الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 05 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الخامس
أثبت الرسول في هذا الأصحاح أن تيقنه الذي تكلم عليه في الأصحاح السابق كان مبنياً على أساس راسخ لأنه إذا نُقض مسكنه الأرضي فله مسكن في السماء (ع ١ – ١٠). وأنه لم يقصد مدح نفسه بما قاله بل نفع الكنيسة حباً للمسيح معتبراً أنه سفيره ليدعو الناس إلى مصالحة الله (ع ١١ – ٢١).
حال المؤمنين بعد الموت ع ١ إلى ١٠
لم يفشل بولس بما اعتراه من المصائب لتيقنه أنه إن نُقضت خيمته الوقتية الواهية فله في السماء بيت غير مصنوع بيد بشر أبدي (ع ١). وتوقع حدوث ما لا يُرى هنا لأنينه في هذا الوطن واشتياقه إلى الوطن الأعلى إلا أنه لم يحب خلع جسده الأرضي بل فضل أن يلبس فوقه السماوي (ع ٢ – ٤). ووطد الله رجاءه بأن أعطاه الروح القدس عربوناً لخلاصه (ع ٥). وسكنى الروح القدس فيه جعلته مطمئناً أبداً لاعتقاده أنه متى غاب عن الجسد صار مع الرب (ع ٦ – ٨). وجل مقصده إرضاء ذلك الذي سوف يقف أمام عرشه ليجازي مع سائر الناس حسب أعماله.
١ «لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا ٱلأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ ٱللّٰهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ».
أيوب ٤: ١٩ وص ٤: ٧ و٢بطرس ١: ١٣ و١٤
علاقة هذا الأصحاح بالذي قبله واضحة وهي أن ضيقتنا هنا تنشئ لنا ثقل مجد أبدي لأننا نعلم أنه إن نُقضت خيمتنا الأرضية فلنا بيت من الله أبدي في السماء. ونتج عن ذلك أن رجاءه في السعادة الآتية قدّره على الاستخفاف بالمصائب الحاضرة.
لأَنَّنَا نَعْلَمُ علم اليقين مما أعلنه الله لنا. وهذا عام كل المؤمنين ولكن لا ريب في أن الرسول خص به هنا نفسه ورفاقه المحتاجين إلى التعزية لشدة ضيقاتهم.
إِنْ نُقِضَ أي انحل بالموت كما يتوقع أن يحدث بالنظر إلى المصائب والمشقات المحيطة به أو باستشهاده في سبيل الإنجيل.
بَيْتُ خَيْمَتِنَا ٱلأَرْضِيُّ أي جسده مسكن نفسه على هذه الأرض. شبهه بالخيمة في الوهن والزوال وسهولة النقل. ولا إشارة في هذا إلى سكنى الإسرائيليين في خيم البرية لأن هذا التشبيه شائع في أقوال كل المؤلفين قديماً وحديثاً.
فَلَنَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ شبه مسكن النفس المستقبل بالبناء بياناً لفضله على مسكنها الخيمة الحاضرة في القوة والبقاء. والمراد بهذا البناء جسد القيامة. وقال «لنا» مع أنه ورفاقه لم يزالوا أحياء لأن الله هيأه لهم ووعدهم به فحسبوا أنهم حصلوا عليه لأن المستقبل المتيقن الوقوع كالواقع. وغايته من ذلك بيان أنهم ليسوا بمحزونين ولا خائفين من الفكر في نقض تلك الخيمة لتيقنهم الحصول على ذلك البناء.
ذهب بعضهم إلى أن ذلك البناء هو السماء عينها والذي يثبت أنه جسد القيامة أربعة أشياء:
- الأول: إن الأمر ظاهر أن بيتنا الأرضي هو الجسد الحاضر فنستنتج طبعاً أن بيتنا السماوي جسد القيامة.
- الثاني: قوله في هذه الآية إنه «في السماوات» وفي الآية الثانية إنه «من السماء» وهذا دليل بيّن على أنه ليس السماء عينها على أن ليس غرض الرسول بيان أنه منتظر الانتقال من الأرض إلى السماء بل بيان ماذا يكون له في السماء بدلاً من الجسد الذي له هنا.
- الثالث: إن كونه جسد القيامة. موافق لقوله في شأن الجسد الروحاني لأهل كورنثوس في رسالته الأولى «هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً… وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٢ و٤٣ و٤٤ و٤٩).
- الرابع: إن هذا التفسير لا منافاة بينه وبين قول الإنجيل في الراقدين أنهم يدخلون السماء على أثر موتهم وينالون سعادتها. ويبين فوق ذلك أنه حين يأتي المسيح ثانية تقوم أجساد القديسين وتشارك أرواحها الممجدة في السعادة. ولم يتعرض الرسول لبيان كل أحوال النفس بين الموت والقيامة أي بعد انفصالها عن الجسد الأرضي وقبل اتصالها بالجسد السماوي وعلة ذلك إما لأن الله لم يستحسن أن يعلنها له وإما لأن عقولنا تعجز عن إدراكه كما تعجز عن إدراك الأرواح المحيطة بنا وعن طريق مخاطبة بعضها بعضاً وسيأتي الكلام على هذا في تفسير الآية الثامنة.
مِنَ ٱللّٰهِ أي منه رأساً دون أن يُدنس بالخطيئة نعم إن الله هو خالق أجسادنا الأرضية أيضاً (١كورنثوس ١٢: ١٨ و٢٤) ولكنه لم يخلقها رأساً بل بوسائط طبيعية وقد تدنست بكونها صارت آلات للخطيئة.
غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ كالأبنية المصنوعة بأيدي الناس التي نسكنها هنا. وكونه من الله يحقق جودته ومجده.
أَبَدِيٌّ بخلاف جسدنا الأرضي المعرّض في كل وقت للموت والفساد.
٢ «فَإِنَّنَا فِي هٰذِهِ أَيْضاً نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
رومية ٨: ٢٣
فَإِنَّنَا هذا بيان علة أنه يتعزى بتوقعه الانتقال من الأرض إلى السماء وأنه ليس بمسرور جداً في حاله الحاضرة حتى يصعب عليه تركها. وفي هذا برهان على علمه أن له بيتاً في السماء وهو شدة شوقه إلى ذلك البيت.
فِي هٰذِهِ أي الخيمة التي شبه الجسد الأرضي بها في (ع ١ و٤).
نَئِنُّ للضعف والألم والتعرض للموت (ص ٤: ١١). وذلك كقوله «نَحْنُ ٱلَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ… نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رومية ٨: ٢٣). ولشوقه إلى السماء حيث يحصل على جسد لا يقبل الموت ولا الألم ولا التعب. ومعظم علة أنينه هو أنه ما دام مستوطناً في الجسد فهو متغرب عن الرب (ع ٦).
مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ الخ أتى الرسول في كلامه على جسد القيامة هنا مجازين الأول كما سبق وهو البيت الذي تتركه النفس أو تدخله. والثاني الثوب الذي تخلعه أو تلبسه. وصرّح بأنه مشتاق إلى الحلة الباهية التي يلبسها في السماء.
كان مؤلفو قدماء اليونان يشبهون الجسد بثوب للنفس كما كانوا يشبهونه ببيت لها. ومن وجد صعوبة في لبس المسكن فليذكر أن مسكن النفس السماوي لا بد من أن يكون خالياً من أعراض البيت الأرضي المانعة له من أن يكون ثوباً للنفس فهو روحي طاهر غير قابل الفساد.
ومراد الرسول بقوله «فوقها» أنه يجب أن يحصل على جسد القيامة بلا موت كما يلبس الإنسان ثوباً فوق ثوب فاشتهى أن يبلغ ما بلغه أخنوخ وإيليا اللذين انتقلا إلى السماء بلا موت وما يبلغه كل المؤمنين الأحياء على الأرض عند مجيء المسيح ثانية كما في قوله «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ… فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١ و٥٢). وما قيل من أن مسكننا «من السماء» يمنع من أنه السماء عينها ويحملنا على تفسيره بجسد القيامة.
٣ «وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً».
١كورنثوس ١٥: ٥٣ ورؤيا ٣: ١٨ و١٦: ١٥
ما قيل هنا عبارة أخرى بمعنى ما قيل في الآية الأولى بتغيير المستعار منه من بيت إلى ثوب. فقوله هنا «إن كنا لابسين» كقوله هناك «لنا في السماء بناء» وقوله هنا «عراة» كقوله هناك «نُقض بيت خيمتنا».
إِنْ كُنَّا «إن» هنا ليست للشك بل للتعليل اليقيني فالمعنى لتحقق إننا نكون.
لاَبِسِينَ ذلك الثوب المجيد الذي أعده الله لنا وهو جسد كجسد المسيح الممجد (١كورنثوس ١٥: ٤٩ وفيلبي ٣: ٢١). وأشار إلى هذا في الآية السابقة بقوله «نلبس… مسكننا الذي من السماء».
لاَ نُوجَدُ عُرَاةً أي بلا أجساد. إن النفس عند الموت تخلع الجسد الأرضي وتتركه للقبر والفساد وترجع إلى الله بدليل قوله «فَيَرْجِعُ ٱلتُّرَابُ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجِعُ ٱلرُّوحُ إِلَى ٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَعْطَاهَا» (جامعة ١٢: ٧) لكنها لا تدوم بلا جسد بل تلبس مسكنها الذي من السماء أي بيتاً موافقاً لكل أحوالها هناك بدليل قوله «يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ… وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٤ و٤٩).
وما قيل هنا يصدق أيضاً على الذين يكونون أحياء على الأرض عند مجيء المسيح ثانية فإن أرواحهم لا تترك أجسادهم حتى تكون عراة بل تلبس في الحال أجسادنا المجيدة (١كورنثوس ١٥: ٥١). وعلينا هنا أن نلاحظ أمرين:
الأول: أن الرسول لم يتعرض لوصف حال النفس الوقتي في المدة المحدودة بين الموت والقيامة.
الثاني: إنه لم يلتفت إلى شيء من أمر أجساد الأشرار فكلامه مقصور على حال الصالحين الأبدية.
٤ «فَإِنَّنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ ٱلْمَائِتُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ».
١كورنثوس ١٥: ٥٣ و٥٤
هذه الآية تقرير وتفسير لقوله في الآية الثانية «نئن مشتاقين أن نلبس» الخ.
فِي ٱلْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ أي في هذا الجسد الضعيف الفاني نئن لأننا مثقّلون. ذكر في الأصحاح السابق شدة آلامه وهمومه وأتعابه التي كان بها متضايقاً جسداً وروحاً (ص ٣: ٧ – ١٠). فبالنظر إلى هذه الأرزاء اشتاق إلى أن يكون في السماء لابساً الجسد الروحي متمتعاً بكل ما يقترن به من المسرّات.
لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا أي أن نموت ونترك هذا الجسد. لم ينفر الرسول من ثقل الجسد لاعتباره إياه سجناً فاشتاق من ضيقته إلى الهرب منه لينال حرية الروح المتجردة عن الجسد فإنه لم يجزع من حمل ما وضعه الله عليه من الأثقال في المدة التي عيّنها له. ولم تكن رغبته في مجرد تخلصه من التعب والعناء في هذه الدنيا بل كان معظمها في أن يكون مع المسيح كما أبان في (ع ٦ و٨).
إن الرسول لم يذهب مذهب قدماء الفلاسفة إلى أن الجسد قيدٌ للنفس يربطها باللذات الدنيوية الدنيئة المانعة لها من الارتقاء إلى الحال السامية التي تليق بها وأن الموت مطلق لها من أسرها لتذهب إلى الآلهة وغيرها من الأرواح السماوية. وهو لم ير شيئاً في الموت يرغبه فيه فالذي رغّبه فيه ما رآه بعد الموت من المجد والسعادة.
نَلْبَسَ فَوْقَهَا الثوب السماوي أو المسكن الذي من السماء. والمعنى أنه يحصل على الجسد الروحي البيت غير المصنوع بيد الأبدي في السماء المشار إليه بقوله «هٰذَا ٱلْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ» (١كورنثوس ١٥: ٥٣).
لِكَيْ يُبْتَلَعَ ٱلْمَائِتُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ أراد أن يخلص من كل متعلقات الحياة الحاضرة من ضعف وألم وعناء ويدخل في كل متعلقات الحياة الخالدة في السماء. وهذا كما في قوله «هٰذَا ٱلْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. وَمَتَى لَبِسَ هٰذَا ٱلْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هٰذَا ٱلْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (١كورنثوس ١٥: ٥٣ و٥٤).
ولعل في هذه الكلمات إعلان الرسول رغبته في أن لا يموت على الأرض يوم مجيء المسيح ثانية. إن خوف الإنسان الموت من الأمور الطبيعية والرسول كان في ذلك كسائر الناس. وصف الموت «بآخر عدو» (١كورنثوس ١٥: ٢٦) لكن توقعه ما وراء الموت قدره على عدم الاكتراث بذلك الخوف الغريزي. والحق أن الذي يخيف أكثر الناس عند تفكيرهم في الموت ليس الموت نفسه بل توقع الوقوف أمام عرش الديان الأزلي وهذا لم يُخف الرسول شيئاً.
٥ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي صَنَعَنَا لِهٰذَا عَيْنِهِ هُوَ ٱللّٰهُ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا أَيْضاً عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ».
إشعياء ٢٩: ٢٣ وأفسس ٢: ١٠ رومية ٨: ٢٣ وص ١: ٢٢ وأفسس ١: ١٤ و٤: ٣٠
لِهٰذَا عَيْنِهِ أي لبس جسد القيامة «لكي يُبتلع الميت من الحياة».
لو ادعى الرسول أنه هو الذي أعد نفسه لاحتمال الضيقات والضعف وحلول الأجل ورجاء السعادة الآتية بواسطة تأملاته وشدة عزمه لعُد ذلك من فرط الطمع لكنه صرّح بأن الله أعده لذلك وأنه هو الذي أعطاه الإيمان والرجاء حتى استطاع الانتصار على نوازل هذه الحياة وهول الموت وانتظار المجد في السماء.
أَعْطَانَا أَيْضاً عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ أي أنه فضلاً عن إعداده إياه للمجد المستقبل أعطاه علامة إثبات الوعد وهي سكنى الروح القدس فيه. وهذا مثل قوله في (ص ١: ٢٢ ورومية ٥: ٥ و٨: ١١ و١٦ وأفسس ١: ١٣ و١٤). وخلاصة ذلك أن الله يرسل روحه القدوس ليسكن في المؤمنين وينشئ فيهم الفضائل الروحية المقترنة بالتحديد والتقديس ليعد نفوسهم لدخول السماء على أثر الوفاة وأجسادهم لمشاركة النفوس في السعادة يوم مجيء المسيح ثانية.
إن عمل الروح في المؤمنين على الأرض عربون كل ما وعدهم الله به في المستقبل قبل القيامة وبعدها.
٦ «فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي ٱلْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ ٱلرَّبِّ».
فَإِذاً أي بناء على قبول عربون الروح.
نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ أي قادرون أن نكون مسرورين مطمئنين في أثناء الشدائد متشجعين في أزمنة الخطر صابرين في المشقات والاضطهادات. وهذا يستحيل عليه بغير مساعدة الله.
عَالِمُونَ الذي علمه في الكلام الآتي وهو نتيجة أخرى فوق الثقة من قبول عربون الروح.
مُسْتَوْطِنُونَ فِي ٱلْجَسَدِ أي لم نزل في الجسد الأرضي المسكن الأول بين الأحياء من أهله.
مُتَغَرِّبُونَ عَنِ ٱلرَّبِّ حسب الرسول القرب من الرب يسوع جوهر سعادة السماء ولأنه كان يتوقع أن يكون ذلك عاقبة موته لم يبال بنقض خيمته الأرضية وبقي مسروراً في أثناء أتعابه ومشقاته التي قربت زمان انتقاله من وطنه الأرضي الوقتي إلى وطنه السماوي الأبدي.
٧ «لأَنَّنَا بِٱلإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِٱلْعَيَانِ».
رومية ٨: ٢٤ و٢٥ و١كورنثوس ١٣: ١٢ وص ٤: ١٨ وعبرانيين ١١: ١
ما في هذه الآية كلام معترض بُين به معظم الفرق بين الحياة الحاضرة والحياة المستقبلة وهو إننا في هذه الحياة التي نتغرب فيها عن الرب لم نره لكننا نؤمن بوجوده وفي الحياة الآتية نشاهده مواجهة.
بِٱلإِيمَانِ نَسْلُكُ السلوك هنا يشمل كل أعمال الحياة الحاضرة. وفسر الرسول الإيمان بقوله «وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى» وهو قانون الحياة المسيحية من جهة الأمور السماوية ما دام المسيحي على الأرض. وتلك الأمور تقتضي أن تكون مواضيع إيمانه ما دامت غائبة عنه. وأحسن ما توصف به حياة المؤمن القول أنها حياة الإيمان لأن كل ما يعتقده في شأن الله والعالم الآتي والقيامة والدينونة يعتقده بالإيمان بما أوحى الله به ويصلي للآب السماوي وهو لم يره قط ولم يسمع صوته ويتكل على ذراعه تعالى للحماية وعلى المسيح للخلاص وعلى الروح القدس للتقديس وكل ذلك مبني على الإيقان بما لا يرى. ومعظم محركاته على تلك الأعمال وتصرفه في العالميات أيضاً هو الإيمان لأنه يعتبر الله رقيباً ويتصور عرش الدينونة منصوباً.
كلام الرسول في هذه الآية عام ولكن القرينة تدل على أن مراده الإشارة إلى كون الحضور مع الرب هو من شأن الإيمان والرجاء لا الاختبار والإصابة. نعم إنه قيل «إننا لبسنا المسيح» (غلاطية ٣: ٢٧) وأن «المسيح حل في قلوبنا» (أفسس ٣: ١٧) لكنه مع ذلك مستتر عنا بخلاف ما يكون في السماء (يوحنا ١٧: ٢٤ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ٣: ٣ و٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧).
وقوله هنا «بالإيمان نسلك» كقوله قبلاً «بالرجاء خلصنا» (رومية ٨: ٢٤) لأن الخلاص هناك خير مستقبل يتوقعه لا خير حاضر نتمتع به وكذا الحضور مع الرب.
لاَ بِٱلْعَيَانِ أي أن الأمور التي نؤمن بها ليست ظاهرة لنا بصور أو هيآت حتى تبصرها عيوننا. وبعبارة أخرى أن الأمور السماوية ليست معرضة لعيوننا الجسدية. وبهذا المعنى قال المسيح لليهود في شأن الآب «لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته». وخلاصة الآية كلها أن أمور حياة المسيحي الرئيسية ليست مما يُرى ولكن مما نؤمن بوجوده. فنؤمن بأمجاد السماء وإننا نشاهد المسيح فيها ونأخذ إكليل الحياة من يده ولذلك لا نكترث بما يعتبره الدنيويون من الأمور التي تُرى كالثروة والفخر ولذات هذه الأرض ونحتمل بالصبر والسرور الضيقات والمصائب وحلول الأجل.
٨ «فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِٱلأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ ٱلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ ٱلرَّبِّ».
فيلبي ١: ٢٣
فَنَثِقُ أي نبقى مطمئنين في الأخطار والآلام وانتظار الموت على توالي الأيام. قال هذا لأن حضوره مع المسيح بعد وفاته لم يكن من أمور الريب ولا من مجرد مشتهياته ولا من الأمل المختلط بالخوف بل كان من اليقينيات. ولم يحصل على ذلك إلا من الله وما وهبه الله له مستعد أن يهبه لكل عبد أمين من عبيده ويجب على كل عبد أن يناله.
وَنُسَرُّ بِٱلأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ الخ أي نموت ونذهب إلى حيث يظهر المسيح لشعبه. وقال ذلك إذ حسب أنه ما دام في الجسد فهو منفي من حضرة المسيح. وهذا مكرر معنى الآية الرابعة وبيان علة أنينه وهو في الجسد ورغبته في أن «يبتلع الميت من الحياة» فاعتبر أن سعادته في السماء متوقفة على حضوره مع المسيح لعلمه أنه «إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وهذه المماثلة تكون قبل القيامة روحية فقط ولكنها تكون بعدها حسية أيضاً فيكون جسده مثل جسد المسيح المجيد وحينئذ يكمل عمل الفداء فيه.
ومن البيّن أن الحال التي تكلم فيها الرسول هنا هي ما توقع الرسول المصير إليها عند مفارقة روحه لجسده فهي كالحال التي أشار المسيح بقوله للص «اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا ٢٣: ٤٣). سبق الكلام في تفسير الآية الرابعة أن الكتاب المقدس لا يتعرض لتفصيل حال النفس بين الموت والقيامة بالتدقيق ولكن الذي علمناه من نصوصه أمران:
الأول: أن تلك الحال تكون حال الشعور لا حال السبات إلى يوم الدين وإلا كان وعد المسيح للص بأن يكون معه يوم موته في الفردوس بلا معنى إذ لا يشعر بذلك في يومه ولا في ما بعده إلى القيامة العامة. وكان قول بولس «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي ١: ٢٣). لأنه كان أحب إليه أن يعاشر المسيح وهو على الأرض ويخدمه وشعبه من أن يكون في السماء مع المسيح وهو لا يشعر بحضور المسيح ولا بحضوره هو هناك.
الثاني: إن تلك الحال حال الكون في الوطن بدليل قوله في هذه الآية «نستوطن عند الرب» إن شعب الله نزلاء وغرباء على الأرض (فيلبي ٣: ٢٠ وعبرانيين ١١: ١٣ و١٣: ١٤). معرضون للأتعاب والأرزاء بين الذين يحسبونهم أجانب وأعداء فيكون مختصر تاريخ أحوالهم ما في قوله «من خارج خصومات ومن داخل مخاوف» والوطن الموعود به يشتمل على الراحة والسلام والمسرة التي لا يشوبها شيء من الهموم والأحزان والاجتماع بالأصحاب المحَبين والمحِبين وبذلك لا يفتأون يترنمون في هذا الدار بما معناه:
«أحن اشتياقاً لذاك الوطن»
وتلك الحال ليست سوى مقدمة للمجد الأسمى والسعادة الكاملة اللذين ينالهما المؤمنون يوم القيامة وحينئذ تتحد النفس بالجسد بعد تغييره وتأهيله للسكنى في السماء. وكون المؤمن «مع المسيح» في الوطن الأبدي عند الوفاة يمنع بالضرورة كونه في محل الآلام تطهيراً له من بعض الخطايا.
٩ «لِذٰلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضاً مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ».
لِذٰلِكَ أي لاشتهائنا أن نكون مع المسيح. وهذا الاشتهاء يحملنا على الرغبة في أن نشابهه كما قيل في (١يوحنا ٣: ٣) ويرغبنا في أن نطيع أوامره دائماً لأن ذلك شرط رضاه.
نَحْتَرِصُ يتضمن الحرص الرغبة في الأمر واتخاذ الوسائل إلى نيله وطلبه بلا فتور وجعله غاية كل الأفكار والأعمال كشأن الذي يجري في السباق بغية السبق والذي يحارب بغية الانتصار على الأعداء.
مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أي أحياء أو أمواتاً. ولا فرق بين قولنا «مستوطنين في الجسد أو متغربين عنه» وقولنا «مستوطنين مع المسيح أو متغربين عنه» لأن أحدهما يستلزم الآخر. فكأنه قال في هذا العالم كنا أو في الآتي نرغب في أن نُرضي المسيح وفي أن يرضى بنا.
أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ كثيرون يقولون في صلاتهم «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» وقليلون يحسبون أنهم مكلفون هنا بإطاعة إرادة الله كل يوم كإطاعة الملائكة والقديسين هناك وقليلون الذين يجتهدون في تلك الإطاعة. وأما بولس فصرّح بأنها هي موضوع رغبته واجتهاده. وكونه يومئذ متغرباً عن الرب لا يرى المسيح يراقب عمله لم يحمله على الكسل أو طلب اللذات الدنيوية والاستخفاف بالخطيئة وترك إنكار الذات والصلاة ومقاومة التجربة. فكانت منيته كلها ما في قوله «إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية ١٤: ٨ انظر ١تسالونيكي ٥: ١٠).
١٠ «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً».
متّى ٢٥: ٣١ و٣٢ ورومية ١٤: ١٠ رومية ٢: ٦ وغلاطية ٦: ٧ وأفسس ٦: ٨ وكولوسي ٣: ٢٤ و٢٥ ورؤيا ٢٢: ١٢
كان معظم كلام الرسول في ما سبق من هذا الأصحاح على نفسه من جهة مشقاته وغاياته وآماله. وبما أنه تكلم باعتبار أنه مسيحي يحق لكل مسيحي أن يتخذ كلام الرسول لنفسه. ولكنه صرّح في هذه الآية أن كلامه موجه إلى كل المسيحيين كما هو موجه إليه وهو موجه أيضاً إلى سائر الناس بلا استثناء. وفيه بيان سبب اجتهاده المذكور في الآية التاسعة وهو أنه يرضي الرب دائماً.
لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً من كل الذين عاشوا على وجه الأرض في كل زمان ومكان. وهذا كما ورد في (رؤيا ٢٠: ١٢).
نُظْهَرُ أي نقف للدينونة معلنين ما نحن عليه في الواقع بلا أدنى سبيل إلى التنكر أو الرياء أو الإخفاء أو الخداع فتظهر كل الأفكار والسرائر كأنها مكتوبة في طرس منشور أو منقوشة على صخر مشهور وهذا كقوله «حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ٱلْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ٤: ٥). وقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤).
أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ كان القضاة الرومانيون يجلسون عند المحاكمة على منابر أو كراسي مرتفعة ليروا ويُروا (متّى ٢٧: ١٩ وأعمال ١٨: ١٢) فاستعار الرسول عمل هؤلاء لعمل المسيح في محاكمته للعالم. ومثل ذلك ما جاء في (متّى ٢٥: ٣١). وجاء مثله في سفر الرؤيا تسعاً وأربعين مرة. وصرّح الكتاب المقدس أن المسيح هو الديان وأن كل الناس يقفون أمامه وأنه يحكم عليهم بمقتضى خفايا قلوبهم وذلك يستلزم أنه إله لأنه لا يعلم كل شيء إلا الله ولا يستطيع أن يدين كذلك إلا هو. وبسط الكلام على كون المسيح ديّان اليوم الأخير في تفسير (متى ٢٥: ٣١ – ٤٥ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١) فارجع إليه.
لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ على سبيل الجزاء من ثواب وعقاب بدون محاباة. وهذا مثل قوله «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غلاطية ٦: ٧ و٨ انظر أيضاً ١كورنثوس ٤: ٥ وكولوسي ٣: ٢٥ و٢بطرس ٢: ١٣). فيعاقب الأشرار على أعمالهم فيأخذون الأجرة التي استحقوها ويثاب الأبرار على أعمالهم لكن لا على سبيل الأجرة بل على سبيل النعمة. فيتضح مما قيل هنا وفي (متّى ٢٥: ٣٤ ورومية ٢: ٦) وأماكن أُخر أن مجازاة الأبرار على قدر أعمالهم ولكن نرى من آيات كثيرة أن خطايا المؤمنين مغفورة (رومية ٣: ٢٥) وأن لا شيء عليهم من الدينونة وأن «دَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا ١: ٧). وإن الخلاص كله من النعمة وأن التبرير ببر المسيح لا بالأعمال وإن أحسن أعمال المؤمنين ليس بشيء (لوقا ١٧: ١٠) ولكن بعضهم رأى شبهة التناقض بين قول الرسول هنا وما أوردناه على أثره من الأقوال فحاول دفعها بقوله أن استحقاق المسيح يزيل عن المؤمن خطيئة آدم الأصلية وأنه يُسأل بعد ذلك عن كل عمل من أعماله ويُدان عليه. وقال آخر دفعاً لها أن استحقاق المسيح يمحو خطايا المؤمنين قبل تجديدهم ومعموديتهم ثم يتبررون أو يدانون بسائر أعمالهم وهذا لا يصح لأن الإنجيل يصرّح بأن المؤمنين ليسوا تحت الناموس بل تحت النعمة (رومية ٦: ١٤) وأنهم إن اتكلوا على أعمالهم لم ينفعهم المسيح شيئاً وسقطوا من النعمة (غلاطية ٥: ٤). فإن دان الله بالناموس كل الناس بحسب أعمالهم لم يخلص أحد من المؤمنين ولا من غيرهم. فالذين اتحدوا بالمسيح بالإيمان وسكنى الروح القدس فيهم نالوا مغفرة كل خطاياهم الماضية والحاضرة لأن كفارة المسيح كافية للتكفير عن كل خطايا الناس منذ آدم إلى يوم الدين. فإذا ما ذكرناه من دفع بعضهم لما توهمه من الشبهة لا ينهض. أما نحن فلا نرى في هذا إلا ما يحملنا على الشكر لله على نعمته فإنه فضلاً عن رفعه عنا الدينونة التي نستحقها على خطايانا ونسبته إلينا استحقاق بر المسيح وموته وتأكيده لنا الخلاص ودخول السماء لأجل المسيح يتنازل إلى أن ينظر إلى أعمالنا الصالحة القليلة الناقصة ويثيبنا عليها بعلامات خاصة من محبته لنا لا نعلم ما هي. وقد أشار إلى بعضها المسيح في مثل العشرة الأمناء من أنه أعطى أحد عبيده سلطاناً على عشر مدن وآخر سلطاناً على خمس مدن.
بِٱلْجَسَدِ أي مدة الحياة الأرضية وهي وقت الامتحان وليس ما بعد القبر سوى الثواب أو العقاب. وقال الرسول إن الدينونة على «ما كان بالجسد» لا على أعمال الجسد لأن الجسد ليس سوى آلة للنفس. فالدينونة على الأفكار والغايات والمقاصد والأميال علاوة على الأقوال والأعمال. فأعمال الناس في هذا العالم كنوز لهم في العالم الآتي وهي إما كنوز الرضى والسرور الدائم وإما كنوز النقمة والحزن الأبدي (متى ٦: ٢٠).
بِحَسَبِ مَا صَنَعَ الخ هذا قياس الجزاء يوم الدين فأنصبة الجزاء تختلف باختلاف الأعمال فبعض الأشرار يعذب بضربات كثيرة وبعضهم يعذب بضربات قليلة (لوقا ١٢: ٤٧). وبعضهم (مثل أهل صور وصيداء) لهم حالة أكثر احتمالاً من الذين سمعوا بشرى الخلاص ورفضوها (متى ١١: ٢٢) وكذلك الأبرار يُثاب بعضهم أكثر من غيره فالذي تعب وتألم في خدمة الرب أكثر ممن سواه يسر أكثر منه فمنهم من يخلصون كما بنار وأعمالهم تحترق (١كورنثوس ٣: ١٥). ومنهم من «يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ» (٢بطرس ١: ١١).
دفع الرسول اتهام بعضم إياه بأنه يمدح نفسه ع ١١ إلى ٢١
رجع الرسول في هذا الفصل إلى الموضوع الذي تكلم فيه سابقاً وصرّح بأنه لم يبال في كل ما قاله وكتبه إلا بمسؤوليته لله (ع ١١). وإنه لم يمدح نفسه إلا ليدفع عن نفسه الريبة واللوم (ع ١٢). وإن معظم رغبته في أن يرضي وينفع الكنيسة وأن تقوّل عليه الناس الأقاويل (ع ١٣). لأن محبة المسيح حصرته أن يحيا للمسيح لا لنفسه (ع ١٤ و١٥). وإنه ما دام سالكاً في ذلك السنن لا يرى للأمور الحاضرة المنظورة من سلطة عليه. وأنه لا يحكم على الناس بمقتضى الظاهر. وأنه باتحاده بالمسيح صار خليقة جديدة (ع ١٦ و١٧). وإن ذلك التجديد العظيم من الله الذي هو مصدر الفداء. فإنه صالح العالم لنفسه بالمسيح واستخدم عبيده للمناداة بتلك المصالحة. وإنه بمقتضى ذلك وباعتبار كونه سفيراً لله ينادي لكل الناس بأنه قد مُهدت طريق المصالحة مع الله للناس لأنه جعل المسيح خطيئة لأجلنا لنصير نحن بر الله بواسطته (ع ٢٠ و٢١).
١١ «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ. وَأَمَّا ٱللّٰهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضاً».
أيوب ٣١: ٢٣ وعبرانيين ١٠: ٣١ ويهوذا ٢٣ ص ٤: ٢
عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ أي قصده أن يدين العالم في اليوم الآخر ويجازي كلا بمقتضى أعماله.
نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ أي نبرهن لهم. ولم يبن ما الذي يبرهنه والذي نراه أنه إما حق الإنجيل ليؤمن الناس بالمسيح لخلاص نفوسهم وذلك أعظم ما رغب فيه من كل تعليمه. وأما خلوصه في التبشير وهذا ما ترجحه القرينة وهو أنه لم يسلك في مكر ولم يغش كلمة الله (ص ٤: ٢) كما يظهر من بقية الآية ومن قوله «رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ» (ص ٤: ٢) فمخافة الرب باعتبار أنه ديان منعته من الخداع والخيانة.
وَأَمَّا ٱللّٰهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ أي أننا لا نحتاج أن نقنع الله بخلوصنا لأن قلوبنا مكشوفة أمامه فهو يعلم أن غايتنا تمجيده وتبيين طريق الخلاص للناس.
وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ الخ علم الرسول أن بعض أهل كورنثوس شك في خلوصه وطعن فيه لكنه رجا أن أكثرهم برروه في قلوبهم مما اتهمه بعضهم به من الرياء والخداع وتيقنوا استقامته وغيرته لبنيانهم في القداسة وأنهم عرفوا سيرته بينهم وإنكار نفسه بغية نفع غيره وأمانته في الوعظ.
١٢ «لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضاً لَدَيْكُمْ، بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلٱفْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا، لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى ٱلَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِٱلْوَجْهِ لاَ بِٱلْقَلْبِ».
ص ٣: ١ ص ١: ١٤
لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضاً بما قلته من جهة خلوصنا (ع ١١). لم يقصد الرسول الافتخار باستقامته لكنه خشي إن سكت من أن يحسبوا سكوته تسليماً بتهمتهم إياه وبحكمهم أنه لا يستحق أن يكون رسولاً. وزاد قوله «أيضاً» هنا دفعاً لتهمتهم إياه قبلاً بمدحه لنفسه (ص ٣: ١) لأنه لم يرد أن يترك لهم فرصة لمثل ذلك الافتراء.
بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلٱفْتِخَارِ الخ المراد بالذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب هم المعلمون الكاذبون الذين أتوا إلى كورنثوس لإبطال تعليم بولس وإفساد إيمان أهلها. وافتخروا بأنهم من نسل إبراهيم وباختتانهم وحفظهم الرسوم التي أخذوها عن موسى والآباء وبفصاحتهم وعلمهم ومواهبهم. ولعلهم ادعوا أنهم أقدس من غيرهم وتظاهروا بالصوم كثيراً والصلاة طويلاً والورع الزائد وقلوبهم مملوءة رياء وخبثاً. فأراد بولس مما برأ نفسه منه أن يبرهن لهم أنه رسول المسيح حقاً بإتيانه إليهم ببشارة الإنجيل وبتأسيسه كنيستهم وأنه كان أميناً في عمله ولم يعلمهم سوى الحق الذي أخذه عن الرب وأن نيته كانت خالصة في ابتغاء نفعهم وتمجيد الله. وخلاصة الآية أنه أراد أنهم يكونون مستعدين حين يطعن فيه المعلمون الفاسدون لتبرئته والدفع عنه بما تشهد به ضمائرهم من جهة سيرته الحسنة فيهم وتعاليمه الصادقة.
١٣ «لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ».
ص ١١: ١ و١٦ و١٨ و١٢: ٦ و١١
لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰهِ لا ريب في أن المعلمين المفسدين ادعوا لأنفسهم الحكمة والرزانة والفطنة واتهموا بولس بالهذيان كما اتهمه فستوس بقوله «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). وكما اتهم بعضهم المسيح بقولهم «أنه مختل» (مرقس ٣: ٢١). ولعل غيرته ورغبته في أن يطوف براً وبحراً لكي يبشر الأمم مما حمل اليهود على أن ينسبوا إليه اختلال العقل. ولا عجب فإن شدة اجتهاد بعض المؤمنين في التبشير بالمسيح واحتمالهم الاضطهاد من أجل اسمه ظهرت لغيرهم أنها من علامات الجنون. فدفع بولس تلك التهمة وأثبت أن حرارته في التبشير وإن ظهرت لهم زائدة لم تكن سوى غيرة مقدسة ونتيجة فرط حبه لله ورغبته في تمجيده.
لم يتبين جلياً علة نسبتهم الاختلال إليه أغيرته للدين هي أم مدحه لنفسه والأرجح أنها الثاني بدليل قوله دفعاً لذلك «قَدْ صِرْتُ غَبِيّاً وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ الخ» (ص ١٢: ١١ انظر أيضاً ص ١١: ١ و١٦).
أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ لا ريب في أن هذا حكم أصحابه فيه فقال لهم إن حسبتموني سليم العقل وسألتموني لماذا أتيت إلى كورنثوس وبشرت فيها فالجواب أن علة ذلك بنيانكم في المعرفة والقداسة. وخلاصة الآية أنه مهما ظن الناس في الرسول أو قالوا عليه فغايته من كل تصرفه تمجيد الله ونفع كنيسته.
١٤ «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هٰذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ. فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا».
رومية ٥: ١٥
أبان هنا العلة العظمى لكل أعماله.
لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا أي محبة المسيح له لا محبته للمسيح ودليل ذلك ما ذكره من علامات حب المسيح لنا في بقية الآية. وهذا كقوله «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية ٢: ٢٠ انظر أيضاً أفسس ٣: ١٩). ومعنى قوله «تحصرنا» تجبرنا أن نفعل ما فعلناه. فإن بولس من يوم آمن تحقق محبة المسيح له وكان تأثير هذه المحبة محور كل أفكاره ومقاصده وأعماله. والخلاصة أن بولس رأى بما أن المسيح أحبه حتى بذل نفسه من أجله إنه مجبر أن يجعل إرادة المسيح إرادته وتمجيده قانون حياته. فعلى مذهب بولس إن جوهر ما يمتاز به المسيحي عن غيره هو أن يقف نفسه للمسيح ولا يحيا لنفسه أو لعياله أو لنشر العلم أو لنفع جنسه بل لربه على وفق قول ابن الله «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى ١٠: ٣٧). وقوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا ١٤: ٢٦).
إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هٰذَا قال هذا مقدمة لبيان أنه كيف صارت لمحبة المسيح تلك السلطة عليه وأنه اعتبر منذ آمن بالمسيح إن موت المسيح عن الناس أوجب عليهم أن يقفوا أنفسهم له وحملهم على وقفها له وإن موته عنه هو أجبره على أن يموت عن نفسه ويحيا له. وهذا فحوى الدين المسيحي عنده وعلى هذا المنوال احتضنه.
إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ إن الشرطية هنا مستعملة لليقين. والمراد «بالواحد» هنا هو الرب يسوع المسيح. وغاية الرسول إلى العبرانيين بيان ما ذُكر فهي توضح إن كهنة النظام الموسوي كانوا كثيرين وذبائحهم كثيرة لأن أولئك الكهنة لم يدوموا لسبب الموت لكن يسوع لكونه له حياة أبدية في نفسه يحيا إلى الأبد. وإن الذبائح التي كانوا يقدمونها كانت تكرر كل يوم لأنها لم تكفر عن الخطيئة ولكنها كانت إشارة إلى الذبيحة الكافية للكفارة. والمسيح بتقديم نفسه ذبيحة أكمل إلى الأبد المقدسين ودمه يطهر من كل خطيئة. ومعنى قوله «لأجل الجميع» بدلاً عنهم كمعناه في (رومية ٥: ٦ و٨ و١تسالونيكي ٥: ١٠ وعبرانيين ٢: ٩). ويستحيل أن الذبيحة تنفع الإنسان ما لم تكن بدلاً عنه فمات المسيح بدلاً عنا لكي ينقذنا من الموت ومات عن الجميع لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم الخلاص فأحب الله الجميع (يوحنا ٣: ١٦) وهو «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١تيموثاوس ٢: ٤). وأعد خلاصاً للجميع بالمسيح ابنه وعرضه على الجميع ووهبه لكل الذين قبلوا شرطه وهو الإيمان به.
فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا أي ماتوا حين مات هو لأنه كان نائبهم في عهد النعمة كما كان آدم نائبهم في عهد الأعمال (رومية ٦: ٨ – ١١ انظر أيضاً رومية ٥: ١٥ – ١٩). وكان قصد المسيح من موته أن يموت الكل معه عن أنفسهم وعن الخطيئة وأن يحيوا للقداسة وتم ذلك القصد في كل من آمنوا به واتحدوا. إنهم صلبوا مع المسيح (غلاطية ٢: ٢٠) وقاموا معه وسيملكون معه (أفسس ٢: ٥ و٦).
١٥ «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ».
رومية ٦: ١١ و١٢ و١٤: ٧ و٨ و١كورنثوس ٦: ١٩ وغلاطية ٢: ٢٠ و١تسالونيكي ٥: ١٠ و١بطرس ٤: ٢
هذا مكرر الآية السابقة بالمعنى وإثبات أن نسبة المؤمنين إلى المسيح كما سبق وهو أن المسيح مات عن الخطأة لكي يموتوا معه عن الخطيئة وزاد هنا على ذلك أنه قصد بموته عنهم أن يحيوا معه. ومعنى هذا كمعنى قول بطرس «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ، مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَدِ وَلٰكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ» (١بطرس ٣: ١٨) وقوله «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ» (١بطرس ٢: ٢٤ انظر أيضاً تيطس ٢: ١٤).
كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ قصد المسيح بموته عن الناس أمرين الأول الكفارة عن خطاياهم ومصالحتهم مع الله. والثاني ما في هذه الآية وهو أن يكون عبيده واقفين أنفسهم لخدمته ومقتدين به. والأحياء هنا الذين يحيون الحياة الروحية. والمقصود من قوله «فيما بعد» كل ما مر من الزمان بعدما آمنوا بالمسيح وابتدأوا يحيون الحياة الجديدة. ولم يمتنع عليهم أن يحيوا مع المسيح وهم قد ماتوا معه لأن هذا الموت ليس انفصال النفس عن الجسد بل انفصالها عن الخطيئة ومحبة الذات. والحياة هنا ليست الحياة الجسدية المتجددة بل الحياة الروحية وهي وقف النفس لخدمة المسيح. وأشار الرسول إلى تأثير موت المسيح فيهم سلباً بقوله «لا لأنفسهم» لبيان أنهم لم يعيشوا لإتمام مشيئتهم ولا لنيل راحتهم ولذتهم ومجدهم. وهذا كقوله «مع المسيح صلبت» (غلاطية ٢: ٢٠).
بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ هذا بيان تأثير موت المسيح في المؤمنين بطريق الإيجاب والمعنى أنهم يعيشون لخدمة الذي مات عنهم ولأنه مات عنهم. فالذي يمتاز به المسيحي عن غيره بمقتضى هذه الآية شروعه في أن يحيا للمسيح فضلاً عن عدوله عن أن يحيا لنفسه. فلا يكفي العدول عن الحياة للنفس أو لغيرها من المخلوقات دون الحياة للمسيح. فبعض الناس يظن أنه لا يحتاج لخلاصه إلى سوى أن يتكل على المسيح وأنه ليس بمكلف أن يعيش له لكن الإنجيل يصرّح بأن كل الذين يتوقعون أن يكونوا شركاء موت المسيح يجب أن يكونوا شركاء حياته. فكل من تحقق فرط محبة المسيح له من أنه مات عنه وبناء على ذلك اعتمده للخلاص رأى أنه مجبر بقوة تلك المحبة على وقف نفسه له.
وَقَامَ إننا لم نؤمن بمخلص لم يزل ميتاً مدفوناً بعد صلبه ولم نخدم مخلصاً ميتاً بل نؤمن بمخلص «مات من أجل خطايانا وقام لأجل تبريرنا» (رومية ٤: ٢٥). ولأنه قام وجلس عن يمين الله الآب وأخذ منه كل سلطان في السماء وعلى الأرض وهو يحيا إلى الأبد يشفع فينا نقف حياتنا لخدمته وتمجيده (رومية ٦: ٩ – ١١ وأفسس ٢: ٥ – ٧).
١٦ «إِذاً نَحْنُ مِنَ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ ٱلْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لٰكِنِ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ».
متّى ١٢: ٥٠ ويوحنا ١٥: ١٤ وغلاطية ٥: ٦ وفيلبي ٣: ٧ وكولوسي ٣: ١١ يوحنا ٦: ٦٣
إِذاً أي بناء على تغيرنا العظيم نحن الذين عشنا قبلاً لأنفسنا وشرعنا الآن أن نحيا للمسيح نقيس كل الأمور بمقياس جديد غير المقياس الذي كنا نقيسها به قبل أن آمنا.
مِنَ ٱلآنَ أي من وقت آمنا وتجددنا.
لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ ٱلْجَسَدِ قال بولس هذا برهاناً على خلوصه وبرآته مما اتهمه به أعداؤه وهو يصدق على كل مسيحي بالحق ومراده أنه لم يحكم على الناس بالنظر إلى أحوالهم الخارجية فلم يتلفت إلى كونهم يهوداً مختونين حافظي شريعة موسى أو أمما أغنياء أو فقراء علماء أو جهلاء شرفاء أو أدنياء. وأنه يعرف أن كل من يتكل على موت المسيح للنجاة من الهلاك الأبدي ويعيش خليقة جديدة لخدمة المسيح هو المسيحي المكرم المحبوب. وهذا على وفق ما في قول المسيح في اليهود «أنتم حسب الجسد تدينون» (يوحنا ٨: ١٥). وما في قول الرسول «وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ أَيْضاً الخ» (فيلبي ٣: ٣ – ٦).
قابل بولس هنا آراءه قبل تجدده بآرائه بعده وقابلها أيضاً بآراء المعلمين الكاذبين الذين علموا وجوب أن يحفظ المسيحيون شريعة موسى.
وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لا برهان على أن بولس عرف المسيح وهو على الأرض أو أنه رأه قبل أن شاهده على طريق دمشق بعد قيامته وهو لم يشر هنا إلى معرفته في أحواله الظاهرة وهو على الأرض كمعرفة الذين لم يؤمنوا به إياه فإنه بناء على ما سمعه في أمره اعتبره ابن نجار من الناصرة ادعى أنه المسيح ابن الله ولآرائه اليهودية في المسيح الموعود به رفض أن يكون هو المسيح وأهانه وأبغضه.
لٰكِنِ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ أي عدلت عن أن أحسبه كما ظهر للناس إنساناً مجرداً بل أتيقن أنه ابن الله الذي أحبني وبذل نفسه عني.
لعل بعض المعلمين الذين قاوموا بولس ادعوا أنهم أفضل منه لأنهم رأوا المسيح على الأرض وسمعوه وتكلموا معه لكن بولس قال إن إدراك ذلك معرفة ناقصة قليلة لا تجدي نفعاً حتى أنه لو حصل عليها لرغب في أن ينساها ويقصر معرفته على ما أدركه بقلبه بعدما آمن.
ولعل هذا يفيد أيضاً أنه لا يكفي أن ننظر إلى المسيح باعتبار كونه يهودياً وملك اليهود لأنه وُلد من نسل داود إتماماً للنبوءات بل يجب أن نعتبره ابن الله ملك كل قبائل الأرض ومخلص العالم.
١٧ «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً».
رومية ٨: ٩ و١٦: ٧ وغلاطية ٥: ٦ و٦: ١٥ إشعياء ٤٣: ١٨ و١٩ و٦٥: ١٧ وأفسس ٢: ١٥ ورؤيا ٢١: ٥
إِذاً أي ينتج مما ذُكر. فلنا أن هذه الآية نتيجة ما سبق وبيان أن تغير آراء الرسول منذ آمن بالمسيح وتحقق عظمته ومجده هو ما يحدث لكل مؤمن.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ من الناس أياً كان.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي متحداً به كالغصن في الكرمة والعضو في الجسد. ويحصل الإنسان على هذا الاتحاد بعهد النعمة كما حصل على الاتحاد بآدم بالطبع ويحصل عليه أيضاً بسكنى روح المسيح فيه وبالإيمان لأنه به يتمسك بالمسيح ويجعله نصيبه وعلة حياته (رومية ٨: ١ و٩ وغلاطية ٥: ٦).
فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ إن الإنسان باتحاده بالمسيح بواسطة الإيمان يُغير تغييراً عظيماً حتى يصح أن يُدعى خليقة جديدة. وهذا التغيير يليق بالله وهو عمله كإبداعه العالمين من لا شيء فلا يقدر عليه أحد سواه. ودُعي «خليقة» لأنه بدء حياة جديدة في النفس تدوم إلى الأبد وتأتي بالأثمار الروحية. وكثيراً ما جاء «الجديد» في الإنجيل بمعنى الأفضل والأسمى طهارة مثل «الاسم الجديد» و «السماء الجديدة» و «الأرض الجديدة» و «أورشليم الجديدة» و «الإنسان الجديد» و «العهد الجديد». ووصف إشعياء النبي مجيء المسيح بما معناه أنه يصير به كل شيء جديداً ومن ذلك قوله «لاَ تَذْكُرُوا ٱلأَوَّلِيَّاتِ، وَٱلْقَدِيمَاتُ لاَ تَتَأَمَّلُوا بِهَا. هَئَنَذَا صَانِعٌ أَمْراً جَدِيداً» وقوله «هَئَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، فَلاَ تُذْكَرُ ٱلأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ» (إشعياء ٤٣: ١٨ و١٩ و٦٥: ١٧). ووصف يوحنا الرسول كمال ملكوت المسيح في السماء بقوله «قَالَ ٱلْجَالِسُ عَلَى ٱلْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً» (رؤيا ٢١: ٥). فأشار الرسول إلى أن التغير الناشئ في الإنسان وهو في المسيح «أي وهو متحد به» كالتغير الذي أنبأ به إشعياء النبي في العهد القديم والذي أبان يوحنا الرسول في رؤياه أنه يكمل في نهاية كل شيء. وهذا يستلزم زوال ما في الإنسان من آرائه ومقاصده وشهواته وآماله ومبادئه العتيقة ونشوء آراء جديدة في قيمة النفس وقدر هذا العالم بالنسبة إلى قدر العالم الآتي وفي عظمة المسيح ومحبته ومقاصد جديدة في حبه وخدمته لذلك الفادي.
١٨ «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ»
رومية ٥: ١٠ وأفسس ٢: ١٦ وكولوسي ١: ٢٠ و١يوحنا ٢: ٢
ٱلْكُلّ أي كل ما يتعلق بالخليقة الجديدة التي هي موضوع كلامه وهو التغير الأدبي والروحي في نفس الإنسان.
مِنَ ٱللّٰهِ أي أن الله هو مصدر ذلك التجديد.
ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ هذا بيان للوسيلة التي اتخذها الله إلى إنشاء ما ذُكر من ذلك التغير العظيم وهي أول عمل الفداء. والمقصود بالضمير «نا» كل المؤمنين لأن تلك المصالحة غير مقصورة على بولس. والمراد «بالمصالحة» إزالة العداوى من بين الخصمين وهما هنا الله والبشر وعلتها خطيئة الإنسان. والمصالح هو الله وعلة مصالحته محبته للخطأة. والخاطئ لم يبتدئ المصالحة قط ولم يطلبها ولا سبيل له إلى إجرائها فليس له إلا أن يقبلها. فالذين ذهبوا إلى أن طريق المصالحة هو أن يطلبها الإنسان أولاً إنما ذهبوا إلى ما لم يكون ولا يكون لأنها اقتضت موت ابن الله ومن أين له أن يدعو ابن الله إلى الموت. وقد أوضح ذلك بقوله «إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ» (رومية ٥: ١٠). وقوله «سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي ١: ١٩ و٢٠). والأمر الجوهري في هذا التعليم أنه كانت العداوة بين الله والإنسان ثم صارت المصالحة وأن منشئ هذه المصالحة هو الله نفسه والواسطة التي اتخذها إلى ذلك موت ابنه كما يأتي.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بموته كفارة عنا وتلك الكفارة ولم تغيّر قلب الله لكنها أزالت الموانع من إظهار محبته إيانا ومغفرته لنا وأوفت ما علينا لعدل الله ومهدت السبيل إلى المصالحة لأن المسيح حمل غضب الله ولعنته التي أوجبتها خطايانا علينا. ومصالحة الله لنا بابنه مهدت السبيل لمصالحتنا لله وتجديدنا الذي هو موضوع (ع ٢٠).
وَأَعْطَانَا أي وهب له ولسائر الرسل والمبشرين.
خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ أي المناداة بأنه وقع الصلح بين السماء والأرض بين الله والإنسان أي إن الله مع حقه أن يغتاظ على البشر لخطاياهم أوجد طريقاً هو الكفارة بموت المسيح إلى أن يكون عادلاً مع تبريره للخاطئ الذي يأتي إليه بواسطة ابنه. والمناداة بذلك هي الإنجيل الذي أمر المسيح تلاميذه أن يبشروا به كل الخليقة ويدعوها إلى قبوله والمسرّة به.
١٩ «أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ».
رومية ٣: ٢٤ و٢٥
هذه الآية متعلقة بالجملة الأولى من الآية السابقة وهي قوله «لكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح» فهي تفسير وتقرير لها ومختصر تاريخ الفداء.
ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً أي بواسطة المسيح فهو كقوله «بيسوع المسيح» في الآية السابقة وفي القولين بيان الطريق التي بها صالح الله العالم لنفسه. ومضمون ذلك أن الله لم يصالح الناس بلا واسطة ولا بواسطة ملاك أو خليقة أخرى بل بابنه. فكأنه قال الله حين مات ابنه كان يصالح العالم لنفسه. وهذا ما قصده حين أسلم ابنه إلى الموت وأجراه بموته.
ومعنى «مصالحته العالم لنفسه» هو تقديم ابنه كفارة لخطايا العالم لا تغيير قلوب الناس من جهته حتى يصيروا أصدقاء لأن هذا من نتائج المصالحة لا علتها ولا دليلها. والفرق بين قوله «صالحنا لنفسه» في الآية السابقة وقوله «كان مصالحاً العالم لنفسه» إنه أشار في الأول إلى ما فعله المسيح مرة حين مات على الصليب من أجل الجميع (رومية ٥: ١٠ وعبرانيين ٩: ٢٦). وفي الثاني إلى ما يفعله دائماً كلما سمع خاطئ بتلك المصالحة وقبلها. و «العالم» هنا كل البشر «كالجميع» في (ع ١٤ كولوسي ١: ٢٠).
غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ هذا أحد الدليلين في هذه الآية على أن الله كان مصالحاً العالم لنفسه بموت المسيح وهو أنه غفر لهم. وقوله «غير حاسب لهم خطاياهم» كقوله «مسامحاً لكم بجميع خطاياكم» (كولوسي ٢: ١٣). وقوله «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً» (رومية ٤: ٧ و٨) فارجع إلى التفسير هناك.
وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ هذا الدليل الثاني على مصالحة الله للناس ومعنى العبارة أن الله وكل إلى المبشرين بالإنجيل المناداة بأن الله أتم الصلح بينه وبين الناس وأنه مستعد أن يغفر لكل من تاب وآمن وهذا أوضح برهان على أن الله قبل موت المسيح كفارة عن الخطايا كافية كاملة مقبولة. وعبّر الرسول عن توصية الله للمبشرين بقوله «واضعاً فيهم كلمة المصالحة» إشارة إلى أنه وضعها في أفواههم جرياً على سنن الله في قوله لموسى «فَتُكَلِّمُهُ (أي هرون) وَتَضَعُ ٱلْكَلِمَاتِ فِي فَمِهِ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَمَعَ فَمِهِ، وَأُعْلِمُكُمَا مَاذَا تَصْنَعَانِ» (خروج ٤: ١٥). أو جرياً على سنن قوله السابق «ولكن لنا هذا الكنز (أي التبشير) في أوان خزفية» باعتبار أن المبشرين آنية خزفية وأن التبشير جواهر كُنزت فيها (ص ٤: ٧).
٢٠ «إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ».
ص ٦: ١
هذه الآية نتيجة ما سبق.
إِذاً أي بناء على قوله تعالى «مصالحاً» وأنه وكل إلى المبشرين المناداة بالمصالحة.
نَسْعَى كَسُفَرَاءَ أي نجتهد نحن المبشرين باعتبار كوننا سفراء في تبليغ المناداة. والسفير رسول الملك ونائبه فهو باعتبار أنه رسوله لا يتكلم باسم نفسه أو سلطانه ولا يصرّح بآرائه أو أوامره فلا أهمية له في ذاته ولا يأتي شيئاً إعلان ما أمره الملك بإعلانه وباعتبار كونه نائبه يتكلم باسمه. ولكلامه سلطان كسلطان كلام الملك كأنه الملك نفسه فالإهانة له إهانة لملكه. فنسبة المبشرين بالإنجيل كنسبة السفراء إلى الملك فإنه هو دعاهم بروحه وأقامهم لخدمته وهم رسله لكي يبلغوا الناس كلامه لا آراءهم ولا عقائدهم. فأهمية كلامهم ليست بالنظر إلى أنفسهم بل بالنطر إلى ربهم ولكونهم نواباً عنه كان رفض كلامهم رفضاً للمسيح كأنه حاضر يتكلم حقيقة والاستخفاف بتبشيرهم استخفافاً به.
عَنِ ٱلْمَسِيحِ أي باسمه وبالنيابة عنه بدليل قوله على الأثر «كأن الله يعظ بنا».
كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا هذا إما متعلق بقوله السابق «نسعى» وإما بقوله اللاحق «نطلب». فإن كان الأول كان المقصود بيان نسبة المبشرين إلى الله وهي أنهم نوابه في التكلم. وإن كان الثاني كان المقصود بيان على طلبهم من الناس قبول مناداتهم فإنهم يطلبون ذلك كأنه تعالى يطلبه بأفواههم.
والذي يستحق الملاحظة هنا أن الإنجيل اعتبر كون المبشرين سفراء عن المسيح أو كونهم هم الذين يعظ الله بهم شيئاً واحداً. فهو يعتبر الفداء عمل الله الآب وعمل الله الابن. وأن الله يصالح العالم لنفسه بالمسيح ويضع فينا كلمة المصالحة فعندما نتكلم كسفراء المسيح نعظ بالنيابة عن الله.
نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ كأنه حاضر يتكلم بما نتكلم به. فإنه حين كان على الأرض طلب من الناس أن يصالحوا الله ولو بقي على الأرض لما برح يطلب ذلك منهم. و «الطلب» جزء من المناداة التي أُمر بها وهو يدل على تنازل الله ومحبته للناس فيحق له أن يأمر الناس بالخضوع وينذرهم بالعقاب على إبائهم إياه. فيا للعجب إن ملك الملوك يتنازل إلى أن يطلب من خلقه وعبيده العصاة أن يقبلوا المصالحة التي أعدها بموت المسيح ويقدمها لهم مجاناً.
تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ أي اقبلوا المصالحة المعروضة عليكم. لأن المسيح أنشأها بموته فبها استطاع الله أن يكون باراً ومبرراً للفاجر. فليس للخطأة إلا أن يقبلوا تلك المصالحة التي أعدت لهم. وهذه الدعوة غير مقصورة على الخطأة قبل إيمانهم فهي موجهة إلى المؤمن أيضاً فكلما شك في قبول الله له لفتوره أو لسقوطه في الخطيئة يحتاج إلى التعزية الناشئة عن هذه الحقيقة وهي أن الله صالحه بدم المسيح لأن الإنجيل لا يعلّم أن استحقاق المسيح يكفر عن خطايا الإنسان قبل إيمانه وتجديده وأن الخاطئ نفسه يكفر عن الخطايا التي يرتكبها بعد ذلك بآلام نفسه أو بإيفاء القوانين بل يعلّم أن المسيح «حي في كل حين ليشفع فينا» وإن دمه «يطهر من كل خطيئة» قبل الإيمان وبعده.
٢١ «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ».
إشعياء ٥٣: ٦ و٩ و١٢ وغلاطية ٣: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٢ و٢٤ و١يوحنا ٣: ٥ رومية ١: ١٧ و٥: ١٩ و٢٠: ٣
هذه الآية إثبات لما سبق وهو قوله «تصالحوا مع الله» فافعلوا ذلك لأنه أعد لكم واسطة كافية مؤكدة لمصالحتكم وقبولكم. وبيّن في هذه الآية ما صنعه الله لتبرير الناس وما هو أساس المصالحة بواسطة المسيح وفيها خلاصة عمل الفداء.
لأَنَّهُ جَعَلَ أي الله فإنه مصدر عمل الفداء. إن موت المسيح لم يجعله يشفق على الخطأة ويخلصهم لكنه من تلقاء نفسه أرسل المسيح ليعد لهم خلاصاً. فوهم الذين ظنوا الله قاسياً منتقماً لا يريد أن يغفر للخاطئ إلا بلجاجة المسيح لأن شهادة الإنجيل أن الله «هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد».
ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً أي المسيح فإن شهادة الله للمسيح إنه كان قدوساً بريئاً من الخطيئة وهذا على وفق قول المسيح لليهود «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ» (يوحنا ٨: ٤٦). وقوله «إِنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا ١٤: ٣٠). وقول الرسول فيه إنه «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» وإنه «رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ» إنه «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين ٤: ١٥ و٧: ٢٦ و٩: ١٤). وقول بطرس الرسول «ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (١بطرس ٢: ٢٢). وقول يوحنا الرسول «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١يوحنا ٣: ٥). والخلو من الخطيئة شرط ضروري للتكفير عن الخطأة. وأوجبت شريعة موسى أن تكون الحيوانات المقدمة على المذبح بلا عيب لكي تكون رموزاً إلى تلك الذبيحة العظيمة.
خَطِيَّةً أي أن الله جعل المسيح خطيئة. فسر الفداء أن الله جعل الذي لم يعرف الخطيئة خطيئة وأنه وضع عليه إثم جميعنا (إشعياء ٥٣: ٦) وأنه «صار لعنة لأجلنا» (غلاطية ٣: ١٣) «فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٨: ٣). وجعله الله «خطيئة» حين صلى في جثسيماني وتألم وكان «عرقه كقطرات دم» وحين حوكم في محكمتي قيافا وبيلاطس. وحين سخر به العسكر وبصقوا عليه وجلدوه. وحين عُلق على الصليب وستر الله وجهه عنه حتى أنه صرخ «إلهي إلهي لماذا تركتني» وحين أسلم الروح. وفي وقوع كل هذا على ابن الله البار سر الفداء.
ومعنى قوله «جعلت خطيئة» نسب إليه خطيئة غيره وعمله معاملة خاطئ. فبالمنوال الذي صرنا به بر الله صار هو خطيئة أي أن الله حسبنا أبراراً مع كوننا خطأة وحسب المسيح خطيئة مع كونه بريئاً من الخطيئة. أراد بعضهم أن يقرأ بدل «خطيئة» ذبيحة خطيئة ولكن الذي يمنع من ذلك أن الله لم يكتبها هكذا في كتابه وأنه لا توافق المقابلة في سائر الآية كموافقتها على ما هي في الكتاب.
لأَجْلِنَا أي بدلاً منا كما ذُبح الخروف على المذبح بدلاً ممن قدمه. فإن المسيح باعتبار كونه نائباً عنا ذُبح بدلاً منا. وبقية الآية تدلنا أنه صار خطيئة ودين لكي نتبرر ولا نأتي إلى دينونة.
لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ أي ليحسبنا الله أبراراً كما أنه حسب المسيح خطيئة وهذا غاية الله من جعل «الذي لم يعرف خطيئة خطيئة» وهو لا يشير إلى أن الخطاة صاروا أبراراً بالذات أي أن الله قدس قلوبهم بموت المسيح كما لا يشير إلى أن جعله المسيح خطيئة من أجلنا جعله فاسداً مجرماً متعدياً شريعته. نعم إن التقديس لا ينفك من أن يكون للمؤمن إحدى نتائج موت المسيح لكن لا إشارة إلى ذلك هنا بل إلى ما فعله موت المسيح للجنس البشري مرة واحدة إذ صالح الإنسان مع الله بإيفاء العدل مطاليبه حتى لاق بالله أن يعامله كالبار. وأُضيف البر إلى الله لأنه هو منشئه أي منشئ الطريق الذي به يتبرر الخاطئ أو لأنه يجعلنا بذلك الطريق أبراراً أمامه والقرينة ترجح الثاني.
فِيهِ أي في المسيح فإن الاتحاد به بالإيمان هو الواسطة الوحيدة إلى أن نتبرر أمام الله.
إن الرسول بنى دعوته للناس إلى المصالحة مع الله على ما ذكره في هذه الآية وكان يمكنه أن يبنيها على أمر آخر مثل وجوب أن يصالح الناس ملكهم وخالقهم. وعلى قدرة الله وجودته. وخطر البقاء في العداوة لله وأفراح السماء وأهوال جهنم. لكنه اختار بناءها على أن المسيح صار خطيئة لأجلنا لأنه من أقوى الحاملات على المصالحة مع الله.
فوائد
- إنه في طاقة كل مسيحي أن يتيقن نيل السماء وأن ذلك مما يجب عليه لأنه يساعده في التجربة ويعزيه في الضيق ويريحه عند الموت. قال بولس إنه هو متيقن ذلك وكذلك يوحنا (١يوحنا ٣: ٢ و١٤) ويمكننا نحن ما أمكنهما. و نتيقن ذلك من كرهنا للخطيئة ومحبتنا لله وشوقنا إلى القداسة ومحبتنا للإخوة (ع ١).
- إن هذا الجسد لا بد من انحلاله بالموت بعد قليل لأنه يشبه خيمة سهلة الانتقاض لا بيتاً ثابت الأركان وبناء على ذلك يجب أن نتوقع الموت ونستعد له إذ الانتظار له لا يقدمه والغفلة عنه لا تؤخره. والاستعداد للموت يقوم بعضه بإتمام الإنسان واجباته لأهل بيته ككتابته وصية وواجباته لنفسه كتيقنه أن الله يقبله في المنازل الأبدية (ع ١).
- إن هذه الحياة تعب وشقاء وأنين من الخطيئة والتجارب والمشقات والهموم. وهذا لا يحدث اتفاقاً ولا يكون لبغض الله إيانا ولا لأنه يحسدنا على سرورنا بل لقصده ترغيبنا في عالم أفضل من هذا العالم وميراث أفضل من كل الموراث الأرضية حيث لا هم ولا تعب ولا موت (ع ٢ و٤).
- إن للمسيحي وطناً دائماً في السماء وهو هنا غريب بين غرباء وهناك وطنيّ بين أصدقاء. وهنا يكون جسده ضعيفاً مريضاً عرضة للموت وهناك يكون صحيحاً خالداً. وهنا يمكن أن يكون فقيراً مهاناً وهناك يكون غنياً مكرماً (ع ١ – ٤).
- إنه على المسيحي أن يقبل بالرضى والصبر كل ما يضعه الله عليه من الحزن والأمل لأن الله يقصد نفعه بذلك. فإن ذلك ليس إلا وقتياً وهو كل يوم يقرب من سماء الراحة كالسائح الذي لا يكترث بمشقات الطريق ويقول غداً أبلغ بيتي وأستريح (ع ١ – ٤).
- إنه لا يحسن أن نشتهي الموت لمجرد الخلاص من الألم والعناء فمن الناس من انتحروا هرباً من شدة آلام أجسادهم أو أحزان قلوبهم فجلبوا على أنفسهم شراً مما هربوا منه. فيجب أن نحتمل كل ما عيّنه الله من الأثقال بلا تذمر وأن لا نريد الموت إلا متى أظهر الله إرادته أن نتغرب عن الجسد ونتوطن عنده (ع ٤).
- إن ظن الإنسان أنه مستعد للموت لعدم خوفه منه ليس ببرهان على صحة استعداده وكذا ظنه أن غيره مستعد له لمجرد قوله واطمئنانه. فربما خدع نفسه بذلك أو خدعه غيره. ولعل اطمئنانه نشأ من جهله أو من تأثير المرض أو الدواء أو الرغبة في النجاة من الألم فكل من رجا السماء بغير المسيح فرجاؤه باطل (ع ٤).
- إن كل ما للمسيحيين من الآمال والأفراح والسلام والاطمئنان وهم يتوقعون الموت هو من الله لا من أنفسهم وعدم خوفهم الموت ليس من شجاعتهم وقواهم الطبيعية لكنه من نعمته تعالى وتأثير روحه القدوس. فسكنى ذلك الروح فيهم عربون من الله على أن السماء لهم وعلى أنه يجب أن لا يخافوا من الموت أبداً (ع ٥).
- إنه يجب على المسيحي أن يكون مسروراً أبداً. قال بولس أنه واثق كل حين فكذلك يجب أن نثق نحن. فلا شيء في الدين المسيحي يحمل المؤمن على أن يكون مكتئب الفؤاد عابس الوجه بل ما يحمله على عكس ذلك فلا حق لأحد في العالم أن يسر مثله لأنه يعلم أن كل ما ينزل به هنا يؤول إلى نفعه وأن خطاياه مغفورة وأن الله مصالح له وأن إرثه للسماء محقق وأنه متى غاب عن الجسد حضر مع الرب (ع ٦).
- إنه يجب أن نشعر دائماً بأننا في حضرة الرب وأن نجتهد أن نرضيه على الأرض كما ننتظر أن نرضيه في السماء. فيجب أن تكون غايتنا الوحيدة أن نكون مقبولين لديه سواء توقعنا طول العمر أم قصره بين الجماعات أم في الانفراد وفي الوطن أم في الغربة وفي البحر أم في البر وفي المرض أم في الصحة وفي الفرج أم في الضيق وفي العز أم في الذل فبهذا التسليم يمتاز المسيحي الحقيقي عن غيره (ع ٩).
- إنه لا بد من وقوفنا جميعنا أمام عرش الله ومن أن تكون دينونتنا بالعدل بلا محاباة ولا غض نظر عن شيء فإن الله لا يعتبر من الأعمال الصالحة التي تستحق الثواب ما لم يكن ما عُمل بالإيمان بالمسيح وبالغيرة على مجده فيجب الاجتهاد في أن يكون كل ما نعمله مرضياً لديه. وأول الأعمال التي يرضاها االإيمان بابنه الذي أرسله (ع ٩).
- إنه يجب الاجتهاد في أن ننقذ غيرنا من الهلاك الأبدي وأن نقنعه بالهرب من الغضب الآتي وأن نتوصل إلى ذلك بلجاجتنا ودموعنا وصلواتنا وعدم غفلتنا عن وسيلة من الوسائل إلى ذلك كترغيبه في أفراح السماء وإنذاره من عقاب جهنم وأن نحذر مع ذلك من كل كلمة قاسية أو توبيخ شديد مما يوهمه أننا نسر بعقابه على عدم قبوله لنصحنا وأن نشابه بولس الذي كان ليلاً ونهاراً لا يفتر عن أن ينذر بدموع كثيرة كل واحد بغية أن يأتي به إلى مصالحة الله (ع ١١).
- إنه يجب عدم الاستغراب من أن ينسب إلينا أحد اختلال العقل على غيرتنا للدين فقد حدث مثل هذا في كل عصر وبلاد. فحسب بعضهم بولس يهذي وحسب بعضهم المسيح مجنوناً والتلميذ ليس أفضل من معلمه والعبد ليس أفضل من سيده فإننا بالنظر إلى قدر السعادة التي نحث الناس على ربحها وشدة الخطر الذي نحثهم على الهرب منه يحق لنا ان نبذل الوسع في تنبيههم إلى حد نظهر به للدنيويين أننا مجانين (ع ١٣).
- إنه يجب أن يُعلن الإنجيل لكل الناس فإن المسيح مات عن الجميع فيلزم أنه أعد الخلاص للجميع وأنه يعرضه على الجميع مجاناً بلا استثناء فإن رفضوه كان الحق عليهم ووجب أن يعطوا على ذلك حساباً لله (ع ١٤).
- إن الرسول أوجب على كل الناس أن يعيشوا في ما بعد للمسيح فإن كان المسيح ليس بإله فأمر الرسول بالطاعة وتوجيه العبادة المختصة بالله إليه وهو مخلوق محال وذلك مما يثبت لاهوت المسيح (ع ١٥).
- إنه لا يجوز أن نقيس الأمور «حسب الجسد» أي بالنظر إلى بهائها الظاهر واعتبار أهل العالم لها بل يجب أن نقيسها بقياس الله ونسبتها إلى الأبدية (ع ١٦).
- إن الولادة الجديدة أهم ما نحتاج إليه. قال المسيح «ينبغي أن تولدوا من فوق» وهذا لا يكون بمجرد تغيير الاسم والاعتراف باللسان بل بالتغيير الذي يصح أن يعبر عنه بالخليقة الجديدة. فإن الأشياء العتيقة قد مضت هوذا كل شيء قد صار جديداً فعلى كل إنسان أن يمتحن نفسه ليعرف هل حصل على هذا التغيير العظيم أم لا. فإنه من المحال أن يخلص أحد في العالم دون أن يتجدد (ع ١٧).
- إن التبشير عمل مهم وعمل المبشر عمل ذو شأن لأنه سفير الله ليعلن لعصاة الناس الشروط التي بها يرضي الله عنهم ويقبلهم أولاداً له (ع ١٨ و١٩).
- إن تنازل الله عظيم جداً في طلبه المصالحة من الناس. فلو عصى الملك أحد رعيته فحُكم عليه بالموت كان تنازلاً عظيماً من الملك إذا رحمه وهو قد اعترف له بذنبه وطلب عفوه. وماذا يقال في ذلك الملك إذا أرسل إلى العاصي رسله على التوالي يسألونه أن يأتي للمصالحة. فإنه تعالى فعل كذلك وفوق ذلك بذل ابنه للموت لكي يصالح العصاة به (ع ٢٠ و٢١).
-
إن الله يرغب كل الرغبة في خلاص الناس. فإنه بذل ابنه من أجلهم وأرسل بشارة الخلاص مع خدمه المبشرين يلح عليهم أن يصالحوه فإن هلك أحد فهلاكه من نفسه لأنه رفض المصالحة.
السابق |
التالي |