كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 13 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث عشر

فضل المحبة المسيحية على المواهب غير العادية ١ إلى ١٣

في هذا الفصل ثلاثة أقسام:

  • الأول: أن كل مواهب الروح دون المحبة باطلة. ومن تلك المواهب موهبة الألسنة (ع ١). وموهبة التنبئ والعلم (ع ٢). وموهبة صنع المعجزات (ع ٢). وذكر من جملة ما هو باطل دون المحبة الأعمال التي يحسبها الناس صالحة كريمة ممدوحة (ع ٣).
  • الثاني: صفات المحبة المسيحية التي تفوق بها غيرها من الفضائل (ع ٤ – ٧).
  • الثالث: إن تلك المحبة تفوق كل المواهب وسائر الفضائل في كونها أبقى منها نعم إن الإيمان والرجاء دائمان مثلها لكنهما دونها عظمة (ع ٨ – ١٣).

اتفق المسيحيون في كل العصور على اعتبار كلام بولس في المحبة من أفضل جواهر الكتاب المقدس فلم يسبقه إليه أحد من كتبة الأسفار الإلهية في فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى. ومن العجب أن هذا الوصف لم يأته يوحنا رسول المحبة وأتاه بولس رسول الإيمان.

في العهد القديم كلام اسمه «ترنيمة المحبة» وهو المزمور الخامس والأربعون وهذا الأصحاح بمنزلته في العهد الجديد فيستحق أن يُسمى بذلك الاسم. ولا فضيلة مُدحت في الكتاب المقدس مثل فضيلة المحبة. نعم نتعلم من الكتاب أن التواضع أس الفضائل وأن الإيمان هو الفضيلة التي بها نتمكن من التمسك بالمسيح للخلاص وأن الرجاء هو الفضيلة التي تحث على العمل لكن المحبة أعم منها وتفوق كل الفضائل مجداً وبهاء.

١ «إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ ٱلنَّاسِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ».

إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ ٱلنَّاسِ صرّح الرسول بفضل المحبة على التكلم بالألسنة أولاً لأن مؤمني كورنثوس كانوا يعتبرون تلك الموهبة كل الاعتبار ويفتخرون بها. ومراده «بألسنة الناس» اللغات التي يتكلمون بها وهذا دليل على أن المراد بتلك الموهبة تكلم الإنسان بلغات غريبة لم يتعلمها.

وَٱلْمَلاَئِكَةِ أي وألسنة الملائكة. وهي لغاتهم وقصد بها ما يفوق كل اللغات المعلومة في الكمال. وظن بعضهم أنه أشار بذلك إلى ما سمعه حين «ٱخْتُطِفَ إِلَى ٱلْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (٢كورنثوس ١٢: ٤).

وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ الخ يعني أنه لو حصل على موهبة الألسنة إلى غاية ما وراءها من غاية حتى أمكنه أن يتكلم بكل لغات الأرض والسماء لما نفعه ذلك شيئاً دون المحبة. ونسب ذلك إلى نفسه بقوله «إن كنت أتكلم» وأراد أن ينسبه كل من مؤمني كورنثوس إلى نفسه ويفضلوا إصابة المحبة على إصابة التكلم بالألسنة الذي اعتبروه أكثر مما يستحق.

والمحبة هنا هي المحبة التي وصفها المسيح بأنه متعلق بها الناموس كله والأنبياء (متّى ٢٢: ٣٧ – ٤٠) وموضوعها الله أولاً والإنسان ثانياً إكراماً لله ومعظمها في هذا الأصحاح للإنسان. وهي التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس (رومية ٥: ٥). والتي قال فيها يوحنا «ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ» (١يوحنا ٤: ٧ و٨). والمحبة للناس قسمان عامة وخاصة فالعامة هي التي لكل البشر والخاصة هي التي للإخوة في المسيح وهذا معظم ما في هذا الأصحاح من (ع ٤ – ٧).

ومعناه «بالنحاس» هنا قطعة منه إذا ضُربت لم يصدر منها سوى مجرد الصوت. فلم يُرد به آلة من النحاس توقع عليها الألحان المختلفة المطربة وتدل على شيء من المعاني.

صَنْجاً وهو صفيحة من النحاس مستديرة يُضرب بها على أخرى مثلها. وهو أدنى آلات الطرب وأقل نفعاً في التعبير عن شعور الناس. ذكره سفر المزامير في قوله «سبحوه بصنوج التصويت» و «سبحوه بصنوج الهتاف» (مزمور ١٥٠: ٣) وذُكر أيضاً في (٢صموئيل ٦: ٥). وكثيراً ما استعمل الصنج عبدة إيسس (Isis) في مصر وعبدة سبلي (Cybele) في اليونان ولم يزل وثنيو بلاد الهند يستعملونه في هياكلهم.

ذكر الرسول قطعة النحاس والصنج اللذين لا ينشئان سوى صوت فارغ من المعنى بياناً لقلة النفع من موهبة الألسنة في اجتماعات العبادة فإنهم حين كان كل منهم يأخذ يتكلم بلغة غريبة ويجتهد في أن يرفع صوته فوق صوت غيره كانوا بذلك مثل طنين النحاس ورنين الصنوج فالذين أتوا بغية الاستفادة تضجروا والذين أتوا لمجرد المشاهدة حكموا بأنهم مجانين فقد أصاب بولس بقوله «أفلا يقولون أنكم تهذون» (ص ١٤: ٢٣).

٢ «وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ ٱلأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ ٱلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ ٱلْجِبَالَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً».

متّى ٧: ٢٢ وص ١٢: ٨ – ١٠ و٢٨ و١٤: ١ الخ متى ١٧: ٢٠ ومرقس ١١: ٢٣ ولوقا ١٧: ٦

ذكر في هذه الآية ثلاثاً من المواهب الخاصة التي لا تنفع بدون محبة وهي النبوة وموهبة العلم والإيمان الذي يمكّن صاحبه من عمل المعجزات.

نُبُوَّةٌ أي قوة التعبير عن أفكار الله ومقاصده التي يريد الله إعلانها للناس (انظر تفسير ص ١٢: ١٠) واعتبر الرسول هذه الموهبة كثيراً إذ جعلها الأولى هنا وجعل الأنبياء ثاني الرسل في (ص ١٢: ٢٨).

وَأَعْلَمُ جَمِيعَ ٱلأَسْرَارِ هذا من متعلقات موهبة النبوة ومن أسمى أعمالها لأن معنى «الأسرار» مقصاد الله الخفية كما يظهر من كلامه في (رومية ١١: ٢٥ و١٦: ٢٥ و٢٦). وعبّر عن هذه الأسرار «بأعماق الله» في (ص ٢: ٩ و١٠). وهي ما لا تستطيع العقول البشرية كشفها والله كشفها لنا بما أوحى به إلى أنبيائه والقرينة تدل على أنها أسرار عمل الفداء. ومفاد قوله هنا أنه لو عرف كل مقاصد الله المتعلقة بفداء البشر وامتداد ملكوت المسيح وخلا من المحبة ما نفع وما انتفع شيئاً.

وَكُلَّ عِلْمٍ ميّز بولس بين العلم والنبوة في (ع ٨ وفي ص ١٢: ٨ – ١٠). والمراد «بالعلم» هنا إدراك الحقائق المعلنة الإدراك التام الذي يمكن الإنسان من أن يكون معلماً ومبشراً كما جاء في (ص ١٤: ٦).

وَكُلُّ ٱلإِيمَانِ الذي يقدر الإنسان على صنع المعجزات وأعظمها كنقل الجبال (متى ٢١: ٢١).

وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً أي أن أعظم المواهب العقلية والعملية لا تنفع شيئاً ما لم تقترن بالمحبة. ولا ريب في أن الأبالسة يفوقون أفضل الناس في المعرفة والقدرة ولا يزالون مع كل ذلك أبالسة.

٣ «وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً».

متّى ٦: ١ و٢

صرّح هنا بأن الأعمال التي يعتبرها الناس أحق من سواها بالمدح وأنفع لهم لا قيمة لها ما لم تصدر عن المحبة لأنه إن لم تكن المحبة علتها كانت للرغبة في الشهرة أو الخوف من الهلاك أو لدخول السماء بالاستحقاق الذاتي فمثل هذه الغايات تفسد الأعمال.

أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي الفقراء. فمن أتى ذلك من المحبة نال رضى الله ومن أتاه بلا محبة فلو أنفق كل ماله بغية أن يدعوه الناس كريماً وأن يكنز له كنزاً في السماء كان كله عبثاً إذ لم يربح به خلاص نفسه. نعم إن الفقير ينتفع لكن المعطي لا ينتفع شيئاً عند الله. والمسيح حذّر تلاميذه من صنع الصدقات بغية الحصول على مدح الناس.

سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ قد يعرّض الناس أنفسهم لأشد العذاب الجسدي زعماً أنهم يكفرون به الخطيئة فيستحقون الحياة الأبدية ويحتملون من المضطهدين أشد المؤلمات لإظهار شجاعتهم واستحقاقهم بالآلام أو لمجرد العناد فلو احتملوا مثل ذلك حباً لله أو للقريب كان علة إكرام وذكر وإثابة لهم. وقد احتمل بعضهم الموت إحراقاً ليحسب شهيداً وهذا شر الميتات وما لا يستطيع الإنسان أن يقدم تقدمة أعظم منه لكن بذل الحياة في هذا السبيل بدون إعطاء القلب لله تقدمة باطلة لا يلتفت الله إليها لأنه ينظر إلى غاية العمل لا إلى العمل عينه. ففي كتابه إن إكليل الحياة ليس لسوى الذين يتوقعون ظهور الرب حباً له (٢تيموثاوس ٤: ٨).

٤ «ٱلْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. ٱلْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ».

أمثال ١٠: ١٢ و١بطرس ٤: ٨

في هذه الآية والثلاث التي تليها خمسة عشر دليلاً على فرط صلاح المحبة أتى بسبعة منها بطريق الإيجاب وبثمانية بطريق السلب. ولم يقصد الرسول كل خصائص فضيلة المحبة بل اقتصر على الصفات المضادة لما أتاه الكورنثيون في استعمال المواهب لأن ممارستهم إياها لم تخل من الخصام والارتياب والحسد والغيرة والكبرياء والتنافر والتفنيد. وقد شخص الرسول المحبة كأنها ذات حياة وعمل وأعلن جمالها وفضلها ليقابل الكورنثيون أنفسهم بها ويتحققوا نقصانهم ويكملوا.

ٱلْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى أي تصبر على التعدي والإساءة قولاً وعملاً فإنها إذا ظُلمت أبطأت في طلب حقوقها والانتقام من الظالم واشتهر بهذه الصفة موسى النبي. وقيل في الله أنه «إِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلإِحْسَانِ» (خروج ٣٤: ٦). وأنه «رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ» (مزمور ١٠٣: ٨). وأمر أهل كولوسي بأن «يلْبَسُوا كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ» (كولوسي ٣: ١٢).

وَتَرْفُقُ أي تلطف لأنها تميل بصاحبها إلى اللطف والأنس والحنو وتدل به عن القسوة والعنف. ونُسب مثل هذه الصفة إلى الله بقوله «إَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (رومية ٢: ٤). وأوجب على المسيحيين في (٢كورنثوس ٦: ٦ وغلاطية ٥: ٢٢ و١بطرس ٣: ٨).

ولاَ تَحْسِدُ أي لا تحزن إذا حصل غيرها على نفع لم تحصل هي عليه. فكثيراً ما نتج عن الحسد البغض والخصام والإضرار وشهد سليمان بأن «الحسد نخر للعظام» (أمثال ١٤: ٣٠). وهو الذي حمل قايين على قتل أخيه (١يوحنا ٣: ١٢) وإخوة يوسف على بغضه والمؤامرة عليه (تكوين ٣٧: ٤ انظر أيضاً أمثال ٢٧: ٤ وأعمال ٧: ٩ و١٧: ٥).

ولاَ تَتَفَاخَرُ كالمدّعي الفضائل الطالب المدح الناس والشهرة فنيله ذلك غايته من كل أعماله.

وَلاَ تَنْتَفِخُ المنتفخ هو المتكبر المعجب بنفسه فهذا يظن أنه يفوق غيره جمالاً وحكمة وصلاحاً ويعتقد إطراء المتملقين عليه مما يتقنوه وهذا الانتفاخ هو علة التفاخر. ولعل الكورنثيين تفاخرو وانتفخوا بالمواهب التي امتازوا بها.

٥ «وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ».

ص ١٠: ٢٤ وفيلبي ٢: ٤

وَلاَ تُقَبِّحُ أي لا تأتي بما يجب الاستحياء منه أو يخالف قوانين الإنسانية واللياقة والنظام والأدب فالمحبة تحمل الناس على قيام بعضهم لبعض بالواجبات كالواجبات على الرجل لامرأته وعلى المرأة لزوجها وكذا على الأخ والأخت والابن والابنة والسيد والخادم والملك والرعية للآخر.

وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا بلا التفات إلى نفع غيرها أو ضرره. وكان بولس مثالاً في ذلك بدليل قوله «كَمَا أَنَا أَيْضاً أُرْضِي ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ طَالِبٍ مَا يُوافِقُ نَفْسِي، بَلِ ٱلْكَثِيرِينَ، لِكَيْ يَخْلُصُوا» (ص ١٠: ٣٣). وليس المراد أن لا يلتفت الإنسان إلى صحته أو ماله أو سعادته بل أنه لا يجوز أن يقتصر على الاهتمام بنفعه الذاتي ويغض نظره عن احتياج غيره وهذا على وفق قوله «لاَ يَطْلُبْ أَحَدٌ مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا هُوَ لِلآخَرِ» (ص ١٠: ٢٤). وقوله «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِٱلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية ١٢: ١٠) وكان المسيح خير مثال لذلك بدليل قوله «إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (٢كورنثوس ٨: ٩).

لاَ تَحْتَدُّ لأمر زهيد وتُظهر الغيظ والنقمة. بعض الناس يحتدون طبعاً وبعضهم لمرض أو وجع أو رزء أو خسارة فالمحبة تحمل الإنسان على مقاومة هذه الخلة وعلى الاجتهاد في أن يغلبها وقد نجح بعض الناس في ذلك بامتناعهم عن الكلام أو بالصلاة سراً مدة احتدادهم.

وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ لا تتوهم أن غيرها يريد إضرارها بل تنسب إليه المقاصد الحسنة في كل أعماله. وإذا تعدى اعتذرت عنه بأنه أتى ذلك جهلاً لا عن قصد التعدي وإذا لم تستطع الاعتذار عنه مالت إلى ستر ذنبه أكثر مما إلى كشفه. ومثال ذلك ما أتاه المسيح في أمر قاتليه إذ صلى من أجلهم قائلاً «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا ٢٣: ٣٤). وما أتاه استفانوس إذ صلى من أجل راجميه قائلاً «يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هٰذِهِ ٱلْخَطِيَّةَ» (أعمال ٧: ٦٠).

٦ «وَلاَ تَفْرَحُ بِٱلإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ».

مزمور ١٠: ٣ ورومية ١: ٣١ و٢يوحنا ٤

إن الإثم والحق في العالم والإنسان إما أن يميل إلى الأول ويفرح به وإما أن يميل إلى الثاني كذلك على ما تقتضيه أخلاقه. والشيطان وأتباعه يفرحون بالإثم ومحبو الله يسرّون بالحق وأصحابه ويلتصقون فيهم. ويحزن أهل المحبة من أن يروا غيرهم يقعون في الإثم ويُعاقبون عليه. ومن امتداد الضلال ويحذرون من الغيبة والوشاية. والفرح بالحق هو المسرّة بالبر وإظهار أثماره بين الناس وانتشاره في الأرض. وشهد المسيح بمثل هذه السجية لكنيسة أفسس في قوله «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ ٱلأَشْرَارَ» (رؤيا ٢: ٢).

٧ «وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ».

رومية ١٥: ١ وغلاطية ٦: ٢ و٢تيموثاوس ٢: ٢٤

وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ من التعدّيات الشخصيّة. والمعنى أنها تصبر على الأذى ولا تفتح فاها بالشتم ولا تنادي بالذنوب على أنها لا تسكت على تعدّي الناس لشرائع الله وحقوق القريب بل تبكتهم وتشهد على المتعدي إذا طلبت شهادتها لكي يُعاقب.

وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ يمكن تصديقه من حجج المتهمين وتعتقد حسن نوايا الناس وإن ظهرت أعمالهم غير حسنة وصحة قول المصرحين بتوبتهم عن خطاياهم ورجوعهم إلى الله وسبيل البر.

وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ الذي يشتهيه الإنسان يرجوه غالباً فمن أحب جميع الناس رغب في أن يعملوا الصلاح وينجحوا في هذا العالم وفي العالم الآتي ورجا أن يتم لهم ذلك وأن يتوب الأشرار ويرجعوا إلى الله. ومن أحب المسيح رجاء امتداد ملكوته في العالم وسرعة مجيئه ثانية.

وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ من الاضطهادات والبلايا من أجل البر غير طالبة الانتقام من المضطهدين بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ (أي في الإنجيل) أَحْتَمِلُ ٱلْمَشَقَّاتِ حَتَّى ٱلْقُيُودَ كَمُذْنِبٍ… لأَجْلِ ذٰلِكَ أَنَا أَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (٢تيموثاوس ٢: ٩ و١٠). وقوله «بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ. مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ ٱلَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هٰكَذَا. لأَنَّكُمْ… قَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَبَاقِياً» (عبرانيين ١٠: ٣٢ – ٣٤ و١٢: ٢). والمرجّح أن الفرق بين الأشياء التي تحتملها المحبة على ما في الجملة الأولى والأشياء التي تصبر عليها على ما في هذه الجملة هو أن الأولى التعدّيات الشخصية الوقتية الصغيرة والثانية الدائمة الثقيلة التي في سبيل الحق.

ولعل في هذه الآية بيان عمل المحبة تدرجاً وهو أنها في أول الأمر لا تبالي بالتعدي لظنها أنه سهو أو أنه لا يُعاد. فإذا تكرر صدقت اعتذار مرتكبه في أنه لم يقصد الأضرار. فإن لم تستطع تصديقه لكثرة تكرار التعدي رجت أن ينتبه المتعدي لشر عمله ويتوب. وإن لم يبق من سبيل إلى تصديق أعذاره ولا إلى رجاء إصلاحه لعدم عدوله عن الشر احتملت تعديه بصبر وتركت الأمر لله اقتداء بالمسيح الذي «تَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء ٥٣: ٧).

٨ «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً. وَأَمَّا ٱلنُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَٱلأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَٱلْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ».

اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً المحبة أعظم من كل المواهب الروحية المختصة بالحياة الحاضرة لأنها مقترنة بالحياة الخالدة في السماء.

وَأَمَّا ٱلنُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ لأنها متى بلغت غايتها. انتهت لتمام ما أنبأت به ولإعلان ما كان مكتوباً فيها. والكنيسة الآن غير محتاجة إلى هذه الموهبة لتقوية إيمانها ولإثبات شهادتها.

وَٱلأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي أي موهبة التكلم بألسنة غريبة تبطل. فإن الروح القدس وهب هذه الآية وسائر المعجزات للكنيسة شهادة بصحة الإنجيل فبعد أن قُدمت شهادتها وأُثبت الحق بها بطلت لعدم الحاجة إليها. وكما أن الكنيسة اليوم غير محتاجة إلى اللغات الغريبة التي احتاجت إليها في القرن الأول كذلك لا تحتاج إلى شيء من لغات البشر حين تكون في السماء. وأظهر الرسول بما قاله هنا أن الذين في كنيسة كورنثوس فضلوا التكلم بالألسنة على سائر المواهب والفضائل ففضلوا الوقتي على الأبدي. إن إكثار الألسنة كان عقاباً لبناة برج بابل على كبريائهم وعصيانهم (تكوين ص ١١) فمتى زالت عواقب الخطيئة عنا زالت هذه العاقبة.

وَٱلْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ قصد «بالعلم» هنا نوعاً منه وهو الذي ذُكر في (١٢: ٨ – ١١) إنه موهبة خاصة للمعلمين والمبشرين.

كانت نسخ العهد القديم في أيام الكنيسة الأولى قليلة ولم يكن العهد الجديد قد كُتب وبعد ما كُتب لم يوزع إلا قليل منه ولم يكن للمسيحيين من مدرسة لاهوتية وكان أكثر التعليم مشافهة فاحتاج معلمو الكنيسة لتحصيل معرفة الحق إلى وسائط خارقة العادة لا حاجة إليها الآن والكتاب المقدس كله في أيدي الكنيسة وقد تُرجم إلى أكثر لغات العالم. والذي يظهر أن هذا هو المراد «بالعلم» ما في الآية العاشرة من أن العلم العادي يكمل لا يبطل. وإن كان مراده «بالعلم» أهله أي المعلمون الذين يبلغونه هنا فالأمر واضح أننا لا نحتاج إليهم في السماء لأن «الجميع يكونون متعلمين من الله». ولعل بولس أراد أن علمنا هنا بالنسبة إلى علمنا في السماء وجيز إلى حد أنه لا يستحق أن يعتبر. فكما أن علم الطفل لا يُحسب شيئاً بالنسبة إلى ما يحصله من العلم حين يبلغ كمال الرجولية كذلك علمنا هنا لا يُحسب شيئاً بالنسبة إلى علمنا حين نكمل في السماء إن المصباح في ظلمة الليل ذو شأن ولكن ضوءه لا يظهر في ضوء الشمس فيصير كأنه لا شيء.

٩، ١٠ «٩ لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. ١٠ وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ».

ذكر الرسول في هاتين الآيتين علة زوال النبوة والعلم من تلك المواهب كونهما موهبتين جزئيتين وقتيتين مختصتين بحال طفوليتنا على هذه الأرض ولا نحتاج إليها في السماء. فإعلانات الأنبياء ليست سوى لمحات لما نعلمه في السماء. والذي بلّغنا إياه المعلمون ليس إلا ظلال الحقائق وإشارات إليها لا نحتاج إليها حين نحصل على الحقائق نفسها.

مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ أي الإعلان التام وقوة الإدراك الكاملة. وهذا كقوله «إنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (حبقوق ٢: ١٤).

مَا هُوَ بَعْض هو الإعلان الذي وهبه لنا الله هنا موافقاً لعقولنا الضعيفة. فهذا بالنسبة إلى الإعلان الكامل في السماء كالمصابيح تحتاج إليها ليلاً ولا نكترث بها بعد شروق الشمس (أفسس ٤: ١٣ و١٤).

١١ «لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلٰكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ».

أشار بهذا إلى ما يكون من الفرق بين حالنا هنا وحالنا في الآخرة بمقابلته حال الإنسان طفلاً بحاله رجلاً كاملاً من جهة أفكاره وأقواله وأعماله.

طِفْلاً تدل القرينة على أنه أراد «بالطفل» الصغير القادر أن يتكلم ويستعمل عقله.

كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ أي بألفاظ بسيطة تناسب قليل العلم. ولا دليل على أنه قصد بذلك أن موهبة الألسنة كلغو الأولاد.

كَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ أي كنت قصير الأفكار ناقص الفهم. وتحتمل الكلمة اليونانية المترجمة «بأفطن» هنا معنى أهتم وتُرجمت به بذلك في (متّى ١٦: ٢٣ ورومية ٨: ٥ وكولوسي ٣: ٢). وإذا أخذنا هذا المعنى هنا هان علينا الفرق بينه وبين معنى «افتكر» في ما يلي. فيكون مقصود الرسول أن أمياله كانت كأميال الولد مثل أنه يميل إلى اللعب أكثر مما يميل إلى العلم.

كَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ أي كنت أستدل على تلك الأمور استدلال الأطفال واعتبر الأشياء اعتبارهم واستنتج استنتاجهم.

لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ أي كما يُرى مني الآن في التكلم والوجدان والعقل. وهذا لا يستلزم بطلان ما يراه الوالد ويعلمه بل نقص ذلك. فإنه يرى النجوم كما هي لكن افتكاره فيها يختلف كثيراً عن افتكار الفلكي. كذلك افتكارنا على الأرض في الإلهيات لا يكون دائماً باطلاً ولا مناقضاً للافتكار في السماء إنما هو ناقص هنا بالنسبة إليه هناك. فكل ما أعلنه الله في كتابه بروحه حق لكنه قليل من كثير وهذا القليل لا تقدر عقولنا أن تدركه إدراكاً كاملاً. وليست غاية الرسول من هذا أن يحملنا على أن نشك في علمنا الحاضر وأن نحتقره بل أن يحملنا على عدم الاكتفاء والافتخار به.

١٢ «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. ٱلآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ».

٢كورنثوس ٣: ١٨ و٥: ٧ وفيلبي ٣: ١٢ عدد ١٢: ٨ ع ١٠ متّى ١٨: ١٠ و١يوحنا ٣: ٢ ص ٨: ٣ وغلاطية ٤: ٩

في هذه الآية تشبيه ثان لبيان الفرق بين علمنا ونحن على الأرض وعلمنا ونحن في السماء.

نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ كانت مرايا تلك الأيام صفائخ صقيلة من المعدن وصور الأشباح فيها ناقصة غير واضحة. ومثلها وسائط معرفتنا للحقائق الإلهية هنا لأن الكلمات والإشارات والأمثال التي أعلن الله تلك الحقائق بها لم توضحها تمام الإيضاح فلم تزل في شيء الإبهام والخفاء.

فِي لُغْزٍ أصل اللغز عند الحكماء كلام يشير إلى المقصود إشارة خفية فلا يُعلم إلا بعد الروية فيُعرف به ذكاء مؤلفه ونباهة حاله ثم أُطلق على كل كلام أُبهم معناه وهو المراد به هنا. قال الله لبني إسرائيل في شأن موسى «فَماً إِلَى فَمٍ وَعَيَاناً أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِٱلأَلْغَازِ» (عدد ١٢: ٨). وأراد بذلك أن إعلاناته لموسى كانت في غاية الوضوح خلاف ما كانت لغيره سابقاً فإنها كانت بالرؤى والأحلام فأشبهت الألغاز. وقال بولس في (٢كورنثوس ٣: ١٢ و١٣) ما معناه أن إعلانات الله لموسى كانت كالألغاز بالنسبة إلى إعلانات الإنجيل. وقال هنا أن إعلانات الإنجيل كالألغاز بالنسبة إلى الإعلانات في السماء.

حِينَئِذٍ أي «متى جاء الكامل» (ع ١٠).

وَجْهاً لِوَجْهٍ أي أننا في السماء نحصل على معرفة الحقائق بالمشاهدة لا بوسائط ناقصة كما نحصل عليها الآن بالرموز والإشارات الخفية والكلام الضعيف الدلالة. وهذا على وفق قول يوحنا الرسول «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢).

سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ أي أن معرفتنا في السماء تكون كاملة كما أن معرفة الله إيانا كاملة. قال المرنم «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ… الخ» (مزمزر ١٣٩: ١ – ٦).

إننا لا نعلم كل ما يعلمه الله لكن الذي نعلمه إنما نعلمه تمام العلم. وغاية الرسول من هذا أن يقنع مسيحي كورنثوس أن مواهب الروح الخاصة التي افتخروا بها هي أمور زهيدة بالنسبة إلى ما أعده الله لشعبه في السماء.

١٣ «أَمَّا ٱلآنَ فَيَثْبُتُ ٱلإِيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ، هٰذِهِ ٱلثَّلاَثَةُ وَلٰكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ».

أَمَّا ٱلآنَ هذا يشير إلى أن الذي بعده نتيجة ما قبله فكأنه قال والحالة هذه.

فَيَثْبُتُ ٱلإِيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ صرّح قبلاً بأن مواهب الروح وقتية زائلة وصرّح هنا بأن هذه الثلاثة تبقى في الكنيسة على مر الزمن مهما اعتراها من التغيرات لأنها ضرورية للحياة الحاضرة والحياة المستقبلة. وسبق مثل هذا في المحبة بقوله في الآية الثامنة «المحبة لا تسقط أبداً» وزاد عليها هنا فضلتين وصرّح بأن كلا من الثلاثة ثابت إلى الأبد. وتظهر المنافاة في بادئ الرأي بين قوله هنا وقوله «لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً» (رومية ٨: ٢٤). فإن هنا دلالة على أن الرجاء يبطل في السماء لحصول ما كان يُرجى. وقوله «لأَنَّنَا بِٱلإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِٱلْعَيَانِ» (٢كورنثوس ٥: ٧) وهذا يوهم أن لا داعي للإيمان في السماء لأننا نرى هنالك كل شيء عياناً. وقوله «أَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين ١١: ١). وهذا يوهم أيضاً أن الإيمان يبطل عند نيل ما يُرجى ورؤية ما كان يؤمن به فكأن الإيمان والرجاء مختصان بهذه الحياة الزائلة وهذا حق في كثير مما نؤمن به الآن ونرجوه. فإن كل ما نؤمن به الآن عندما نراه في السماء يزول الإيمان به. وكل ما نرجوه هنا حين نحصل عليه في السماء يزول رجاؤنا إياه. ومن هذه الأمور وجود السماء وقيامة الموتى ودخولنا ملكوت المجد والملائكة ومشاهدتهم ومشاهدة القديسين والمسيح نفسه وتغيرنا إلى صورته ونيلنا كمال القداسة والسعادة. وهذا كله لا يمنع أن الله يعد شعبه مواعيد جديدة يؤمنون بها ويرجونها ويرجون التقدم إلى الدرجة العليا في السماء من المعرفة والسعادة. ولا يأتي وقت من أوقات المستقبل لا نؤمن فيه بالمسيح مخلصنا ونعمته الواقية من السقوط. ولا نصل إلى قنة عالية من المعرفة والسعادة لا يستطيع الباري أن يزيدنا عليها ولا يستطيع المؤمن أن يرجوه. فمهما نال القديسون من اللذات لم تكن كاملة إلا بأن يكون لهم رجاء دوامها أو زيادتها.

ورأى بعض المفسرين أن المراد من قوله «أما الآن» مدة بقائنا في هذا العالم وعلى ذلك كان معنى الآية أن تلك الفضائل الثلاث تبقى في الكنيسة بخلاف المواهب الخاصة التي كانت إلى حين. والقرينة تدل على أن الرسول قابل هنا الأمور المختصة بهذا العالم بالأمور الباقية في العالم الآتي. وقال في ع ٨ «إن المحبة لا تسقط أبداً» وأبان في هذه الآية أن الإيمان والرجاء يثبتان معها.

أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ وعلة ذلك أنها أنفعهن. أوصى الرسول مسيحي كورنثوس أن «يجدوا للمواهب الحسنى» أي التي هي أنفع (ص ١٢: ٣١). وقال أيضاً «مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ، إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ، حَتَّى تَنَالَ ٱلْكَنِيسَةُ بُنْيَاناً» (ص ١٤: ٥). وبهذا القانون حكم أن المحبة أعظم من الإيمان والرجاء. إن الإيمان يخلص صاحبه وهو واسطة إلى نيله الخير. وإن الرجاء يملأ صاحبه سروراً ويقتصر نفعه عليه كالإيمان ولكن المحبة تجعل صاحبها نافعاً لكثيرين وتحمله على خدمتهم ولذلك كانت أعظم منهما بناء على القاعدة التي وضعها المسيح وهي قوله «مغبوط العطاء أكثر من الأخذ» (أعمال ٢٢٠: ٣٥). فإن قيل علة كون المحبة أعظم من الإيمان كون نتائجها أعظم قلنا ذلك لا يمكن إثباته فإننا بالإيمان والمسيح يحل بالإيمان في قلوبنا والذي يؤمن له حياة أبدية ولا يمكن أن يكون لفضيلة أخرى أعظم من هذه النتائج وكذا ليست العلة كون المحبة أبقى من الإيمان والرجاء بدليل حكمه مساواة الفضائل الثلاث في البقاء. فإن قيل إن علل أعظميتها كونها من صفات الله وأن الله امتاز بأنه محبة (١يوحنا ٤: ٨) وأن أتقياء الناس امتازوا عن غيرهم من البشر بالإيمان والرجاء فهما يتعلقان بالألسنة باعتبار كونها مخلوقاً والمحبة من وجوه مشابهته لله قلنا هذا حق وكذا القول بأنها مجموع كل الواجبات المعلنة في الناموس والأنبياء.

فوائد

  1. إنه ليس من أحد أولى من بولس بالحكم بأفضلية المحبة إذ لم يكن لأحد إيمان أقوى من إيمانه ولم يحصل أحد على مثل ما حصل عليه من أسرار العلم الإلهي. ولم ينل أحد مثل ما ناله من المواهب الروحية الخاصة. ولم يُظهر أحد أكثر مما أظهر هو من الشجاعة والصبر في احتمال الأرزاء فإنه شهد من اختباره كما شهد من الوحي بأن كل مواهب الفصاحة والقوة وكل أعمال الرحمة والإقدام ليست شيئاً بدون المحبة (ع ١ – ٣).
  2. إن الواعظ الذي في فمه فصاحة وليس في قلبه محبة كعود جميل يأتي بمطرب الألحان ولكنه لا يشعر البتة بجماله وتطريبه (ع ١).
  3. إن الناس لا يفتأون يمدحون الفصحاء والعلماء والكرماء والشجعان ويغفلون عن الذين يقومون بصغار الواجبات بالأمانة حباً لله وشكراً للمسيح بلا التفات إلى مدح الناس (ع ١ – ٣).
  4. ما قيل هنا يثبت بطلان توقع الناس الخلاص بالأعمال الصالحة لأنه فضلاً عن أنها قليلة تنشأ عن مقاصد ذاتية تفسدها فلا يرضاها الله (ع ١ – ٣).
  5. إن الصدقات من إثمار المحبة لا المحبة نفسها فيجب أن تشغل القلب لا اليد فقط. وقيمة الصدقة عند الله لا تتوقف على مقدارها بل على مقدار المحبة المقترنة بها (ع ٣).
  6. إن خلاص الإنسان لا يتوقف على عمله ولا على مواهبه العقلية ولا على فصاحته ولا على صلاح أعماله ولا على شدة تجلده بل على حالة قلبه أمام الله فإن أحب الله اتحد به فصار مثله (ع ١ – ٤).
  7. إن الإنسان إذا تجرد عن كل مقتنياته ولم يتجرد عن حب الذات والكبرياء فماذا ينتفع وإن ترك جسده يحترق في اللهب ولا تأثير لمحبة المسيح في قلبه يضرم فيه الشوق إليه فماذا يستفيد (ع ٣).
  8. إنه يتضح مما ذُكر من صفات المحبة إن أفضل المسيحيين غير كامل هذه الفضيلة فأين المسيحي الذي يحب حسب قانون المحبة في هذا الأصحاح. لكن كما أن صفات الذهب المعلومة حقة باقية وإن لم يخل من وافر الخبث كذلك لا تزال صفات المحبة باقية على مقتضى طلب الله ووصف الرسول هنا وإن كانت مختلطة بالخطيئة في كل أولاد آدم (ع ٤ – ٧).
  9. إن الرسول هنا وصف محبة بعض الناس لبعض دون محبة الناس لله لأننا نقدر أن نقف على براهين محبتنا للناس بتصرفنا معهم ولكن يعسر علينا أن نقف على البراهين التي تثبت صحة دعوى من يدعي أنه يحب الله (ع ٤ – ٧ انظر أيضاً ١يوحنا ٣: ١٦ و١٧ و٤: ٢٠ و٢١).
  10. إن الثلج حين يقع على الأرض يغطي كل الأشياء القبيحة المنظر بغطاء أبيض طاهر فلا يرى شيء مكروه كذلك المحبة تستر كل عيوب المحبوب عن عيون الناس وترجو أنه يتوب وأن يستر ثوب بر المسيح كل خطاياه عن عيني الديان العظيم (ع ٥).
  11. إن ما يحسبه الناس محبة وصداقة كثيراً ما يكون تجارة الغاية منها النفع الذاتي فتعطي بييد وتتوقع أن تأخذ بيدين (ع ٥).
  12. إن جمرة النار إذا سقطت في البحر لا تضره وهي تنطفئ فإذا اعترى النفس المُحبة ما من شأنه أن يكدّر ويزعج فمتى لقيها خسر قوته المقلقة فتحول وسيلة إلى السلام والراحة (ع ٧).
  13. إذا غُرست المحبة السماوية في قلوبنا وهي كنبتٍ رخصٍ في أرض يابسة فإن النعمة الإلهية كشمس تشرق عليها وتقويها كما يتقوى النبات بالندى والمطر فيكون ذلك تحقيقاً لقوله تعالى إنها لا تزال تنمو حين تنتهي النبوآت وتبطل ألسنة البشر وتزهر وتثمر في فردوس الله الأعلى (ع ٨).
  14. إن في تيجان الملوك جواهر كثيرة ولكن إكليل المسيحي المحبة لأنها أعظم الفضائل. وذكر الرسول خمس عشرة جوهرة في هذا الإكليل وصرّح بأن ذلك الإكليل يبقى جمالاً ومجداً للمسيحي بعد أن تفنى تيجان الملوك وتصبر تراباً (ع ٨).
  15. إن العلم الذي نحصل عليه هنا وإن كا ن قليلاً وناقصاً هو علة لذة لا تُثمن فماذا تكون سعادتنا حين تُبدل قطرات علمنا هنا ببحر العلم الإلهي هناك (ع ٩ و١٠).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى