رومية

الرسالة إلى رومية | 07 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى رومية

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح السابع

فحوى هذا الأصحاح

أبان الرسول في ما سبق أن لا برّ بالناموس وأن الإنسان لا يتبرّر ما لم يتحرر (ص ٣: ٢١ – ص ٤) وأخذ هنا يبيّن أن لا تقديس بالناموس وأن الإنسان لا يتقدس ما لم يتحرر منه وأن الناموس وإن كان مقدساً لا يستطيع أن يقدس الإنسان. وبرهن ذلك باختباره من نفسه أن الناموس عجز عن أن ينقذه من سلطان الخطيئة وأنه لم ينتصر في محاربته للخطيئة إلا بالرب يسوع المسيح.

تثبيت الرسول تعليمه في (ص ٦: ١٤) إن المؤمنين محررون من الناموس بتمثيله بناموس الزيجة ع ١ إلى ٦

١ «أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لأَنِّي أُكَلِّمُ ٱلْعَارِفِينَ بِٱلنَّامُوسِ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً».

أَمْ تَجْهَلُونَ أي أنكم تعلمون حسناً (قابل هذا بما في ص ٦: ٣).

أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أي الأنسباء الروحيون بقطع النظر عن كونهم يهوداً أو أمماً قبل الإيمان (ص ١: ١٣ و١٢: ١٠).

أُكَلِّمُ ٱلْعَارِفِينَ بِٱلنَّامُوسِ الأدبي الإلهي المعلن بكل إيضاح في كتب اليهود الإلهية. لم يقصد بالعارفين به مؤمني اليهود وحدهم الذين عرفوه منذ الصغر فلا ينتج من هذا أن أكثر الكنيسة كان من اليهود. إنما قصد كل المؤمنين من اليهود والأمم. ولعل أكثر الأمم الذين كانوا في الكنيسة المسيحية يومئذ كانوا قبل تنصرهم يهوداً دخلاء عرفوا الناموس بمعاشرتهم اليهود وسمعهم أقواله حين كانوا يقرأونه في اجتماعاتهم الدينية.

أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ الخ مثّل الرسول الناموس بذي سلطان «وال» في الإنسان لاستغراق الجنس فكل إنسان تحت ناموس ما مكلف بطاعته إياه مدة حياته يتحرر منه عند موته. وأمثلة ذلك كثيرة منها الولد والوالد والرعية والراعي والعبد والسيد.

٢ «فَإِنَّ ٱلْمَرْأَةَ ٱلَّتِي تَحْتَ رَجُلٍ هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ».

١كورنثوس ٧: ٣٩

هذه الآية مثال للمبدإ في الآية الأولى وهو أن الموت يفك الرباط الذي يُربط به الإنسان مدة حياته.

تَحْتَ رَجُلٍ أي تحت سيادته يعني متزوجة.

هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ أي مكلفة بكل ما يأمرها ناموس الله من المحبة والإكرام والمساعدة لرجلها ما دام حياً (أفسس ٥: ٢٣ و٣٣).

إِنْ مَاتَ… تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ أي الناموس الذي بمقتضاه صارت المرأة لرجلها خاصة وتحت سلطته.

فإن قيل يمكن المرأة أن تتحرر بتطليقها زوجها قلنا ليس في ناموس موسى من سبيل للمرأة إلى ذلك كما للرجل سبيل إلى تطليق زوجته (تثنية ٢٤: ١ و٢). على أن سبيل الرجل إلى ذلك لم يكن في ترتيب الله الأصلي كما صرّح المسيح نفسه (متّى ١٩: ٨ – ١٠).

٣ «فَإِذاً مَا دَامَ ٱلرَّجُلُ حَيّاً تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ، حَتَّى إِنَّهَا لَيْسَتْ زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ».

متّى ٥: ٣٢

ما في هذه الآية نتيجة الآية الثانية.

تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ بموجب الشريعة الموسوية وتُرجم إلى أن تموت (لاويين ٢١: ١٠) فلا يجوز أن تقترن بآخر ورجلها حيٌّ.

فَهِيَ حُرَّةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ الذي ربطها بالرجل باعتبار أنها زوجته.

لَيْسَتْ زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَر برهن الرسول بهذا أن المرأة تُحرّر تمام الحرّية من زوجها الأصلي بمنزلة الناموس.

٤ «إِذاً يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ تَصِيرُوا لِآخَرَ، لِلَّذِي قَدْ أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لِنُثْمِرَ لِلّٰهِ».

ص ٨: ٢ وغلاطية ٢: ١٩ و٥: ١٨ وأفسس ٢: ١٥ وكولوسي ٢: ١٤ غلاطية ٥: ٢٢

هذه الآية إيضاح للتمثيل في (ع ٢ و٣).

أَنْتُمْ أَيْضاً يصحّ عليكم بالنظر إلى الناموس ما صح على المرأة بالنظر إلى رجلها هي تحرّرت من زوجها بموته وأنتم تحرّرتم من الناموس بموت المسيح. كان الناموس بمنزلة الزوج إلى أن جاء المسيح فكان على الناس أن يقوموا بكل فروضه وسننه.

مبدأ احتجاج الرسول أن الموت يحل كل رُبط الناموس بين الحيّ والميت فإذاً لا فرق في الحجة على المطلوب هنا أن يتحرر المؤمن بموته عن الشريعة أو بموت الشريعة عنه فاستحسن الرسول الوجه الأول أي موت الإنسان عن الشريعة لأن اليهود ينفرون من القول أن الناموس مات ولأن قوله «إننا صلبنا مع المسيح» (ص ٦: ٦) يلزم منه إنا نحن نموت لا الناموس.

قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ أي حين آمنتم تحرّرتم من وجوب طاعتكم للناموس (لكي تتبرّروا) وحق لكم أن تقبلوا الإنجيل. والناموس هنا هو الناموس الأدبي لا الموسوي (أي الرمزي) فهو يطلب الطاعة الكاملة شرطاً لنيل الخلاص (ص ١٠: ٥ وغلاطية ٣: ١٠). فالناموس مقدّس وعادل وصالح (ع ١٢) وروحي (ع ١٤). وتحرّرنا منه باعتبار كونه واسطة التبرير والخلاص لا باعتبار أنه قانون الحياة والسيرة. والدليل على أن الناموس هنا ليس الناموس الموسوي أن الرسوم الموسوية جزء صغير مما تحرّرنا منه بالفداء بيسوع المسيح. ولو صُرّح لنا (ونحن نخاف غضب الله على الخطأة) بأننا تحرّرنا مما علينا من الدينونة لتعدّينا ناموس موسى فقط لكانت تعزيتنا قليلة.

بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ الذي صُلب ومات كفارة عنا (ص ٣: ٢٥). فالمسيح مات نائباً عنّا وموته علّة تبريرنا ونحن متنا معه (ص ٦: ٦ – ٨) فإنه «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» (غلاطية ٣: ١٣). «لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ» (أفسس ١: ٧ و٢: ١٣) «مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا» (أفسس ٢: ١٥). وكل هذه الأقوال بمعنىً واحد وهو أن المسيح أوفى بآلامه وموته ما علينا للناموس أي مطاليب العدل الإلهي وبذلك نجانا من العقاب الذي أوجبه الناموس علينا وحرّرنا من وجوب طاعته لنيل الخلاص.

لِكَيْ تَصِيرُوا لآخَرَ هذا هو الغاية الأولى والثانية في آخر الآية وهي الإثمار لله. ومعنى العبارة هنا أن يتحدوا بالمسيح بالإيمان والمحبة ويعاهدوه بالطاعة له والاتكال عليه. ويتبين من هذا أن نتيجة التبرير بالإيمان هو التقديس لا إباحة ارتكاب الإثم. ولم يزل الرسول هنا يشير إلى أن نسبة المسيح إلى المؤمن كنسبة الزوج إلى الزوجة أي أن المسيح للكنيسة التي تحرّرت من الناموس بموتها له (بموت المسيح). وهذا مثل قول الملاك ليوحنا «هَلُمَّ فَأُرِيَكَ ٱلْعَرُوسَ ٱمْرَأَةَ ٱلْحَمَلِ» (رؤيا ٢١: ٩ انظر أيضاً أفسس ٥: ٢٣ و٣٠ ورؤيا ١٩: ٧).

قَدْ أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ ذكره الرسول سابقاً باعتبار كونه ميتاً وقال هنا «إنه أُقيم من الأموات» لكي يناسب أن يُقال إننا الآن متحدون به بالإيمان. فالمسيح حي ومحي ونحن نتحد به بالإيمان وبالروح القدس الساكن فينا.

لِنُثْمِرَ لِلّٰهِ هذا هو الغاية الثانية من تحررنا من الناموس ومعنى «إثمارنا لله» أن يتمجد الله بقداستنا وقصد الرسول من هذا التمثيل التوصل إلى هذه النتيجية وخلاصتها أن المتحدين بالمسيح بالإيمان يثمرون لله.

٥ «لأَنَّهُ لَمَّا كُنَّا فِي ٱلْجَسَدِ كَانَتْ أَهْوَاءُ ٱلْخَطَايَا ٱلَّتِي بِٱلنَّامُوسِ تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا، لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ».

ص ٦: ١٣ ص ٦: ٢١ وغلاطية ٥: ١٩ ويعقوب ١: ١٥

لأَنَّهُ تعليل لإثبات وجوب الإثمار لله.

لَمَّا كُنَّا فِي ٱلْجَسَدِ أي في الحال الطبيعية غير متجددي القلوب. فمعنى «الجسد» هنا كمعناه في قول المسيح لنيقوديموس «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ» (يوحنا ٣: ٦). وكنا حينئذ تحت الناموس أي متكلين عليه في تبريرنا وكنا عبيداً للرسوم الخارجية كالختان والغسل وتمييز الأطعمة (غلاطية ٤: ٣).

أَهْوَاءُ ٱلْخَطَايَا أي الشهوات المهيجة على ارتكاب الخطايا الظاهرة بالأعمال الشريرة كالحسد والبغض والحقد والكبرياء والطمع فضلاً عن الأهواء التي تحمل على السكر والشراهة والفجور (غلاطية ٥: ٢٤).

ٱلَّتِي بِٱلنَّامُوسِ أي التي أظهر الناموس أنها خطايا وكان علّة لتهييح قلوبنا المتمردة على العصيان كما أوضح في (ع ٧ و٨).

تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا أي فينا روحاً وجسداً. وقيل في «أعضائنا» الجسدية باعتبار كونها آلات الروح كما سبق الكلام في تفسير (ص ٦: ١٣ و١٩).

لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ هذا نتيجة عمل الخاطئ لا مقصده وهو ضد ما قيل في الآية الرابعة على قصد المؤمن أن يثمر لله. ومثل بولس الموت هنا بسيد يخدمه الخطأة ويتسلط عليهم كيف شاء. و «الموت» المذكور ليس موت الجسد فقط بل ما يُسمّى «أجرة الخطيئة» في (ص ٦: ٢١ و٢٣) وهو ما ينذر الناموس بأنه عقاب الخطيئة.

٦ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ، حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ ٱلرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ ٱلْحَرْفِ».

ص ٦: ٢ وع ٤ ص ٢: ٢٩ و٢كورنثوس ٣: ٦

وَأَمَّا ٱلآنَ أي ونحن في حال الإيمان والتجديد والتبرير وهذا مقابل قوله «لما كنا في الجسد» (ع ٥).

تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ هذا كقوله في (ع ٢) على المرأة التي تحرّرت بموت زوجها من واجباتها له. والمعنى إنا نجونا من عقاب الخطيئة الذي أوجبه الناموس وعتقنا من رقه باعتبار كونه واسطة التبرير لكنا لم نتحرر منه باعتبار كونه قانون السيرة.

إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ أي إننا كنا قبلما آمنا وتجددنا مقيدين بعبودية الناموس ثم متنا له بالمعنى الذي في (ع ٤) أي باشتراكنا في موت المسيح نائبنا لأنه مات لكي يوفي كل مطاليب الناموس. فعندما آمنا به اعتُبرت أعماله أعمالنا وموته موتنا. والخلاصة أنه لم يبق للناموس شيء علينا كما أنه لم يبق للرجل بعد موته أدنى سيادة على امرأته.

حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ ٱلرُّوحِ هذا وصف حياة المؤمن الجديدة المقدسة التي ينشئها الروح القدس فإنه يطيع الله ويخدمه كولد محب لوالد حنون فطاعته سارّة قلبية روحية لا خارجية فقط.

لاَ بِعِتْقِ ٱلْحَرْفِ أي لا بالعبودية العتيقة للناموس. وهذا وصف حال الإنسان قبل إيمانه بالمسيح وهو عبد للناموس. وعبّر عن الناموس «بالحرف» لأنه مجموع أوامر ونواهٍ خلاصتها الوصايا العشر التي كُتبت بالحروف على لوحي حجر أو لأن الناموس الموسوي كان مكتوباً بها. وكانت تلك العبادة عسرة ثقيلة قاموا بها خوفاً من العقاب برسوم خارجية ومثالها ما أتاه الفريسيون في أيام المسيح حين عشّروا النعنع والشبثّ وغسلوا الكأس والصحفة متوقعين أنهم بذلك يرضون الله. وهذا مثل قوله «ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ. لأَنَّ ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ يُحْيِي» (٢كورنثوس ٣: ٦ انظر أيضاً غلاطية ٣: ٣). وجوهر الفرق بين العبادة «بجدة الروح» والعبادة «بعتق الحرف» أن الأولى روحية ناتجة عن المحبة والثانية خارجية ناتجة عن الخوف. ويظهر ذلك الفرق من قول الناموس للإنسان «افعل هذا فتحيا» ومن قول الإنجيل له آمن بما فعل المسيح من أجلك فتحيا وأظهر شكرك بأن تسير كما سار المسيح ربك.

فوائد

  1. إن جوهر تعليم هذا الفصل ما في (ص ٦: ١٤). وهو أن المؤمنين بالمسيح ليسوا تحت الناموس للتبرير وأن نتيجة تحررهم من الناموس هي نشاطهم في خدمة الله لا إباحة ارتكاب الإثم (ع ٤).
  2. إننا نحصل على التحرر من الناموس بموت المسيح فالإيمان به مصلوباً هو طريق نيل النعمة التي نتقدس بها فإن ضعف إيماننا به سقطنا في رق الناموس وسلطة الخطيئة (ع ٤).
  3. إن المسيح حرّرنا من الناموس بإيفائه إياه كل ما علينا له لا بإلغاء مطاليبه (ع ٤ وص ١٠: ٤).
  4. إن المسيح فدانا لنكون قديسين وعتقنا من الناموس لنتحد به. ودليل هذا الاتحاد الإثمار لله (ع ٤).
  5. إن كل من نجا من عبودية الناموس وعقابه حق النجاة عبد الله كابن عن محبة ومسرّة (ع ٦) وهذا لا ينتج إلا لتغير عظيم يسمى تجديد القلب يشعر به من يختبره ويظهر لغيره بإثماره.
  6. إنه ينتج مما قيل هنا في الزيجة أن اقتران الزوجين لا يبطل إلا بموت أحدهما. وزاد المسيح على ذلك علّة واحدة ذكرها في (متّى ٥: ٣١ ع ١ – ٦).

إن الناموس مقدس لكنه لا يستطيع أن يقدس الخطاة ع ٧ إلى ١٣

بعد ما أبان الرسول عجز الناموس عن تبرير الخاطئ (ص ٣ و٤) وعن تقديسه (ص ٧: ١ – ٦) أخذ يبين ما هو نفعه وأقام على ذلك دليلين:

الأول: إنه يحمل الخاطئ على الشعور بخطيئته كما قيل في (ص ٣: ٢٠).

الثاني: إنه ينير ضمير الإنسان وإن لم يستطع أن يبطل سلطة الخطيئة عليه.

وفي هذا الفصل إيضاح أول هذين الدليلين أورد الرسول فيه ما اختبره هو مثالاً لسائر الناس الذين يجتهدون أن يطيعوا الناموس فهو ليس بشرح حال إنسان مصر على الخطيئة غير مكترث بالله تعالى وبما يجب عليه له وللناس ولا وصف مؤمن مطمئن بل وصف إنسان يشعر بخطيئته بواسطة تعاليم الناموس وقد استعد بذلك إلى قبول تعليم الإنجيل بإرشاد الروح القدس ولم يبلغ تمام الإيمان ليدرك كمال الراحة والسلام القلبي.

٧ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ هَلِ ٱلنَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا! بَلْ لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ ٱلنَّامُوسُ «لاَ تَشْتَهِ».

ص ٣: ٢٠ خروج ٢٠: ١٧ وتثنية ٥: ٢١ وأعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٣: ٩

فَمَاذَا نَقُولُ؟ اصطلح الرسول أن يأتي بهذا السؤال في مقدمة بعض الفصول (انظر تفسير ص ٣: ٩ و٤: ١ و٦: ١).

هَلِ ٱلنَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ قال هذا دفعاً لاعتراض من يقول أنه ذم الشريعة بتعليمه وجوب التحرر من الناموس بغية التبرير والتقديس وأن الناموس يهيّج شهوات الإثم. والمعنى أيحق لنا أن نخّطئ الناموس.

حَاشَا! هذا تنزيه أريد به شدة الإنكار وبيان كراهة تخطئة الناموس.

بَلْ أي الأمر بخلاف بذلك.

لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ أي لولا الناموس ما شعرت بأني خاطئ وخفت من العقاب. وهذا كلام الرسول على شعوره قبل النعمة واستعمل صيغة التكلم لأن ما قاله مبين على اختباره ويصح على كل إنسان مثله تحت الناموس المعلن في العهد القديم قبل الإيمان والتجدد بالروح القدس. وقوله «لم أعرف الخطيئة إلا بالناموس» مبني على المبدإ المذكور في (ص ٤: ١٥) وهو قوله «حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعدّ» أي أنه إذا كان إنسان لا يعرف الناموس لا يمكنه أن يعرف إذا تعداه أنه تعداه ولا يستطيع أن يشعر بخطيئته. والخطيئة التي لا يشعر بها الإنسان بلا الناموس أما ما يرتكبه فعلاً إلى الميل إلى ارتكاب الخطيئة الذي هو قلب كل إنسان لكنه يكون خفياً عنه إلى أن تقع التجربة الحاملة على الارتكاب أو إلى أن يسمع الناموس ينهي عن الفعل بمقتضى ذلك الميل.

لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ هذا مثال لقوله «بالناموس معرفة الخطيئة» أو دليل على صحته. و «الشهوة» هنا هي الرغبة في ارتكاب المحرمات فأراد الرسول أنه لولا الناموس ما عرف قوة تلك الرغبة وعبوديته لها وإلى أي حد من المحظورات تقوده إليه وقد ذُكرت الشهوات المحرمة في (غلاطية ٥: ٦ – ٢١).

لاَ تَشْتَهِ هذا مأخوذ من (خروج ٢٠: ١٧) ومن إحدى الوصايا العشر واقتصر على هذا لأن سائرها معلوم أو لأنه القدر الكافي لغايته. والشهوة هنا الطمع في ما للغير وهي محرمة وإلا ما نهى الناموس عنها. وهي أصل كل الشرور بدليل قول يعقوب «ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً». ومنع الإنسان عن الشهوة المحرمة ووجود الناموس دون الفعل بموجبها. وذلك الناموس يحرك القلب المتمرد على المعصية ويبين لصاحبه وجود الشهوات فيه وسلطتها العظيمة عليه. وليس في ما ذكر من تأثير الناموس من لوم عليه فاللوم على الطبيعة البشرية الفاسدة التي يقاومها ويكشف شرورها.

٨ «وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ».

ص ٤: ١٥ و٥: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٥٦

وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ أي الميل إلى الإثم الذي هو نتاج طبيعة الإنسان الفاسدة.

مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أي قول الناموس «لا تشته».

أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ وزادت الشهوة قوة حين عرف المشتهي أن الطاعة لها محرمة فكانت كالجدول الصغير إذا وضعت حاجزاً في مجراه اجتمع الماء عنده بكثرة ثم دفعه فجرى كنهر كبير جارف. وهذا كالمثل السائر «كل ممنوع مطلوب» وكقول بعضهم «أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا» ومثل قول الجاهلة «ٱلْمِيَاهُ ٱلْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ وَخُبْزُ ٱلْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أمثال ٩: ١٧) الإنسان بالطبع متكبر عنيد يحب الاستقلال والناموس ضد ذلك فيهيج مقاومة الإنسان له والتعدي عليه. ومثل قول بولس هنا قول قدماء الفلاسفة ومنهم سنيكا قال «إن قتل الاولاد والديهم لم يحدث في رومية قط قبل أن ينهى عنه شرعاً» ومنهم هوراتيوس قال «إن الجنس البشري يتجاسر على كل شيء ولا سيما المحظورات فإنه يشتهي كل ممنوع ويجد في طلب المحرم».

بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ أي بلا الشريعة أو معرفتها لا قوة للخطيئة على الإنسان بالنسبة إلى قوتها بعد إعلان الناموس وهياج الشهوات به. فهي بدون الناموس كالميتة فإن الإنسان لا يشعر بالميل إلى الخطيئة قبل وقوع ما يحمله من التجارب على ارتكاب المحرم وقبل معرفته أن ما يرتكبه إثم. والمجهول بمنزلة الميت. ومثل هذا قول السيد المسيح «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ… لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ» (يوحنا ١٥: ٢٢ – ٢٤ قابل هذا بما في يعقوب ٢: ١٧ و٢٦).

على أنه لا أحد من الناس خال من شيء من الناموس كما أبانه بولس (في ص ١ و٢) من أنه كان للأمم ناموس غير ناموس الوحي مكتوب في قلوبهم ولكن شعورهم بخطاياهم كان قليلاً جداً على قدر معرفتهم وتمييزهم الخير من الشر.

٩ «أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَتِ ٱلْوَصِيَّةُ عَاشَتِ ٱلْخَطِيَّةُ، فَمُتُّ أَنَا».

فَكُنْتُ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي قبل أن عرفت حقيقة الناموس ومطاليبه الروحية.

عَائِشاً أي ظاناً أني بار أمام الله فكنت مطمئناً سعيداً غير شاعر بالخلاف بين إرادتي وإرادة الله ولا بالخطيئة ولا بأني عرضة للهلاك.

قَبْلاً أي قبل معرفتي مطاليب الناموس وأني متعدٍّ لها.

لَمَّا جَاءَتِ ٱلْوَصِيَّةُ أي حين عرفت حقيقة الشريعة ومطاليبها الروحية ووجدتها تنهاني عما أشتهي أن أفعله وتأمرني بما لم أقم به وبيّنت لي أني قد تعدّيتها.

عَاشَتِ ٱلْخَطِيَّةُ أي الطبيعة الإنسانية الفاسدة التي كان يجهلها قبلاً وهي التي شُبهت «بالميت» (في ع ٨). ومعنى قوله «عاشت» أنها ظهرت له بعد خفائها عليه فكأنها ميتة وحييت وقويت.

فَمُتُّ أَنَا هذا مقابل قوله «كنت… عائشاَ» في أول الآية. والمعنى أنه فقد ما كان له من الاطمئنان وراحة الضمير وهو يسلك في سبيل الشهوات وشعر بأنه خاطئ وعرضة لغضب الله وعقابه وأنه في حال الموت الروحي الذي ذكره في (ع ٢١ وص ٨: ٢) وفي خطر الهلاك الأبدي.

١٠ «فَوُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ».

لاويين ١٨: ٥ وحزقيال ٢٠: ١١ و١٣ و٢١ وص ١٠: ٥ و٢كورنثوس ٣: ٧ الخ

وُجِدَتِ بحسب ما اختبرت.

ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ معنى «الحياة» هنا القداسة والسعادة الكاملة. وكانت الوصية للحياة لأن غاية الله في إعطائها أن يحصل الإنسان على القداسة والسعادة بحفظه إياها بمقتضى قوله «افعل فتحيا» فلو حفظها نال ما وُعد به. وكان الرسول وهو فريسي يرجو الحياة بحفظه الوصية ظاهراً.

هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ أي هي التي أظهرت لي أني مخالف للناموس وعرضة للموت هي نفسها لي للموت وهذا الموت ضد الحياة في أول الآية فهو حال الإثم والشقاء. وكان ذلك نتيجة الناموس لبولس لا النتيجة التي قصدها الله من وضع الناموس فاللوم ليس على الناموس بأن يجعل الإنسان في تلك الحال بل على الإنسان نفسه.

١١ «لأَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ، وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ، خَدَعَتْنِي بِهَا وَقَتَلَتْنِي».

لأَنَّ هذا تعليل لكون الشريعة وسيلة إلى الموت.

ٱلْخَطِيَّةَ أي الطبيعة الفاسدة فهي علّة أن الشريعة التي للحياة صارت للرسول ولسائر الناس للموت.

مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً هذا كقوله في (ع ٨) والمعنى أن ما جعله الله وسيلة إلى الحياة اتخذته الطبيعة البشرية وسيلة إلى الموت.

خَدَعَتْنِي أي خيبتني إذ جعلتني أتوقع شيئاً فأصيب غيره. توقعت الحياة بالناموس فأصبت الموت وانتظرت السعادة فوجدت الشقاء وأملت القداسة فنلت زيادة الفساد. ولعل الرسول أشار بهذا إلى خداع الشيطان باتخاذه الوصية (وهي قوله تعال «وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا منها») فرصة لتهييج شهوة حواء ثم آدم ليحملهما على الأكل منها وعلى أمل أن يصيرا بذلك كالله يعرفان الخير والشر (تكوين ٣: ١ – ٥).

وَقَتَلَتْنِي معنى هذا كمعنى قوله «مت أنا» في (ع ٩) أي أظهرت لي إثمي وشقائي وأني عرضة لغضب الله وعقابه على الإثم.

١٢ «إِذاً ٱلنَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَٱلْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ».

مزمور ٢٩: ٨ و١١٩: ٣٩ و١٣٧ و١تيموثاوس ١: ٨

إِذاً هذه الآية نتيجة استدلاله في (ع ٩ – ١١) وإثبات لما في (ع ٥) من أن أصل الشر الذي هاج بواسطة الناموس فساد الطبيعة البشرية لا الناموس.

ٱلنَّامُوسُ مُقَدَّسٌ أي كل الشريعة الإلهية لأن الله أعلن فيها مشيئته الطاهرة.

وَٱلْوَصِيَّةُ أي كل وصية من وصايا الناموس ومنها ما اقتبسه الرسول آنفاً وهو قوله «لا تشته» (ع ٧).

مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ أي كاملة من كل وجه فإنها تليق بالله واضعها وتطلب ما هو حق بالذات وتنفع كل طائعيها.

١٣ «فَهَلْ صَارَ لِي ٱلصَّالِحُ مَوْتاً؟ حَاشَا! بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ. لِكَيْ تَظْهَرَ خَطِيَّةً مُنْشِئَةً لِي بِٱلصَّالِحِ مَوْتاً، لِكَيْ تَصِيرَ ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً بِٱلْوَصِيَّةِ».

ذكر هذه الآية ليرفع كل وهم من جهة معنى قوله «قمت أنا» (ع ١٠) وقوله «قتلتني» (ع ١١).

هَلْ صَارَ لِي ٱلصَّالِحُ مَوْتاً؟ الصالح هو الناموس فإنه سأل في (ع ٧) «هل الناموس خطيئة» وسأل هنا «هل صار… موتاً» فكأنه قال هل الناموس الصالح علّة موتي.

حَاشَا! هذا تنزيه لشدة الإنكار.

بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ هي علّة موت الإنسان الحقيقية الوحيدة.

مُنْشِئَةً لِي بِٱلصَّالِحِ مَوْتاً أي أن الخطيئة جعلت ناموس الله المقدس العادل الصالح وسيلة إلى ارتكاب ما يكرهه الله وينهي عنه فأنشأت موتاً روحياً أبدياً.

لِكَيْ تَصِيرَ ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً أي لتظهر حقيقة نفسها بما ذُكر من تأثيرها.

بِٱلْوَصِيَّةِ من جملة ما قصده الله بالوصية أن يظهر بواسطتها فظاعة الإثم. ونتج من كل ما ذُكر في شأن الناموس أنه لا يمكنه تقديس الخاطئ إنما يُشعره بأنه خاطئ (ص ٣: ٢٠) ويهيج أهواءه (ص ٧: ٥) وينشئ فيه كل شهوة (ع ٨) ويحيي الخطيئة فيه (ع ٩) وتخدعه الخطيئة بواسطته (ع ١١) وتقتله به (ع ١١) فكيف يستطيع أن يبرّر ويقدس.

فوائد

  1. إن الناموس نافع وإن لم يستطع أن يبرّر أو يقدس لانه ينير الضمير ويظهر لنا شر ما ظنناه صالحاً ويظهر للإنسان أن طبيعته فاسدة مائلة إلى الخطيئة وإنه أثيم فعلاً فيهيئ له الطريق إلى قبول الإنجيل (ع ٧ و٨).
  2. إن شعور الإنسان بخطاء طبيعته وبشدة سلطة الخطيئة عليه ضروري لتمسكه بالمسيح كما أعلن لنا بالإنجيل لينجو من الفساد والدينونة (ع ٩).
  3. إن الذين لا دين لهم سوى الناموس هم في حال يرثى لها (ع ٧ – ١٣).
  4. إن شريعة الله تدل على صفاته فتبين أنه قدوس عادل وصالح فكلما عرفنا روحانيتها وسعتها وجودتها شعرنا بعدم استحقاقنا الوقوف أمام واضعها (ع ١٢).
  5. إن الإعجاب بالنفس غير لائق بالإنسان فكلما تقدم في التقوى تحقق سمو قداسة شريعة الله وكلما تحقق ذلك عرف تقصيره عن الطاعة الواجبة فازداد تواضعاً (ع ١١ و١٢).
  6. إن الخطيئة شر النوازل فإنها تتخذ شريعة الله المقدسة وسيلة إلى الإثم. وتتخذ ما قصد الله أن يكون واسطة حياة الإنسان وسيلة إلى الموت (ع ١٢).

تأثير الناموس في المؤمن والبرهان على أنه صالح مع عجزه عن تقديس المؤمن ع ١٤ إلى ٢٥

أبان الرسول في ما سبق أن من شأن الناموس أن يشعر الإنسان قبل أن يتجدد بخطيئته (ع ١ – ١٣). وأخذ هنا يبيّن أن الناموس عاجز عن تقديس المؤمن. وقد انتقل من التكلم على نفسه بصيغة الماضي إلى صيغة المضارع وفقاً لحاله قبل إيمانه ولحاله بعده إذ ابتدأ يحيا حياة جديدة. ولكنه لم يكن قد اقتنع بعد بعجز الناموس عن تنجيته من سلطة الإثم. وتكلم في هذا الفصل على ثلاثة أمور الأول أن عجز الناموس ناشئ عن قوة سلطة الخطية عليه لا عن نقص في الناموس (ع ١٤ – ١٦). والثاني أن أعماله ليست بدليل على حقيقة سجيته وإرادته لأن ما يفعله إنما يفعله كعبد على رغمه إطاعة لأمر مولاه (ع ١٧ – ٢٠). والثالث أن النجاة من سلطان الخطيئة ونهاية المحاربة بين الجسد والنفس ليستا إلا بالرب يسوع المسيح (ع ٢١ – ٢٥).

١٤ «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ».

١ملوك ٢١: ٢٠ و٢٥ و٢ملوك ١٧: ١٧

نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ رُوحِيٌّ أي لا حاجة إلى البرهان على أن الناموس الموحى به بالروح القدس هو مثل من أوحى به وأنه يطلب من الإنسان الطاعة الروحية وأنه مقدس وعادل وصالح كما جاء في ع ٢ وخلاصة ذلك أنه كامل وأن عجز عن تقديس الإنسان.

وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ فلذلك عجزت عن أن أقوم بالطاعة الروحية التي طلبها هذا الناموس. وقابل هنا نفسه بالناموس ونقصه بكماله. ومعنى «جسدي» ذو طبيعة فاسدة ساقطة كما في (غلاطية ٥: ١٩) حيث ذكر الرسول أعمال الجسد. ولا يلزم من ذلك أن الرسول كان وقتئذ مسلّماً نفسه باختياره لأهواء الجسد إنما أقر بأنه بعد ما تاب عن الخطيئة واجتهد في أن يتخلص من سلطتها وجد أن طبيعته الفاسدة أقوى من إرادته الصالحة.

مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ كما بيع أسرى الحرب قديماً وهذا تفسير لقوله «جسدي» وقد مثل الخطيئة بسيد ونفسه بأسير له قهراً. وقد عُبّر بهذه العبارة في بعض الآيات عن الذين سلموا أنفسهم للخطيئة باختيارهم (١ملوك ٢١: ٢٠ و٢ملوك ١٧: ١٧) ويطلق هذا على كل من لم يتب ويؤمن ولكنه ليس معنى الرسول هنا لأنه أُعتق من عبودية الإثم بإيمانه (ص ٦: ٢٢) فلا يطيع الإثم إلا على رغمه لأنه يكرهه ويجتهد أن يتخلص من سلطته ولا يستطيع ذلك. ومثل اختبار بولس اختبار كل مسيحي فكل مؤمن يقر أن شكوكه في الله وفي حقه قد تغلبه وكذا حبه للعالم ولنفسه. وكثيراً ما يشعر بقساوة قلبه وكبريائه والخطايا المحيطة به خاصة. ولا يلزم من قوله هذا أنه سقط في كل ما عُرض له من التجارب وأنه لم يطع الله. فمراده أنه ارتكب بعض الآثام التي يكرهها وندم على ارتكابها وأنه لم يستطع حفظ الناموس كما شاء.

١٥ «لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ».

مزمور ١: ٦ و١كورنثوس ٨: ٣ غلاطية ٥: ١٦ – ١٨

أقام في هذه الآية وما بعدها إلى الآية السابعة عشرة البرهان على كونه عبد الخطيئة قهراً.

لَسْتُ أَعْرِفُ أي لا أستصوب. وجاء بهذا المعنى في قول المرنم «لأن الرب يعلم طريق الأبرار» (مزمور ١: ٦). وقول المسيح «أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط» (متّى ٧: ٢٣ انظر أيضاً متّى ٢٥: ١٢ ولوقا ١٣: ٢٧). ولعل معنى الرسول بقوله «لست أعرف» لست أميز بين الحرام والحلال من أفعالي لأني أجري إرادة سيدي كعبد أعمى.

مَا أَنَا أَفْعَلُهُ من الشر حين أخطئ إطاعة لأهواء طبعيتي الفاسدة.

إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ من الصلاح الذي أستصوبه بحكم العقل والضمير وأرغب فيه وأقصد أن أفعله ولولا أن الأهواء أعمت بصيرتي وغلبت إرادتي لكنت أفعله دائماً.

مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ أي ما أكرهه دائماً وأعتزله عندما لم تغلب أهوائي عقلي وضميري وإرادتي تجبرني تلك الأهواء على فعله.

ويوافق ما قاله الرسول هنا على وجود طبيعتين فيه تميل إحداهما إلى الخير والأخرى إلى الشر بعض أقوال شعراء اليونانيين والرومانيين وفلاسفتهم على أن كل إنسان يشعر بالاختبار بمحاربة الطبيعتين فيه كما شعر الرسول ولا سيما المؤمن الذي يحس بقوة الكبرياء والغضب والفتور في الروحيات والشك في ما يجب أن يؤمن به وهو يحب أن يكون متواضعاً حليماً نشيطاً في أعمال التقى محباً لله ولإخوته البشر مثمراً كل أثمار الروح فهو بمنزلة أسير يشتهي كسر قيوده وقطع سلاسله.

١٦ «فَإِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ، فَإِنِّي أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ».

هذه الآية نتيجة الآية الخامسة عشرة وخلاصتها أن اللوم عليه لا على الناموس.

قال إن مخالفته الناموس لا يستلزم أنه حسب الناموس ظالماً غير موافق وإن ظهر كذلك لأن ما ارتكبه على خلاف الناموس كان مخالفاً لحكم ضميره وطبيعته الروحية فالذي ينهي الناموس عنه يكرهه هو وما يأمر به يستصوبه ويسر به.

أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ بموجب حكم طبيعتي الروحية فأبرّر الناموس بقولي «أنه حسن» وأحكم على نفسي بالذنب.

١٧ «فَٱلآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ».

لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا أشار «بذلك» إلى ما يبغضه ولا يريد فعله. وأراد «بأنا» جملته باعتبار أنه يرشده عقله وضميره وخوف الله. ومعنى العبارة أن ضميري لا يستحسن ما أفعل ولا عقلي ولا إرادتي.

بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ أي الطبيعة الفاسدة وأهواءنا الممثلة بسيد استعبده وجعله يفعل ما يكرهه وتنهى الشريعة عنه. وقوله هنا في المحاربة بين جسد الإنسان وروحه كقوله للغلاطيين «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ» (غلاطية ٥: ١٧).

لم يورد ما ذكره هنا عذراً له أو لغيره على سقوطه في الإثم فلا يرفع عنه المسؤولية في ما يفعله لكنه قصد بيان قوة الطبيعة البشرية الفاسدة وعظمة الجهاد بين القداسة والخطيئة في قلب المؤمن واستحالة أن يغلب الخير الشر بواسطة الناموس لأن العبد الذي يطيع سيده لا يزال تحت المسؤولية لله في كل أفعاله. وأفعاله التي يفعلها إطاعة لسيده ليست بدليل على حقيقة سجيته وإرادته. وأعظم مصائب الإنسان أنه تحت المسؤولية لله في ما يفعله وهو أسير الخطيئة. ولولا هذه المسؤولية ما صرخ المؤمن كالصراخ الذي في (ع ٢٢).

١٨ «فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ».

تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١

هذه الآية والآيتان بعدها إيضاح وإثبات لما سبق. وكأن الرسول قسم هنا نفسه إلى اثنين الأول الطبيعة الفاسدة التي لم تزل تتسلط عليه وتقوده إلى الخطيئة وسماها «الجسد» والثاني الإرادة التي استنارت وتجددت بعض الاستنارة والتجدد.

لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ هذا تفسير لقوله «الخطيئة الساكنة فيّ» باعتبار فساد الطبيعة بقطع النظر عن فعل الروح القدس فيه وهو كقوله «لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا… وَلٰكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي مَعِي» (١كورنثوس ١٥: ١٠). وكقوله «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠).

لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي أي مستعدة أن تعمل الصلاح. وهذا شهادة صريحة بالقسم الآخر من القسمين المذكورين أي الإرادة التي يقودها العقل والضمير بعد استنارتها بالروح القدس.

وقوله «أن ليس في جسده شيء صالح» لا يستلزم أن الجسد مركز الخطيئة دون النفس لأنه حين يتكلم على «أعمال الجسد» يذكر بينها الحسد والكبرياء والنميمة والبدعة وهي لا علاقة لها بالجسد لأنها مما يختص بالروح.

أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ الحسنى هي ما يريد أن يفعله لكنه لم يستطع لأن قوة الطبيعة الفاسدة أعظم من قوة الإرادة عند وقوع التجربة. وخلاصة ذلك أن له إرادة ولكن ليس له قوة. وبمثل هذا يشهد كل مسيحي حقيقي على نفسه فإنه يريد أن يكون متواضعاً دائماً لكنه كثيراً ما يجد الكبرياء في قلبه. ويريد أن يكون حاراً في الصلاة وأن يكون روحياً حليماً مسامحاً لكنه كثيراً ما يجد أنه فاتر دنيوي سريع الغضب. ويريد أن يحب الله أكثر من كل شيء وقريبه كنفسه لكنه يجد محبة الذات أقوى من تلك الإرادة.

ومن الواضح أن قسمة الرسول نفسه إلى قسمين ليست سوى فرض يشير إلى عظمة الجهاد بين الله والشيطان في نفس الإنسان وبين طبيعته في حال الفساد وطبيعته بعد أن تقدس بعض التقديس لأن الإنسان واحد مكلف بعبادة الله بجمتله أي نفسه وجسده وكذا يُدان على كل ما فعل خيراً كان أم شراً.

١٩ «لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ».

الفرق بين هذه الآية والتي قبلها زهيد ففي السابقة الكلام على الإرادة وفي هذه الكلام على الفعل الذي هو دليل على الإرادة. وفيها تصريح بأنه لم يستطع أن يفعل الخير الذي يريده ولا أن يمتنع عن الشر الذي يكرهه.

وأقوال بعض الفلاسفة اليونانيين والرومانيين في الخلاف بين ضمائرهم وأعمالهم تقرب من أقوال بولس كثيراً في الخلاف هنا ولكن لا دليل على أن شعورهم بذلك الخلاف حملهم كما حمل بولس على طاعة ضمائرهم ومقاومة أهوائهم والتوبة عن خطاياهم وسؤال نعمة الله للنجاة منها.

٢٠ «فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ».

ما ذكره في ع ١٧ المطلوب وما ذكره هنا النتيجة. والقياس (ع ١٨ و١٩) أي إن صحّ ما قيل فيهما لزم منه ما قيل هنا. ومعنى الآية أنه ليس لأحد أن يتخذ أعمالي دليلاً على سجيتي لأني أفعل ما أفعله كالعبد مضطراً مكرهاً حزيناً على عبوديتي.

فَلَسْتُ… أَنَا أي لست بجملتي لأن أعمالي لا تدل على حقيقة أفكاري واستحساناتي وآمالي ومقاصدي بعد ما أخذ الروح القدس ينيرني ويرشدني لكونها صادرة عن جزء فاسد من طبيعتي ورثته من آدم وقوي فيّ.

بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ هي السيدة التي استعبدته. ومصيبة الخاطئ أن سيده ليس بخارج عنه فهو السيد والعبد معاً وهو الذي يحاسبه الله على كل ما فعل.

٢١ «إِذاً أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى أَنَّ ٱلشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي».

إِذاً أي نتيجة كل ما ذُكر في هذا الفصل.

أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي إن الذي وجده هو أنه حينما يريد أن يفعل الحسنى يجد الشر حاضراً ليمنعه عن ذلك ويحمله على خلافه. وسمّى ذلك «بالناموس» لمشابهته الناموس الطبيعي في استمراره. فاختبر من جهة محاربة النفس للجسد أنه حينما كان يتفق عقله وضميره على وجوب عمل الصلاح تأخذ طبيعته الفاسدة تمنعه منه وحينما تقصد طبيعته الروحية أن تمنعه من فعل الشر تحمله طبيعته الجسدية على فعله فاختباره فعل طبيعته الفاسدة كاختباره فعل جاذبية الأرض.

ولا يلزم من هذه الآية أن الرسول كان يخطئ كلما تجرّب بل أنه كان يشعر دائماً بشدة جاذبية الخطيئة.

٢٢ «فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ».

مزمور ١: ٢ و٢كورنثوس ٤: ١٦ وأفسس ٣: ١٦ وكولوسي ٣: ٩ و١٠

ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ الذي يسرّ بناموس الله هو الذي يبغض الشر (ع ١٥) ويخدم بذهنه ذلك الناموس (ع ٢٥) والذي سماه الرسول «ناموس ذهنه» (ع ٢٣) وهذا لا يصدق إلا على المؤمن المقدس بعض التقديس الطالب إرشاد روح الله لكنه لم يزل يتوقع النجاة من رق الخطيئة بواسطة الناموس. وصف بولس في هذه الآية القسم الروحي منه كما وصف في الآية السابقة القسم الجسدي.

٢٣ «وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي».

ص ٦: ١٣ و١٩ وغلاطية ٥: ١٧

وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ بالاختبار. معنى «الناموس» هنا كمعناه في (ع ٢١) وهو الميل الدائم إلى الخطيئة أو حكم الطبيعة الفاسدة على الإنسان وسمى «الخطيئة الساكنة» في الإنسان (ع ٢٠).

فِي أَعْضَائِي أي في ذاتي كما في (ع ٥). فالأعضاء هنا تعم كل قوى الإنسان الجسدية والنفسية. والناموس الذي فيها مستول على كل منها ولكن معظم ظهوره في الأعضاء الجسدية وبواسطة أهواء هذه الأعضاء صارت النفس عرضة للتجربة والسقوط.

يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي المراد بالذهن هنا النفس المستنيرة بالروح القدس وهي المعروفة «بالإنسان الباطن» (ع ٢٢). والمراد «بناموسه» أوامر تلك النفس وأحكامها (على أن بولس تجوَّز هنا بأن عبّر عن الذهن نفسه بناموسه), ومعنى الجملة أن طبيعته الفاسدة التي هي «الخطيئة الساكنة فيه» و «ناموس أعضائه» تضاد طبيعته الروحية التي هي «الإنسان الباطن» و «ناموس ذهنه» وتجتهد دائماً في أن تنتصر عليها وتهلكها.

إن وجود الحرب في النفس بين الخطيئة والقداسة دليل واضح على كون النعمة في القلب وأن الإنسان الذي تكلم عليه بولس نائباً عنه هو المتجدّد القلب الحاصل على الحياة الجديدة وإن كان لم يجاوز أول تلك الحياة. والفرق بين المتجدّد وغير المتجدّد ليس أن الأول لا يخطئ والثاني يخطئ ولأن الاول يخطئ على غير قصد والثاني يخطئ باختياره. وأن الأول متى أخطأ حزن وندم وأن الثاني متى أخطأ لم يبال بأخطائه وربما افتخر به.

وَيَسْبِينِي الخ تظهر شدة الجهاد بين النفس والجسد بأن الجسد فضلاً عن محاربته للنفس كثيراً ما يغلبها ويأسرها ويجذبها مكرهة آسفة عاجزة إلى حيث يشاء فما أقوى الجسد حتى يستطيع ذلك. ولم يقصد أن الانتصار للخطيئة أبداً بل أنها تطلب الانتصار دائماً وأنها كثيراً ما تغلب.

٢٤ «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟».

وصف في هذه الآية ما وصل إليه الإنسان من البلاء والشقاء بمحاربة الطبيعة الفاسدة للطبيعة الروحية بعد ما اخذت تطلب القداسة.

وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! أي ويلي. هذا صراخ المتألم من ثقل حمل الخطيئة العاجز عن طرحه المشتاق إلى النجاة منه.

مَنْ يُنْقِذُنِي هذا السؤال ليس بسؤال الآيس أو الجاهل طريق النجاة بل سؤال المشتاق إلى المعونة الإلهية وهو المتوسل إلى إعلان الشكر لله لإعداده تلك الطريق وستُذكر في الآية الآتية. وهو سؤال إنسان طلب من الناموس النجاة من سلطة الخطيئة ونيل الراحة والسلام لضميره فذهب طلبه باطلاً فاستنجد من العُلى وتوقع ما طلب فهو كقول إشعياء «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ الخ» (إشعياء ٦: ٥) وكقول داود «لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ» (مزمور ٣٨: ٤).

٢٥ «أَشْكُرُ ٱللّٰهَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا! إِذاً أَنَا نَفْسِي بِذِهْنِي أَخْدِمُ نَامُوسَ ٱللّٰهِ، وَلٰكِنْ بِٱلْجَسَدِ نَامُوسَ ٱلْخَطِيَّةِ».

١كورنثوس ١٥: ٥٧

هذا جواب بولس على سؤاله في (ع ٢٤) وإعلان سروره وشكره.

أَشْكُرُ ٱللّٰهَ على أنه وُجدت طريق للنجاة من رق الخطيئة ومن سلطان الطبيعة الفاسدة وأن عاقبة المحاربة بينها وبين الطبيعة الروحية هي مجيد الانتصار على الجسد. وشكر الله على ذلك لأنه تعالى مصدر تلك النجاة بدليل قوله «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). فيجب أن تقترن المسرّة بالنجاة بالشكر للمنجّي.

بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا إنه وسيلة النجاة وحده. فالذي لم يستطع الإنسان أن يحصل عليه بواسطة عقله وضميره ولا بالناموس حصّله المسيح له. فالإنسان بدون المسيح شقي عاجز وبه سعيد قادر يشكر الله. وهذه النتيجة أي النجاة بالمسيح من رق الإثم أو فضل النعمة على الناموس مطلوب كل احتجاج الرسول في الأصحاحين السادس والسابع (قابل شكر الرسول هنا بشكره في ١كورنثوس ١٥: ٥٦).

إِذاً أي أن ما يأتي نتيجة ما سبق من هذا الأصحاح في المحاربة بين الطبيعتين في الإنسان وخلاصته.

أَنَا نَفْسِي اعتبر أنه هو فاعل الطاعة والعصيان وأشار بقوله «أنا» إلى طبيعته الجديدة الروحية وبقية الطبيعة الفاسدة وهو يشمل ذهنه الذي يخدم به ناموس الله وجسده الذي يخدم به ناموس الخطيئة.

بِذِهْنِي وعبّر عنه في (ع ٢٣) «بناموس ذهنه» وفي (ع ٢٢) «بالإنسان الباطن» وهو طبيعته الروحية.

أَخْدِمُ نَامُوسَ ٱللّٰهِ اعتبر هذا الناموس مقدساً وعادلاً وصالحاً (ع ١٢ و١٦) فاختاره وسرّ به من صميم قلبه (ع ٢٢). وصدق الرسول بهذه الشهادة لنفسه مع اعترافه أنه غلبته التجربة الناشئة عن شهوات الجسد.

وَلٰكِنْ بِٱلْجَسَدِ نَامُوسَ ٱلْخَطِيَّةِ هذا علّة وفق قوله في (ع ٨) وهو ما أوصله إليه الناموس ولولا النعمة بقي فيه إلى الأبد محارباً مغلوباً. وسيأتي في الأصحاح التالي كلامه على انتصار الروح على الجسد كما أشار في أول هذه الآية.

فوائد

  1. إنه لا أحد من الناس ينال القداسة التامة في كل مدة حياته الأرضية بدليل ما شهد به بولس على نفسه وعلى غيره من المؤمنين (ع ١٤ – ٢٥).
  2. إنه من أحسن الأدلة على أن الإنسان متجدّد القلب أن يحارب الخطيئة الباقية فيه ويكرهها ويحسبها حملاً ثقيلاً. وأوضح الأدلة على كونه غير متجدد أنه لا يقاوم طبيعته الأصلية ولا يميت شهواتها (ع ١٤ – ٢٥).
  3. إن شريعة الله كاملة كواضعها وهي قانون اعتقادنا وسيرتنا فعلينا أن نطالعها ونعلّم غيرنا إياها. وتعليم أننا محرّرون منها باعتبار أنها علّة التبرير لا يحط شرفها ولا يُضعف سلطانها إذ هي تبكت الخاطئ على سوء سيرته وتهدي إلى إتمام واجباته (ع ١٤).
  4. إن ما يبرهن فساد طبيعتنا البشرية تأثير ذلك الفساد في أفضل الناس من أول الحياة إلى آخرها مع كل اجتهادهم في التخلص منه (ع ٢٥).
  5. إن المسيحي بالحق إذا خطء على غير قصده لا يتخذ هذا الفساد الطبيعي عذراً بل يعترف بأنه خطئ أمام الله فيحزن ويندم (ع ١٤ – ٢٥).
  6. إن معرفة الإنسان للحق دون تأثير الروح القدس غير كافية لتجديد قلبه وتقديسه (ع ١٤).
  7. إن انتصار المسيحي على الخطيئة لا يقوم بقوة عزمه على الانتصار ولا بنظره في الأسباب الموجبة المحاربة والنصر بل بتمسكه بقوة ربه يسوع المسيح (ع ٢٥).
  8. إن عجز المسيحي عن تمام الانتصار على الخطيئة ووجوب محاربتها في كل يوم من أيام حياته مما يزيد شوقه إلى سماء القداسة ويجعله أكثر استعداداً إلى التمتع بطهارتها وراحتها.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى