رومية

الرسالة إلى رومية | المقدمة | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى رومية

للدكتور . وليم إدي

كان بولس قد قصد الذهاب إلى رومية منذ زمن طويل لكنه امتنع لأسباب (رومية ١: ١٣) وهو يتوقع المصير إليها بعد قليل فمهد السبيل بكتابة هذه الرسالة ولم يكن من داع إلى أن يكتبها لإزالة الشكوك أو لرفع الخصومات كما كان الداعي إلى ما كتبه إلى كنيسة كورنثوس وكنيسة غلاطية فإنه لعدم معرفته إياهم بسط أمامهم مختصر تعاليمه التي نادى بها في غير رومية وأوضح به مبادئ الإنجيل العظمى الجوهرية مما يجب أن يعتقدوه ويختبروه ويعملوا بموجبه. موضوع معظم هذه الرسالة جواب هذا السؤال كيف يتبرر الإنسان أمام الله.

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو         

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

مقدمة عامة لكل الرسائل وفيها أربعة فصول

الفصل الأول: في نسبة الرسائل إلى البشائر وإلى سفر الأعمال

البشائر إعلان الله الحق للإنسان بيسوع المسيح بذاته وتعليمه وعمله. وسفر أعمال الرسل إنباء بإنشاء الكنيسة المسيحية المؤلفة من المؤمنين بيسوع المسيح التابعين لتعاليمه المستأمنة على ذلك الإعلان الشاهدة للحقائق المتعلقة بيسوع ودينه. وهو يتضمن نمو الكنيسة بعناية الروح القدس وإرشاده. والرسائل شرح الرسل الموحى إليهم كلام المسيح إفادة لمؤمني الكنيسة ليكون موضوع اعتقادهم وقانون سيرتهم. وهذه الثلاثة أي البشائر وسفر الأعمال والرسائل هي مع كتاب العهد القديم إعلان واحد تام مستوف كل ما يحتاج إليه البشر لم يزد عليه ولا يُزاد ولن يُزاد.

واختلف أسلوب تبليغ الرسل تعليمهم للكنيسة عن أسلوب قدماء الأنبياء والمسيح في التبليغ لأن أولئك بلغوا الحق لفظاً غير أن إيليا كتب مرة واحدة رسالة إلى يهورام على ما علمناه من الكتاب (٢أيام ٢١: ١٢).

وأتى الرسل هذا الأسلوب أي التبليغ بكتابة الرسائل لأمرين أحدهما اختياري والآخر اضطراري.

فالأول: أن في هذا الأسلوب حرية البيان وأحكام التأليف وحفظ التعليم وتحريك العواطف بإظهار المودة الأخوية والاستعطاف على أنه مع ما فيه من الحرية لا يخلو من أنه تحت سلطان الوحي.

الثاني: أنه بعد ما انتشرت الكنيسة في كل أقطار المملكة الرومانية وكثرت أعضاؤها لم يمكن الرسل أن يخاطبوا كل أولئك الأعضاء شفاهاً فاضطروا أن يخاطبوهم بالرسائل. وساعدهم على تبليغ تعاليمهم أمران الأول عموم اللغة اليونانية التي كتبت الرسائل بها في تلك الأيام والثاني سهولة إرسال الرسائل إلى كل الجهات بسهولة الطرق التي مهدها الرومانيون والسلام والأمن واتساع التجارة.

 

الفصل الثاني: في كَتَبَة الرسائل والاتفاق بينهم

كتبة الرسائل خمسة بطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا وبولس. لبطرس رسالتان وليوحنا ثلاث وليعقوب واحدة وليهوذا واحدة ولبولس اربع عشرة على القول بأنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فالأربعة الأولون سمعوا تعليم المسيح وهو على الأرض فكان من المنتظر أن يكتبوا أكثر تعاليم الكنيسة لكن معظم تعاليم الكنيسة في رسائل بولس الذي لم يكن تلميذاً للمسيح وهو على الأرض ونسبة ما كتبه أولئك إلى ما كتبه بولس كواحد إلى خمسة لكنه كان أهلاً لذلك وإن لم يكن ممن رافقوا الرب على هذه الأرض لأنه له المجد ظهر له بعد قيامته من السماء وعلمه بلا وسائل بشرية.

وكما أن كتبة البشائر الأربع متّى ومرقس ولوقا ويوحنا اتفقوا كل الاتفاق في بيان سيرة المسيح وتعاليمه كذلك اتفق كتبة الرسائل الخمسة تمام الاتفاق في وضعهم مسيحاً واحداً وإيماناً واحداً ومعمودية واحدة وخلاصاً واحداً ومعزّياً واحداً وكنيسة واحدة.

 

الفصل الثالث: في ترتيب الرسائل

الظاهر أن الرسائل رُتبت بالنظر إلى الطول والأهمية لا إلى أوقات الكتابة وقدمت رسائل بولس على غيرها.

 

الفصل الرابع: في أزمنة كتابة الرسائل وأمكنتها

يسهل علينا أن نعرف الازمنة والأمكنة التي كتب فيها بولس أكثر رسائله وأما أزمنة كتابة رسائل الرسل الباقين وأمكنتها فلا نعرفها إلا على سبيل الترجيح ويتضمن ذلك كله الجدول الآتي:

الرسالة إلى الرومانيين

مقدمة الرسالة وفيها خمسة فصول

الفصل الأول: في الكاتب

هو بولس أو شاول وهو اسمه العبراني بقي يُعرف به إلى حين شرع في عمله باعتبار كونه رسول الأمم وحينئذ سُمي بولس وهو الاسم الذي عُرف به بين الأمم واشتهر به في الكتاب يوم آمن بواسطة وعظه الوالي سرجيوس بولس (أعمال ١٣: ١٢).

وُلد في طرسوس قصبة كيليكية واسمها الآن ترسيس وهي ولاية في أسيا الصغرى مجاورة لسورية اشتهرت بمدارسها التي فاقت بها الاسكندرية وأثينا. ولا بد من أن بولس اكتسب بعض العلوم في تلك المدارس لأن ذلك مما ظهر جلياً في احتجاجه من الأدلة المنطقية على أسلوب علماء اليونانيين الخاص وفي ما اقتبسه من شعراء اليونان (أعمال ١٧: ٢٨ و١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢).

ووقت ولادته مجهول والمرجح أنه كان نحو وقت ولادة سيدنا يسوع المسيح وكان أبوه فريسياً من سبط بنيامين (فيلبي ٣: ٥) له حقوق الرومانيين فكانت لبولس أيضاً (أعمال ٢١: ٢٨).

تعلّم صناعة جرياً على إيجاب اليهود أن يتعلم كل منهم صناعة عالماً كان أم جاهلاً لاعتقادهم أنه من لم يعلّم ابنه صناعة علّمه السرقة. وكانت ما تعلّمها صناعة الخيام (أعمال ١٨: ٣). وتعلّم هذه الصناعة لاشتهار كيليكية بجودة منسوجاتها الموافقة للخيام وكانت منسوجة من شعر المعزى الذي لا نظير له في غيرها من البلاد فعال بها نفسه ورفاقه بما كسب منها في المدن التي بشر فيها (أعمال ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨).

أُرسل إلى أورشليم في حداثته ليدرس الشريعة اليهودية والعلوم الدينية وكان استاذه الرباني غمالائيل المشهور بين علماء ذلك العصر (أعمال ٥: ٣٤ و٢٢: ٣). والأرجح أنه لم يكن في أورشليم حين كان المسيح فيها لكنا نعلم أنه كان فيها يوم موت استفانوس سنة ٣٦ واشترك في قتله (أعمال ٧: ٥٨). وبذل طاقته في اضطهاد سائر المسيحيين بعد ذلك (أعمال ٩: ١) ولعل الذي غاظه ما نسبوه إلى استفانوس من أنه قال «إِنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ هٰذَا سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ، وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ ٱلَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى» (أعمال ٦: ١٤). وأخذ سلطاناً من رؤساء اليهود على إهلاك المسيحيين في دمشق وفيما هو سائر على طريق تلك المدينة سنة ٣٦ ب. م ظهر له الرب يسوع وتكلم معه ودعاه رسولاً إلى الأمم ومن ذلك الوقت وقف نفسه للمسيح وأخذ يبشر بالدين الذي كان قبلاً يسعى في ملاشاته. فابتدأ التبشير في دمشق ثم انطلق إلى بلاد العرب وشغل نحو ثلاث سنين بالاستعداد ثم رجع إلى دمشق يبشر واضطر أن يهرب منها خوفاً من اليهود وذهب إلى أورشليم متوقعاً أن يقتنع اليهود بشهادته ليسوع لمعرفتهم أنه كان يضطهد أتباعه ويقتلهم لكن اليهود عزموا على قتله فاضطر أن يذهب إلى طرسوس ومن ثم اجتهد في التبشير والتعليم في كيليكية وما جاورها إلى أن دعاه برنابا إلى مساعدته في أنطاكية.

وبقي ما يزيد على عشرين سنة بعد ذلك يجتهد في التبشير بالإنجيل وسافر في تلك الخدمة ثلاثة أسفار منادياً بالإنجيل في مدن أسيا الصغرى وما بعدها إلى أوربا فأسس كنائس من اليهود والأمم في كل المراكز العظيمة بين أورشليم ورومية فكانت نتيجة أعماله نجاحاً عظيماً للدين المسيحي ومقاومة اليهود الشديدة له لأنه نادى بأن يسوع الناصري هو المسيح ولأنه علّم الأمم أنهم يخلصون بمجرد الإيمان بالمسيح بدون أعمال الناموس الرمزية. وكتب فوق تبشيره في تلك المدة ست رسائل لا تزال إلى الآن كنزاً ثميناً للكنيسة المسيحية.

وفي سنة ٥٨ قبض اليهود عليه في هيكل أورشليم بدعوى أنه نجّس الهيكل بإدخاله أحد الأمم إليه ولولا إنقاذ الرومانيين إياه يومئذ قُتل. ثم أخذ إلى قيصرية وحوكم هناك وتبرّأ ولكن بعض ولاة الرومانيين أبقاه في السجن سنتين إكراماً لليهود ثم رفع دعواه إلى قيصر تخلصاً من أن تُسلم إلى اليهود فأُرسل إلى رومية وانكسرت السفينة التي سافر فيها عند جزيرة مالطة وبعد أن شتى هنالك سافر إلى رومية. ثم مضى عليه سنتان قبل المحاكمة كان فيهما أسيراً في بيته وهو يبشر الذين يأتونه من خارج وكان لتعليمه تأثير عظيم في تلك المدينة وما جاورها وكتب في تلك المدة مع ما عليه من التبشير أربع رسائل أخرى مفيدة. وهذا نهاية ما نستطيع أن نتيقنه من خبر بولس والأرجح أنه بعد نهاية السنتين بقليل وقف أمام نيرون للمحاكمة وتبرأ مما أُتهم به وأُطلق من سجنه. وشغل خمس سنين بالتبشير في كريت وأسيا الصغرى ومكدونية ولعله ذهب إلى اسبانيا أيضاً ومبلغ ما كتبه في تلك المدة ثلاثة من رسائله ثم قُبض عليه ثانية وأُخذ إلى رومية وسُجن في السجن العام وهنالك كتب رسالة واحدة. وثم وقف للمحاكمة أيضاً وحُكم عليه بالقتل فمات شهيداً في سنة ٦٨ ب. م.

وامتاز هذا الرسول بأنه كان نشيطاً في العمل حاراً في الروح ثابت العزم شديد الانفعالات قوي الحجة وافر المعرفة شجاعاً خالص النية في تمجيد الله ومحبة المسيح ونفع الناس.

وما جعله أكثر أهلية للتبشير والتأليف ثلاثة أمور:

  • الأول: تدرّبه في العلوم اليونانية إلى حد يستطيع عنده أحسن أساليب الاستدلال وإيضاح المعاني وهذا كان مما يحتاج إليه باعتبار كونه رسول الأمم.
  • الثاني: معرفته الشريعة الموسوية وكل العلوم اليهودية إذ كان استاذه أحسن علمائهم وهذا مكّنه من مناظرة اليهود بمخاطبته إياهم أولاً في كل مكان دخله واتخاذه إقناع بعضهم وسيلة إلى تبشير الأمم.
  • الثالث: مشاهدته المسيح بعد قيامته وتعلّمه منه رأساً حقائق الدين المسيحي بلا واسطة بشرية. والجدول الآتي يتضمن أهم حوادث حياته مع ذكر أماكن حدوثها وأزمنتها المحققة والمرجحة.

الحدث سنة ب. م
تنصر بولس أعمال ص ٩ ٣٦
ذهابه إلى العربية ورجوعه منها إلى دمشق (غلاطية ١: ١٧) بعد ثلاث سنين وهربه من دمشق إلى أورشليم (أعمال ٩: ٢٣ – ٢٦) ٣٩
ذهابه من أورشليم إلى طرسوس (أعمال ٩: ٣٠) وشغله بضع سنين بالتبشير في كيليكية وسورية (غلاطية ١: ٢١) والمظنون أنه احتمل في تلك المدة أكثر المشقات المذكورة في (٢كورنثوس ١١: ٢٤ – ٢٦) ومن طرسوس أخذه برنابا إلى أنطاكية وخدما هنالك الإنجيل سنةً ٤٤
ذهابه مع برنابا إلى أورشليم حاملاً الإحسان زمن الجوع ورجوعه إلى أنطاكية ٤٥
سفره الأول للتبشير مع برنابا من أنطاكية إلى قبرس وأنطاكية بيسيدية وأيقونية ولسترة ودربة ورجوعه في الطريق التي أتى فيها ووصوله إلى أنطاكية بعد سنتين من خروجه منها (أعمال ١٣: ١٤) ٤٨
ذهابه ثالثة إلى أورشليم مع برنابا ليحضر المجمع ورجوعه إلى أنطاكية (أعمال ١٥: ٢ – ٣٠) ٥٠
سفره الثاني للتبشير إلى كيليكية ودربة ولسترة وفريجية وغلاطية وترواس وفيلبي وتسالونيكي وبيرية وأثينا وكورنثوس ٥١
مكثه سنة ونصف سنة في كورنثوس ثم ذهابه رابعة إلى أورشليم ورجوعه إلى أنطاكية (أعمال ١٨: ١١ – ٢٢) ٥٤
سفره الثالث للتبشير ومروره بغلاطية وفريجية ووصوله إلى أفسس (أعمال ١٩: ١) ٥٤
ذهابه بعد مكثه سنتين على طريق ترواس ومكدونية إلى كورنثوس (أعمال ٢٠: ١) ٥٧
ذهابه خامسة إلى أورشليم من كورنثوس في طريق فيلبي وترواس وميليتس وبطلمايس وقيصرية (أعمال ٢٠: ٣ – ص ٢١: ١٥) والقبض عليه في أورشليم وإرساله إلى قيصرية ٥٨
إرساله بحراً إلى رومية بعد أسره سنتين في قيصرية وانكسار السفينة التي سافر عليها عند مالطة ومكثه ثلاثة أشهر هناك ثم وصوله إلى رومية ٦١
أسره سنتين في رومية وإطلاقه بعد المحاكمة على ما رُجح ٦٣
ذهابه للتبشير كما ظن بعضهم إلى أسبانيا (رومية ١٥: ٢٤ و٢٨) ثم إلى أفسس ومكدونية (١تيموثاوس ١: ٣) وإلى كريت (تيطس ١: ٥) وإلى أسيا الصغرى (٢تيموثاوس ١: ١٥) وإلى نيكوبوليس (تيطس ٣: ١٢) وأسره ثانية وسجنه في رومية منتظراً الموت (٢تيموثاوس ٢: ٩ و٤: ١٦ – ١٨) واستشهاده هناك ٦٨

الفصل الثاني: في الذين كُتبت هذه الرسالة إليهم

كُتبت هذه الرسالة إلى أهل رومية وهي قاعدة المملكة الرومانية بُنيت على نهر تيبر على أمد ١٥ ميلاً من مصبه في بحر الروم. والأرجح أن عدد أهلها كان يوم كُتبت هذه الرسالة إليها ١٢٠٠٠٠٠ نصفهم أرقّاء. وكان فيها كثيرون من اليهود لأن بمبيوس (Pompeius) القائد الروماني أتى بهم أسرى حين استولى على سورية سنة ٦٣ ق. م وأسكنهم قسماً من المدينة ولم يبقوا زمناً طويلاً أسرى بل تحرروا وكثروا. ومما يدل على كثرتهم أنه لما أتت لجنة من اليهود إلى رومية عند موت هيرودس الكبير ليستعطفوا أوغسطس قيصر خرج لاستقبالهم ثمانية آلاف رجل من أعيان اليهود في رومية. وكانوا في سلام وراحة إلا في بعض زمان ملك طيباريوس سنة ١٩ ب. م وبعض زمان ملك كلوديوس نحو سنة ٤٩ ب. م فإنهما أمرا بنفيهم ولم ينفياهم سوى وقت قصير.

ولم يُعلم بأي واسطة نشأت الديانة المسيحية فيها والأرجح أن بعض الرومانيين «اليهود والدخلاء» الذين كانوا في أورشليم يوم الخمسين وآمنوا مع من آمن (أعمال ٢: ١٠) رجع إلى رومية بتعليم الإنجيل ثم أخذه إليها أيضاً الذين تشتتوا من مسيحيي أورشليم زمن الاضطهاد على أثر موت استفانوس (أعمال ٨: ٤ و١١: ١٩). وبعض الذين سمعوا تعليم بولس في بعض مدن أخائية ومكدونية وأسيا وآمنوا ثم ذهبوا إلى رومية وكانوا جزءاً من الكنيسة هناك. وسلام بولس على كثيرين ذكرهم بأسمائهم يدل على أنهم كانوا من تلاميذه ومعارفه مع أنه لم يكن قد ذهب إلى رومية قبل أن كتب تلك الرسالة.

وظن بعضهم أن مؤسس كنيسة رومية بطرس الرسول سنة ٤١ ب. م وأنه كان أسقفها خمساً وعشرين سنة وهذا لا دليل عليه بل لنا أدلة تنفيه:

  • الأول: قول لوقا ما معناه أن بطرس كان في أورشليم سنة المجمع وهي سنة ٥٠ (أعمال ص ١٥) وأن تلك المدينة كانت وطنه قبل ذلك وكان يخدم الإنجيل مع الرسل والمشائخ فيها.
  • الثاني: أن بطرس كان على ما في (غلاطية ٢: ١١) في أنطاكية في نحو سنة ٥٥ ب. م واجتمع ببولس هناك.
  • الثالث: أنه على ما هو طاهر في الأصحاح الخامس من رسالته الأولى كان في بابل حين كتبها وذلك في نحو سنة ٦٠.
  • الرابع: أنه لو كان قد أسس كنيسة رومية في سنة ٤١ وبقي خادماً لها لم يكن من داع لبولس أن يكتب إليها ويشتهي أن يذهب إليها للتبشير لأنه كان من مبادئه أن لا يبشر حيث «سُمي المسيح لئلا يبني على أساس لآخر» (رومية ١٥: ٢٠).
  • الخامس: أنه لو كان بطرس أسقف رومية لذكره بولس في رسالته وسلّم عليه مع من سلّم عليهم فيها.
  • السادس: إنه لما أتى بولس إلى رومية ذكر أن كثيرين من الإخوة خرجوا ليرحبوا به ولم يذكر بطرس بين هؤلاء.
  • السابع: قول يهود رومية ما يدل على عدم معرفته من أمور الدين المسيحي كونه يقاوم (أعمال ٢٨: ٢٢) وهذا يستلزم أن بطرس لم يكن هنالك منذ ما ينيف على ٢٠ سنة. والظاهر من تلك الرسالة أن المؤمنين كانوا من اليهود والأمم (ص ٢: ١٧ – ٢٤ رومية ص ٧: ١ و٣: ١٩ و١: ١٣ – ١٥ ص ١١: ١٣) وأن أكثرهم من الأمم وأنهم بلغوا حين كتابة الرسالة قدراً عظيماً من معرفة الإنجيل والغيرة له بدليل قول بولس «أَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (رومية ١:٨).

الفصل الثالث: في مكان كتابتها وزمانها

نعلم من نص الرسالة أن بولس لم يكن حين كتبها في رومية (رومية ١: ١١ – ١٥) لكنه كان يتوقع زيارته إياها وهو سائر إلى اسبانيا (ص ١٥: ٢٣ و٢٤). ونعلم أيضاً أنه كان حين كتابتها على وشك الذهاب إلى أورشليم حاملاً عطايا مسيحيي مكدونية وأخائية إلى فقراء الإخوة في أورشليم (ص ١٥: ٢٥ و٢٦). ونعلم أيضاً أنه كان من رفاقه حين كتب هذه الرسالة تيموثاوس وسوسيباترس وغايس وارستوس (ص ١٦: ٢١ و٢٣). وأنه كان ضيف غايوس (ص ١٦: ٢٣) وكان أرستوس خازن المدينة. وكل ذلك على وفق الفرض أن بولس كان وهو يكتب الرسالة في كورنثوس لأن لوقا أخبرنا في سفر الأعمال (ص ٢٠: ٢ – ٤ و١٦) أن بولس كان في كورنثوس على وشك الذهاب إلى أورشليم وأنه كان معه أربعة أصحاب رافقوه من هناك وهم المذكورون آنفاً. ولنا من (١كورنثوس ١: ١٤) أن غايوس الذي نزل عليه بولس كان من أهل كورنثوس. ولنا من ملحق الرسالة أنها كُتبت من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا وهي الجزء الشرقي من مدينة كورنثوس وخلاصة كل ما ذُكر أن هذه الرسالة كُتبت في كورنثوس في ربيع سنة ٥٨ ب. م وأنها هي الرسالة السادسة من رسائل بولس.

الفصل الرابع: في غاية هذه الرسالة

كان بولس قد قصد الذهاب إلى رومية منذ زمن طويل لكنه امتنع لأسباب (رومية ١: ١٣) وهو يتوقع المصير إليها بعد قليل فمهد السبيل بكتابة هذه الرسالة ولم يكن من داع إلى أن يكتبها لإزالة الشكوك أو لرفع الخصومات كما كان الداعي إلى ما كتبه إلى كنيسة كورنثوس وكنيسة غلاطية فإنه لعدم معرفته إياهم بسط أمامهم مختصر تعاليمه التي نادى بها في غير رومية وأوضح به مبادئ الإنجيل العظمى الجوهرية مما يجب أن يعتقدوه ويختبروه ويعملوا بموجبه.

الفصل الخامس: في موضوع هذه الرسالة

موضوع معظم هذه الرسالة جواب هذا السؤال كيف يتبرّر الإنسان أمام الله وهي ثلاثة أقسام:

  • الأول: الكلام في التبرير أي بيان افتقار كل الناس إليه وكيفيته ونتائجه وهذا القسم يشغل الأصحاحات الثمانية الأولى.
  • الثاني: دعوة الله الأمم إلى مشاركة اليهود في ذلك التبرير وأن هذا لا يستلزم رفض الله شعبه القديم أو يمنع رحمته عنهم لأنه تعالى لم يرفض إلا من رفض الإيمان وأن المرفوضين ليسوا سوى بعضهم وأن ذلك الرفض وقتيّ وأنهم سوف يرجعون جميعاً ويؤمنون ويخلصون.
  • الثالث: بيان الواجبات المبنيّة على ما سبق من التعليم للحكام والكنيسة والناس أفراداً.

التالي
زر الذهاب إلى الأعلى