الرسالة إلى رومية | 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى رومية
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس
موضوع هذا الأصحاح بيان أن التقديس نتيجة التبرير بالإيمان وفيه أمران:
الأول: بيان أن تعليم ذلك التبرير لا يبيح ارتكاب الإثم بقوله إنه بالنعمة مجاناً (ع ١ – ١١) ولا بقوله أنه تحرير من الناموس (ع ١٥ – ٢٠).
الثاني: نصائح للحياة المقدسة (ع ١٢ – ١٤ و٢١ – ٢٣).
إن التبرير بالإيمان مجاناً لا يبيح ارتكاب الإثم ع ١ إلى ١١
١ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ؟».
ص ٣: ٨ وع ١٥
فَمَاذَا نَقُولُ؟ أي ما نتيجة التعليم المذكور في (ص ٥: ٢٠ و٢١) وهو أن الخاطئ يتبرّر بالإيمان بيسوع المسيح بمجرد النعمة بدون النظر إلى أعماله أفلا ينافي وجوب قداسة الحياة.
أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ المراد بالبقاء في الخطيئة المواظبة على ارتكابها بلا مقاومة ولا انتصار طوعاً لشهوات الطبيعة. ولعل هذا الاعتراض مبنيّ على ما ذكره في الآيتين (٢٠ و٢١ من ص ٥) وخلاصته أن كثرة الخطيئة كانت علّة لزيادة النعمة وأن الله سبحانه وتعالى حوّل شر الناس خيراً وتمجّد بمغفرة الخطايا الكثيرة وبذلك عظمت نعمته. أو على قوله ما معناه أن الله يقبل الخطأة ويبرّرهم لأجل استحقاق المسيح.
لم يزل بعض الناس إلى الآن يعترض هذا الاعتراض على تعليم بولس أن التبرير بالنعمة مجاناً قائلين أن التعليم بموت المسيح وحده كفارة عن كل خطايا الناس الماضية والحاضرة والمستقبلة يبيح ارتكاب الخطيئة إذ يلزم منه أنه كلما أخطأ الإنسان تمجّد الله بالمغفرة له.
٢ «حَاشَا! نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟».
ع ١١ وص ٧: ٤ وغلاطية ٢: ١٩ و٦: ١٤
حَاشَا! أتى الرسول بهذا إنكاراً لصحة ذلك الاعتراض وكرهاً لها.
نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ الخ المعنى أنه إن صحّ هذا الاعتراض صحّ أن الميت يعمل كالحي وذلك ضربٌ من الهذيان. وقوله «متنا عن الخطيئة» عكس قوله «نعيش فيها» وصرّح الرسول بهذا أن تعليم التبرير بالإيمان يستلزم أن المؤمنين قد ماتوا عن الخطيئة وصدق عليهم ذلك لأن قبولهم المسيح مخلصاً بالإيمان يقتضي اعتزالهم الخطيئة كاعتزال النفس جسدها عند الموت فلما آمنوا رجعوا عن الخطيئة إلى الله فلم يسرّوا بها ولم يستمروا فيها بل قاوموها وحاربوها (ص ٧: ٤ وغلاطية ٢: ١٩ وكولوسي ٣: ٦ و١بطرس ٢: ٢٤).
وصدق عليهم أيضاً لأنهم اتحدوا بالإيمان بالمسيح الذي هو مصدر الحياة لأنه لم يكتف بأن ينقذهم من عقاب الخطيئة فخلصهم من سلطانها. ولم يبيّن الرسول هنا متى يموت المؤمن عن الخطيئة لكنه بيّن في (ع ٣ و٤) أنه يموت عنها حين يؤمن ويتحد بالإيمان بالمسيح ويعتمد علامة لذلك الاتحاد. نعم يصح أن يقال أننا متنا عن الخطيئة عندما مات المسيح نائبنا على الصليب. لكن الأرجح أن الرسول لم يشر إلى ذلك هنا بل أشار إلى ما نشعر به من مقاومتنا الشديدة للخطيئة وتمسكنا بالمسيح.
٣ «أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ».
١كورنثوس ١٥: ٢٩ وكولوسي ٣: ٣ و١بطرس ٢: ٢٤
أيّد بولس الرسول برهانه على دفع ذلك الاعتراض بتذكيره الرومانيين الذين كتب هذه الرسالة إليهم بما علموه من الحقائق المشار إليها بالمعمودية المسيحية وهي الرسم الذي به دخلوا الكنيسة المسيحية.
كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي كل من اعترف بإيمانه بالمسيح علانية بقبوله ذلك الرسم. وأشار هنا إلى المعمودية باعتبار كونها آية العهد بينهم وبين الله وإعلان إيمانهم بالمسيح. وقوله «اعتمد ليسوع المسيح» يتضمن التصريح بأن المؤمن اعتقد أن يسوع هو المسيح الذي وعد الله به وأنه ابن الله مخلص العالم وأنه اتحد به منذ آمن إلى الأبد للحصول على الحياة الأبدية. ويتضمن أن الاعتماد باسمه إنما كان باعتبار أن المسيح أحد أقانيم الثالوث الأقدس المذكورين في بسملة المعمودية (متّى ٢٨: ١٩ وأعمال ٢: ٣٨ و١٠: ٤٨ و١كورنثوس ١: ١٣). فمعمودية المؤمنين علامة وقف أنفسهم للمسيح واعترافهم بأنهم أتباعه وخدمه واتحادهم به ودخولهم كنيسته لا علّة ذلك.
ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ هذا إحدى الحقائق التي يعترف بها المؤمن باعتماده وما بقي منها لم يذكره الرسول هنا كفعل الروح القدس وسائر العقائد المسيحية. فمن اعتمد لموت المسيح أعلن أنه آمن بأن المسيح مات على الصليب ليحرره من الخطيئة ودل بذلك على أنه متحد به (ع ٥) لينال كل فوائد موته وهي مغفرة خطاياه ومصالحته لله وانكسار شوكة الخطيئة. وعلى تعهده بها أنه مات للخطيئة كما مات المسيح لها بدليل قوله «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ» (غلاطية ٣: ٢٧) وعلى أنه رفض الخطيئة التي جاء المسيح لينقضها وعلى أنه يبذل جهده في إماتتها في أعضائه ويحيا للقداسة وبالإيجاز نقول أنه يعترف بالمعمودية أنه يتمثل بالمسيح ويشترك معه.
فكيف يصحّ القول بأن ديانة المسيح تبيح المحظورات مع أن الرسم الذي به يدخل المؤمن فيها يتضمن الإقرار بأنه يموت للخطيئة كل يوم كما مات ربه على الصليب لينقذه من عقاب الخطيئة وسلطتها. فمن المحال أن المؤمن الحقيقي المعتمد على ذلك الإقرار يستمر في الخطيئة لأنه منفصل عنها انفصال الميت عن الأحياء باعتبار كونها سائدة عليه.
٤ «فَدُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلآبِ، هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ».
كولوسي ٢: ١٢ ص ٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤ يوحنا ٢: ١١ و١١: ٤٠ غلاطية ٦: ١٥ وأفسس ٤: ٢٢ و٢٣ و٢٤ وكولوسي ٣: ١٠
جاء الرسول بهذه الآية تأييداً للآية التي قبلها أي توكيداً وبياناً لتمام انفصال المؤمن عن الخطيئة إذ صرّح أن اتحاد المؤمن بالمسيح المرموز إليه بالمعمودية بلغ من التمام حدّ أنه لا يقتصر على أن يموت المؤمن معه للخطيئة بل يصير بالنظر إليها كالمدفون في قبره. والمعنى أنه لم يبق بينه وبين الخطيئة أدنى تعلّق من جهة ممارستها أو سلطتها أو اللذّة بها.
دُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ استعار الرسول هنا الدفن لتحقيق انفصال المؤمن عن الخطيئة دائماً لأن الدفن يثبت أن الإنسان مات حقيقة. ومعنى قوله «دفنا معه» إنا انفصلنا عن العالم باعتبار أنه نصيبنا وعن سلطة الخطيئة وكل شركة في مملكة الشيطان كما انفصل المسيح عن العالم المنظور وهو في قبره. وقوله «دفنا معه… للموت» تقرير للأول وفيه زيادة هي أن المعتمدين يعتقدون أن موت المسيح كان عن خطيئتهم وأنهم اشتركوا في كل فوائد موته وأنهم تعهدوا ان يموتوا عن الخطيئة كما مات من أجلها. فالمعمودية كما أنها تشير إلى مشاركتنا للمسيح في موته تشير إلى مشاركتنا له في دفنه.
ظن بعضهم أن الرسول قصد أن يشير بهذه الكلمات إلى كيفية العماد إنه بالتغطيس لا بالرش ولا بالسكب لكن لا دليل فيها على ذلك لأن كلامه على نتيجة العماد لا كيفيته. فإن الرسول ذكر ثلاثة أمور تشير إليها المعمودية وهي الموت مع المسيح (ع ٣) والدفن معه (ع ٤) والاتحاد به (ع ٥) فكيف يسوغ أن يؤخذ أحدها إشارة إلى كيفية المعمودية دون الآخرين. ومن الواضح أن لا شيء فيهما من الإشارة إلى الكيفية على أن طريق الدفن قديماً كان غالباً في قبر منحوت يُدخل إليه من باب قائم لا كالدفن اليوم وهو لحده في قلب الارض. فالمشابهة بين دفنهم يومئذ والتغطيس ضعيفة جداً. ثم أن التغطيس عمل قصير الوقت جداً فلا يناسب أن يشار به إلى أمر دائم لأن المؤمن يموت عن الخطيئة دائماً ويُدفن مع المسيح عنها كل مدة الحياة على هذه الأرض ويقوم معه للقداسة إلى الأبد. وأن المعمودية إشارة إلى اتحادنا بالمسيح في موته ودفنه بالنظر إلى المعنى الروحي لا إلى كيفية استعمال الماء الخارجي. وكذا هي في آيات أُخر في الكتاب منها قوله «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ» (غلاطية ٣: ٢٧). وقوله «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (كولوسي ٢: ١٢). وإنها أيضاً إشارة إلى التنظيف والطهارة. فأي نسبة بينها وبين الدفن في القبر مع ما فيه من الفساد والفناء. فإن سلّمنا أن الآية هنا تشير إلى المعمودية بالتغطيس فلا يلزم من ذلك أن التغطيس هو طريق المعمودية الوحيد وأنه إذا ناسب أهل الأقاليم الحارة والأصحاء يناسب أهل الأقاليم الباردة والمرضى وأمثالهم وعلى كل حال أن الإشارة الطفيفة كهذه لا يصح أن تُقام مقام الأمر حتى لا يجوز التعميد بغير التغطيس.
كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ إيماننا بالمسيح يشتمل على الإيمان بموته وقيامته ونحن نشاركه في الأمرين في الموت بأن نموت معه للخطيئة وفي القيامة بأن نقوم معه لقداسة الحياة. وهذا من العهود التي نتخذها على أنفسنا في المعمودية.
بِمَجْدِ ٱلآبِ أي بقدرته المجيدة فإن الله أظهر مجده بإظهار قدرته العظمى بإقامته المسيح من الموت (متّى ٢٨: ٢ و٣ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤ وأفسس ١: ١٩ و٢٠) على أنه غلب في الكتاب المقدس أن يُعبّر بمجد الله عن مجموع صفاته. ولكن نُسب المجد هنا إلى القدرة لأن ظهورها في وقت القيامة كان مجيداً ونتيجتها صارت مجيدة إلى الأبد. إن الله أظهر بذلك العمل المجيد مسرّته بكل عمل الفداء (١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤).
هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ أي نستمر في حياة القداسة الجديدة. وسمّيت الحياة هنا بالجديدة مقابلة بموت الخطيئة القديم. وهي جديدة أيضاً بمقابلتها بحياتنا الجسدية فإنها لا تضعف في الشيخوخة ولا يعقبها موت. فكما أن المسيح قام جسدياً وعاش عيشة جديدة مختلفة عن التي قبلها يجب أن نقوم روحياً ونحيا حياة جديدة مختلفة عن الحياة العتيقة المستعبدة لأهواء الجسد. وهذا على وفق قوله «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ» الخ (كولوسي ٣: ١).
٥ «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ».
فيلبي ٣: ١٠ و١١
هذه الآية إثبات لما في التي قبلها وهو أن اتحاد المؤمنين بالمسيح في موته يستلزم اتحادنا به في حياته أي أن يسيروا معه في جدة الحياة.
صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ قال «بشبه موته» ولم يقل بموته لأنه مات موتاً جسدياً فقط ولكونه قدوس الله لم يمت للخطيئة موتاً روحياً ونحن لم نمت حين آمنا جسدياً لكننا متنا للخطيئة فموتنا شبه موته.
أبان الرسول في ما مرّ العلاقة بين موت المسيح (باعبتار أنه ذبيحة كفارة عن الخطيئة) وتبريرنا وأبان هنا العلاقة بين ذلك الموت وتقديسنا. فالذي مات لينقذنا من عقاب الخطيئة مات أيضاً لينقّينا من دنس الخطيئة ويطهّرنا لله.
نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ أي بشبهها. العلاقة بين موت المسيح على الصليب وموت المؤمنين للخطيئة هي مثل العلاقة بين قيامة المسيح من القبر ودخوله حياة جديدة ممجدة وقيامتهم لحياة القداسة وكل منهما يستلزم الآخر.
وعدل عن صيغة الماضي في أول الآية إلى صيغة المضارع في آخرها لأن الموت للخطيئة قد مضى والحياة المقدسة مستقبلة دائمة. واتحاد المؤمنين بالمسيح يلزم منه النتائج المذكورة هنا كما أبان المسيح وهو يتكلم على هذا الاتحاد في (يوحنا ١٥: ١ – ١٠) وهذا مكرر قوله «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩).
والمشار إليه في هذه الآية ما يحدث لنا في الحياة الدنيا فيصدق علينا بالأولى في القيامة العامة في اليوم الأخير فيكمل وقتئذ اتحادنا بالمسيح ونصير مثله جسداً وروحاً. والرسول لم يقصد ذلك هنا بل قصد تشبيه حياتنا الروحية الجديدة المقدسة بحياة المسيح بعد قيامته من القبر (قابل هذا بما في يوحنا ٥: ٢٤ و٢٥ وكولوسي ٣: ١ وأفسس ٥: ١٤).
٦ «عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ».
غلاطية ٢: ٢٠ و٥: ٢٤ و٦: ١٤ وأفسس ٤: ٢٢ وكولوسي ٣: ٥ و٩ و٢كورنثوس ٥: ١٧ و٦: ١٧ وكولوسي ٢: ١١
طلب الرسول هنا شهادة اختبار المؤمنين بأن موتهم للخطيئة مع المسيح مقترن بقيامتهم معه للحياة الجديدة المقدسة.
عَالِمِينَ هٰذَا باختبارنا منذ آمنّا.
إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ أي طبيعتنا الساقطة قبل أن نولد ثانية من الروح القدس وهي تشتمل على كل القوى البشرية وتسمى أيضاً «بالجسد» (ص ٧: ١٨). وهذا الإنسان العتيق خال من القداسة ومائل إلى الخطيئة بدليل قوله «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ» (أفسس ٤: ٢٢ انظر أيضاً كولوسي ٣: ٨ و٩). وعبّر أيضاً عن تلك الطبيعة «بالإنسان» لأن الفساد عمّ الذات الإنسانية كلها لا الجسد وحده ولا المشيئة ولا العواطف دون غيرها.
صُلِبَ عبّر الرسول عن الموت للخطيئة بالصلب لأن المسيح صُلب ولأنه قال قبلاً «إنا متنا معه» فكأنه قال هنا صُلبنا معه ولأنه بُني على صلب المسيح كل رجاء نجاتنا من عقاب الخطيئة وسلطانها. ولأن الموت بالصليب بطيء ومؤلم وكذلك إماتة الشهوات والانتصار على الطبيعة الفاسدة وإخضاع المشيئة المعاندة وهذه تشبه الموت بالصليب أكثر مما تشبه غيره من أنواع الموت. ولأن علّة صلب المسيح علّة موتنا للخطيئة. وهذا مثل قول بولس على نفسه «مع المسيح صُلبت» الخ (غلاطية ٢: ٢٠).
لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ عبّر الرسول في رسائله عن طبيعتنا الأصلية الساقطة «بجسد الخطيئة» خمساً وعشرين مرة وهو بمعنى «الإنسان العتيق». وأضاف الجسد إلى الخطيئة لأننا بالجسد نخدمها ونظهرها لغيرنا. وشخّص الخطيئة بجسد ذي حياة وحركة ليصح قوله أنها صُلبت. وسميت أيضاً «الجسد المائت» (ع ١٢) و «جسد هذا الموت» (ص ٧: ٢٤) و «جسم الخطايا البشرية» (كولوسي ٢: ١١). فلا يُستنتج مما قيل هنا أن الجسد لكونه مادة هو مركز الخطيئة لأنه ليس سوى آلة للمشيئة التي هي مركز الخير والشر في الإنسان ولم يذكر الكتاب المقدس قط أن المادة أصل الخطيئة. وقال الرسول «ليبطل» الخ بياناً لغاية صلبنا مع المسيح وهي ملاشاة تسلط الخطيئة علينا للحصول على الحرية الروحية. ومثل هذا قوله «لا تملكن الخطيئة في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته» (ع ١٢). ولا سبيل إلى التحرر من رق الخطيئة إلا بموت طبيعتنا الفاسدة ولا يمكن ذلك إلا باتحادنا بالمسيح في موته لأنه مات «لكي ينقذنا من سلطان الخطيئة ويدخلنا على حرية أبناء الله المجيدة» (عبرانيين ٢: ١٤ – ١٦).
٧ «لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ».
ع ٢ و١بطرس ٤: ١
ما في هذه الآية إثبات الرسول تعليمه أن تبريرنا بالإيمان وسيلة إلى تقديسنا. أي أن المسيح مات من أجل خطايانا لكي نموت نحن للخطيئة.
لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ مع المسيح كما قيل في (ع ٨) وكما ذُكر في تفسير (ع ٢ – ٥). إن طاعة المسيح للموت تبرّر الخاطئ ونحن بالإيمان نشترك في كل نتائجها كأننا فعلنا الذي فعله وتألمنا بما تألم به لأنه نائبنا.
تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ أي من لعنتها وعقابها حالاً ومن سلطانها تدرجاً فكأنه قال تبرّر ثم تقدس (قابل هذا بما في غلاطية ٢: ١٩ و٢٠ و٦: ١٤ وكولوسي ٢: ١٣ و٣: ٣ و١بطرس ٤: ١). كما أنه من الباطل أن يأمر السيد عبده الميت بالسرقة أو بالقتل كذلك من الباطل أن تستخدم الخطيئة المؤمنين لأنهم ماتوا عنها وتحرروا من سلطتها.
يحكم العقل البشري بوجوب تقديس الناس لكي يتبرّروا أمام إله عادل قدوس لكن تعليم الإنجيل ليس كذلك لأنه يقول إن الله يبرّر الفاجر وأنه ينبغي أن نتبرّر (بالموت مع المسيح) لكي نتقدّس (أي لكي نتبرأ من الخطيئة).
٨ «فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ».
٢تيموثاوس ٢: ١١
كل ما قاله الرسول في هذه الآية إلى ع ١١ إثبات لما قاله في ع ٧ وهو أن اشتراكنا في موت المسيح يستلزم اشتراكنا في حياته.
فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ أي اتحدنا به في موته بالإيمان وحصلنا بذلك على النجاة من قصاص الخطيئة وسلطانها.
نُؤْمِنُ أي نثق أو نتيقن بناء على وعد الله في كتابه المعلن قصده الأزلي والذي نثق به هو أنه تعالى يطهرنا من كل أدناس الخطيئة بدم يسوع المسيح بعد أن ينقذنا من الدينونة به.
سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ إنه يلزم من اتحادنا بالمسيح بالإيمان اشتراكنا في نتائج حياته كما اشتركنا في نتائج موته. وفسر الرسول معنى «مع المسيح» في (ع ٩ و١٠) وعبّر عنها في غير هذا الموضع بالملك معه والتمجّد معه (ص ٨: ١٧) وهي الحياة الأبدية التي يحصل عليها المؤمنون في هذا العالم بدليل قول المسيح «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٣: ٣٦). وقوله «تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٤) وأشار الرسول إليها في (غلاطية ٢: ٢٠). وهذه الحياة تظهر هنا بالطاعة لله وبقداسة السيرة وستظهر في طهارة السماء وسعادتها.
٩ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ».
رؤيا ١: ١٨
عَالِمِينَ أي متيقنين أننا نشترك في حياة المسيح لأننا نتيقن أنه حي لأن حياته أبدية وأنها مصدر حياة شعبه إلى الأبد.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ… لاَ يَمُوتُ أَيْضاً لأن موته اختياري لا من ضروريات طبيعته ولم يكن نتيجة ما على شخصه من مطاليب العدل الإلهي ولأنه حصّل بموته عن الخطأة طوعاً واختياراً كل ما قصد تحصيله فلذلك لم يبق من سبيل لتسلط الموت عليه بعد. وهذا كقوله «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين ١٠: ١٠).
لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ هذا بمعنى الجملة السابقة للتقرير والتوكيد. لم يكن للموت من سلطة على المسيح لو لم يخضع له بإرادته وقتياً لفدائنا. وقد أبان انتصاره على الموت في (أعمال ٢: ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٥٤ – ٥٧ ورؤيا ١: ١٨).
١٠ «لأَنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَٱلْحَيَاةُ ٱلَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا لِلّٰهِ».
عبرانيين ٩: ٢٦ و٢٨ لوقا ٢٠: ٣٨ وغلاطية ٢: ٢٠
لأَنَّ هذا تعليل لما ذُكر وهو أن الموت لا يسود على المسيح بعد.
ٱلْمَوْتَ… لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً أي الكفارة عنها ولملاشاة سلطتها على الناس فإنه أخذ على نفسه عقاب خطايا شعبه واحتمله يوم عُلّق على الصليب بذبيحة نفسه مرة واحدة فالموت لا يسود عليه بعد لأن الناموس استوفى حقوقه كلها. وكان لذبيحته تلك القيمة لكونه إلهاً وإنساناً فلم يكن من داع لتكريرها. وهذا اتضح في (عبرانيين ٧: ٢٧ و٩: ١٢ و١٠: ١٠ و١بطرس ٣: ١٨).
وَٱلْحَيَاةُ ٱلَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا لِلّٰهِ قيل هذا ليكون مثالاً للمؤمنين لأنه مات للخطيئة فيحيا لله أي لخدمته ومجده كذلك يجب على المسيحي أن يتحرر من الخطيئة ويقف نفسه لله.
ما قيل هنا من أن المسيح يحيا لله وهو في حال الارتفاع لا يفيد البتة أنه لم يكن يحيا لله في حال اتضاعه ومعناه أنه كان وقتئذ عرضة لسلطان الموت من أجل خطيئة شعبه وهو ليس كذلك بعدما قام من القبر وتمجّد مع الآب.
١١ «كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنْ أَحْيَاءً لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
ع ٢ غلاطية ٢: ١٩
ٱحْسِبُوا لأن هذا الحسبان حق ولأنكم به تتعزّون وتتقوّون في حياتكم الروحية. وهذا النصح مبنيٌّ على ما برهنه سابقاً.
أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ أي متحررين من دينونتها وسلطانها بواسطة طاعة المسيح وموته. كان يحق لهم أن يحسبوا موت المسيح نائبهم عن الخطيئة كموتهم عنها حتى لم يبق أدنى علاقة بينهم وبينها وبذلك إثبات لتبريرهم. وحق لهم أيضاً أن يتخذوا موته للخطيئة مثالاً حتى يموتوا عنها كل يوم وهذا يحقق تقديسهم.
أَحْيَاءً لِلّٰهِ أي عليهم أن يحسبوا أنفسهم مكلفين أن يحبوا الله ويطيعوه ويمجدوه وأن يجعلوا ذلك غايتهم العظمى فهذه الحياة هي هبة الله (ع ٣٢) وهذه الحياة تشتمل على تجديد القلب والتبرير والتقديس التدريجي الذي يكمل عند دخولهم السماء.
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بالاتحاد به بالإيمان وهذا متعلق بالموت عن الخطيئة والحياة لله لأن المسيح والمؤمنين يتحدون في كل منهما فإننا تبرّرنا به ثم تقدّسنا.
النتيجة التي وصل الرسول إليها في هذا البحث أن الاعتراض المذكور في الآية الأولى باطل وأن تعليم التبرير بالإيمان لا يبيح للمؤمن ارتكاب الخطيئة ولا إهمال طلب القداسة.
فوائد
- إن الحق لا يمكن أن يقود أحداً إلى الإثم فكل تعليم يبيح لتابعه المنكرات كانت إباحته ذلك دليلاً قاطعاً على فساده (ع ١ و٢).
- إنه من الجهل والضلال ادعاء الإنسان أنه مسيحي وهو مستمر على ارتكاب ما يعرف أنه حرام فسيرة مثل هذا الإنسان إهانة للدين المسيحي وعثرة لغيره وافتراء على تعليم النعمة.
- خلاصة تعليم الرسول في هذا الفصل أن غاية موت المسيح إبادة الخطيئة فضلاً عن تحصيل مغفرتها. فإذاً من البطلان أن نرجو الغفران ونحن لا نجتهد في الانتصار على الخطيئة واستئصالها (ع ٢ – ١١).
- إنّا باعتمادنا نصرّح بإيماننا بالدين المسيحي وبأنه واجب علينا أن نطيع أوامره (ع ٣ و٤).
- إن نيل المغفرة واسطة إلى نيل القداسة لا نيل القداسة واسطة إلى نيل المغفرة (ع ٤).
- إن مصدر قداسة المؤمن اتحاده بالمسيح فإنه بهذا الاتحاد يتصالح مع الله ويحصل على تأثير الروح القدس (ع ٤ و٦).
- إن كون المسيح حيّاً يؤكد أن شعبه يحيا معه في القداسة هنا والمجد أخيراً (ع ٨).
- إن البرهان الوحيد القاطع على أننا اشتركنا في فوائد موت المسيح وحياته هو أن نموت عن الخطيئة ونحيا لله (ع ١١).
- إن الإنجيل الذي صرّح بأن الخاطئ يتبرّر بالنعمة مجاناً هو الذي يحثه أكثر من سواه على طلب القداسة الكاملة وهو الوحيد الذي يبين له كيف ينالها. وذلك فحوى هذا الأصحاح والأصحاح الذي يليه.
- إن كوننا في المسيح مصدر حياتنا الروحية وكوننا مثله بلوغ كل الصلاح وكوننا معه إصابة ملء المسرة (ع ٢ – ١١).
نصائح في طلب القداسة ع ١٢ – ٢٣
١٢ «إِذاً لاَ تَمْلِكَنَّ ٱلْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ ٱلْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِه».
مزمور ١٩: ١٣ و١١٩: ١٣٣
إِذاً أي ما يأتي نتيجة ما سبق من اتحاد المؤمنين بالمسيح في موته وحياته.
لاَ تَمْلِكَنَّ ٱلْخَطِيَّةُ مثّل الرسول الخطيئة بذات حياة وسلطان ومعنى العبارة لا تتركوا الخطيئة تستولي عليكم بل قاوموها وادفعوها لأن المؤمن متى قبل المسيح سيداً رفض سيادة الخطيئة. على أن الخطيئة مع كونها معزولة عن عرشها في قلبه لا تزل تجرّبه وتؤذيه وتجتهد في أن تخضعه وترجعه إلى عبوديتها. فإن لم يستطع أن يخرجها من قلبه كل الإخراج فهو قادر على أن يمنعها من أن تملك فيه كل التملك.
فِي جَسَدِكُمُ ٱلْمَائِتِ أي فيكم. فأراد الذات «بالجسد» هنا كما أرادها «بالأعضاء» في الآية الآتية. نعم أنه بواسطة الجسد نُظهر ما في نفوسنا من الخطايا وبواسطة شهواته نكون عرضة لارتكابها لكن الكتاب المقدس لم يعلّم قط أن الجسد مصدر الخطيئة أو مركزها. إن الجسد والروح متحدان في الإنسان حتى يصدق غالباً على أحدهما ما يقال على الآخر. فإذا قلنا أن الخطيئة تملك في الجسد لم ننكر أنه تملك في النفس أيضاً وإن قلنا أنها تملك في النفس لم ننف انها تظهر بواسطة الجسد. والمراد «بالمائت» هنا المائل إلى الخطيئة وأشار بها الرسول إلى العلاقة الشديدة بين الخطيئة والموت.
ذهب بعضهم إلى أن الرسول قصد بنعت الجسد بالمائت الإشارة إلى أن محاربتنا الخطيئة وقتية فقط أي ما دمنا في هذا الجسد المعرّض للموت لأن جسدنا المائل إلى الخطيئة يتغيّر بعد قليل فيكون جسداً ممجداً طاهراً غير عرضة للتجربة كجسد المسيح وربما كان هذا القول صحيحاً. ولعل الرسول قصد بيان جهل من يسلم للجسد المائت أن يستعبد النفس الخالدة للخطيئة والموت.
لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ أي تسمحوا لها بالانتصار عليكم بواسطة شهوات الجسد. ووصف الرسول هذه الشهوات في (غلاطية ٥: ١٩ – ٢١). والمراد بها الشهوات المحرمة وهي خطايا وإن لم تأخذ مفعولها بدليل قول المسيح في (متّى ٥: ٢٢ و٢٨).
١٣ «وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلّٰهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلّٰهِ».
ص ٧: ٥ وكولوسي ٣: ٥ ويعقوب ٤: ١ ص ١٢: ١ و١بطرس ٢: ٢٤ و٤: ٢
لاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ أي أنفسكم كما أراد بالجسد المائت في (ع ١١). والأعضاء هنا تشتمل على كل قوى الإنسان جسدية وعقلية وقلبية. ومعنى العبارة لا تسلموا أن تكونوا باختياركم عبيداً للخطيئة.
آلاَتِ إِثْمٍ أي أدوات لارتكاب الإثم كاللسان للكذب واليد للسرقة أو القتل وهلمّ جراً.
لِلْخَطِيَّةِ أي لخدمة الخطيئة كأنها سيدة تنازع الله السيد الحق الملك والرئاسة بدليل مقابلتها به تعالى في ختام الآية.
بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ أي أجسادكم وأرواحكم لسيّدكم الحقّ وقدّموها دفعة تقديماً كاملاً. فلا يمكننا أن نترك خدمة الخطيئة والشيطان ما لم نأت بكل مقدرتنا خدمة لله تعالى.
كَأَحْيَاءٍ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ باعتبار أنكم قد كنتم أمواتاً في الخطيئة والله أحياكم وأقامكم من موتها وسائر نتائجها فعليكم أن تحيوا لمجده تعالى.
وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلّٰهِ أي استخدموا أعضاءكم في عمل الصلاح لتمجيده كما استخدمتوها قبلاً في عمل الشر.
١٤ «فَإِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ».
ص ٧: ٤ و٦ و٨: ٢ وغلاطية ٥: ١٨ غلاطية ٤: ٢١
فَإِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ أي لا تعود إلى أن تسودكم لا سيادة تامة ولا سيادة أبدية. والفاء تعليل لقوله في الآية السابقة «قدموا ذواتكم لله» لأنه لا بد من أن ننتصر أخيراً في هذا الجهاد فشوكة الخطيئة كُسرت وانتصار المؤمنين تحقق بما عمله المسيح. نعم أن الإنسان القوي (أي الإثم) لم يزل داخل البيت (أي النفس) لكن قد دخل الذي هو أقوى منه (أي المسيح) وربطه وأخذ ينهب أمتعته (متّى ١٢: ٢٩) فالقداسة في قلب المسيحي بنعمة المسيح أقوى من الخطيئة الباقية فيه.
لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ هذا لا يصدق إلا على المؤمنين بالمسيح. «والناموس» هنا الشريعة الأدبية لا الموسوية. على أن المؤمنين تحت هذا الناموس باعتبار أنه مقياس الأعمال كما أن الملائكة تحته بهذا الاعتبار لكنهم ليسوا تحت الناموس باعتبار أنه علّة تبريرهم الآن وخلاصهم أخيراً لأنهم تحت النعمة. إن الناموس يقول «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (غلاطية ٣: ١٠). فكل إنسان أراد أن يتبرّر بطاعته الناموس يُدان لا محالة لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة التي لا يستطيعها أحد من البشر. ومن ابتغى الخلاص بالناموس فخدمته لله خدمة خوف كخدمة العبد لمولاه. وأما المؤمن فيطيع الله كابن حباً للمسيح الذي غفر خطاياه وبرّره بطاعته الكاملة وموته.
ولنا على إثبات أن المراد هنا «بالناموس» الشريعة الأدبية لا الموسوية ثلاثة أمور:
- الأول: إن ذلك على وفق تعليم الإنجيل أن المسيح بطاعته وموته أكمل عنا الناموس الأدبي ولم يقل أنه أكمل عنا مجرد الناموس الموسوي.
- الثاني: إن رفع وجوب حفظ الناموس الموسوي لا يحقق تقديسنا لأنه يمكن أن يترك اليهودي الناموس الموسوي ولا يكون خليقة جديدة بيسوع المسيح.
- الثالث: إن المقابلة هنا هي بين الناموس والنعمة فالذي ليس تحت أحدهما هو تحت الآخر وعدم كونه تحت الناموس الموسوي لا يلزم منه أن يكون تحت النعمة لأنه ربما كان تحت ناموس آخر من نواميس الأعمال.
قوله هنا «إنا لسنا تحت الناموس» تعزية لنا وتقوية لرجائنا التقديس لأن الناموس عجز عن أن يقدس المؤمن لأنه يعظم خطيئته وشعوره بها (ص ٥: ٢٠ و٢١).
بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ التي تعِد الخاطئ أنه يتبرّر بالإيمان دون أعمال الناموس ويتقدس بسكن الروح القدس فيه. وسُميت هذه النعمة «نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (ص ٨: ٢) و «المخلّصة لجميع الناس» (تيطس ٢: ١١) و «تَمْلِكُ بِٱلْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (ص ٥: ٢١). ولنا من هذه الآية أن الذين تحت الناموس تسودهم الخطيئة وهذا فحوى الأصحاح السابع من هذه الرسالة وأنها لا تسود الذين تحت النعمة لكنهم ينتصرون عليها وهذا فحوى الأصحاح الثامن.
١٥ «فَمَاذَا إِذاً؟ أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا لَسْنَا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ؟ حَاشَا!».
١كورنثوس ٩: ٢١
فَمَاذَا إِذاً؟ أي فما النتيجة التي وصلنا إليها.
أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا… تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ؟ هذا السؤال كالسؤال في أول هذا الأصحاح والاختلاف في اللفظ فإنه أتاه هناك لكي يبيّن بجوابه أن كون الغفران مجاناً لا يبيح للخاطئ الاستمرار على الخطيئة. وأتاه هنا لكي يبين أن التحرر بالناموس لا يبيح له ذلك فكأنه قال هل تخطئ بلا مانع ولا خوف لكوننا تبرّرنا بالنعمة مجاناً ولكوننا لسنا تحت الناموس الذي ينهي عن الخطيئة وينذر الخطأة بالعقاب باعتبار أنه علّة خلاصنا ولكوننا تحت النعمة التي تعد بالغفران مجاناً.
حَاشَا! هذا إنكار أن تعليم التحرير من الناموس يبيح ارتكاب الإثم وعلّة هذا الإنكار بيّنها الرسول في ما يأتي بإثباته أنه لا يمكن المؤمن الذي غُفرت خطاياه أن يمارس الخطيئة لأنه قد صار عبداً للمسيح فيستحيل أن يكون مع ذلك عبداً للخطيئة.
١٦ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيداً لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ، إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟».
متّى ٦: ٢٤ ويوحنا ٨: ٣٤ و٢بطرس ٢: ١٩
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنكم تعلمون لا محالة لأن كل إنسان يعرف النسبة بين العبيد والسادة يعرف حقيقة ما سيقوله.
أَنَّ ٱلَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ… عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ أي أيُّ سيد اخترناه صرنا عبيداً له وحده. وهذا مثل قول المسيح «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (متّى ٦: ٢٤). ومن مقتضيات العبودية أن يكون خضوع العبد لسيده تاماً ودائماً فيترك مشيئته ويسلّم في كل شيء لإرادة السيد فيخدمه كل حياته لا وقتاً منها. ومن الواضح أن مثل هذه الخدمة لا يمكن تقديمها إلا لسيد واحد.
إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ مثل الخطيئة والبر بسيدين لا ثالث لهما فلزم أن يخدم الإنسان إما هذا وإما ذاك فمرتكب الخطيئة اختياراً هو عبد لها وتحت سلطانها لا يحرر نفسه من رقها. نعم ربما كره عبوديته وربما حثه عقله وضميره أن يطرح عنه نيرها لكنه لا يفعل ذلك. وهذا يصدق في أمر الخاطئ مع أن نتيجة خدمة الخطيئة هي الموت الروحي إلى الأبد بدليل قوله «أجرة الخطيئة هي موت» (ع ٢٣). وتلك العبودية اختيارية ولذلك يعاقب أهلها على ما يرتكبونه. وما يصدق في أمر الخدمة إطاعة للخطيئة يصدق في شأن الخدمة إطاعة لله. والطاعة في الآية هي عكس الخطية التي هي التعدي على الله. ولا بد من أن المسيحي بالحق يطيع سيده الجديد القدوس لأن المؤثرات الروحية المحيطة به تحمله على تلك الطاعة وضميره وعقله يحثانه عليها ولذلك يعبد الله طوعاً واختياراً فعبوديته بمنزلة الحرية.
ومعنى البرّ المتعلق بالطاعة في الآية قداسة القلب التامة التي نحصل عليها حين نحصل على الحياة الأبدية وعبّر عنها الرسول هنا بالبر كأنهما رديفان للحياة الأبدية وهي عكس الموت الروحي الأبدي الذي هو أجرة الخطيئة. وخلاصة هذه الآية أن تعليم التبرير لا يبيح ارتكاب الخطيئة فإنه يستحيل أن الخطأة الذين غُفرت خطاياهم يستمرون على الخطيئة استحالة اجتماع الضدّين.
١٧ «فَشُكْراً لِلّٰهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ ٱلْقَلْبِ صُورَةَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا».
٢تيموثاوس ١: ١٣
فَشُكْراً لِلّٰهِ شكر الرسول الله في هذه الآية على أنه ما صدق على المسيحيين الحقيقيين عموماً يصدق على أهل رومية خاصة. وثبت قوله بشهادة اختبارهم لأن تعليم النعمة لم يحملهم على الاستمرار على الإثم لكنهم لما تحرروا من العبودية للخطيئة أخذوا يخدمون الله الذي العبودية له حرية.
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة «كنتم» ومعناها أن عبوديتهم للخطيئة أمر قد مضى. فشكر الرسول الله على أن ذلك لم يكن حالهم الحاضرة وعلى أنهم تجددوا فلا يمكن أن يكون موضوع سروره وشكره كونهم استُعبدوا للإثم قبلاً ولكن عتق أسرى الخطيئة من رقها ورق الشيطان هو موضوع المسرّة والشكر لكل مسيحي لانتفاعهم وانتفاع غيرهم بذلك.
وَلٰكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ ٱلْقَلْبِ هذا موضوع شكر الرسول في هذه الآية فإن إطاعتهم لسيدهم الجديد كانت خالصة اختيارية لا مجرد صورة. والإطاعة للحق من القلب دليل قاطع على تجديده فالديانة الخالية من مثل هذه الطاعة باطلة. وخروجهم من سلطة السيد الأول إلى سلطة السيد الثاني لم يكن إلا بشدة الاجتهاد ومعونة الله.
صُورَةَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا أي الإنجيل أو الدين المسيحي الذي يُعلم أننا نتبرّر مجاناً بالإيمان بيسوع المسيح وأن نطيع المسيح رباً كما نتكل عليه فادياً. وسُمي الإنجيل «بصورة التعليم» هنا التعليم ذاته باعتبار ترتيبه عقائد وأعمالاً. وهذا التعليم من وحي الله ولكنه وصل إليها بوسائط بشرية أي بأناس ملهمين. وهو وسيلة خلاص لمن يقبلونه ويطيعونه كما أطاعه ميسحيو رومية من القلب. وقال «أسلمتم إليها» لأن كثيرين منهم كانوا وثنيين وبعضهم كانوا يهوداً وكانوا جميعاً عبيداً للباطل فأرشدوا بنعمة الله إلى الحق وأدخلوا في الدين المسيحي.
١٨ «وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبِرّ».
يوحنا ٨: ٣٢ و١كورنثوس ٧: ٢٢ وغلاطية ٥: ١ و١بطرس ٢: ١٦
هذه الآية بيان لما أشار إليه بالآية السابعة عشرة من نقلهم من خدمة سيد إلى سيد آخر والمعنى أنهم أطاعوا تعليم الإنجيل إذ تحرروا من عبودية الخطيئة ودخلوا في خدمة البرّ. وقد مثّل كلاً من الخطيئة والبرّ بسيد كما في (ع ١٦). وصرّح هنا بأن ما حدث لهم ليس باستقلال بل تغيير خدمة وأنه من المحال أن يخدموا الإثم لأنهم ارتبطوا بخدمة غيره. فقوله «صرتم عبيداً للبر» لا ينافي كونهم قد حصلوا على أفضل الحرية لأن العبودية للبرّ على وفق قوانين العقل والضمير وفيها السرور التام. وهذا مثل قول المسيح «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلابْنُ فَبِٱلْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا ٨: ٣٦ قابل هذا بما في ١كورنثوس ٧: ٢٢).
١٩ «أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيّاً مِنْ أَجْلِ ضُعْفِ جَسَدِكُمْ. لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَٱلإِثْمِ لِلإِثْمِ، هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ».
أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيّاً أي اتخذ في كلامي الأسلوب الذي يتخذه كل الناس من التمثيل فقولي مجاز مألوف بين الناس أوضح به حقيقة روحية. والمعنى أن الرسول ضرب نسبة العبد إلى سيده (في ع ١٦ – ١٨). مثلاً لنسبة المؤمن إلى الله. فكما أن العبد مجبر على إطاعة سيده كذلك المسيحي لأنه لا بد من أن يطيع الله. أما العبد فيطيع سيده على رغمه وأما المسيحي فيطيع ربه باختيار وسرور ولكن أُطلق العبد على كليهما لتحقق طاعة كل منهما لسيده.
مِنْ أَجْلِ ضُعْفِ جَسَدِكُمْ أي طبيعتكم البشرية ونسب «الضعف» إليها لكونهم كانوا أكثر ما يهتمون بالأمور المادية وكانوا كأطفال في الروحيات فلم يكونوا قادرين على إدراك الحقائق الروحية بدون مثل مبني على الأمور المتعارفة بين الناس. وهذه العبارة تعليل لتسميته المؤمنين «عيبداً للبر».
كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ معنى الأعضاء هنا كمعناها في (ع ١٣) وهو كل قوى الإنسان لأن الأعضاء آلاتها. وكان المخاطبون قد استعملوها قبل الإيمان لخدمة الخطيئة.
عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ أكثر ما يصدق هذا على الذين كانوا قبل إيمانهم وثنيين. واستوفى الرسول الكلام على هذه النجاسة في الأصحاح الأول من هذه الرسالة. وكل الذين يطيعون الشهوات المحرمة عبيد للنجاسة لأنهم دنّسوا أنفسهم.
وَٱلإِثْمِ ما يعده الناس نجاسة يعده الله إثماً لأنه تعدٍّ على شريعته الظاهرة.
لِلإِثْمِ أي طوعاً له لأنه كان سيدهم. والخلاصة أن أعمالهم الظاهرة كانت على وفق عبوديتهم الباطنة.
هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لأن ذلك ما يليق ويجب عليكم بعدما خرجتم من خدمة الخطيئة إلى خدمة البرّ. فأقل ما يجب عليكم أن تُظهروا من النشاط والغيرة في خدمة المسيح سيدكم الجديد الذي اشتراكم بدمه لكي تنالوا الحياة الأبدية ما أظهرتموه منهما قبل الإيمان للشيطان سيدكم القديم الذي رغب في إهلاككم. فكان عليهم أن يأتوا ذلك حباً لله ورغبة في القداسة وامتداد ملكوت المسيح في العالم. وقال «قدموا أعضائكم» لأنها آلات للقيام بما يقصدونه من الأعمال.
لِلْقَدَاسَةِ أي التمثل التام بالله في الطهارة الروحية وهذا جعالة المسيحي في جهاد هذه الحياة وما يهبه الله للذي اختار البرّ سيداً.
٢٠ «لأَنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ عَبِيدَ ٱلْخَطِيَّةِ كُنْتُمْ أَحْرَاراً مِنَ ٱلْبِرِّ».
يوحنا ٩: ٣٤
ما في هذه الآية إثبات لقوله «كما خدمتم الإثم يجب أن تخدموا البر» ومعناها أنه كما أنكم لم تحسبوا أنكم مكلفون بخدمة البرّ البتة وأنتم عبيد الخطيئة يجب أن لا تحسبوا أنكم مكلفون بخدمة الخطيئة البتة وأنتم عبيد للبر.
أَحْرَاراً مِنَ ٱلْبِرِّ بمقتضى حسبانكم وسيرتكم يومئذ لأنكم كنتم عبيداً لسيد آخر (هو الإثم) فسلكتكم بلا التفات إلى أوامر البر. وخلاصة المعنى أنهم كانوا خالين من القداسة. فلم يقصد أنهم كانوا وقتئذ غير مكلفين بإطاعة البرّ لأن ذلك لا يصدق على أحد من العقلاء في كل خليقة الله. والحق أن التحرر من البرّ أردأ عبودية لشّر السادة. وهذه الآية تعليل لما مرّ في الآية التاسعة عشرة. والنتيجة وجوب أن يعدلوا كل العدول عن خدمة الخطيئة ويستفرغوا المجهود في خدمة البرّ مقابلة لما أتوه وهم عبيد للإثم.
٢١ «فَأَيُّ ثَمَرٍ كَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنَ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي تَسْتَحُونَ بِهَا ٱلآنَ؟ لأَنَّ نِهَايَةَ تِلْكَ ٱلأُمُورِ هِيَ ٱلْمَوْت».
ص ٧: ٥ ص ١: ٣٢
فحوى هذه الآية أن اختبار المسيحيين نتائج خدمة الإثم الرديئة مما يحملهم على كراهة تعريض أنفسهم لها ثانية.
فَأَيُّ ثَمَرٍ كَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنَ ٱلأُمُورِ الاستفهام إنكاري فالمعنى أنكم لم تنتفعوا شيئاً من خدمة الخطيئة لأن كل مواعيدها كذب. وأقام الرسول ذلك دليلاً على أن الخطأة الذين غُفرت آثامهم لا يرجعون إلى ارتكاب الإثم إذ اختبروا بطلان خدمته وجهل خادمه.
ٱلَّتِي تَسْتَحُونَ بِهَا ٱلآنَ؟ بعد ما تجددتم واستنارت عقولكم وضمائركم بكلمة الله وأظهر لكم الروح القدس أن أعمالكم السابقة قبيحة لا تليق بكم. وهذا مثل قوله «لاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ» (أفسس ٥: ١١ و١٢ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٤: ٢ وفيلبي ٣: ١٩ ويهوذا ١٣).
لأَنَّ نِهَايَةَ… ٱلْمَوْتُ لا مجرد موت الجسد الذي يعم الأخيار والأشرار بل موت النفس أيضاً أي الهلاك الأبدي. فنتج مما ذُكر أن الخطيئة لا تنفع عبيدها في هذه الحياة وأنها تلقيهم في هاوية الهلاك في الحياة الآتية فوجب أن لا يرجعوا إليها.
٢٢ «وَأَمَّا ٱلآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ، وَصِرْتُمْ عَبِيداً لِلّٰهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَٱلنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».
يوحنا ٨: ٣٢
أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ أي نجوتم من عبوديتها فإن إيمانكم قد غير نسبتكم إلى كل من السيدين فالتي كانت بينهم وبين الواحد صارت بينهم وبين الآخر.
إن المؤمنين لا يتحررون من عبودية الإثم دفعة بل تدرجاً فإنهم رفضوا سيادته وقاوموه فإن أخطأوا أخطأوا كرهاً لا اختياراً. فإن الإثم بطل أن يكون رب البيت لكنه بقي فيه على رغم صاحبه يكدره ويؤذيه فلا يتخلص منه إلا عند الموت لكنه تحرر من دينونته عندما آمن.
وَصِرْتُمْ عَبِيداً لِلّٰهِ هذه مرة رابعة في هذا الأصحاح نسب ذلك إلى المؤمنين لأن قوله «عبيد للبر» بمعنى قوله «عبيداً لله» لأنه لا يمكن أن يكون أحدهما بدون الآخر. وكان الرسول مولعاً بتسميته نفسه «عبداً لله» (ص ١: ١ و١كورنثوس ٧: ٢٢ و٢كورنثوس ١٠: ٧ وغلاطية ١: ١٠ وفيلبي ١: ١ وتيطس ١: ١).
إن المؤمنين لم يزالوا بعد إيمانهم عبيداً لكونهم عبيد لله وللقداسة. وعبوديتهم اختيارية سارة لا دناءة فيها بل شرف وفخر عظيم. ورضوها لأنها على وفق أحكام عقولهم وضمائرهم ودعاهم إليها شكرهم القلبي وتأثيرات الروح القدس.
ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ أخذ بولس يذكر هنا بعض أثمار الإيمان المباركة وذكر باقيها في (ص ٨) وما ذكره هنا القداسة لأن طهارة القلب أول نتائج تحرّر المؤمن من الخطيئة وطاعته للبرّ.
وَٱلنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ هذه الحياة آخر نتائج الخدمة لله وكثيراً ما عُبر عنها بالخلاص وهي تشتمل على كل الخيرات الجسدية والروحية وأعظمها نيل المؤمن رضى الله وتمتعه به إلى الأبد.
٢٣ «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
تكوين ٢: ١٧ وص ٥: ١٢ ويعقوب ١: ١٥ ص ٢: ٧ و٥: ١٧ و٢١ و١بطرس ١: ٤
ما في هذه الآية إثبات لما في (ع ٢١ و٢٢) ومقابلة نتائج الخدمتين.
لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ معنى اللفظة اليونانية المترجمة هنا بالأجرة هو ما يأخذه الجندي بحق على خدمته العسكرية. وكون الموت أجرة الخطيئة يشير إلى أنه لا يجازي الخاطئ به ظلماً بل أنه مما استحقه عدلاً. فالخاطئ مجبر لاختياره خدمة الإثم أن يأخذ نتيجته الطبيعية والله لا بد من أن يُعطي الخاطئ الأجرة التي يستحقها لكونه قاضياً عادلاً فلا يمكن أن يعفو عنه بلا كفارة.
إن الله قد صرّح في كتابه بحقيقة أجرة الخطيئة بقوله «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤). فالموت هو العقاب المعيّن على المعصية ولم يُعاقب خاطئ ولن يُعاقب بأكثر مما يستحق.
والموت في هذه الآية خلاف الحياة الأبدية في الآية السابقة فيشمل فقدان كل خير ووجدان وكل شر وهو دائم كالحياة السماوية التي هي ضدّه فإن كانت لإحداهما نهاية كانت للآخر.
وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ جزاء البرّ مؤكد كجزاء الخطيئة لكن علّة هذا غير علّة ذاك فإن الخطيئة توجب الموت وأما البرّ فليس كذلك فإن جزاءه هبة لا أجرة. فكل ما يناله المؤمن ليس سوى نعمة مجانية. وواهب الحياة هو الله لأنه بذل ابنه ذبيحة عن الإثم ووهب الروح القدس وكلمته المقدسة فهو يهب للمؤمن الإيمان والمحبة والقداسة والثبات والسماء أخيراً.
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا هو واسطة نيلنا تلك الهبة بموته واستحقاقه وشفاعته. وله الحياة الأبدية لأنه إله كما أنه إنسان فكل من اتحد به بالإيمان يشاركه في حياته.
فوائد
- إن الأمر الجوهري في هذا الفصل أن تأثير تعليم «التبرير بالنعمة» هو التقديس لا إباحة ارتكاب الخطيئة وذلك لأن الشكر لله والمحبة له والرغبة في تمجيده تحمل المؤمن على الطاعة. وهذه العواطف المقدسة تنشأ في قلبه بفعل الروح القدس عندما يؤمن. فالذي يتكل على أعماله الصالحة لنيله الخلاص يطيع الناموس خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب. فطاعة الأول طاعة الابن وطاعة الثاني طاعة العبد (ع ١٤).
- إن الخطأة عبيد سيدهم الشيطان يتخذ كل قواهم آلات للإثم وعبوديتهم تزيد ثقلاً على توالي الأيام وقيودهم تزيد قوة وأجرتهم منه الموت وليس بالناموس نجاة من تلك العبودية إنما هي بيسوع المسيح (ع ١٢ – ١٦).
- إن المؤمنين عبيد سيدهم الله وقفوا أنفسهم وكل قواهم له لتشتد رُبط المحبة والأمانة بينهم وبين الله يوماً فيوماً وثوابهم منه الحياة الأبدية (ع ١٢ – ١٦).
- إن الإنسان متى تاب وآمن يترك خدمة الشيطان وحينئذ ينتهي سلطان هذا السيد العتيق عليه ويبتدئ سلطان الله سيده الجديد. وهذا الانقلاب العظيم يجعل استمراره على الإثم محالاً فلا حق لنا أن ندعي إنا أعطينا قلوبنا لله ونحن نشغل عقولنا وأيدينا وأرجلنا بخدمة الشيطان (ع ١٥ – ١٨).
- إن الدين المسيحي يوجب على المؤمن النشاط ووقف كل قواه لله آلات للخير فليس في الإنجيل آية تفيد أن مجرد إقرار الإنسان بإيمانه وباتكاله على المسيح للخلاص كاف لنجاته دون استفراغ مجهوده في مقاومة الخطيئة وممارسة القداسة والاجتهاد في نفع غيره وفي تمجيد الله (ع ١٢ و١٣).
- إن مصير عبيد الإثم خدماً للبرّ ليس إلا بمجرد نعمة الله فيجب أن يُعطى كل المجد والشكر.
- إن الإنسان على قدر اشتداد عبوديته للإثم وزيادة دناءته يتوهم أنه حرّ ويفتخر بنفسه ولكن متى تحرر حقاً وزاد أدباً وتقوى زاد تواضعاً وشكراً لله.
- إن الموت أجرة الخطيئة بمقتضى الطبع وحكم الله لأنه بالخطيئة انقطعت الصلة بين الخاطئ والله الذي هو مصدر الحياة. وتأثير ارتكاب الإثم في الأثيم إماتة الضمير وكل ما شرف من عواطف الإنسان وإنشاء الانفعالات المهلكة للسعادة فالخطيئة سمٌّ قاتل للنفس.
-
إن الحياة الأبدية هبة لا يستحقها أحد من الناس وربما استحقها الملائكة القديسون لا الخطأة المفديون. وهذه الحياة لا تنفك عن أن تكون هبة في كل أحوالها في أول أمرها حين غفرت للمؤمن خطاياه وحين انسكب عليه الروح القدس ليقاوم الخطيئة وينمو في القداسة وفي غاية كمالها حين يُكلل بالمجد.
السابق |
التالي |