الآنية للكرامة أو كلها للهوان أو بعضها للكرامة والبعض للهوان هكذا خطأة البشر في يد الله وله حق أن يختار هل يخلّص كلهم أو بعضهم أو لا يخلص أحداً. ولا يحق للناس أن يتذمروا على الله أكثر مما يحق للإناء ان يتذمر على الخزّاف لأنه لم يصنعه على غير الهيئة التي صنعه عليها. ونسب إلى الآنية الكرامة وإلى بعضها الهوان بالنظر إلى ما تُستعمل فيه بعد صنعها كما في (٢تيموثاوس ٢: ٢٠ و٢١).

٢٢ «فَمَاذَا، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، ٱحْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ».

١تسالونيكي ٥: ٩ و١بطرس ٢: ٨ ويهوذا ٤

في هذه الآية جواب ثان للسؤال في (ع ١٤) وهو قوله «ألعل عند الله ظلماً».

فَمَاذَا يمكنك أن تعترض إن كان الأمر كما هو الواقع وهو أن الخطأة الذين لم يخترهم الله استوجبوا الغضب في الحال ولكنه تعالى أظهر لهم طول أناته وصبره عليهم.

إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ ذكر الرسول هنا علّتين لقصد الله هلاك الخاطئ الأولى غضبه بسبب الخطيئة لأنه باعتبار كونه معطي الشريعة وجب أن يغضب على الذين يتعدّونها ويظهر ذلك الغضب بعقاب المعتدّين. والثانية إرادته تعالى أن يُري الخاطئ قوته التي استخف بها فحسب أنه لا يقدر أن يُعاقب كما أوعد. فبالعقاب يظهر الأمران أي غضبه للخطيئة وقدرته على العقاب. وينتج من ذلك أن الله لا يعاقب أحداً بلا سبب كاف وأنه لا يسر بعذاب الناس إنما يُعاقب لكي يُجري ما هدد به مخالفي الشريعة لأنه يجب على الحاكم العادل أن يقاص مرتكبي الشر كما يثيب فاعلي الخير.

ٱحْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ أي أبطأ في أن يجري على الخطأة العقاب الذي يستحقونه مع إرادته إجراءه حالاً بالنظر إلى بغضه للخطيئة ورغبته في إظهار قدرته على عقابها. ومن امثلة تلك الأناة أنه احتمل الخطأة في أيام نوح بعد ما عزم على إغراقهم بمياه الطوفان مئة وعشرين سنة واحتمل قساوة فرعون تسع مرات قبل الضربة الأخيرة واحتمل الأشرار من ملوك إسرائيل ويهوذا سنين كثيرة. وكذا احتماله خطأة كل زمان ومكان ولذلك صح في كل عصر قول الجامعة على خطأة عصره «لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ عَلَى ٱلْعَمَلِ ٱلرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعاً، فَلِذٰلِكَ قَدِ ٱمْتَلأَ قَلْبُ بَنِي ٱلْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ ٱلشَّرِّ» (جامعة ٨: ١١).

آنِيَةَ غَضَبٍ هم الذين لم يرض الله أن يختارهم وهم خطأة عرضة لغضب الله بسبب خطاياهم.

مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ لم يقل من هيأهم للهلاك لكن نعلم من الكتاب المقدس أن ليس للهلاك الأبدي إلا علّة واحدة هي الخطيئة. وهذا موافق لقوله في آنية الكرامة والهوان « فَإِنْ طَهَّرَ أَحَدٌ نَفْسَهُ مِنْ هٰذِهِ يَكُونُ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ، مُقَدَّساً، نَافِعاً لِلسَّيِّدِ، مُسْتَعَدّاً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (٢تيموثاوس ٢: ٢١). وقول يعقوب الرسول «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً» (يعقوب ١: ١٣) فإذاً الإنسان هو المسؤول عن أعماله ونتائجها.

فإن قيل لماذا أبطأ الله في دينونة الأشرار واحتملهم بأناة كثيرة قلنا أولاً لعله تمهل في الانتقام ليترك للأشرار فرصة للتوبة كما قيل في (ص ٢: ٤ وفي ٢بطرس ٣: ٩ و١٥).

ثانياً: إنه أعطى بإبطائه فرصة لهم ليبيّنوا ما في قلوبهم من الشر والقساوة والعناد فيتضح بذلك كل الاتضاح عدل الله في عقابهم كما كان من أمر فرعون.

ثالثا: إنه زادت بذلك الوسائط لبيان عدله وبغضه للخطيئة وقدرته أن يعاقب عليها بتوالي الضربات لا بإهلاكهم دفعة في الحال فإنه بتمهله على فرعون أعلن قدرته وغضبه على الخطأة عشر مرات بعشر ضربات.

٢٣ «وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْد».

ص ٢: ٤ وأفسس ١: ٧ وكولوسي ١: ٢٧ ص ٨: ٢٨ – ٣٠

لِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ هم المختارون من الخطأة «المدعوون حسب قصده» تعالى (ص ٨: ٢٨). وسموا «آنية رحمة» لأن الله عيّنهم لقبول رحمته ولإظهار غنى مجده. ومعنى «غنى مجده» عظمته.

قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ أي مجد ملكوت السماوات الذي أعده لمختاريه وأعد مختاريه له وهذا الإعداد يحتمل أن يكون بطريقين:

الأول: قضاء الله الأزلي بدليل قوله «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّة» (أفسس ١: ٤ انظر أيضاً أفسس ١: ٥ و١١ و٢: ١٠ وأعمال ١٣: ٤٨ و٢تيموثاوس ١: ٩).

الثاني: تقديسهم بالروح القدس العامل فيهم بدليل قوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (فيلبي ٢: ١٣). والأرجح أن الرسول أشار إلى الثاني منهما على أن إعداد الله للمختارين لا يغنيهم عن وجوب الاجتهاد في استعمال وسائط النعمة.

في هذه الآية أوضح برهان على أنه لا شيء من الظلم في اختيار الله بل أنّ فيه إظهار وفرة المحبة لأنه لولا هذا الاختيار هلك الجنس البشري كله بالخطايا ولم يظهر من صفاته تعالى إلا عدله وحقه وقوته كما ظهر في هلاك الأبالسة ولكن بواسطة الاختيار عظم غنى رحمته وخلص كثيرون من نار جهنم ونالوا الحياة الأبدية.

ومما يستحق الاعتبار هنا أن الرسول لم يقل في آنية الغضب ما قاله في آنية الرحمة لأنه قال في الأولى «أنه احتملها وأنها مهيأة للهلاك» دون أن ينسب تلك التهيئة إليه تعالى. وقال في الثانية «سبق فأعدها للمجد» فنسب الإعداد إلى الله.

٢٤ «ٱلَّتِي أَيْضاً دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا، لَيْسَ مِنَ ٱلْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ ٱلأُمَمِ أَيْضاً».

ص ٣: ٢٩

ٱلَّتِي بدل من آنية رحمة.

أَيْضاً دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا أي دعانا آنية رحمة فضلاً عن أنه اختارنا كذلك. وهو يدعونا بروحه القدوس كما بيّن في تفسير (ص ٨: ٢٨ و٣٠).

لَيْسَ مِنَ ٱلْيَهُودِ فَقَطْ أي أن الله لم يختر كل أمة اليهود للخلاص ولم يقتصر على اختيار من هم منها.

بَلْ مِنَ ٱلأُمَمِ أَيْضاً كما قيل في (ع ٣: ٢٩ و٣٠ و١: ١٦ و٢: ٩ و١٠ و٤: ٩ و١٢) وهذه النتيجة التي قصدها الرسول من كل ما سبق من احتجاجه في هذا الأصحاح فلذلك بيّن أن الله اختار إسحاق ولم يختر إسماعيل وأنه اختار يعقوب ولم يختر عيسو بياناً أن الله يختار من يشاء من نسل آدم الساقط آنية لرحمته بدون النظر إلى نسبهم وأعمالهم السابقة وأنه ملك مطلق «يرحم من يشاء» كما صرّح لعبده موسى ولفرعون وكالتمثيل بالخزّاف والطين فأثبت بذلك جلياً أن لله أن يختار للخلاص بقية من اليهود شعبه القديم وبعض الأمم أيضاً. وأظهر كل الحكمة في التوصل إلى دعوة الأمم بدون أن يهيج غضب اليهود عليه. وفي الفصل الآتي يبيّن أن نبوءات العهد القديم كانت تدل على تلك الدعوة.

فوائد

  1. إن اشتراك الإنسان في ملكوت المسيح لا يتوقف على التسلسل من والدين تقيين ولا على عضويته في كنيسة منظورة ولا على شيء من أحواله الخارجية لأنه إن كان التسلسل من إبراهيم والعضوية في الكنيسة الموسوية والتمتع بكل حقوقها لم تكفل الخلاص ورضى الله فمن الجهل أن ينتظر القبول لدى الله بممارسة رسوم الديانة والعضوية في الكنيسة المسيحية (ع ٦ – ١٣).
  2. إن القضايا التي أثبتها الرسول في هذا الفصل في شأن الاختيار ثلاث الأولى أنه اختيار أفراد لا جماعات أو شعوب. الثانية إنه للحياة الأبدية لا لنيل الوسائل الموصلة إلى تلك الحياة الثالثة أنه مبني على مجرد مشيئة الله لا على شيء في المختارين.
  3. إن الرسول في هذا الفصل دفع اعتراضين على تعليم الاختيار الأول أنه لا يليق بصفات الله والثاني أنه يرفع مسوؤلية الإنسان عن أعماله فدفع الأول بقوله إن الله صرّح بأن له حق أن يختار من يشاء وإنه جرى بمقتضى ذلك الحق. ودفع الثاني بأن الله لم يجعل الناس بقضائه أشراراً بل اختار بعض الأشرار للخلاص وترك البقية (ع ١٤ – ٢٣).
  4. إنه يجب أن ينشئ تعليم الاختيار فينا ما يأتي.
    • الأول: التواضع التام فنقول «ليس لنا يا رب ليس لنا لكن لاسمك اعد مجداً».
    • الثاني: الشكر القلبي على اختيار الله إيانا آنية رحمة بدون استحقاق.
    • الثالث: الاطمئنان والسلام لأن قصد الله لا يتغير لأنه من سبق وعيّنهم دعاهم فبرّرهم فمجّدهم.
    • الرابع: الاجتهاد في أن نتمم واجباتنا لكي نجعل دعوتنا واختيارنا ثابتين وهذا البرهان الوحيد على كوننا مختارين ومدعوين لأن الاختيار للقداسة واستمرار الإنسان على الإثم برهان على أن ليس من المختارين.
  5. كون الأولاد لا يفعلون شراً قبل أن يولدوا لا يلزم منه أن طبيعتهم غير فاسدة لأنهم لا يجوعون ولا يعطشون ولا يحبون ولا يبغضون ولا يفرحون ولا يحزنون مع أن ما ذُكر هو من انفعالاتهم الطبيعية (ع ١١).
  6. إن الله منزّه عن الخطاء فالاستدلال بقوله كاف لإثبات عقيدة ما أو دفع الاعتراض عليها (ع ١٥ و١٧).
  7. كون مستقبل الإنسان في يد الله بمقتضى قوله «ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى» لا يغني الإنسان عن اتخاذ الوسائل إلى نيل المقصود. فالإله الذي قال «أنا أرحم من أرحم» قال أيضاً «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة» وقد صرّح الكتاب المقدس بتعليمين وهما قضاء الله المطلق ووجوب اجتهاد الإنسان (ع ١٦).
  8. إنّ أعظم الغايات في الخليقة والعناية والفداء إعلان صفات الله فهي الغاية التي يجب أن نسعى إليها ونحيا لأجلها. فالسعي إلى مجدنا وخيرنا جهالة وخطيئة (ع ١٧ و٢٢ و٢٣).
  9. إنّ الله حين اختار البعض للخلاص اعتبرهم جميعاً خطأة فإنه من كتلة فاسدة جعل البعض إناء للكرامة والبعض إناء للهوان.
  10. من شر نوازل الإنسان أن يتركه الله إلى هواه فيهلك نفسه وذلك عقاب عادل للمتمردين وكون الإنسان عرضة لهذا العقاب يجب أن يحمله على التوبة والرجوع عن سوء طريقه لئلا يقسم الله بغضبه لمن يدخل راحته.

أدلة العهد القديم على دعوة الله الأمم ورفضه اليهود وبيان علّة ذلك ع ٢٥ إلى ٣٣

٢٥ «كَمَا يَقُولُ فِي هُوشَعَ أَيْضاً: سَأَدْعُو ٱلَّذِي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي وَٱلَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً».

هوشع ٢: ٢٣ و١بطرس ٢: ١٠

في هذه الآية دليل من نبوءة هوشع على أن الله دعا الأمم إلى الاشتراك في فوائد ملكوت المسيح.

هُوشَعَ نبي تنبأ بين أسباط إسرائيل العشرة من سنة ٧٨٦ إلى سنة ٧٢٤ ق. م.

سَأَدْعُو ٱلَّذِي لَيْسَ شَعْبِي الخ (هوشع ٢: ٢٥). هذا منقول عن ترجمة السبعين وقيل أولاً في الأسباط العشرة الذين تركوا الله وعبدوا الأوثان وصارو كسائر الأمم فرفضهم الله فجاز لبولس أن ينزل ما قيل عليهم منزلة ما قيل على الأمم وقد أتى هذا عينه بطرس الرسول في (١بطرس ٢: ١٠) وأورد بولس هذه الآية بياناً لوعد الله أن يهب بركات ملكوت المسيح للذين لم يحسبهم شعبه فقبوله الأمم كان بموجب هذا المبدإ.

٢٦ «وَيَكُونُ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ لَسْتُمْ شَعْبِي، أَنَّهُ هُنَاكَ يُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ ٱلْحَيّ».

هوشع ١: ١٠

هذه الآية من (هوشع ١: ١٠).

ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ الخ أي بكل موضع يُعتبر أهله غرباء عن شعب الله سيصيرون من شعبه الخاص.

٢٧، ٢٨ «٢٧ وَإِشَعْيَاءُ يَصْرُخُ مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ: وَإِنْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ، فَٱلْبَقِيَّةُ سَتَخْلُصُ. ٢٨ لأَنَّهُ مُتَمِّمُ أَمْرٍ وَقَاضٍ بِٱلْبِرِّ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَصْنَعُ أَمْراً مَقْضِيّاً بِهِ عَلَى ٱلأَرْضِ».

إشعياء ١٠: ٢٢ و٢٣ ص ١١: ٥ إشعياء ٢٨: ٢٢

هذا دليل من نبوءة إشعياء على صحة ما قيل في (ع ٢٤) إذ فيه أنه لا يخلص من اليهود إلا القليل ويلزم من هذا أن أكثرهم يُرفض.

إِشَعْيَاءُ نبيٌ تنبأ في يهوذا من سنة ٧٥٩ إلى نحو سنة ٧٠٠ ق. م.

يَصْرُخُ الصراخ في التكلم يشير إلى أهمية الكلام وجسارة المتكلم.

وَإِنْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الخ هذا من (إشعياء ١٠: ٢٢ و٢٣) على ما في ترجمة السبعين قيل أولاً على اليهود الذين سُبوا إلى بابل. ومعناه أن المسيحيين وإن كانوا كثيرين جداً لا ينجو من الأسر إلا بقية قليلة منهم. وغاية الرسول منه بيان أن مجرد كون الإنسان يهودياً لا يلزم منه أنه ينجو من قضاء الله العادل. وما قيل على من سباهم الأشوريون يقال أيضاً على الذين سباهم الشيطان والإثم وهو أن الناجين منهم قليلون والمرفوضين كثيرون. وينتج من ذلك أن الله في كل حين يتصرف في العالم بسلطانه المطلق ينجّي من يشاء ويترك من يشاء.

مُتَمِّمُ أَمْرٍ هو الوعد بنجاة الأقل والإنذار بعقاب الأكثر.

قَاضٍ بِٱلْبِرِّ أي مجرٍ للعدل بعقاب الأشرار.

يَصْنَعُ أَمْراً مَقْضِيّاً الخ في هذا إشارة إلى سرعة قضائه تعالى بما أنذر به ويفيد ذلك أيضاً قوله في أول الآية «متمم أمر».

٢٩ «وَكَمَا سَبَقَ إِشَعْيَاءُ فَقَالَ: لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ ٱلْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ».

إشعياء ١: ٩ ومراثي إرميا ٣: ٢٢ إشعياء ١٣: ١٩ وإرميا ٥٠: ٤٠

هذه الآية من (إشعياء ١: ٩) والغرض منها كالغرض من التي قبلها وهو أن كونهم إسرائيليين غير كاف لوقايتهم من عقاب الله وغير محقق لهم رضاه وأنهم عرضة للدينونة على خطاياهم كسائر الناس فإذاً ليس لهم أن يدعوا اختصاص ملكوت السموات بهم.

سَبَقَ إِشَعْيَاءُ فَقَالَ أي أنبأ بالأمر قبل حدوثه.

أَبْقَى لَنَا نَسْلاً أشار بهذا إلى ما أورده بقوله «فالبقية ستخلص» (ع ٢٧) وهو أن الذين يخلصون منهم قليلون من كثيرين. وغاية الرسول من إيراد هذه الآية أنه كما كان في عصر إشعياء يكون في عصره وهو أن القليلين يُختارون والكثيرين يُرفضون.

لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ هما مدينتان في غور الأردن أهلك الله سكانها على خطاياهم (تكوين ١٩: ٢٤ و٢٥). يقول أن اليهود استحقوا الدينونة التي وقعت على تينك المدينتين للمماثلة في الشرور فلولا رحمة الله هلكوا جميعاً.

٣٠ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ إِنَّ ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ ٱلْبِرِّ أَدْرَكُوا ٱلْبِرَّ ٱلْبِرَّ ٱلَّذِي بِٱلإِيمَانِ».

ص ٤: ١١ و١٠: ٢٠ ص ١: ١٧

فَمَاذَا نَقُولُ؟ أي ما النتيجة من هذه النبوءات وجواب هذا ما يأتي في باقي الأصحاح وخلاصته أن الله دعا الأمم ورفض اليهود.

إِنَّ ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ ٱلْبِرِّ أي لم يجعلوا غرضهم القداسة ولم تكن لهم شريعة الوحي ولم يطلبوا أن يتبرّروا بطاعتها ولم يبالوا بالشريعة المكتوبة على ضمائرهم. والخلاصة أنهم كانوا أشراراً ضالين.

أَدْرَكُوا ٱلْبِرَّ مثل هذه النتيجة لا يُنتظر بمقتضى الحكمة البشرية لما عُرفت من تاريخ الأمم. فالعجب من أن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البرّ قبل سمعهم الإنجيل وجدوا البرّ عند سمعهم إياه.

ٱلْبِرَّ ٱلَّذِي بِٱلإِيمَانِ أي البرّ الذي يُنسب إلى الخاطئ المؤمن بالمسيح ويقبله الله وتُوفى به كل مطاليب الناموس. وليس هذا البرّ ذاتياً استحقه بأعماله الصالحة بل هو برّ المسيح منسوباً إليه فهو هبة له من الفادي.

٣١ «وَلٰكِنَّ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ ٱلْبِرِّ لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ ٱلْبِرِّ!».

ص ١٠: ٢ و١١: ٧ غلاطية ٥: ٤

ما أدركه الأمم قصّر عنه اليهود.

يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ ٱلْبِرِّ السعي في الأمر الاجتهاد في إصابته ومعنى «ناموس البر» طريق الصلاح ورضى الله. فالفرق بين «البر» و «ناموس البر» هنا زهيد جداً ومعنى العبارة أن اليهود اجتهدوا في أن يعملوا الصلاح ويرضوا الله بطاعة الناموس فظنوا أنهم أطاعوه ونالوا البرّ بذلك أي أنهم صاروا أبراراً.

لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ ٱلْبِرِّ أي لم يرضوا الله ولم يصيروا أبراراً فقصروا عن الحياة الأبدية وعلّة تقصيرهم في الآية الآتية. نفى الرسول «أدرك ناموس البر» عن اليهود عموماً فلا يلزم من نفيه أن بعض الأفراد لم يدركوه بالطريق التي عيّنها الله.

٣٢ «لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذٰلِكَ لَيْسَ بِٱلإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. فَإِنَّهُمُ ٱصْطَدَمُوا بِحَجَرِ ٱلصَّدْمَةِ».

لوقا ٢: ٣٤ و١كورنثوس ١: ٢٣

لِمَاذَا؟ قال هذا مقدمة لبيان علّة تقصير اليهود عن البرّ أو رضى الله لأنهم أبوا التبرير في الطريق التي أعلنها الله (وهي الطريق الوحيدة التي يمكن الخطأة أن ينالوا فيها البر) وطلبوه بأعمالهم الناقصة. صرّح الرسول في ص ٨: ٢٨ وفي أول هذا الأصحاح بأن علّة إيمان بعض الناس وخلاصه دون الآخر هي إرادة الله المطلقة وصرّح هنا أن على هلاك الهالكين الوحيدة فعلهم.

لأَنَّهُ فَعَلَ ذٰلِكَ لَيْسَ بِٱلإِيمَانِ أي لأنهم لم يطلبوا البرّ بالإيمان بيسوع المسيح المصلوب لأجل خطايانا إذ لا كفارة بدون سفك دم ولم يؤمنوا بإطاعته الكاملة للناموس نيابة عنهم.

بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ أي كان اليهود ظنوا إدراك البرّ بالأعمال لأنهم طلبوا البرّ والخلاص بطريق يستحيل فيها على الخطأة أن يدركوها.

فَإِنَّهُمُ ٱصْطَدَمُوا بِحَجَرِ ٱلصَّدْمَةِ أي بيسوع المسيح المصلوب وبالخلاص بالإيمان الذي أتى به.

٣٣ « كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى».

مزمور ١١٨: ٢٢ وإشعياء ٨: ١٤ و٢٨: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢ و١بطرس ٢: ٦ – ٨ ص ١٠: ١١

أبان الرسول في هذه الآية أن الله قد تنبأ في العهد القديم إن اليهود يرفضون المسيح واستشهد بذلك في كلامه من آيتين من نبوءة إشعياء الأولى «هَئَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ ٱمْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيماً، أَسَاساً مُؤَسَّساً. مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ» (إشعياء ٢٨: ١٦). والثانية «وَيَكُونُ مَقْدِساً وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ لِبَيْتَيْ إِسْرَائِيلَ، وَفَخّاً وَشَرَكاً لِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ» (إشعياء ٨: ١٤). ونقل الرسول ذلك من ترجمة السبعين ففيها «يخزى» بدل «يهرب» في العبرانية والمعنى واحد لأن الهرب نتيجة الخزي وكلاهما يستلزمان عدم الثقة. حين تكلم النبي بالآية الأولى كان الإسرائيليون خائفين من هجوم الأشورين ومائلين إلى ملجإ كاذب وهو محالفة مصر فعزاهم النبي وقوى إيمانهم بمواعيد أعظمها الوعد بمجيء المسيح والبرهان على ذلك تفسر تلك النبوءة في (متّى ٢١: ٤٢ وأعمال ٤: ١١ و١بطرس ٢: ٦) وفي كتب علماء اليهود والغاية من الآية الثانية تقوية قلوب شعب يهوذا لكي لا يخافوا من تحالف سورية وأفرايم عليهم فصرّح لهم أن الرب ملجأ لهم وحجر صدمة لأعدائهم. فما قيل على يهوه في العهد القديم نسبه كتبة العهد الجديد إلى المسيح فمعنى النبوءة أن المسيح الذي هو «الله معنا» يكون للبعض حصناً حصيناً وللبعض محتقراً ومرفوضاً. وتمّت هذه النبوءة في أكثر يهود العصر الرسولي ولم تزل تعم إلى هذا اليوم.

فوائد

  1. قطع الإنسان من الكنيسة المنظورة لا يستلزم قطعه من نعمة الله (ع ٢٥ و٢٦).
  2. حصول المسيحيين الذين ليسوا من شعب الله الأصلي على وسائط النعمة وبركة البنين يجب أن يشغل قلوبهم وألسنتم بالشكر لله دائماً (ع ٢٥ و٢٦).
  3. إنه إن كان الذين يخلصون من شعب الله ليسوا سوى بقية صغيرة فكم يجب علينا الحذر من أن يكون إيماننا ورجاؤنا باطلين (ع ٢٧ – ٢٩).
  4. إنه كثيراً ما يكون التمسك بالتعليم الفاسد مانعاً من قبول الخلاص أكثر من الغفلة والإثم بدليل قول المسيح «إن العشارين والزناة يسبقون الفريسيين إلى ملكوت السموات». وقيل هنا «أن الأمم الجسدانيين لما سمعوا الإنجيل رحبوا به وخلصوا وأن اليهود المتمسكين بآرائهم الفاسدة رفضوا الإنجيل ولم يخلصوا». وهذا يبيّن فساد قول كثيرين أن عمدة النجاة تمسك الإنسان بدينه باطلاً كان أم صحيحاً (انظر أمثال ١٦: ٢٥ ع ٣٠ و٣١).
  5. إن شرّ المضلات ما ساق الإنسان إلى الاتكال على نفسه وبره لنيل القبول أمام الله (ع ٣٢).
  6. إن الكتاب صرّح بأن الذين يهلكون إنما هم يهلكون أنفسهم لا قضاء الله وأن الذين يخلصون إنما يخلصون بنعمة الله لا بأعمالهم (ع ٣٢).
  7. إن المناداة بالمسيح مصلوباً كانت عثرة وجهالة لأكثر الناس ولا تزال كذلك ولكن المدعوين للخلاص يرون الصليب افتخارهم ورجاءهم (ع ٣٣).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى