كورنثوس الثانية

الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 11 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الحادي عشر

اعتذار بولس على مدحه نفسه بأنه اضطر إليه على رغمه ومقابلته نفسه بالمعلمين الكاذبين وأتعابه بأتعابهم.

ما حمل الرسول على مدحه نفسه ع ١ إلى ١٥

سبق كلام الرسول في عدم لياقة أن يمدح الإنسان نفسه لكنه اضطر إليه لافتراء أعدائه عليه لأنهم أفسدوا ثقة مؤمني كورنثوس به وصرفوهم عن المسيح كما نادى به عندهم. وهذا ألجأه إلى إقامة البراهين لإثبات سلطته الرسولية عليهم وفضله على مدحه نفسه (ع ١). ولم يأت ذلك إلا حباً لهم واهتماماً بنفعهم (ع ٢ و٣). وعلى أنه يحق له أن يهتم بأمرهم لأنهم أصغوا طوعاً للذين نادوا لهم بإنجيل آخر (ع ٤). وقال ذلك لأنه مساوٍ لأحسن الرسل وليس أقل في شيء من الذين ادعوا أنهم أفضل منه (ع ٥). وقال إن سلمتم أن لأولئك فصاحة الكلام لا تستطيعوا أن تنكروا مما علمتم ورأيتهم مني أن لي معرفة في الأمور الروحية وأن لي كل ما يختص بالرسولية وذلك ليس لهم (ع ٦). وإباؤه أن يقبل نفقة من الذين بشرهم بالإنجيل مما يحق له ليس بضار لهم ولا يناف كونه رسولاً (ع ٧ – ٩) وإن علة إبائه ذلك من مسيحي أخائية أمران الأول أن لا تكون عثرة لمن ظنوا أنه لم يبشر إلا لربح دنيوي والثاني امتحان المعلمين الكاذبين هل يأتون بمثل هذا البرهان على إخلاصهم (ع ١٠ – ١٢). إن أولئك المعلمين ادعوا أنهم رسل لكنهم لم يكن حق في ذلك أكثر من أن يكون للشيطان حق في أن يدعي ملاك نور.

١ «لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلاً! بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ».

ص ٥: ١٣ و ع ١٦ و١٧ و٢١

غَبَاوَتِي مدح المعلمون المفسدون أنفسهم من إعجابهم بذواتهم ومدح الرسول نفسه لتبرئتها فالغاية مختلفة والأمر واحد وهو مدح النفس ولذلك سماه الرسول «غباوة» لأنه من صفات الجهلاء غالباً.

بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيّ لم ير من الضرورة أن يطلب احتمالهم إياه لعلمه أنهم يميلون إليه أو لأنه وجدهم في ما مضى مستعدين لذلك فاكتفى أن يطلب إليهم المثابرة على ما عهده منهم.

٢ «فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ ٱللّٰهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ».

غلاطية ٤: ١٧ و١٨ وهوشع ٢: ١٩ و٢٠ لاويين ٢١: ١٣ كولوسي ١: ٢٨

أبان في هذه الآية على وجوب أن يحتملوه على مدح نفسه وهي حسن غايته منه.

أَغَارُ عَلَيْكُمْ كما يفعل الرجل الذي يحب زوجته خيفة من أن تحب سواه. وكثيراً ما يعبر الكتاب عن النسبة التي بين الله وشعبه بالنسبة بين الرجل وامرأته وأن الله غيور أي يغتاظ كثيراً من أن يحب شعبه سواه من الآلهة ويعبده (إشعياء ٥٤: ٥ و٦٢: ٥ وحزقيال ص ١٦ وهوشع ص ٢٩).

غَيْرَةَ ٱللّٰهِ أي الغيرة التي أنشأها الله فيه وكانت غايته منها حفظ حقه تعالى ومجده لا الغيرة النفسانية فهي كغيرة الله على كنيسته.

لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ يحق لبولس أن يغار عليهم لأنه كان وسيلة إيمانهم بالمسيح واقترانهم به (١كورنثوس ٤: ١٥ و٩: ١). ولعله أراد ما أراده يوحنا المعمدان أن بتسمية نفسه «بصديق العريس» (يوحنا ٣: ٢٩). وعلى هذا حسب ربانيو اليهود موسى «صديق العريس» بالنظر إلى الإسرائيليين لأنه أتى بهم إلى معاهدة الله. فاهتم بولس بحسن نسبة كنيسة كورنثوس إلى المسيح حتى أنه كان شديد الرغبة في أن تكون تلك الكنيسة أمينة في حبها للمسيح وطاعتها له واتكالها عليه.

لِرَجُلٍ وَاحِدٍ على وفق ما رسمه الله في الزيجة الأولى وهو أن تكون امرأة واحدة لرجل واحد. كذلك على الكنيسة المسيحية أن تقترن بالمسيح بعلاً وسيداً ولا تكون إلا له.

لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ الخ عند مجيئه ثانية ومعناه هنا كمعنى قوله «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أفسس ٥: ٢٧) رغب بولس في أن تبقى كنيسة كورنثوس أمينة في عهودها ليقدمها «كعروس مزينة لرجلها» (رؤيا ٢١: ٢) فلا تُرفض كمن خانت بعهدها.

٣ «وَلٰكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هٰكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ».

تكوين ٣: ٤ ويوحنا ٨: ٤٤ أفسس ٦: ٢٤ وكولوسي ٢: ٤ و٨ و١٨ و١تيموثاوس ١: ٣ و٤: ١ وعبرانيين ١٣: ٩ و٢بطرس ٣: ١٧

أَخَافُ لم يزل بولس يخاطب كنيسة كورنثوس كعذراء مخطوبة كما في الآية السابقة خائفاً من أن توجه عواطفها إلى غير المسيح فكان خوفه علة ما ذُكر من غيرته. فإنه لم يعتبرها أنها أعرضت عن المسيح بل أنها على غاية الخطر من ذلك نظراً لتجاربها.

كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَوَّاءَ هذا أعظم مثل في تاريخ العالم ثبوت القلب البشري والنتائج الهائلة من الإعراض عن الله. إن حواء خُلقت طاهرة وكانت في الفردوس لها كل الدواعي التي نستطيع تصورها إلى أن تبقى أمينة لله لكنها سقطت بحيلة المجرب. والمقصود من الحية هنا ما ذكره موسى في الأصحاح الثاني من سفر التكوين. والمجرب هو الشيطان في صورة الحية (انظر ١تيموثاوس ٢: ١٤ ورؤيا ١٢: ٩ و١٥). فإن الشيطان خدع حواء بأن حملها على الشك في الحق والتصديق للباطل بأن أنشأ في قلبها أن تشتهي ما نهى الله عنه. فخاف بولس من أن المعلمين الكاذبين الذين هم آلات الشيطان يخدعون مؤمني كورنثوس.

تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ إفساداً أدبياً في أفكارهم وأشواقهم وأميالهم.

عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ الخ هذا تأثير الفساد وهو أن يتحولوا عن خلوص حبهم للمسيح وطاعتهم له بالاتكال على غيره كما تُفسد محبة العروس لزوجها.

٤ «فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعٍ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ رُوحاً آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ، أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ، فَحَسَناً كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ».

ما في هذه الآية مرتبط بالآية الأولى ومعناها ليس واضحاً كل الوضوح فلعله أراد احتملوني على جهالة افتخاري لأنه إذا أتاكم علم كاذب ونادى بمسيح جديد كاذب وروح آخر كاذب وإنجيل مزور على وفق قوله «إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هٰكَذَا سَرِيعاً عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ» (غلاطية ١: ٦) احتملتم افتخاره بنفسه وبتعليمه. أو معناها لو أمكن أن يأتيكم مناد بمسيح آخر حق أو روح آخر غير الروح الذي فعل فيكم وبشرناكم به لكان لكم حق أن ترحبوا به وتصغوا له.

ٱلآتِي لا معلم كاذب بعينه بل صنف المعلمين الكاذبين.

يَكْرِزُ بِيَسُوعٍ آخَرَ أي غير يسوع الناصري ابن مريم الذي هو المسيح المخلص.

تَأْخُذُونَ رُوحاً آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ حين آمنتم. إنهم نالوا بإيمانهم بيسوع المسيح الروح القدس فكان حلوله على المؤمنين والمواهب العجيبة التي أعطوها برهاناً على صحة إنجيل المسيح (غلاطية ٣: ٢ وعبرانيين ٢: ٤) ففرض الرسول هنا المستحيل ممكن الوقوع وهو أنه متى أتى المعلمون الكاذبون يكرزون بمسيح آخر غير يسوع الناصري أثبتوا تعاليمهم بروح آخر أعطاهم آيات أخرى لم يهبها الروح القدس الذي شهد لتبشير بولس.

أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ كان إنجيل بولس أن يسوع الناصري هو المسيح الحقيقي مخلص العالم وهم قبلوه بإيمانهم به ففرض أن المعلمين الكاذبين أتوا بمسيح آخر مخلصاً وبشروط للخلاص غير الشرط الذي أعلنه لهم وهو الإيمان.

فَحَسَناً كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ أي كان لكم عذر كاف في ما فعلتم أو في احتمالكم ذلك الصنف من المعلمين ولا يخفى ما في كلام الرسول هنا من التهكم لأنه من المحال أن يأتي أحد بمسيح خير من المسيح الذي بشر به بولس وروح أعظم من الروح الذي أعلنه وإنجيل جديد أفضل من الإنجيل الذي نادى به ومع ذلك ظهر من فعل الكورنثيين إن ما فرضه كان صحيحاً عندهم فإنهم قبلوا أولئك المعلمين الكاذبين بل فضلوهم عليه.

٥ «لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئاً عَنْ فَائِقِي ٱلرُّسُلِ».

١كورنثوس ١٥: ١٠ وع ١٣ وص ١٢: ١١ وغلاطية ٢: ٦

هذه الآية أيضاً متصلة بالآية الأولى ومعناها «احتملوني لأني أحسب الخ» لا ريب في أن أعداء بولس قابلوه بسائر الرسل وادعوا أنه دونهم وخاصة لأنه فتح باب الكنيسة للأمم الغلف.

فَائِقِي ٱلرُّسُلِ أي بطرس ويعقوب ويوحنا (غلاطية ٢: ٩) وهذا تصريح من بولس بأنه مثل أعظم الرسل في المواهب والأتعاب والنجاح وذلك دليل قاطع على أن المسيح اختاره رسولاً وبناء على ذلك كان يستحق ما استحقه الرسل من الاعتبار والطاعة.

ذهب بعضهم إلى أنه قصد «بفائقي الرسل» المعلمين الكاذبين نظراً إلى عظمة دعواهم التي بها أعلنوا أنهم فوق الرسل بناء على قولهم أنهم نواب كنيسة أورشليم التي هي أم الكنائس وأنهم نظروا المسيح وسمعوه وهو على الأرض في الجسد.

٦ «وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيّاً فِي ٱلْكَلاَمِ فَلَسْتُ فِي ٱلْعِلْمِ، بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ».

١كورنثوس ١: ١٧ و٢: ١ و١٣ وص ١٠: ١٠ أفسس ٣: ٤ ص ٤: ٢ و٥: ١١ و١٢: ١٢

عَامِّيّاً فِي ٱلْكَلاَمِ كان بولس قد درس العلوم في كلية طرسوس المشهورة لكنه لم يدرس الفلسفة والمنطق والبيان والفصاحة في المدارس اليونانية حتى يستحق أن يُدعى خطيباً منطقياً ولهذا قال «ٱلْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ ٱلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١: ١٧). ولكنه اتكل على قوة الروح القدس لكي يجعل كلامه مؤثراً (١كورنثوس ١: ٢٤). فكان يتكلم باللغة اليونانية كما كان يتكلم عامة اليهود بها. ولعل بعض خصومه افتخروا بأنهم كانوا أفصح منه في اليونانية ولذلك احتقروه.

فَلَسْتُ فِي ٱلْعِلْمِ لأنه تعلم من المسيح رأساً (غلاطية ١: ١٢) وعرف حق المعرفة كل ما وُكل إلى الرسل من التعاليم كما يتبين من قوله «نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ» (١كورنثوس ٢: ٧ و٨ انظر أيضاً أفسس ٣: ٤ و ٥).

فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ يوم كان يبشر ويعلم بينهم فكان لهم فرصة أن يعرفوا معرفته بكل ما يتعلق برتبته الرسولية فلا حاجة إلى أن يبسط لهم الكلام على ذلك. وكانت حجته كحجة المسيح تجاه حنّان رئيس الكهنة (يوحنا ١٨: ٢٠).

٧ «أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ، لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّاناً بِإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ؟».

أعمال ١٨: ٣ و١كورنثوس ٩: ٦ و١٢ وص ١٠: ١

استفهم الرسول هنا عن أنه هل كان إباؤه أن يطلب حقه الرسولي وهو أن يأخذ النفقة من الكنائس التي خدمها دليلاً على أنه ليس برسول.

أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً حتى أنكرتم علي الرسولية.

إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي بتركي الحق المختص بالرسل (١كورنثوس ٩: ١٣ و١٤). وقيامي بحاجات نفسي بتعب يديّ.

ادعى خصومه أنه اعترف بكونه ليس برسول لأنه بعدما صرّح أن للرسول حق أخذ نفقته من الكنائس لم يأخذ لنفسه النفقة منها.

كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ أي تنتفعوا بالفوائد الروحية فترغبوا في قبول الإنجيل مني أكثر مما كنتم ترغبون فيه لو أخذت منكم النفقة.

لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّاناً هذا تفسير ما سبق من كلامه وهو أن أعداءه اتخذوا ذلك دليلاً على أنه ليس برسول كما يبين من (١كورنثوس ص ٩). فسألهم هنا هل وافقوه أعداءه على هذا الاستدلال الباطل ونسوا أن ليس لهم وجه آخر يحتجون به عليه.

٨ «سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى آخِذاً أُجْرَةً لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ، وَإِذْ كُنْتُ حَاضِراً عِنْدَكُمْ وَٱحْتَجْتُ، لَمْ أُثَقِّلْ عَلَى أَحَدٍ».

أعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٢: ١٣ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨ و٩

سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى ليس للسلب هنا سوى معنى واحد وهو أنه أخذ من كنائس مكدونية ولا سيما كنيسة فيلبي ما كان يحق له أن يأخذه من مؤمني كورنثوس. إنه أخذ منها ما احتاج إليه للنفقة علاوة على ما استطاع تحصيله من عمل يديه. ولم يأخذ من كنائس مكدونية إلا ما أعطوه تبرعاً بسرور.

لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ كانت غايته الوحيدة في قبول المساعدة من الكنائس الأخرى أن يخدم كنيسة كورنثوس ويأتي بمن لم يؤمنوا هنالك إلى المسيح.

٩ «لأَنَّ ٱحْتِيَاجِي سَدَّهُ ٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتُ نَفْسِي غَيْرَ ثَقِيلٍ عَلَيْكُمْ، وَسَأَحْفَظُهَا».

أعمال ١٨: ٥ وفيلبي ٤: ١٠ و١٥ و١٦ ص ١٢: ١٤ و١٦

يتبين مما قيل هنا أن بولس حين أتى كورنثوس للتبشير كان معه بعض الدراهم مما أخذه من كنائس أخرى وبذلك وبما حصله من تعب يديه سد احتياجاته بعض الوقت ولمّا نفد كل ما عنده أخذ ما احتاج إليه من الإخوة المكدونيين فلم يستحسن أن ينبئهم بأنه حصّل بعض أسباب معاشه من تعب يديه فاقتصر على أنه أبان لهم أنه أخذ حين الحاجة من كنائس أخرى النفقة التي امتنع أن يأخذها منهم.

فالظاهر أن الرسول لم يسلك على قانون واحد في هذا الأمر. قال للأفسسيين «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ» (أعمال ٢٠: ٣٤). وقال للتسالونيكيين «إِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَاراً كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ» (١تسالونيكي ٢: ٩). وقال أيضاً «وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزاً مَجَّاناً مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَاراً، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ» (٢تسالونيكي ٣: ٨). وقال لوقا «لِكَوْنِهِ (أي كون بولس) مِنْ صِنَاعَتِهِمَا (أي أكيلا وبريسكلا) أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ» (أعمال ١٨: ٣) وأخذ من فيلبي هدايا مراراً وهو يجول (فيلبي ٤: ١٦). وحين كان مسجوناً في رومية أرسل الفيلبيون إليه نفقات على يد أبفروديتس (فيلبي ٤: ١٨) فكان مستعداً أن يأخذ النفقات التي يستحقها باعتبار كونه رسولاً (١كورنثوس ٩: ١٤) إلا إذا رأى أخذها عثرة للإنجيل. وكذا رأى الحال في كورنثوس وعليه قال ما في هذه الآية وخلاصته أنه لم يرد أن يكون تحت حمل الممنونية لهم البتة. ومع أن هذا صعب على بعض الإخوة واستدلوا به على عدم ثقته بهم وعدم حبه لهم لم يزل ثابتاً على عزمه أن لا يأخذ منهم شيئاً كما سيجيء في الآية التالية.

١٠ «حَقُّ ٱلْمَسِيحِ فِيَّ. إِنَّ هٰذَا ٱلٱفْتِخَارَ لاَ يُسَدُّ عَنِّي فِي أَقَالِيمِ أَخَائِيَةَ».

رومية ٩: ١ و١كورنثوس ٩: ١٥

أكد لهم بموجب الصدق الذي اشتهر به المسيح وتعلمه هو منه أنه لا يأتي شيئاً يمنعه من أن يقول أنه لم يأخذ شيئاً من كل كورة أخائية التي كانت كورنثوس عاصمتها. وذكر في الآية الآتية علة عدم أخذه منهم مثل ما أخذ من كنائس مكدونية.

١١، ١٢ «١١ لِمَاذَا؟ أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ؟ اَللّٰهُ يَعْلَمُ. ١٢ وَلٰكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضاً فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ».

ص ٦: ١١ و٧: ٣ و١٢: ١٥ ١كورنثوس ٩: ١٢ ع ١٨ الخ

أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ لعل هذا ما ظنه بعضهم لكنه نفى هذا الظن بقوله «الله يعلم» فأكد صدقه باستشهاده الذي يفحص القلوب ويعلم كل شيء.

سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ أي سأظل مثابراً على ذلك لكي لا أبقي حجة للذين يستعدون أبداً لأن يتهموني بأني أبشر بالإنجيل بغية الربح الدنيوي. وأوضح ذلك كل الإيضاح في ما سبق (١كورنثوس ٩: ١٥ – ١٨) وقال إنه يفضّل أن يموت على أن ينزع أحد منه الحق وهو أن يقيم هذا الدليل على خلوص غايته من التبشير.

كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضاً فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ المقصود هنا المعلمون الكاذبون. وامتنع أن يأخذ النفقة من الكورنثيين ليلزمهم إذا افتخروا مثله أن يعملوا مثله ويعدلوا عن أن يربحوا لأنفسهم الدنيويات بالمناداة بالإنجيل.

ذهب بعض المفسرين أن المعلمين الكاذبين علّموا بلا نفقة فجاراهم بولس في ذلك. والذي يبطل هذا المذهب ما قيل في (ع ١٠ و١كورنثوس ٩: ١٢) و غير ذلك من الأماكن مما يؤكد أنهم أخذوا النفقات الطائلة من الكنائس التي بشروا فيها بدلاً من أن يعلموا مجاناً. ويتضح من رسالته الأولى أن غايته من التبشير مجاناً بيان خلوص قصده من التبشير بالإنجيل لا أن يمنع أعداءه من الافتخار بأنهم كانوا مثله في ذلك. وهم لم يتفخروا بما ذُكر بل اتهموا بولس بأنه خادع لا رسول. وظن آخر أن معنى قوله «ما يفتخرون به» في (ع ١٨) هو أنهم «يفتخرون حسب الجسد» وأن بولس مستعد أن يقابلهم بما يُفتخر به من الجسديات على سنن الحق.

١٣ «لأَنَّ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ ٱلْمَسِيحِ».

أعمال ١٥: ٢٤ ورومية ١٦: ١٨ وع ٥ وغلاطية ١: ٧ و٦: ١٢ وفيلبي ١: ١٥ و٢بطرس ٢: ١ و١يوحنا ٤: ١ ورؤيا ٢: ٢ ص ٢: ١٧ وفيلبي ٣: ٢ وتيطس ١: ١٠ و١١

أبان في هذه الآية أن على رغبته في قطع فرصة أعدائه للافتخار هي نفعهم.

رُسُلٌ كَذَبَةٌ ادعوا أنهم رسل فسماهم باسمهم الحقيقي نسبة إلى معلمهم المذكور في الآية التالية.

إن المسيح أنبأ بأنه يقوم مسحاء كذبة (متّى ٢٤: ٢٤) فيكون الرسول الحقيقي هو ما عيّنه المسيح شاهداً شهادة عين بما يختص به وعصمه من الغلط في التعليم وأعطاه قوة على صنع المعجزات إثباتاً لرسوليته. أما الرسل الكذبة فهم الذين قاموا في عصر الكنيسة الأول وما بعده من العصور مدعين ما ليس لهم من الوحي والمواهب والسلطة.

فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ أي غايتهم خداع الناس وإفساد ضمائرهم ويسمون «فعلة الشر» أيضاً (فيلبي ٣: ٢). وشر مكرهم دعواهم أنهم يخدمون الإنجيل مع أنهم كانوا يخدمون أنفسهم فقط.

مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ الخ أي ادعوا كذباً أنهم رسل المسيح فلم تكن غايتهم بناء ملكوت المسيح وتمجيده والمسيح لم يرسل لذلك لكنهم ادعوا أنهم رسله وخدمه وأنهم أقرب إليه من بولس وأنهم أوفر أمانة منه.

١٤ «وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!».

مزمور ١٠٤: ٤ وأعمال ١٢: ٧ وغلاطية ١: ٨

لاَ عَجَبَ من أن أشرار الناس يدعون أنهم رسل لأن شر المخلوقات يتخذ صورة خير المخلوقات وأقدسها.

مَلاَكِ نُورٍ إن الله نور ويسكن النور وملائكته محاطون بالنور (مزمور ١٠٤: ٤). أما الشيطان فهو رئيس ملكوت الظلمة (لوقا ٢٢: ٥٣ و٢بطرس ٢: ١٧ ويهوذا ٦) وغايته أن يلقي الناس في ظلام الضلال (٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢ وكولوسي ١: ١٣) ولكي يخدعهم يُلبس كذبه ثياب الصدق ويتزيا بملاك النور لأن الملاك الذي يلبس ثياب النور يتوقع أنه يكون طاهراً مقدساً سامياً. وهل أشار بولس إلى حادثة مخصوصة هنا كظهور الشيطان مع ملائكة الله يوم مُثلوا أمامه تعالى (أيوب ١: ٦) وللمسيح يوم جربه (متّى ٤: ٣) أو بنى ذلك على عموم ما قيل على الشيطان في الكتاب المقدس من أنه لا ينفك يتظاهر بما ليس فيه بغية الخداع ذلك لا نعلمه.

١٥ «فَلَيْسَ عَظِيماً إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضاً يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ».

ص ٣: ٩ فيلبي ٣: ١٩

معنى هذه الآية هو إن كان الشيطان قادراً أن يغير شكله التغيير المذكور فلا عجب من أن قدر خدامه على مثل ذلك فإذا أمكن الملاك النجس أن يظهر بهيئة الملاك الطاهر فلا مانع أن الإنسان الشرير يتظاهر بصفات الإنسان الصالح.

خُدَّامُهُ أي المعلمون الكاذبون وحق أن يسموا «بخدام الشيطان» لأنه كذاب وأبو الكذاب (يوحنا ٨: ٤٤) وهو يحثهم ويسوسهم ويعلمهم فتكون أعمالهم وسيلة إلى توسيع ملكوته أي ملكوت الضلال والشر. والقاعدة العامة في ذلك أن الشيطان قائد جميع معلمي الضلال.

كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ أي البر الذي يعلمه الله أبداً وقد أعلنه لنا (متّى ٦: ٣٣ ورومية ١: ١٧). وهؤلاء الكذبة تظاهروا بأنهم أتقياء مستقيمون وأن نتيجة تعليمهم وعملهم توطيد البر. إن الشيطان لا يجرّب الناس وهو في ظاهر هيئته الشيطانية وكذا الخطيئة لا تُعرض علينا بصورة الخطيئة بل بصورة الفضيلة وكذلك معلمي الإثم يتظاهرون بصورة خدام البر.

ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ أي أن عاقبتهم في اليوم الأخير لا تكون على مقتضى تظاهرهم بل تكون بمقتضى حكم الله لأنه يدين الشيطان وكل المعلمين الكاذبين بحسب الواقع لا بحسب الدعوى و التظاهر (غلاطية ٦: ٧ ورومية ٦: ٢١ وفيلبي ٣: ١٩).

حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ خص الأعمال بالذكر لأنها مقياس الحكم دون شهادة الإنسان لنفسه أو حكم غيره له فالله ينظر إلى ما فعل الإنسان ألبنيان ملكوت الحق هو أم لبنيان ملكوت الضلال والخطيئة. فإن كان الأول حسبه خادمه وأثابه عليه وإن كان الثاني حسبه خادم الشيطان وعاقبه عليه.

اعتذار الرسول عن مدحه لنفسه ع ١٦ إلى ٢١

١٦ «أَقُولُ أَيْضاً: لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وَإِلاَّ فَٱقْبَلُونِي وَلَوْ كَغَبِيٍّ، لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضاً قَلِيلاً».

ع ١ وص ١٢: ٦ و١١

أَقُولُ أَيْضاً هذا رجع إلى ما في الآية الأولى وطلب في سائر الآية أمرين الأول أن لا يعتبروا مدحه لنفسه جهلاً. والثاني بيان أنهم إن حسبوه جاهلاً فليأذنوا له في ما يأذن الحكماء فيه للجهلاء وهو أن يتكلموا بمقتضى أفكارهم دون أن يعاتبوهم. وهو لم يسلم بأنه جاهل مع أن مدح الإنسان لنفسه لغير موجب جهل لا محالة لأن غايته من ذلك المدح المحاماة عن نفسه والنفع لهم. ومعنى قوله «لأفتخر أنا أيضاً قليلاً» إنكم سمحتهم لأعدائي أن يتفخروا كثيراً بما ادعوا أنهم فعلوه فاسمحوا لي أيضاً أن أتكلم قليلاً في ما فعلته وتألمت به.

١٧ «ٱلَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ ٱلرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ، فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ».

١كورنثوس ٧: ٦ و١٢ ص ٩: ٤

ٱلَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ مدحاً لنفسي.

لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ ٱلرَّبِّ هذا بمعنى ما في (١كورنثوس ٧: ٢٠) والمعنى أنه لم يتمثل بالرب يسوع المسيح في ذلك لأنه لم يفتخر قط بنفسه فلا يليق بتلاميذه أن يتفخروا بأنفسهم إلا للضرورة. ولا يلزم من هذا شيء يدل على أنه لم يتكلم هنا بالوحي أو أنه خطئ بافتخاره فأظهر تواضعه بأنه أُكره على مدحه لنفسه بأنه ليس «بحسب الرب» كوصفه إياه بأنه «غباوة». والمعنى إذا نظرت إلى ذلك مجرداً عما ألجأه إليه كان غباوة وغير لائق بالذي يقتدي بالرب ولا مما يحث الروح القدس عليه ولكن إذا نظرت إليه باعتبار الاضطرار إليه محاماة عن الحق وإثباتاً للدين فهو واجب.

كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ أي ظاهره غباوة دون باطنه ولولا الغاية والضرورة لكان غباوة حقيقية.

فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ والمعنى أنه تجاسر على أن يأتي لغاية محمودة ما يستحق أن يأتي بدونها. وهذا تفسير لتسميته لافتخاره غباوة.

١٨ «بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يَفْتَخِرُونَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضاً».

فيلبي ٣: ٣ و٤

علة افتخاره بنفسه أن أعداءه عظموا أنفسهم وأتعابهم وحقروا الرسول فاضطر أن يقيم البراهين على إثبات دعواه ليثق الناس به حتى لا يكون الإنجيل الذي نادى به بينهم بلا تأثير.

بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يتبين من هذا أن المقاومة له في كورنثوس لم تكن من إنسان واحد بل من جماعة المعلمين الكاذبين. والكلام الآتي يبين أنهم مع اعترافهم بالمسيح لا يزالون يهوداً بأنهم يميلون كل الميل إلى الرسوم الموسوية فكانت يهوديتهم أكثر من مسيحيتهم.

حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي في الأمور الخارجية ككونهم عبرانيين مختونين حافظي رسوم الشريعة الموسوية (ع ٢٢ وغلاطية ٦: ١٣ وفيلبي ٣: ٤).

أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضاً أي أن ما يفعلونه لمقاصد رديئة كالإعجاب ومحبة المدح يفعله هو لمقاصد جيدة أي لإثبات حق الإنجيل الذي نادى به ونفع الذين بشرهم.

١٩ «فَإِنَّكُمْ بِسُرُورٍ تَحْتَمِلُونَ ٱلأَغْبِيَاءَ، إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ!».

١كورنثوس ٤: ٨ و١٠

تَحْتَمِلُونَ ٱلأَغْبِيَاءَ أذن مؤمنو كورنثوس للمعلمين الكاذبين أن يؤثروا فيهم بإصغائهم إلى افتخارهم فكان يحسن بهم أن يأذنوا لبولس في مثل ذلك والإصغاء إليه بالحلم والأناة.

إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ لا يخفى ما في هذا من التهكم فهو كقوله «إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ ٱسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِدُونِنَا» (١كورنثوس ٤: ٨). فكأنه قال على من تحققوا أنهم عقلاء أن يحتملوا من حسبوهم جهلاً إذ لا خطر على العاقل أن يؤثر فيهم الجاهل فأوجب عليهم أن يحتملوه لاعتبارهم إياه غبياً. وغايته من هذا التهكم أن يلومهم على ما أظهروا من المناقضة بين دعواهم وعملهم فإنهم ادعوا أنهم عقلاء قادون أن يميزوا بين الجهلاء والحكماء ومع ذلك احتملوا المتفخرين باطلاً بمواهب ليست لهم.

٢٠ «لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْخُذُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَرْتَفِعُ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ!».

غلاطية ٢: ٤ و٤: ٩ إشعياء ٩: ١٢ ومتّى ٢٣: ١٣ و١٤ ص ١٢: ١٦

نسب هنا إلى المعلمين الكذبة الظلمة والاغتصاب والوقاحة والزور. وهم كالمعلمين المفسدين الذين أزعجوا كنيسة غلاطية (غلاطية ١: ٧) وكالذين وصفهم بطرس بأنهم ممن «يسودون على الأنصبة» (١بطرس ٥: ٣). ولم يكتفوا بأن يستعبدوا المسيحيين لشريعة الأعمال بل استعبدوهم لأنفسهم أيضاً. وخلاصة احتجاجه هو أنه يجب أن تحتملوا غباوتي على مدحي لنفسي لأنكم احتملتم أكثر من ذلك من غيري.

يَسْتَعْبِدُكُمْ لرسوم الشريعة الموسوية التي حررهم المسيح منها باعتبار كونها وسيلة إلى التبرير ولأنفسهم باعتبار أنهم خدمها.

يَأْكُلُكُمْ أي يأخذ مالكم بحجة الدين وهذا كقول المسيح للفريسيين «تأكلون بيوت الأرامل» (متّى ٢٣: ١٤).

يَأْخُذُكُمْ كما يأخذ الصياد فريسته بالفخ أو الشبكة. وفي هذا تعريض بحيل أولئك المعلمين وبساطة مسيحيي كورنثوس.

يَرْتَفِعُ أي يتصرف بينهم بالكبرياء والقحة.

يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ هذا من أعظم علامات الاستخفاف والإهانة (١ملوك ٢٢: ٢٤ ولوقا ٢٢: ٦٤ وأعمال ٢٣: ٢). فصرّح هنا أن المعلمين الكاذين عاملوا أهل كنيسة كورنثوس بما ذُكروا وأن الكنيسة احتملت جورهم طوعاً. ولا يلزم أن نتخذ العبارة على حقيقة ظاهرها بل أن نفهم أنهم عاملوهم بالوقاحة كأنهم ضربوهم غير مكترثين بآرائهم وانفعالاتهم.

٢١ «عَلَى سَبِيلِ ٱلْهَوَانِ أَقُولُ كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ، أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ: أَنَا أَيْضاً أَجْتَرِئُ فِيهِ».

ص ١٠: ١٠ و١٣: ٩ فيلبي ٣: ٤

عَلَى سَبِيلِ ٱلْهَوَانِ أَقُولُ أي على سبيل هوان نفسي فإنه أهان نفسه كأن ما قاله أعداؤه عليه صحيح.

كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ فإن أعداءه قالوا فيه «حضور الجسد ضعيف» وقال هو على نفسه تواضعاً «أَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣). لأنه لما أتى إليهم لم يكن له ثقة بنفسه إنه قادر على أن يقنع الناس بحق الإنجيل ويهديهم فكان كل اتكاله على روح الله. ومثلما تكلم على نفسه أنه ضعيف تكلم عليهم أنهم أقوياء حقيقة كما حسبوا أنفسهم. وخلاصة كلامه أنا كنت أتكلم على نفسي كأني ضعيف وفيكم كأنكم أقوياء وعلى نفسي كأني حقير وفيكم كأنكم عظماء. ومما يأتي يتبين أنه لم يعد إلى مثل هذا الأسلوب.

وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ… أَنَا أَيْضاً أَجْتَرِئُ فِيهِ أي ما يفتخر به أحد من المعلمين الكاذبين من الحقوق والمواهب والأتعاب والآلام في سبيل الإنجيل فإنا أولى بالافتخار به لأني أقيم البراهين القاطعة على كل ما ادعيه وأما هم فليس لهم سوى الدعوى. وبهذا توصل إلى الأنباء ببعض حوادث تاريخه التي حدثت في مدة خمس عشرة سنة أو عشرين سنة من بداءة خدمته الرسولية إلى وقت كتابة هذه الرسالة أي سنة ٥٧ للميلاد. وهذه الحوادث لا نعرف إلا قليلاً من أمر بعضها علاوة على ما ذُكر هنا والبعض الآخر لم نعرف من أمره شيئاً سوى ما في هذا الأصحاح. ولا حاجة إلى القول أن لا مناقضة بين ما ذكره لوقا في أعمال الرسل من حوادث بولس وما قاله بولس هنا وإن ذكر ما لم يذكره لوقا لأن لوقا لم يدع أنه كتب كل ما يتعلق ببولس وعدم ذكر الحادث لا يستلزم عدم حدوثه. فلوقا ذكر أن بولس ضُرب مرة فهذا لا يمنع ممن أن يكون ضُرب خمس مرات أو أكثر.

أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ هذا كلام معترض أظهر به بولس كرهه لمدح نفسه وأنه لم يأته إلا على رغمه فكان كالغباوة ولأنه لو فعله اختيارياً لكان غباوة حقيقية.

٢٢ «أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضاً».

أعمال ٢٢: ٣ ورومية ١١: ١ وفيلبي ٣: ٥

ابتدأ بولس في هذه الآية يبرهن أنه ليس دون أعدائه في شيء وذكر فيها ثلاث نسب تميز بها شعب الله القديم وافتخر بها. فصرّح بأن كلا من تلك النسب صادقة عليه كما صدقت عليهم فالأولى منها جنسيتهم والثانية نسبتهم إلى الله والثالثة نسبتهم إلى المسيح الموعود به لإبراهيم. والمسائل في هذه الآية تدل على أن أعداءه كانوا يهوداً تظاهروا بأنهم مسيحيون لا من متنصري الأمم.

أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ كانت هذه النسبة لإبراهيم أولاً (تكوين ١٤: ١٣) ثم كانت لكل نسله من اليهود. والعبراني إما نسبة إلى عابر أحد أسلاف إبراهيم أو إلى العبر مصدر عبر النهر لأنه عبر نهر الفرات وهو آت من الشرق إلى أرض كنعان.

فَأَنَا أَيْضاً لعل أعداءه أنكروا أنه عبراني لأنه وُلد في طرسوس لا في اليهودية مولدهم. وقد صرّح في موضع آخر بأنه عبراني من العبرانيين أي من والدين عبرانيين وأنه من سبط بنيامين وأنه فريسي وأنه خُتن في اليوم المعين للختان في الناموس (فيلبي ٣: ٥).

أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ هذا اسم لليهود كالأول إلا أنه نسبة إلى إسرائيل أي يعقوب الذي سمى إسرائيل لأنه جاهد مع الله واقتدر (تكوين ٣٢: ٢٨ وهوشع ١٢: ٤). ونُسب اليهود إلى إسرائيل أولاً في (خروج ٣: ١٦). ووقع الإجماع على أن تسمية اليهود بالإسرائيليين تبيين لنسبتهم إلى الله باعتبار أنهم شعبه المختار على وفق قول بولس فيهم «ٱلَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلٱشْتِرَاعُ الخ» (رومية ٩: ٤).

أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ أي ورثة المواعيد التي كانت لإبراهيم ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح (تكوين ١٢: ٣ و١٧: ٧ و٨ و٢٢: ١٧ و١٨ وغلاطية ٣: ٨). وحسب اليهود نسبتهم إلى إبراهيم أعظم مجد وبركة (متى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٩) فصرّح بولس أن له كل ما لأعدائه من تلك النسب.

٢٣ «أَهُمْ خُدَّامُ ٱلْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ ٱلْعَقْلِ: فَأَنَا أَفْضَلُ. فِي ٱلأَتْعَابِ أَكْثَرُ. فِي ٱلضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ. فِي ٱلسُّجُونِ أَكْثَرُ. فِي ٱلْمِيتَاتِ مِرَاراً كَثِيرَةً».

١كورنثوس ١٥: ١٠ أعمال ٩: ١٦ و٢٠: ٢٣ و٢١: ١١ وص ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ – ٣٢ وص ١: ٩ و١٠ و٤: ١١ و٦: ٩

أَهُمْ خُدَّامُ ٱلْمَسِيحِ لعلهم ادعوا أنهم كذلك بمعنى خاص وهم ممن قال كلا منهم «أنا المسيح» (١كورنثوس ١: ١٢). قال بولس في شأن النسب السابقة إنه مثلهم وأما من جهة نسبته إلى المسيح والعمل في سبيله فقال أنه يفوقهم جميعاً.

أَقُولُ كَمُخْتَلِّ ٱلْعَقْلِ قال ذلك اعتذاراً عن افتخاره الذي اضطر إليه هنا لأنه اعتبر أنه لا شيء وأحب أن يعطي كل المجد لله في كل ما صار إليه وفعله.

فَأَنَا أَفْضَلُ إن أعداءه ادعوا أنهم خدم المسيح بمجرد الدعوى وأما هو فأثبت أنه خادم المسيح بالقول والفعل. وليس مراده أنه أفضل من رسول إذ ليس من رتبة أعظم من الرسولية عنده بل أنه أفضل من أولئك المدعين في الطاعة للمسيح والاجتهاد وإنكار النفس في خدمته وتفصيل بيان أفضليته في هذه الآية وفي الآيات الست الآتية.

فِي ٱلأَتْعَابِ أَكْثَرُة قاسيتها في التبشير بالإنجيل ولا ريب في أنه خدم الإنجيل زماناً أطول من الزمان الذي خدموه فيه وغار له أكثر منهم وأنكر نفسه كذلك وشغلت أنباء أتعابه أكثر من نصف سفر الأعمال.

فِي ٱلضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ منهم عدداً وشدة.

فِي ٱلسُّجُونِ أَكْثَرُ مراراً لشهادته بالحق وذكر ذلك قبلاً (ص ٦: ٥) وأتى بتفصيله في الآية الآتية. ولم يذكر لوقا سوى سجنه في فيلبي مما أصابه قبل أن كتب هذه الرسالة (أعمال ١٦: ٢٤).

فِي ٱلْمِيتَاتِ قال في موضع آخر «إِنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ» (ص ٤: ١١). وأشار بذلك إلى أنه كثيراً ما كان عرضة للموت حتى أنه يئس من الحياة ومن ذلك ما وقع عليه في دمشق (أعمال ٩: ٢٣). وفي أنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠). وفي إيقونية (أعمال ١٤: ٥ و٦). وفي لسترة (أعمال ١٤: ١٩). وفي فيلبي (أعمال ١٦: ٢٣٩. وفي تسالونيكي (أعمال ١٧: ٥). وفي بيرية (أعمال ١٧: ١٣).

٢٤، ٢٥ «٢٤ مِنَ ٱلْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ٢٥ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ. لَيْلاً وَنَهَاراً قَضَيْتُ فِي ٱلْعُمْقِ».

تثنية ٢٥: ٣ أعمال ١٦: ٢٢ أعمال ١٤: ١٩ أعمال ٢٧: ٤١

ما في هاتين الآيتين كلام معترض لتفسير ما في (ع ٢٣) وبيان أنه تعب وتألم أكثر من أعدائه. إنه حين كتب هذه الرسالة كان قد ضُرب ثماني مرات خمساً من اليهود وثلاثاً من الرومانيين فالذي أصابه من أهل وطنه لم يُذكر في سفر الأعمال. ولم يُذكر فيه مما أصابه من الرومانيين سوى واحدة في فيلبي (أعمال ١٦: ٢٢). ولعل ما ذُكر في هاتين الآيتين وقع أكثره في زمان أتعابه في كيليكية ولم يعترض لوقا لذكرها (أعمال ١٥: ٤١).

أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً نهت شريعة موسى عن ضرب المذنب أكثر من أربعين ضربة (تثنية ٢٥: ٣). فحذراً من الزيادة على ذلك اعتادوا أن لا يضربوا سوى تسع وثلاثين. ومما مُيز به بولس هنا الضربات بالجلد والضربات بالعصي فإن الأولى من اليهود والثانية من الأمم. قال أحد الربانيين إن آلة الجلد عنده مثلثة حتى تُعد كل ضربة ثلاث جلدات فثلاث عشرة منها تمام المفروض من الجلد.

مَرَّةً رُجِمْتُ وذلك في لسترة (أعمال ١٤: ١٩) وظن راجموه حينئذ أنه قُتل فإذاً كان قد غاب عن الوجدان لإصابة الحجارة رأسه.

ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ لا ذكر لهذا في أعمال الرسل. وأما انكسار السفينة به وهو ذاهب إلى رومية فكان بعد كتابة هذه الرسالة والأرجح أنها حدثت له في الأسفار الآتية أو غيرها وهي سفره من أورشليم إلى طرسوس وسفره من طرسوس إلى أنطاكية ليساعد برنابا (أعمال ٣٩: ١١ و٢٦). وسفره إلى أثينا (أعمال ١٥: ١٥). وسفره من أفسس إلى قيصرية (أعمال ١٨: ٢٢).

لَيْلاً وَنَهَاراً أي أربعاً وعشرين ساعة.

فِي ٱلْعُمْقِ أي بين الأمواج وهو متمسك بقطعة من خشب السفينة المكسورة ولا ريب في أنه كان حينئذ على غاية القرب من الموت.

٢٦ «بِأَسْفَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ. بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي. بِأَخْطَارٍ مِنَ ٱلأُمَمِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْمَدِينَةِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَحْرِ. بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ».

أعمال ٩: ٢٣ و١٣: ٥٠ و١٤: ٥ و١٧: ٥ و٢٠: ٣ و٢١: ٣١ و٢٣: ١٠ و١١ و٢٥: ٣ أعمال ١٤: ٥ و١٩: ٢٣

عرّض الرسول نفسه باختياره للأخطار المذكورة في هذه الآية وهذا دليل على أن له الحق الأول في دعوى كونه خادماً أميناً للمسيح.

بِأَسْفَارٍ عرّض فيها للتعب والخطر.

بِأَخْطَارِ سُيُولٍ بعبوره الأنهر العميقة التي لا جسور لها.

لُصُوصٍ وكانوا كثيرين في عصره بالبلدان التي جال فيها ولا سيما مضايق الجبال في كيليكية.

مِنْ جِنْسِي أي اليهود في دمشق (أعمال ٩: ٢٣) وأورشليم (أعمال ٩: ٢٩) وأنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠) وفي إيقونية (أعمال ١٤: ٢) وفي كورنثوس (أعمال ١٨: ١٢). ولأنه كان أقوى المحامين عن دين المسيح والمبطلون لرسوم الشريعة الموسوية.

مِنَ ٱلأُمَمِ أي الوثنيين الذين هيّج بعضهم عليه متعصبو اليهود كما حدث في فيلبي (أعمال ١٦: ٢٠) وفي تسالونيكي (أعمال ١٧: ٥ و٦). والذين خافوا على أرباحهم كما حدث في أفسس (أعمال ١٩: ٢٣).

بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْمَدِينَةِ أي المدن ومنها ما ذُكر آنفاً.

فِي ٱلْبَرِّيَّةِ يحتمل أنها «العربية» المذكورة في (غلاطية ١: ١٧) والصحاري الواسعة في أسيا الصغرى أي الأناضول.

بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَحْرِ انظر (ع ٢٥).

مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ وهم ممن أرادوا أن يحافظ متنصرو الأمم على الرسوم الموسوية وكان هؤلاء من أشد أعدائه وشرّهم (غلاطية ٢: ٤).

٢٧ «فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ».

أعمال ٢٠: ٣١ وص ٦: ٥ ١كورنثوس ٤: ١١

فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ قاساهما بالتبشير بالإنجيل وبقيامه مع هذا بنفقة نفسه فأدى به ذلك إلى الإعياء. وهذا وما ذُكر قبله دليل قاطع أنه كان خادماً أميناً للمسيح كما ادّعى.

فِي أَسْهَارٍ اضطر إليها من كثرة أعماله وهمومه وآلامه.

فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ تعرّض لها بأسفاره في الأبحار والفلوات. والمرجّح أنه أراد «بالجوع والعطش» قلة تناول الطعام والشراب و «بالأصوام» الانقطاع عنهما. وكانت تلك الأصوام اضطرارية ولو كانت اختيارية ما ذكرها من جملة ما اعتراه من المصائب لأجل المسيح. ولعل الفريسيين الذين صاموا مرتين في الأسبوع صاموا أكثر منه من الأصوام الاختيارية.

فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ عُرّض لهما بسفره على الجبال بين سورية وكيليكية وبين كيليكية وأسيا الصغرى وبهذا ختم جدول مصائبه الجسدية. وإذا تأملنا في هذا الجدول نقدر أن نمثل أمامنا رسول الأمم الذي لم يكن أعظم منه وآثار الضرب مراراً كثيرة على ظهره وآثار الجراح في رأسه من الرجم وجسده ضاوٍ نحيل من الجوع والعطش والتعرّض للبرد والحر والعري مضطهداً من اليهود والأمم مطروداً من موضع إلى آخر ولا مأوى له يهجم عليه أحياناً أدنى الناس وأحياناً الولاة. وإذا طُرد من مكان لأجل التبشير ذهب إلى الآخر للمناداة بالإنجيل الذي نادى به في الأول متوقعاً أن يقع عليه الاضطهاد في كل موضع دخله. وتقدر أسيا وأوربا أن تشهدا بكثرة جولانه فيهما من أجل المسيح وعنائه بقطع رحالهما ومياه أنهرهما السريعة العميقة والأمواج تحمله على توالي الساعات وهو يبذل جهده في العوم عليها. والبحر يكسر سفينته أحياناً ويقذف بها إلى البر والبر يسلمه أحياناً إلى البحر وهو يبغي فتحاً جديداً للإنجيل ولم يكف قط عن العمل فنراه أوقاتاً يحاج اليهود في المجمع وأوقاتاً يحيك شعر المعزى خياماً وأحياناً يسبح الله في السجن في منتصف الليل وأحياناً يناظر فلاسفة أريوس باغوس في أثينا والأفسسين في مدرسة تيرانس والكورنثيين في بيت يستس وموضوع واحد على شفتيه وهو يسوع مصلوباً.

٢٨ «عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذٰلِكَ: ٱلتَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ. ٱلٱهْتِمَامُ بِجَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ».

أعمال ٢٠: ١٨ الخ ورومية ١: ١٤

عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذٰلِكَ أي بقي مصائب أخرى لم يذكرها فلم يكمل جدول نوازله من الأنواع المذكورة فتقدم إلى بيان نوع آخر من أتعابه وهو ما نزل به من جهة أفكاره وشعوره الباطن.

ٱلتَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ أي اجتماع الناس إليه وازدحامهم عليه لغايات مختلفة وكثرة الأعمال.

ٱلٱهْتِمَامُ بِجَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ هذا بعض علل ذلك التراكم. ويتضح اهتمام بولس بالكنائس الكثيرة التي أسسها من الرسائل التي كتبها إليهم غائباً والأتعاب التي احتملها بينهم. فكان الناس يأتون إليه أفواجاً بعضهم ليسألوه عن طريق الخلاص وبعضهم ليجادلوه في جوهريات الدين وبعضهم بغية الاستراحة مما أتعبتهم ضمائرهم الضعيفة المضطربة وبعضهم لالتماسهم منه أن يتوسط في فض الخصومات وبعضهم ليطلبوا إليه التعزية والمشورة والمساعدة في مصائبهم. وكان عليه أن يتلو الرُقم التي ترسل إليه من الكنائس البعيدة ويجيب عليها وممن يرسله من قبله للتبشير. وكان عليه أن يوبخ الضالين ويشجع الضعفاء ويمدح الثابتين والمجتهدين. وهذه الأعمال وإن كان راضياً أن يحملها كانت حملاً ثقيلاً على ذهنه وقلبه.

٢٩ «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟».

١كورنثوس ٨: ١٣ و٩: ٢٢

واسى الرسول إخوته المسيحيين حتى جعل أحزانهم أحزانه جرياً على القانون العام «إِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ» (١كورنثوس ١٢: ٢٦). وكان له فوق ذلك نسبة خاصة إلى أعضاء ما أسسه من الكنائس كنسبة الآب إلى أولاده ويؤيد ذلك قوله «أنا ولدتكم في المسيح» (١كورنثوس ٤: ١٥).

مَنْ يَضْعُفُ في الجسد أو الإيمان.

وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ أي لا أشفق كثيراً. شفق الرسول على الذين هم ضعفاء الأجساد لرقة قلبه ولأنه علم بالاختبار ألم الضعف وعلى الذين خامرتهم الشكوك في الدين وضعفت ضمائرهم وارتابوا في ما يجب أن يعملوه أو ينتهوا عنه فاحتمل جهلهم وغوايتهم ولم يحتقرهم لذلك ويستخف بهم بل كان مثل المسيح الذي «قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ». وهذا على وفق قوله «صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ ٱلضُّعَفَاءَ» (١كورنثوس ٩: ٢٢).

مَنْ يَعْثُرُ من الإخوة فإنهم ضلوا عن الإيمان لتجارب الشيطان أو عوامل شهواتهم أو سوء سيرة بعضهم وفساد تعليمهم.

وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ أسفاً على الساقطين وغضباً على الذين أضلوهم.

٣٠ «إِنْ كَانَ يَجِبُ ٱلٱفْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي».

ص ١٢: ٥ و٩ و١٠

امتاز بولس عن المعلمين الكاذبين بموضوع افتخاره كما امتاز عنهم بغايته. فإن كان موضوع افتخارهم استحقاقهم بالذات وعلمهم وفصاحتهم وغير ذلك من مواهبهم الشخصية. وأما هو فلم يفتخر إلا بما ذكره من الاضطهادات والفقر والجلد والجوع والعطش وغير ذلك مما يدل على الضعف والاحتياج وهو مما ليس من شأن أهل العالم الافتخار به وقبول المدح عليه. كان له أن يفتخر بما عمل لكنه افتخر بما احتمل. وكان له أن يفتخر بنجاحه فافتخر بضعفه. اتهمه أعداؤه بضعفاته فرأى فيها علة الافتخار أكثر مما رأوا منها في كل عظمتهم.

٣١ «اَللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ، يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ».

رومية ١: ٩ و٩: ١ وص ١: ٢٣ وغلاطية ١: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ٥ رومية ٩: ٥

استشهد الله بصدق ما قاله في ما سبق من كلامه في هذا الأصحاح وبأنه لم يأت بشيء من المبالغة في بيان أتعابه وآلامه وأتى مثل هذا في (ع ١٠ وفي رومية ٩: ١). ولكي يثبت ذلك الاستشهاد عبّر عن الله بنسبته الخاصة إلى المؤمنين كأنها أعظم من كونه خالقهم والمعتني بهم. وفي عبارته هنا أشار إلى الله باعتبار كونه أصل الفداء بابنه الأزلي. وأشار إلى الرب يسوع المسيح باعتبار كونه ذا طبيعتين إنسانية وإلهية.

اَللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا… هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ هذا تسبيح اعتاد بولس الإتيان بمثله كثيراً حين كان يذكر بالوقار اسم الله والمسيح (انظر رومية ١١: ٢٣ و٢كورنثوس ٩: ١٥) ومثل ذلك كثير.

٣٢ «فِي دِمَشْقَ وَالِي ٱلْحَارِثِ ٱلْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ ٱلدِّمَشْقِيِّينَ يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي».

لا نعلم لماذا ذكر بولس هذه الحادثة وحدها ولم يجعلها من جملة حوادث جدول مصائبه السابق ولعلها خطرت على باله هنا فذكرها أو لعله كان حينئذ في غاية الخطر حتى لم يكن مثلها في سائر مصائبه فأفردها بالذكر. وأنباؤه بهذه الحادثة موافق لنبإ لوقا في سفر الأعمال (أعمال ٩: ٢٤ و٢٥). إلا أن لوقا نسب قصد القبض عليه إلى اليهود ولم يذكر اسم الوالي وقصده وأما بولس فنسبه إلى الوالي نفسه. والموفق بين النبأين هو أن اليهود هيّجوا الوالي على القبض عليه إذ ليس له ما يحمله على الانتقام منه.

دِمَشْقَ مدينة قديمة في سورية ذهب بولس إليها ليضطهد المسيحيين وهناك تنصر (أعمال ص ٥).

وَالِي الحاكم بأمر الملك.

ٱلْحَارِثِ ٱلْمَلِكِ كان الحارث اسماً لكثيرين من ملوك العرب كما كان فرعون لملوك مصر. والحارث المذكور هنا هو حموّ هيرودس أنتيباس الذي طرد امرأته ابنة الحارث لكي يتزوج هيروديا امرأة أخيه فيلبس (متى ١٤: ٣). فحاربه الحارث وكسره كسراً هائلاً فقصد الانتقام منه فيتليوس الوالي الروماني ولكن منعه من ذلك وهو يشرع في الحمل عليه موت الأمبراطور طيباريوس. وغلب رأي المفسرين أنه في ذلك الحين نفسه استولى الملك الحارث على دمشق وكان يومئذ ملك العربية الصخرية.

يَحْرُسُ مدِينَةَ ٱلدِّمَشْقِيِّينَ أي يراقب رجاله أبواب مدينة دمشق لكي يقبضوا على بولس وهو يبغي الخروج منها ويقتلوه (انظر أعمال ٨: ٢٤).

٣٣ «فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيلٍ مِنَ ٱلسُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ».

أعمال ٩: ٢٤ و٢٥

الأرجح أن البيت الذي كان فيه وقتئذ وتدلى من كوته كان على سور المدينة. وعلى مثل هذا الأسلوب كانت نجاة الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع (يشوع ٢: ١٥) ونجاة داود من يد شاول الملك (١صموئيل ٢: ١٢). والأرجح أن الزنبيل الذي دُلي بولس به كان كبيراً مما استخدمه الناس يومئذ لحفظ الحبوب وما شاكلها.

فوائد

  1. إن الافتخار بالمقتنيات والأعمال كثيراً ما يكون جهلاً وعلامة الكبرياء ولكنه قد يكون واجباً ضرورياً لوقاية الصيت وإنشاء المجد لله. فيجب أن يكون السلوك في هذا كالسلوك في إعطاء الصدقات وقانونها أن تُعطى في الخفاء حتى أن اليد اليسرى لا تدري بما تفعله اليمنى ولكن قد يجب أن نظهر الصدقة لكي تحث غيرنا على بذل أموالهم في سبيل الله (ع ١).
  2. إنه يجب أن تكون الكنيسة المسيحية طاهرة لأنها عروس الحمل الذي بلا دنس وهي ستتمثل أمامه. فكم يجب أن تجتهد في أن تتجنب كل شرّ وشبه الشرّ وأن لا تتدنس بالعالم كالملائكة الذين يأتون إلى هذا العالم الخدمة المحبة أو النقمة ولا يلحق بهم شيء من دنسه (ع ٢).
  3. إنه من شديد الأخطار أن يُخدع المسيحي حتى يترك بساطة إيمانه بالمسيح واستقامة سيرته فإن الشيطان يرغب في إهلاكه فلا يترك شيئاً من الوسائل إلى زرع الشكوك في قلوب المؤمنين من جهة كلام الله وحملهم أن يزيدوا على ما أمر به المسيح من شأن عبادته أو ينقصوا منه أو حملهم على مشاكلة العالم في ملاهيه وأزيائه (ع ٣).
  4. إننا نتعلم مما احتمل بولس وأمثاله في سبيل الإنجيل وفرة ما أنفقوا من دمهم وأتعابهم ودموعهم علاوة على ما احتمله سيدهم لإثبات ديننا. أفلا يجب علينا أن نعتبر هذا الكنز كل الاعتبار بالنظر إلى ما قام به سلفاؤنا لكي يوصلوه إلينا وأن نحفظه على ما هو من الطهارة والكمال ونوصله كذلك إلى غيرنا ولو اقتضت الحال أن نخاطر بأنفسنا بغية كل ذلك. فهل يجوز أن نمسك مالنا عن بث بشرى الخلاص وألوف وربوات بذلوا حياتهم في سبيلها (ع ٢٣ – ٣٣).
  5. إن ما عمله واحتمله بولس لأجل الدين المسيحي من أقوى الأدلة على صحة هذا الدين إذ لم تكن له غاية من أن يترك كل شرفه ورجائه في المذهب اليهودي ويتمسك بالمذهب المسيحي ويشغل السنين الكثيرة بأشد الأتعاب والآلام لكي يشهد بصحته للعالم سوى أنه اقتنع بأنه حق خالص (ع ٢٣ – ٣٣).
  6. إنه لو رغب كل مسيحي اليوم أن يتعب كما تعب بولس في سبيل الإنجيل وأن يحتمل ما احتمله لما شك أحد في أنه كانت معرفة الفداء بيسوع المسيح تبلغ كل أقاصي الأرض. فلا أحد يقدر أن يثبت أنه عمل أكثر مما يجب أن يعمله أو احتمل أكثر مما يجب أن يحتمله. فيجب أن نعمل ما عمله بولس لأن العالم اليوم في نفس الاحتياج الذي كان في أيامه إلى معرفة الخلاص بالمسيح. والإنجيل لم يزل إلى الآن قوة الله للخلاص كما كان يومئذ وثواب الخدمة بالأمانة لا يزال كما كان (ع ٢٣ – ٣٣).
  7. إنه إذا جرب خادم المسيح اليوم بأن يتذمر من وفرة أتعابه وهمومه وكفر الذين يخدمهم بمعروفه ومن المصائب التي تنزل به فليقرأ جدول مصائب بولس في هذا الأصحاح ويتعلم القناعة والشكر لله (ع ٢٣ – ٣٣).
  8. إن الله يعلم كل أتعاب عبيده وضيقاتهم وهذا تعزية لهم بأن يستشهدوه بخلوص غايتهم وجودة مقاصدهم وأمانتهم في أعمالهم. وبأن يتحققوا مع إهانة الناس لهم واضطهادهم أو قتلهم إياهم إنه يذكرهم يوم يجمع قديسيه ويعترف بهم قدام الملائكة والعالم ويثيبهم بقوله لكل منهم «نعماً أيها العبد الصالح ادخل إلى فرح سيدك» (ع ٣١).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى