الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 09 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح التاسع
حث الرسول الكورنثيين على السخاء لكي لا يجعل افتخاره بهم باطلاً (ع ١ – ٥). وعلى أن يعطوا بوفرة وسرور (ع ٦ – ١٥).
يشتمل هذا الأصحاح على ما في الذي قبله من أمر الجمع لفقراء المؤمنين فسألهم الرسول أن يسرعوا في إكمال جمع ما قصدوا جمعه لئلا يجدهم عند وصوله مع بعض الإخوة المكدونيين غير مستعدين فينخجل بذلك (ع ١ – ٤). فإنه كان قد أرسل بعض الإخوة حثاً لهم على أنجاز الجمع بسرعة ومسرّة (ع ٥). لأن الله لا يسر بالعطاء كرهاً (ع ٦ و٧). فإنهم إذا شاءوا مشيئته بإحسانهم منحهم كل ما يحتاجون إليه من البركات الجسدية والروحية (ع ٨ – ١٠). وإنه فضلاً عن رغبته في أن يحصل الفقراء على المساعدة رغب في أن الله يتمجد بشكر أولئك المساعدين وزيادة محبة بعض المؤمنين لبعض وإظهار الفضائل المسيحية (ع ١١ – ١٤). وإن كل العطايا ليست شيئاً بالنسبة إلى عطية الله وهي بذله المسيح عنا (ع ١٥).
١ «فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ ٱلْخِدْمَةِ لِلْقِدِّيسِينَ هُوَ فُضُولٌ مِنِّي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ».
أعمال ١١: ٢٩ ورومية ١٥: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ وص ٨: ٤ وغلاطية ٢: ١٠
موضوع هذا الأصحاح كموضوع الأصحاح الذي قبله فكان الأوفق لو جُعلا واحداً. وفي هذه الآية أبان الرسول عدم حاجته إلى حثهم على السخاء اكتفاء بما قاله لهم في آخر آيات الأصحاح السابق. وهو أن يقبلوا الإخوة بالثقة ويرحبوا بهم.
مِنْ جِهَةِ ٱلْخِدْمَةِ المراد «بالخدمة» هنا جمع الإحسان وتوزيعه كما في (أعمال ٦: ١ و١٢: ٢٥ ورومية ١٥: ٣١). وقد يراد بها في غير هذا الموضع التبشير وقد مرّ بعضها.
لِلْقِدِّيسِينَ هذا لقب للمؤمنين لأنهم مفروزون من العالم وموقوفون لله ولأنهم مجددون ومقدسون بالروح القدس (أعمال ٩: ١٣ ورومية ١: ٧ و٨: ٢٧). ويحق لنا أن نلقب به من توفوا منهم ونالوا السعادة الكاملة في السماء ومن لم يزالوا أحياء على الأرض وهم ساعون في نيل القداسة التامة وقد حصلوا على بعضها. ومن قصدهم بولس هنا هم فقراء المسيحيين في أورشليم الذين طلب الرسول الإحسان إليهم في (١كورنثوس ١٦: ١ و٣).
هُوَ فُضُولٌ الخ الفضول هنا ما لا حاجة إليه قال ذلك لأنهم كانوا يعرفون ضيق أولئك المساكين ويرغبون في التفريج عنهم بالعطاء فلم يرد أن يتوهموا من حثه إياهم على سرعة الجمع أنه ظنهم يأبون كل عطاء.
٢ «لأَنِّي أَعْلَمُ نَشَاطَكُمُ ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ، أَنَّ أَخَائِيَةَ مُسْتَعِدَّةٌ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي. وَغَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ».
ص ٨: ١٩ ص ٨: ٢٤ ص ٨: ١
نَشَاطَكُمُ أي طيبة نفسكم للعطاء.
ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ لأنه أخبر المكدونيين بما علم من نشاطهم ومدحهم لديهم.
أَنَّ أَخَائِيَةَ أراد بها كورنثوس وسماها بذلك لأنها عاصمة البلاد المسماة بآخائيه كما تسمى دمشق بالشام والقاهرة بمصر.
مُسْتَعِدَّةٌ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي قصداً واختياراً على عزم أن يقوموا بالمطلوب فعلاً. لم يرد بهذا أنه أخبر المكدونيين بأن أهل كورنثوس جمعوا مال الإحسان في ذلك العام ولكن أنبأهم بأنه عرض عليهم هذا الأمر وأنهم أظهروا كل الاستعداد للقيام به.
غَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ أظهروا رغبتهم في الإحسان باستحسانهم إياه ووعدهم أن يأتوه في وقت مناسب فكان ذلك وسيلة إلى حث كنائس مكدونية على مثله عند تبليغ بولس المكدونيين إياه.
٣ «وَلٰكِنْ أَرْسَلْتُ ٱلإِخْوَةَ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ ٱفْتِخَارُنَا مِنْ جِهَتِكُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ، كَيْ تَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ كَمَا قُلْتُ».
ص ٨: ٦ و١٧ و١٨ و٢٢ ع ٢
لٰكِنْ أَرْسَلْتُ ٱلإِخْوَةَ أي تيطس ورفيقيه.
لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ ٱفْتِخَارُنَا الخ كان قد أخبر المكدونيين بأن الكورنثيين عزموا على الإحسان وإنهم شرعوا في الجمع (ص ٨: ١٠) وهنا أرسل الإخوة إليهم لكي ينجزوا الجمع بأسرع ما يمكنهم ليكون ذلك آية ظاهرة على صدق الرسول بافتخاره بهم عند المكدونيين يوم إتيان بعضهم معه.
٤ «حَتَّى إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ حَتَّى لاَ أَقُولُ أَنْتُمْ فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ».
ص ١١: ١٧
إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ اعتادت الكنائس الأولى التي كان بولس يزورها أن يذهب معه بعض أعضائها من مدينة إلى أخرى إكراماً وإسعاداً له (أعمال ١٧: ١٤ و١٥ ورومية ١٥: ٢٤ و١كورنثوس ١٦: ٦). وقد كتب هذا الكلام من مكدونية متوقعاً أن يصحبه بعض الإخوة فيها إلى كورنثوس حسب العادة.
وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لإنجاز وعدكم العام الماضي بالإحسان.
لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ لا ريب في أن عدم إنجاز وعد الكورنثيين يكون على خجل للكورنثيين أنفسهم ولكن الرسول قصر ذلك على نفسه تلطفاً ونسب ذلك إلى نفسه لأنه افتخر بهم لأمر لم ينجزوه ولأن ذلك الافتخار حمل غيرهم على الإحسان (ص ٨: ١ و٤). ولعلهم يتهمونه بأنه خدعهم بغية أن يحملهم على العطاء أو بأنه وعد بما لم يفوّض إليه.
٥ «فَرَأَيْتُ لاَزِماً أَنْ أَطْلُبَ إِلَى ٱلإِخْوَةِ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَيْكُمْ، وَيُهَيِّئُوا قَبْلاً بَرَكَتَكُمُ ٱلَّتِي سَبَقَ ٱلتَّخْبِيرُ بِهَا، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هٰكَذَا كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ، لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ».
تكوين ٣٣: ١١ وقضاة ١: ١٥ و١صموئيل ٢٥: ٢٧ و٢ملوك ٥: ١٥ ع ٢
فَرَأَيْتُ الفاء سببية فكأنه قال رأيت كذا لئلا أخيب وأخجل.
إِلَى ٱلإِخْوَةِ تيطس ورفيقيه.
أَنْ يَسْبِقُوا أي يسبقوه والإخوة الذين يصحبونه من مكدونية.
بَرَكَتَكُمُ لهذه الكلمة معنيان في الكتاب المقدس الأول سؤال النعمة. والثاني النعمة نفسها والمقصود هنا الثاني هو العطية لفقراء أورشليم.
ٱلَّتِي سَبَقَ ٱلتَّخْبِيرُ بِهَا وهي جمع الإحسان الذي شرع الكورنثيون فيه وأخبر الرسول به كنائس مكدونية وغيرها.
كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ أي مستحقة بأن تدعى بهذا الاسم ولا تكون كذلك ما لم تُعط عن محبة وسرور وسخاء وآخرها الأولى بالمقصود. ومثل هذا العطاء لا ريب في كونه بركة للمُعطي وللمُعطى كليهما.
لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ كما لو كانت قليلة ممن يستطيعون أن يكثروها وحاصلة بإلحاح طالبها. ومثل هذه دليل قاطع على بخل المعطي.
٦ «هٰذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِٱلشُّحِّ فَبِٱلشُّحِّ أَيْضاً يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِٱلْبَرَكَاتِ فَبِٱلْبَرَكَاتِ أَيْضاً يَحْصُدُ».
أمثال ١١: ٢٤ و١٩: ١٧ و٢٢: ٩ وغلاطية ٦: ٧ و٩
ما في هذه الآية على حسب قول الحكيم «يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ» (أمثال ١١: ٢٤). وقوله في (جامعة ١١: ١). وقول المسيح في (متّى ١٠: ٤١ ولوقا ٦: ٣٨). وقول الرسول في (غلاطية ٦: ٧) ومثل ذلك كثير في الكتاب.
القانون المسلم به عند كل الناس في زرع الحبوب يصدق في الروحيات فالذي يزرع قليلاً من القمح لا يحصد إلا قليلاً منه. والذي ينفق المال في سبيل الله كإطعامة الجياع وتوزيعه بشرى الخلاص يثيبه الله على قدر إنكاره ذاته في إنفاق طعامه وتعاليمه وماله وهذه الإثابة تكون في هذا العالم أو في العالم الثاني أو في كليهما. وهذا القانون علة السخاء في العطاء لأنه يبين أنه ينفع المعطي كما ينفع المعطى. ولا يستلزم ذلك أن الله يثيب الإنسان على ما ينفقه لغايات نفسانية لكنه يثيبه على ما ينفقه لوجه الله ونفع القريب. فالصالح لا يعمل الخير بغية الثواب وهو لا يستحقه مهما عمل من الصالحات لأنه مما يجب عليه ولكن الله أعلن لنا أنه ينظر إلى كل أعمال الناس وأنه قصد رحمة منه أن يثيب الذين يطيعونه ويطلبون مجده ونفع الناس.
٧ «كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ ٱضْطِرَارٍ. لأَنَّ ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ ٱللّٰهُ».
تثنية ١٥: ٧ خروج ٢٥: ٢ و٤٥: ٥ وأمثال ١١: ٢٥ ورومية ١٢: ٨ وص ٨: ١٢
مراده مما سبق في الآية السادسة أن يعطوا بسخاء ومراده من هذه الآية أن يعطوا عن مسرة وأختيار. وما صدق هنا على بذل المال للفقراء يصدق على كل ما يأتيه الإنسان من النافعات كالقيام بالواجبات البيتية وعيادة المرضى والقراءة للعمي والمواساة للمحزونين والنصح للمحتاجين إليه. والخلاصة أن مجرد العطاء ليس بفضيلة فمن يعطي مكرهاً أو بغية الثواب لا يرضي الله وكذلك لا يقبل هباتنا إن أتيناها رغبة في الصيت والشرف. فالإنسان المخلص من أعطى على وفق عواطف قلبه.
ومعنى الآية السادسة الإعطاء بسخاء ومعنى هذه الآية الإعطاء بسرور.
لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أي عن غير إرادة حتى يأسف على خسارة ما بذله.
أَوِ ٱضْطِرَارٍ نظراً لمقتضيات الأحوال خوفاً من تعيير الناس أو توبيخ الضمير وهذا مما يفسد ثواب العطاء فيكون كبخور بلا رائحة.
لأَنَّ ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ الخ هذه العبارة مقتبسة من (أمثال ٢٢: ٩) على ما في ترجمة السبعين.
٨ «وَٱللّٰهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ ٱكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ».
أمثال ١١: ٢٤ و٢٥ و٢٨: ٢٧ وفيلبي ٤: ١٩
صرّح الرسول في هذه الآية وما بعدها إلى الآية الحادية عشرة بأن المعطي بسخاء لا يزال ذا وفر ينفق منه على نفسه وعلى غيره.
وَٱللّٰهُ قَادِرٌ كثيراً ما يورد كتبة الأسفار الإلهية قدرة الله أساساً لثقة شعبه (رومية ١٦: ٢٥ وأفسس ٣: ٢٠ ويهوذا ٢٤). ولا سيما حين يدعوننا إلى التصديق ما لا يتوقع طبعاً فإن العطاء بمقتضى الطبع ينقص المال لا يزيده. ولكن الكتاب المقدس يصرّح بأن البذل يزيد القنية وتصديق هذا يقتضي الإيمان بقوة الله وعنايته ومواعيده فإنه قادر على إجراء ما يثبت صحة قوله «يوجد من يفرق فيزداد أيضاً».
أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ القرينة هنا تدل على أن المراد بهذه النعمة الخير الجسدي الذي يمكن المعطي من السخاء. وخلاصة ذلك أن الله يقدر أن يزيد ثروتكم لا لكي تخزنوا الأموال أو تنفقوها بإسراف على شهواتكم بل لتستمروا على فعل الخير.
وَلَكُمْ كُلُّ ٱكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ أي أن الله قادر أن يغنيكم لتكتفوا بكل ما تحتاجون إليه أبداً في كل الأحوال.
تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ أي تحصلون على أكثر مما تحتاجون إليه لكي يفضل عنكم حتى تعطوا غيركم.
٩ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: فَرَّقَ. أَعْطَى ٱلْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ».
مزمور ١١٢: ٩
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في (مزمور ١١٢: ٩). معناه أن الإنسان الصالح الكريم لا يفتقر بسبب بذله المال على المساكين. واقتبس الآية إثباتاً لما سبق من الكلام على هذا الموضوع. وأتى المسيح ما يوافق ذلك بقوله «لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ الخ» (مرقس ١٠: ٢٩ و٣٠). ويجب أن نعلم أن هذا لا يتم دائماً على ظاهره وإننا نستفيد منه ثلاثة أمور:
- الأول: إنه يغلب أن يكون من عمل الخير الحصول على البركة كما يغلب أن يكون من فعل الشر الحصول على اللعنة.
- الثاني: إن ذلك القانون يجري الله عليه بعنايته فإنه يبارك المجتهد البار غالباً.
- الثالث: إن البار أسعد من الشرير غالباً في هذا العالم وإن أصابه ما أصاب الشرير من الفقر والمرض والخسارة وغير ذلك من الأرزاء بقي خيراً منه لما له من التعزية الإلهية.
بِرُّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ أي حسناته أو صدقاته تدوم ولا تنقطع ما دام حياً كما سبق في الآية الثامنة ليكون قادراً على عمل الخير.
١٠ « وَٱلَّذِي يُقَدِّمُ بِذَاراً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَلاَّتِ بِرِّكُمْ».
إشعياء ٥٥: ١٠ هوشع ١٠: ١٢ ومتى ٦: ١
ما في هذه الآية توكيد لما سبق. وإن الذي يهب كل الخيرات هو الله وفي ذلك وصف لصفات الله وعمله وأن يفعل كذلك في الجسديات (إشعياء ٥٥: ١٠) والروحيات (هوشع ١٠: ١٢ وعاموس ٦: ١٢). وغاية الرسول في هذا أن يؤكد للكورنثيين أنه لا يمكن أن يفتقر أحد منهم بسخائه في سبيل الله وأثبت ذلك بوعده تعالى في الآية السابقة وأكدّه في هذه الآية من صفاته ووجوه عنايته ببني البشر. والمقصود «بالبذار» هنا المال الذي يوزع بعمل الخير توزيع الفلاح للبذار والله الذي يعطي الفلاح بذاراً للزرع يُعطي أموالاً للتوزيع.
غَلاَّتِ بِرِّكُمْ ليس المعنى الإثابة على بركم بل وسائل فعل الخير كما ذُكر في الآية التاسعة وهو معنى قوله «بره يبقى إلى الأبد».
١١ «مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْراً لِلّٰهِ».
ص ١: ١١ و٤: ١٥
مُسْتَغْنِينَ حال مقدرة أي لتكونوا مستغنين والمقصود هنا الغنى الدنيوي لا الغنى الروحي.
لِكُلِّ سَخَاءٍ أي إن الله إذا كنتم كرماء يزيدكم خيراً حتى تستغنوا بغية عمل البر فاللام في «الكل» للغاية وهي الإعطاء بسخاء لا الخزن ولا الإنفاق على الشهوات.
يُنْشِئُ بِنَا شُكْراً لِلّٰهِ أي بواسطتي أنا بولس لأنه كان يحث الكورنثيين على بذل المال في سبيل فقراء أورشليم فحق له أن يقول إن ما نشأ من الشكر لله كان بواسطته. فتبين من ذلك أن فائدة جمع الإحسان لإخوتهم فقراء أورشليم لم تكن مقصورة على إسعادهم في شدة الضيق بل كانت فوق ذلك علة شكر لله. وما بقي من هذا الأصحاح بيان لما ذُكر هنا.
١٢ «لأَنَّ ٱفْتِعَالَ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إِعْوَازَ ٱلْقِدِّيسِينَ فَقَطْ، بَلْ يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ لِلّٰهِ»
ص ٨: ١٤
ٱفْتِعَالَ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ أي القيام بها. والكلمة اليونانية المترجمة بالخدمة مختصة بالخدمة الدينية كخدمة الكهنة في الهيكل (وكذا جاءت في لوقا ١: ٢٣ وعبرانيين ٨: ٦ و٩: ٢١) وصحّ أن يسمى جمع الإحسان بذلك لأنه مقدّم لله ولشعبه.
يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ لِلّٰهِ أي يزيد نفع القيام بهذه الخدمة بسبب كثرة الشكر لله علاوة على سد إعواز فقراء المؤمنين. ومن الواضح إن كلام بولس هنا على النتيجة المتوقعة من ذلك الجمع لا الحاصلة إذ لم يكن الإحسان قد تمّ جمعه ولا أُرسل ولا وُزع.
١٣ «إِذْ هُمْ بِٱخْتِبَارِ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ عَلَى طَاعَةِ ٱعْتِرَافِكُمْ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، وَسَخَاءِ ٱلتَّوْزِيعِ لَهُمْ وَلِلْجَمِيعِ».
متى ٥: ١٦ عبرانيين ١٣: ١٦
ما في هذه الآية أيضاً مما كان يتوقع من نتيجة الإحسان.
هُمْ هذا الضمير يرجع إلى القديسين في الآية الثانية عشرة.
بِٱخْتِبَارِ أي بواسطة الاختبار المتوقع. والمعنى أن أولئك القديسين متى حصلوا على إحسانكم يا مؤمني كورنثوس شكروا الله ومجّدوه لما يعلمونه يقيناً من طاعتكم للمسيح ومؤاساتكم لإخوتكم.
طَاعَةِ ٱعْتِرَافِكُمْ أي كطاعتكم لما اعترفتم به من الإيمان.
لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ هذا تفسير للاعتراف وهو أنه كان بما يختص بالإنجيل.
وَسَخَاءِ ٱلتَّوْزِيع أي سخائكم في التوزيع وهذا سبب ثان لتمجيدهم لله وليس المراد بالسخاء مجرد وفرة المبذول بل إظهار شركة المؤمنين أيضاً وهم بعيد بعضهم عن بعض مكاناً وجنساً لكنهم صاروا جسداً واحداً في المسيح. وكان هذا من أسباب التمجيد لله كما تبين من قوله «وللجميع» في آخر الآية. فمؤمنوا كورنثوس أبانوا بتلك الخدمة محبتهم لجميع الإخوة حيث كانوا ومن أي جنس كان.
١٤ «وَبِدُعَائِهِمْ لأَجْلِكُمْ، مُشْتَاقِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْفَائِقَةِ لَدَيْكُمْ».
ص ٨: ١
وَبِدُعَائِهِمْ لأَجْلِكُمْ يصحّ أن تتعلق الباء هنا بقوله «يزيد» في الآية الثانية عشرة والمعنى أن سخاءكم يزيد نفعه بشكر الكثيرين وصلاتهم لله من أجلكم. وهذا جزاء حسن لأن دعاء الفقراء ومباركتهم للأغنياء المحسنين إليهم يكونان كندى حرمون ويصح أن يتعلق بقوله «يمجدون» في الآية الثالثة عشرة فيكون المعنى أنهم يمجدون الله على طاعة اعترافكم وبدعائهم لأجلكم وهذا هو المرجح.
مُشْتَاقِينَ إِلَيْكُمْ حباً وشكراً لهم على إحسانهم.
مِنْ أَجْلِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ التي ظهرت بسخائهم وحبهم للمؤمنين بالمسيح ونسبوا ذلك إلى نعمة الله لا لمجرد عواطفهم الكريمة.
١٥ «فَشُكْراً لِلّٰهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا».
رومية ٨: ٣٢ ويعقوب ١: ١٧
ظن بعضهم أن العطية هنا التي شكر الرسول الله عليها هي «نعمة السخاء» في الآية السابقة لأن بولس لتيقنه أن الكورنثيين يجمعون مقداراً وافراً من مال الإحسان وأن سخاءهم ينشئ شكراً كثيراً من إخوتهم البائسين وأن ذلك يشدد رُبط المحبة بين المؤمنين المسيحيين من اليهود والأمم أخذ يسبح الله ويحمده على تلك النتيجة المحمودة.
وظن غيرهم أن تلك العطية هي الروح القدس كما ورد في (أعمال ٢: ٣٨ و٨: ٢٠ و١٠: ٤٥). ورأى آخر أنها البر على ما في (رومية ٥: ١٥ و١٧). والأرجح أنها يسوع المسيح كما جاء في (أفسس ٤: ٧ و٥: ١ ويوحنا ٤: ٠١). لأن ابن الله هو العطية العظمى وتشتمل على سائر العطايا. وكان مثل هذه العبارة مما اعتاده بولس عند ذكره محبة بعض المسيحيين لبعض وإحسان بعضهم إلى بعض لأنه يقابل بهذا محبة الله غير المحدودة وهبته المسيح لنا (ص ٨: ٩). ومما اعتاده أن يختم كلامه على الموضوع بمثل هذا الشكر (رومية ١: ٢٥ و٩: ٥ و١كورنثوس ١٥: ١٧ و١تيموثاوس ١: ١٧). واتفق أكثر مسيحيي العالم على أن هذه الآية إعلان الشكر لله على إعطائه إيانا ابنه.
فوائد
- إن في هذا الأصحاح وما قبله أوضح ما في الكتاب من وجوب الإحسان إلى فقراء المؤمنين في الزمنيات. ولنا منه أن الله يحسب ذلك الوجوب من ضروريات الدين كالصلاة والترنم وتلاوة الكتاب المقدس. ومما يوجب على المؤمنين الاجتهاد في هذه الفضيلة هو أن الفرصة لتمجيد الله بها لا تكون إلا في حياتنا على الأرض فإن لم ننتهزها هنا فاتتنا إلى الأبد (ع ١).
- إنه يجب على رعاة الكنائس أن يقتدوا ببولس في حث رعاياهم على وجوب السخاء المسيحي وتوجيه أفكارهم إلى المبادئ التي أبان الرسول أن تلك الفضيلة مبنية عليها وأن يماثلوا الرسول في ما أظهره من اللطف والحكمة في حث مؤمني كورنثوس على الكرم (ع ٥ الخ).
- إن الرسول ذكر هنا ثلاثة شروط للعطاء:
- الأول: أن يكون بسخاء (ع ٦).
- الثاني: أن يكون عن تأمل لا عن غير فكر (ع ٧).
- الثالث: أن يكون بسرور لا دفعاً للجاجة السائل ولا حياء من المشاهدين ولا تسكيناً لتوبيخ الضمير. فالذي يعطي متبسماً مع كلام اللطف يُعطي مضاعفاً (ع ٧).
- الكريم القلب كريم اليد غنياً كان أو فقيراً. وفي الكتاب المقدس أمثلة حسنة في الكرم وكذا في تاريخ الكنيسة فإن الله تمجد بفلسي الأرملة الملقَيين في خزانته وبالقبر المنحوت والعقاقير التي قدمها يوسف الرامي لدفن سيده فالحمد لله على أنه يقبل عطية الغني وعطية الفقير على السواء إن كان كل يعطي على قدر طاقته بغية تمجيده تعالى ويثيب كلا منها أكثر مما يستحق (ع ٦).
- إنه لا يتجدد أحد من الناس حق التجدد ما لم يؤثر تجدده في ماله فعلى كل مسيحي أن يحترس من البخل الذي هو عبادة أوثان. فيجب أن نحذر من أن نخدع أنفسنا في هذا الأمر لأن الله يحكم في شأن العطاء كما يحكم في شأن الإيمان فيعتبرنا جميعاً وكلاء أمواله لا أربابها. ولا بد من أن يحاسبنا على تصرفنا بمال سيدنا لقوله «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا» (ع ٧).
- إن الإنسان أسير عوائده فالعادة طبيعة ثانية فمن اعتاد أن يحسن إلى الفقراء كل يوم اعتاد بذل ماله في سبيل الله واستأصل البخل وحب الذات من قلبه ورأى الكرم سهلاً ومسّرة (ع ٩).
- إن المسيحي لا يخسر ما ينفقه في سبيل الله فكما أن الفلاح يأخذ من الغلة أضعاف ما بذره في الخريف كذلك نحصد في السماء كل ما زرعناه على الأرض بإطعام الجياع وكسوة العراة وخدمة المرضى والمضطهدين والإنجيل ولقد أصاب من قال وهو يحتضر «ما أنفقت من مالي كان لي وما خزنته خسرته وما بذلته في سبيل البر والإحسان باق لي وسيبقى إلى الأبد» (ع ١٠).
- إن نجاح المسيحيين الروحي لا يمكن أن ينفك عن الكرم المسيحي فإن الله قادر أن يزيدنا كل نعمة وهو يحب المعطي المسرور فيسكب عليه تلك النعمة بوفرة (ع ١١).
- إن فوائد السخاء كثيرة منها نفع المعطي بأنه يزيده تقى ويعد له ثواباً في السماء (ع ١١). وإن يشهد بصحة الدين الإنجيلي لأمره به. وأنه يربط قلوب بعض المؤمنين ببعض برباط المحبة ولو كانوا متفرقين في البلاد مختلفي الصنوف. ويحملهم على أن يصلي كل من أجل الآخر (ع ١٤). وإنه يمجد الله لإنشائه الشكر لاسمه بإعطائه القدرة على السخاء والمسرّة به. هذا فضلاً عن نفعه المحتاج (ع ١٢ – ١٤). فالمحبة بلا عمل اسم بلا مسمى ليس لها مدح من الناس ولا ثواب من الله.
- إن المسيح أفضل عطايا الله للإنسان فالإنسان لا يستحقه ولا يمكنه أن يشتريه فلا يحصل عليه إلا بأن يقبله هبة. فهو العطية التي لا يعبر عنها لأننا لا نقدر أن ندرك شدة احتياجنا التي أُنقذنا منها بواسطته ولا عظمة ما نحصل عليه من الغنى به ولأنه يتضمن سائر مواهب الله الحاضرة والمستقبلة الزمنية والأبدية. وتلك لا يعبر عنها لأنها آية محبة الله غير المحدودة ولأننا لا نستطيع إدراك كل ما تكفل الآب به في بذل ابنه ولا إدراك كل ما احتمله الابن في تسليم نفسه عنا.
إن الحصول على تلك العطية هو موضوع رجائنا بغفران خطايانا هنا ونيل سعادتنا الأبدية في السماء. وعلى هذا يجب على كل قلب أن يفيض شكراً لله وكل لسان أن يترنم سروراً وحمداً له (ع ١٥).
- إنه لا طريق لنا إلى إظهار شكرنا لله على بذله ابنه لأجلنا إلا أننا ننكر ذواتنا لكي نوصل الإنجيل إلى الذين يهلكون بدونه. فالذي بذل ابنه من أجلنا يحق له أن يطلب منا أن نبذل مالنا لنفع بني جنسنا (ع ١٥).
-
إن كل الأسباب التي ذكرها بولس لوجوب سخاء مؤمني كورنثوس وقتئذ لا تزال اليوم تحثنا على مثل سخائهم وأكثر منه لأننا نعرف أكثر مما عرفوا من احتياجات الناس نفساً وجسداً وأن لنا ما ليس لهم من الغنى في الروحيات والجسديات للإحسان وأن لنا وسائل لإرساله إلى المحتاجين لم تخطر على بال أولئك ونعلم ما لم يستطيعوا أن يعلموه من أمر وجوب السخاء والثواب عليه من الله.
السابق |
التالي |