كورنثوس الثانية

الرسالة الثانية إلى كورنثوس | 01 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

تسليمه على الكنيسة وشكره لله على نجاته من الخطر الشديد وكآبة النفس المرة (ع ١ – ١١). وتبرئته نفسه من الخفة (ع ١٢ – ٢٤).

التسليم والشكر ع ١ إلى ١١

التسليم في بدء هذه الرسالة يختلف قليلاً عن التسليم في الرسالة الأولى (ع ١ و٢). ومقدمتها كمقدمة الأولى بتقديم الشكر والفرق بينهما في الأحوال. وموضوع شكره في هذه التعزيات التي حصل عليها وجعله نفسه وإياهم شخصاً واحداً باعتبار ضيقاته ضيقاتهم وتعزيته تعزيتهم (ع ٣ – ٧). وذكر أن تلك المصائب التي نزلت به في أسيا كانت شديدة جداً حتى يئس من الحياة ثم نجاه الله منها إجابة لطلباته وتيقن أن الله سوف ينجيه (ع ٨ – ١١).

١، ٢ «١ بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، وَتِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ. ٢ نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

١كورنثوس ١: ١ وأفسس ١: ١ وكولوسي ١: ١ و١تيموثاوس ١: ١ و٢تيموثاوس ١: ١ فيلبي ١: ١ وكولوسي ١: ٢ رومية ١: ٧ و١كورنثوس ١: ٣ وغلاطية ١: ٣ وفيلبي ١: ٢ وكولوسي ١: ٢ و١تسالونيكي ١: ١ و٢تسالونيكي ١: ٢ وفليمون ٣

بُولُسُ، رَسُولُ… بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ سبق تفسير هذا في (١كورنثوس ١: ١).

َ تِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ (انظر ١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ٢: ١). قرن الرسول في مقدمة الرسالة الأولى اسم سوستانيس باسمه فرجّحنا أنه هو كاتب تلك الرسالة بمنزلة سوستانيس في تلك. وحين أملى رسالته الأولى كان تيموثاوس في مكدونية متوجهاً إلى كورنثوس (١كورنثوس ٤: ١٧ و١٦: ١٠). والمظنون أنه أكمل قصده لأننا لم نقف على ما يخالف ذلك وأنه لم يمكث فيها وقتاً طويلاً فرجع إلى بولس وكان معه حين كتب هذه الرسالة. وذهب البعض إلى أنه بقي في مكدونية إلى حين وصل بولس إليها ولم يذهب إلى كورنثوس بناء على دعوى أنه لو ذهب إليها ورجع بأنباء أحوالها لم يهتم بولس الاهتمام الشديد بمجيء تيطس بتلك الأنباء.

ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ هذا يفيد أن هذه الرسالة ليست لمؤمني كورنثوس وحدهم بل لكل مؤمني تلك البلاد التي كورنثوس قاعدتها وهي القسم الجنوبي من قسمَي بلاد اليونان. لم يقل الرسول إلى جميع كنائس أخائية كما قال «إلى جميع كنائس غلاطية» ونستنتج من ذلك أن المؤمنين خارج كورنثوس لم يكونوا كثيرين وأنهم كانوا معدودين جزءاً من كنيسة كورنثوس.

نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ الخ يتضمن هذا الدعاء طلب كل فوائد الفدءا إذ الدعاء بالنعمة يتضمن طلب حصولهم على محبة الله الآب والمسيح ابنه. والدعاء بالسلام يتضمن أن يتيقنوا بنفوسهم أنهم حصلوا على نتائج محبة الله وابنه يسوع المسيح. وكان الله أباً لنا لأننا صنع يده كسائر الناس ولكنه أبونا بنوع خاص باعتبار كوننا مؤمنين مولودين ثانية بروحه القدوس فصرنا أولاده بالتبني وورثة ملكوته السماوي. ويسوع المسيح ربنا لأنه الله ذو السلطان المطلق ولأنه اشترانا بدمه الثمين ولأننا وقفنا أنفسنا له حباً وشكراً.

٣ «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلرَّأْفَةِ وَإِلٰهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ».

أفسس ١: ٣ و١بطرس ١: ٣

مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ هذه إعلان للشكر والحمد وأتى الرسول بمثل هذا في إحدى عشرة رسالة من رسائله.

أَبُو رَبِّنَا نسبة الله إلى المسيح علة أن نحب الله ونشكره «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» وهو يستحق محبتنا بالأولى على أنه إله الفداء (رومية ١٥: ٦ و٢كورنثوس ١١: ٣١ وكولوسي ١: ٣ و١بطرس ١: ٣).

أَبُو ٱلرَّأْفَةِ أي إنه كثير الرأفة وأصل كل المراحم ويسرّ بإظهار الرحمة (مزمور ٨٦: ٥ و١٥ ودانيال ٩: ٩ وميخا ٧: ١٨).

وَإِلٰهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ حقيقة ممكنة فيعزينا بإنقاذنا من الشر وبجعله أحوالنا سارة وبتأثيره في قلوبنا لأنه يسكّن اضطرابها وينشئ فيها السلام والاطمئنان (رومية ١٥: ١٣).

٤ «ٱلَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِٱلتَّعْزِيَةِ ٱلَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ ٱللّٰهِ».

ٱلَّذِي يُعَزِّينَا نحن الرسل. أراد هنا الرسل عموماً ثم قصر الكلام على نفسه كما يتبيّن مما يأتي فإن الله عزاه في كل ضيقاته وأتعابه فبارك الله لما اختبره من تعزيته.

فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا تضايق الرسول من الجوع والبرد والعري والجلد والسجن وأخطار البر والبحر واللصوص وأعدائه من اليهود والأمم حتى أن حياته كانت موتاً مستمراً. وكان عليه فوق ذلك الاهتمام بكل الكنائس وفوق هذا أنه «أُعطي شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمه» (ص ١١: ٢٤ و٣٠ و١٢: ٧) سنده الله في كل الضيقات وعزاه وقواه حتى استطاع احتمالها والفرح بها بدليل قوله «لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح» فلو لم يكن قلبه مملؤاً من المحبة للمسيح حتى اشتهى أن يمجده ولو بآلامه لما أمكنه أن يفرح بتلك النوازل.

حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الخ هذا هو السبب الأعظم لا السبب الوحيد لتعزية الله إياه فرضي بولس أن يتألم ليكون أهلاً لتعزية غيره إذ من المعلوم أن لا أحد يستطيع تعزية غيره في ضيقه مثل الذي اختبر نفسه في مثلها والتعزية التي يمنحها الله بكلمته وروحه.

٥ «لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا، كَذٰلِكَ بِٱلْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً».

متّى ٢٥: ٤٠ و٤٥ وأعمال ٩: ٤ وص ٤: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤

تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا أي آلام كآلامه وهي الآلام التي يحتملها المسيحيون ليتحدوا به ويشابهوه فهذا كقول المسيح لابني زبدي «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ» (متّى ٢٠: ٢٣). وقول الرسول «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (فيلبي ٣: ١٠). وكقول بطرس للمؤمنين «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا» (١بطرس ٤: ١٣ انظر ص ٤: ١٠ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ١: ٢٤ وغلاطية ٦: ١٧). وخلاصة هذه الآيات أنه يجب على المؤمنين أن يشتركوا في آلامه ليقدروا أن يشتركوا في مجده.

كَذٰلِكَ أي بهذا المقدار عينه.

تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً كان اتحاد بولس بالمسيح على ضيقاته وعلى تعزيته. ومعظم الفرق بين المصابين من المؤمنين والمصابين من أهل العالم أن هؤلاء منفصلون عن المسيح الذي هو أصل كل تعزية حقيقية وأن أولئك متحدون به وبه يتعزون كقوله «إنه في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» يضايَق المؤمنون لكونهم أعضاء المسيح ويُعزون بكونه هو رأسهم. وحين يثير العالم عليهم العداوة والمقاومة يمنح صوت المسيح السلام لقلوبهم. فإن استفانوس حين هجم أعداؤه عليه ليقتلوه رأى السماء مفتوحة ويسوع قائماً عن يمين الله يستقبله.

٦، ٧ «٦ فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، ٱلْعَامِلِ فِي ٱحْتِمَالِ نَفْسِ ٱلآلاَمِ ٱلَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضاً. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. ٧ فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي ٱلآلاَمِ، كَذٰلِكَ فِي ٱلتَّعْزِيَةِ أَيْضاً».

ص ٤: ١٥ رومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢

أشار الرسول بما في هاتين الآيتين إلى شدة العلاقة بينه وبينهم فلزم بالضرورة أنهم يشاركونه في ضيقاته وتعزياته. ولنا من ذلك أن الله قصد نفع شعبه بكثير من الفوائد الدينية بواسطة خدمهِ الأمناء فهو يعلم هؤلاء ويسمح بضيقاتهم ويعزيهم لكي يستطيعوا بذلك أن ينفعوا الشعب بخدمتهم بعد الاختبار.

فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ يعني أن مصائبه تنفعهم لأنها تؤول إلى تعزيتهم وخلاصهم. وعلة ذلك أنهم وإياه واحد فما ينتفع هو به من مصائبه ينتفعون هم به أيضاً وأن كل الذين يحتملون الأرزاء من أجل اسم يسوع المسيح بمشاركتهم شعبه يعزيهم المسيح ويخلصهم بدليل قوله «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ (أي مع المسيح) لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رومية ٨: ١٧). نعم إن النوازل لا تنشئ القداسة من تلقاء نفسها أو تستحق الخلاص كذلك لكن المسيح سرّ بأن تكون الآلام التي يقاسيها المسيحيون من أجل اسمه «وسيلة إلى ثقل مجد أبدي» (ص ٤: ١٧).

ٱلْعَامِلِ فِي ٱحْتِمَالِ نَفْسِ ٱلآلاَمِ ٱلَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا تحقق الرسول أن مؤمني كورنثوس يحصلون من ضيقاته على نفس ما يحصل هو عليه من الفوائد الروحية المتضمنة في قوله «تعزيتكم وخلاصكم». ووقع قوله «العامل» نعتاً للخلاص لتضمنه التعزية وحكم بذلك لأنهم احتملوا بعض ما احتمله من تلك المصائب عينها وأُصيبوا بكل منها لمجرد اسم المسيح ونشر إنجيله كما أُصيب بها هو ولمشاركتهم إياه في ضيقاته الرسولية المختصة به.

واستدلوا «وأصابوا باستدلالهم» على أن مصائبهم ليست دليلاً على غضب الله بأنها كانت مثل مصائب الرسول وأنهم هم خدم الله الذين يبغضهم العالم كما كان الرسول نفسه. وقرنه الفوائد باحتمال الآلام دليل على أن صبره شرط لنيل الفوائد وبرهان عليها وذلك موافق لقول المسيح «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (متى ٢٤: ١٣). وقول يعقوب «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب ١: ١٢).

أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ أي إننا كما نشترك في الضيقات نشترك في التعزيات والنجاة فأنتم تتعزون حين ترونني متعزياً ونيلي التعزية يقدرني على تعزيتكم أيضاً. وإجابة الله لصلواتي في كل نوائبكم. كذلك عزّى داود النبي كثيرين بقوله «هٰذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ» (مزمور ٣٤: ٦). واختبار بولس صدق مواعيد الله وقوته مكنه من أن يبيّن لغيره حلاوتها وقوتها. وما قاله بولس في شأن مصائبه يصدق على مصائب الرسل فإن قدوتهم باحتمالها بالصبر والتعزيات التي نطق بها للمصابين هي للكنيسة نفع عظيم دائم في كل عصورها.

فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ إنكم تحتملون آلامكم بالصبر وتحصلون على التعزية والخلاص المقترنين بها.

عَالِمِينَ الخ أي نحن عالمون أن المؤمنين الذين يشاركون غيرهم في أحزانهم يشاركونهم أيضاً في أفراحهم لأن الله قد رتب أن يكون ذلك وقد عُلم بالاختبار. والكورنثيون شاركوا الرسل في أحزانهم فلا ريب في أنهم يشاركونهم في أفراحهم. ولم يقصد مجرد أنهم يحصلون على هذه التعزية في السماء بل حقق أنهم كانوا في ذلك الوقت عينه حاصلين على شيء منها.

٨ « فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً».

أعمال ١٩: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٣٢ و١٦: ٩

فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا اعتاد بولس أن يأتي بمثل هذه العبارة مقدمة لأمر ذي شأن كما في (رومية ١: ١٣ و١كورنثوس ١٠: ١ و١٢: ١ و١تسالونيكي ٤: ١٣) ولم يشر بهذه الكلمات إلى أن الكورنثيين كانوا يجهلون نزول الأرزاء بالرسل بل إلى أنهم جهلوا مقدارها. وأومأ في ما سبق إلى تلك المصائب عموماً وأخذ هنا يتكلم على أرزاء خاصة نزلت به حديثاً.

ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا المراد بآسيا هنا الجزء الغربي من آسيا الصغرى المشتمل على ميسيا وليديا وكاريا وقسم من فريجية. ولم يصرّح بتعيين تلك الضيقات فرأى بعضهم أنها السجس الذي أثاره عليه في أفسس ديمتريوس ورفقاؤه (أعمال ١٩: ٢٣ – ٤١). ويمنع من هذا أنه لم يعرَّض لخطر شخصي لأن الإخوة لم يدعوه أن يدخل المشهد. ورأى آخر أنه أشار بتلك الضيقات إلى مرض شديد اعتراه «بآلام المسيح» ولم نقف قط على ما يدل أن المسيح مرض. والأرجح أنه أشار بها إلى مؤامرات اليهود والأمم على قتله كما ذُكر في (أعمال ١٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٣١).

أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ حسب ضيقاته حملاً ثقيلاً لا يستطيع أن يحمله فكاد يسقط تحته.

أَيِسْنَا أي لم نر طريقاً إلى النجاة منها لكثرتها وعظمتها.

٩ «لٰكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ».

إرميا ١٧: ٥ و٧

كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ حسب بالنظر إلى الأخطار المحدقة به أن الله قضى بأنه يبذل حياته وقتئذ في سبيل الإنجيل وكانت كل الأحوال تدل على قرب أجله ومنها ما في قوله «في الميتات مراراً كثيرة» (ص ١١: ٢٣).

لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا هذا يشير إلى أنه قنط من كل وسائل النجاة التي استطاع عقله أن يصورها ويده أن تجريها.

بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ كثيراً ما يسمح الله بأن ينزل بأولاده بلايا شديدة جداً إلى حد يعجز عنده عن دفعها كل يد سوى يده تعالى فيلزمهم أن يعدلوا عن الاتكال على شيء من الوسائط البشرية ويلجأوا إليه وحده ليزيد ثقتهم به حين يخلصهم.

ٱلَّذِي يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ هذا مما يستحيل على غير الله. إن خطر بولس كان شديداً إلى حد أنه لم يستطع أحد أن ينقذه منه إلا الذي يقدر أن يُحيي الموتى. وجاء بمثل هذا في وصف إيمان إبراهيم فقال «ٱللّٰهِ ٱلَّذِي آمَنَ بِهِ، ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْمَوْتٰى، وَيَدْعُو ٱلأَشْيَاءَ غَيْرَ ٱلْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ» (رومية ٤: ١٧ انظر أيضاً عبرانيين ١١: ١٩).

١٠ «ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هٰذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. ٱلَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضاً فِيمَا بَعْدُ».

٢بطرس ٢: ٩

ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هٰذَا هذا يدل على أن ثقة الرسول بالله كانت مبنية على أساس متين وأن الله أنقذه من شدة الأخطار التي حملته على اليأس من الحياة. ومثل ذلك نجاته بعد أن رُجم في لسترة وظُن أنه مات (أعمال ١٤: ١٩) فشعر بذلك أنه مديون لله كأنه أحياه بعد الموت.

وَهُوَ يُنَجِّي… سَيُنَجِّي الخ أي ينقذ اليوم وغداً. ويتضح من هذا أن ضيقات الرسول لم تنته لأن الأعداء الذين ابتغوا قتله لم يزالوا يبتغونه فكان عرضة للاضطهاد والموت في كل موضع أتاه للتبشير. ولكن اختباره عناية الله في ما مضى حقق له أنه لا يزال يحميه إلى أن يكمل السعي الذي قصد الله أن يكمّله.

١١ «وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ».

رومية ١٥: ٣٠ وفيلبي ١: ١٩ وفليمون ٢٢ ص ٤: ١٥

وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لم تكن ثقة الرسول بأمنه في المستقبل مبنية على مجرد اختباره عناية الله بل كانت أيضاً مبنية على تأثير الصلوات التي تقيمها من أجله كنيسة كورنثوس وغيرها من الكنائس المسيحية. رأى بولس أن لصلوات الكنيسة من أجل خدمها فاعلية عظيمة وإلا لم يكثر من طلبها. ومن البينات الكثيرة على ذلك ما في (رومية ١٥: ٣٠ وفيلبي ١: ١٩).

لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ الخ قصد الله أن تشترك كنائس كثيرة في الصلاة من أجل نجاة بولس من الخطر لكي تكون نجاته على شكر وتسبيح عام. وعبّر عن نجاته بقوله «ما وُهب» لأن هذه النجاة علامة رضى الله. وحسب مما لا بد منه أن الذين صلوا من أجله لا يغفلون عن الشكر لله حين تجاب صلواتهم.

إن علاقات شركة المسيحيين المذكورة هنا ثلاث الأولى الحزن والثانية الصلاة للنجاة والثالثة الشكر على الإجابة.

تبرئة بولس نفسه من التهمة بالخفة ع ١٢ إلى ٢٤

أخبر بولس الكورنثيين بقصده أن يذهب إليهم من أفسس رأساً ثم يذهب إلى مكدونية ثم يرجع إليهم أيضاً (ع ١٦) ولكنه لأسباب كافية اضطر أن يغير قصده قبل كتابة رسالته الأولى كما أخبرهم في رسالته الأولى (١كورنثوس ١٦: ١٥) وهذا حمل أعداءه في كورنثوس أن يتهموه بالطيش والخفة في العالميات ثم تطرقوا إلى اتهامهم إياه بذلك في عقائده الدينية فقالوا كيف نثق بتعليم ديني من إنسان متقلب كذلك. فأبان بولس في هذا الفصل أن تغيير قصده لم ينتج عن خفة أو وهن عزم بل من شفقته عليهم.

١٢ «لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هٰذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ ٱللّٰهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ، تَصَرَّفْنَا فِي ٱلْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ».

ص ٢: ١٧ و٤: ٢ و١كورنثوس ٢: ٤ و١٣

لأَنَّ اللام للتعليل والعلاقة بين هذا والذي قبله انتظاره مشاركتهم إياه في ضيقاته وصلاته لأن ضميره شهد بخلوص نيته واستقامته بينهم ولولا ذلك لم يتيقن ثقتهم به لعلمه أنه لا يستحقها.

فَخْرَنَا المراد بالفخر هنا وفرة الفرح المؤدي إلى الشكر فإن بولس حين اتهمه أهل كورنثوس بالخفة والتقلب ولاموه عليهما كان بدلاً من أن يخجل من تصرفه بينهم فرحاً شاكراً.

شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا فمن استراح ضميره فرح وإن ذمه الناس ومن تعب ضميره حزن وإن مدحوه. ومثل احتجاجه في مجمع اليهود وهو قوله «إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (أعمال ٢٣: ١).

فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ ٱللّٰهِ هذا تفسير مراده من قوله «شهادة ضميرنا» والبساطة هنا خلو القلب من كل خداع. والإخلاص ترك الرياء واستقامة السيرة. وأُضيف إلى الله لأنه هو منشئه ومارسه بولس باعتبار أن الله فاحص القلوب هو الديّان وصرّح بأن كل تصرفه بينهم كان على هذا السنن.

لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ أي حكمة مصدرها العقل البشري. إن حكمة غير المتجددين من الناس لا بد من أن يخامرها الفساد الملم بطبيعتهم الساقطة وهي ناقصة نفسانية يُراعي بها نيل الغاية بقطع النظر عن جودة الوسائط فلم يطلب بولس بينهم غايات ذاتية من لذة أو شرف أو ربح أو مدح بشري.

بَلْ فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أي تأثيرات الروح القدس في القلب وهذا خلاف الحكمة الجسدية.

تَصَرَّفْنَا فِي ٱلْعَالَمِ أي بين الناس عامة.

وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ أي مؤمني كورنثوس. فإنه كان لهم ما ليس لغيرهم من الوسائط لمعرفة بساطة قلب بولس وإخلاصه فبناء على هذه المعرفة تيقن بولس أن لهم ثقة به.

١٣، ١٤ «١٣ فَإِنَّنَا لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ. وَأَنَا أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ أَيْضاً، ١٤ كَمَا عَرَفْتُمُونَا أَيْضاً بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ أَنَّنَا فَخْرُكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ أَيْضاً فَخْرُنَا فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».

ص ٥: ١٢ فيلبي ٢: ١٦ و٤: ١ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢٠

صرّح بولس هنا أنه أتى في رسائله بالإخلاص الذي أتى به في تصرفه فلم يكتب بقلمه خلاف ما قصد بقلبه. ولم يقصد في كتابته لحناً أي كلاماً يفهمه بعضهم ويخفى على الآخر.

لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ أي قصدنا في كتابتنا المعنى البسيط الواضح الذي كل قارئ يدركه وهو على وفق ما في قلبي.

وَأَنَا أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ الخ ذهب بعضهم إلى أن هذه الجملة متعلقة بالتي قبلها وأن معناها أنا أومل أن تتخذوا ما أكتبه إليكم على بساطة معناه فلا تخطئوه ولا تحرّفوه. ولكن الأنسب أن نعتبرها جزءاً مما يليها أي «أنكم تعرفوننا إلى النهاية كما عرفتمونا بعض المعرفة» وأن نكون فخركم جميعاً.

كَمَا عَرَفْتُمُونَا أَيْضاً بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ ليس كل مؤمني كورنثوس وثقوا ببولس وسروا لذلك قال «بعض المعرفة» لكنه أمل أن يعرفه كلهم ويثق به كما فعل بعضهم.

أَنَّنَا فَخْرُكُمْ أي موضوع ثقتكم وسروركم.

فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ آمن بولس بأنهم يقفون يوم الرب أي اليوم الآخر أمام الله جميعاً من رسل ومُرسل إليهم ومعلِّمين ومعلَّمين وتُعلن كل الأسرار وخفيات المقاصد وتحقق أنه حينئذ يسر به كل مؤمني كورنثوس باعتبار أنه رسولهم ومعلمهم كما كان يسر بهم يوم كتب إليهم باعتبار أنهم أولاده الروحيون. وكلامه يتضمن أن كثيرين منهم حصلوا على المسرّة به وأنهم سيزيدون مسرّة به في المستقبل حتى تكمل في اليوم الآخر.

١٥، ١٦ «١٥ وَبِهٰذِهِ ٱلثِّقَةِ كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ. ١٦ وَأَنْ أَمُرَّ بِكُمْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، وَآتِيَ أَيْضاً مِنْ مَكِدُونِيَّةَ إِلَيْكُمْ، وَأُشَيَّعَ مِنْكُمْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ».

١كورنثوس ٤: ١٩ رومية ١: ١١ و١كورنثوس ١٦: ٥ و٦

بِهٰذِهِ ٱلثِّقَةِ أي أننا فخركم وأنكم تحققتم بساطتنا وإخلاصنا.

كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً أي رغبت في أن آتي إلى كورنثوس قبل ذهابي إلى مكدونية غير شاكٍ في أن أكثر الكنيسة يقبلونني بالمحبة والثقة ولم أعدل عن ذلك لريبي فيكم.

لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ بواسطة اجتماعكم بي مرتين مرة في ذهابي إلى مكدونية على طريق كورنثوس ومرة في إيابي إليكم من هناك. وأراد «بالنعمة» هنا الإفادة الروحية كما جاءت بهذا المعنى كثيراً في الإنجيل.

أَمُرَّ بِكُمْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ كانت مكدونية الجزء الشمالي من بلاد اليونان (انظر تفسير أعمال ١٦: ٩). وكان الطريق الأقرب بين أفسس ومكدونية غير المار بكورنثوس.

أُشَيَّعَ مِنْكُمْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ كانت العادة يومئذ كاليوم أنه إذا مر أحد المسافرين المعتبرين بأصحابه خرجوا معه وساروا بعض الطريق إظهاراً لحبهم وإكرامهم له (أعمال ١٥: ٣ و٢٠: ٣٨). فتوقع بولس ورغب في أن يقبل ذلك علامة إكرام من مؤمني كورنثوس. وكانت غايته من الذهاب إلى اليهودية حمل الإحسان الذي جمعه من الكنائس لفقراء كنيسة أورشليم (١كورنثوس ١٦: ٣).

١٧ «فَإِذْ أَنَا عَازِمٌ عَلَى هٰذَا، أَلَعَلِّي ٱسْتَعْمَلْتُ ٱلْخِفَّةَ، أَمْ أَعْزِمُ عَلَى مَا أَعْزِمُ بِحَسَبِ ٱلْجَسَدِ، كَيْ يَكُونَ عِنْدِي نَعَمْ نَعَمْ وَلاَ لاَ؟».

ص ١٠: ٢

أَلَعَلِّي ٱسْتَعْمَلْتُ ٱلْخِفَّةَ أي عزمت على أمرٍ قبل التأمل فيه بلا قصد إنجازه كما اتهمني أعدائي. نعم إن بولس عدل عن قصده الأول لأنه كان إنساناً ضعيفاً لا يعرف موانع المستقبل عن إنفاذ مقاصده. ولم يتبين كيف عرف الكورنثيون مقصده الأول لأنه حين كتب إليهم الرسالة الأولى كان قد غيّر عزمه واعتمد الذهاب إلى مكدونية أولاً (١كورنثوس ١٦: ٥). ولعلهم عرفوا ذلك من رسالة مفقودة الآن (انظر تفسير ١كورنثوس ٥: ٩) ولعله فوّض إلى تيموثاوس أن يخبرهم به عند ذهابه إلى أفسس قبل كتابة الرسالة الأولى (١كورنثوس ٤: ١٧).

أَمْ أَعْزِمُ… بِحَسَبِ ٱلْجَسَدِ كسائر الناس الذين يقصدون بمقتضى أهواء طبيعتهم الفاسدة وليس لهم إرشاد الروح القدس. فاستفهام بولس في الأمرين إنكاري فلم يكن خفيفاً في العزم ولا ذا غايات شخصية دنيوية.

كَيْ يَكُونَ عِنْدِي نَعَمْ نَعَمْ وَلاَ لاَ نسب أعداء بولس هذا القول إلى خفته. وكرر بعض الكلمات هنا للتوكيد (كما في متى ٥: ٣٧) والمعنى أنه يعد ويخلف أو يوجب وينفي في وقت واحد. ومراد أعدائه بهذا أنه لم يبق سبيلاً إلى الثقة بكلامه وأن ذلك يستلزم أن تبشيره لا يمكن الثقة به أيضاً.

١٨ «لٰكِنْ أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ إِنَّ كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ».

١كورنثوس ٢: ٢

لٰكِنْ أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ استشهد الله الإله الحق على أن ما يقوله حق. وليس في هذا ما ينافي نهي الإنجيل عن الحلف لأن المراد بالنهي عن القسم أن لا يُتخذ اسم الله باطلاً. وفي كلام الرسول إقرار بوجود الله وأنه العالم بكل شيء وأنه إله القداسة والحق وفاحص القلوب والديّان. ومثل كلامه هنا ما تكلم به في (١كورنثوس ١: ٩ و١٠: ١٣ و٢تسالونيكي ٣: ٣).

كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ الظاهر إن أعداءه اتهموه بأمرين الأول أنه كاذب في الكلام المعتاد والثاني وهو نتيجة الأول أنه كاذب في التبشير أيضاً فلم يكترث بالتهمة الأولى حتى يكلف نفسه دفعها وأما الثاني فاهتم به كثيراً فدفع التهمة به بقوة. وأراد بقوله «كلامنا» تبشيره بقوله «لم يكن نعم ولا» أنه ليس بكذب ولا يستطيع أحد أن يعتمده ككلام من لفظه «نعم» ومعناه «لا» فأثبت أن كلامه أمين وحق كالله.

إن ثقة بولس بصدق كلامه كانت عظيمة جداً حتى قال للغلاطيين «إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا» (غلاطية ١: ٨). وقال هنا أن ثقته بصدق الإنجيل الذي بشر به كثقته بالله لأنه علم أنه لم يكن سوى آلة تكلم الله بها في كل تبشيره.

١٩ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، ٱلَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ، لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ».

مرقس ١: ١ ولوقا ١: ٢٥ وأعمال ٩: ٢٠ عبرانيين ١٣: ٨

احتجّ بولس على أن تعليمه حقٌّ بأن المسيح حقٌّ فكما أنه لا تناقض بين أقوال المسيح كذلك لا تناقض بين أقوال الرسول في المسيح.

يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، ٱلَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ إن المسيح نفسه كان موضوع تعليم بولس لا النبأ بأمره لأنه أعلن بواسطة خدمه أنه ابن الله. فطبيعته كطبيعة الآب فلا بد من أنه حق ثابت إلى الأبد فيستحيل أن يناقض بعض أقواله الآخر. وقد صرّح أولاً أنه «الطريق والحق والحياة» ولم يزل يصرّح بذلك بواسطة رسله وسوف يصرّح به فلا ظل دوران.

بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ كان هؤلاء الثلاثة معاً في كورنثوس يوم نادوا فيها بالإنجيل أولاً (أعمال ١٨: ٥). وسلوانس في الآية هو سيلا في سفر الأعمال فكانوا آلات أظهر المسيح نفسه بها فلا سبيل للكورنثيين أن يثبتوا أدنى تناقض بين تعاليمهم في المسيح فكلهم نادوا بصوت واحد أن المسيح ابن الله وأنه نبي شعبه وكاهنه وملكه.

لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ أي كان كله حقاً لا منافاة فيه فقد تبرهن لهم صدق كل ما ادعاه لنفسه وأنه منجز كل ما وعدهم به. فإذاً كان عند بولس النظر في صدق نفسه أو عدمه من الأمور الزهيدة إنما رغب في أن لا يخامرهم أدنى ريب في صدق المسيح وأنه «هو هو أمس واليوم وإلى الأبد». ولا شك في أن في ذلك تلميحاً إلى أن المسيح الذي هو الحق لم يختر آلات إعلانه البشرية من أهل الخفة والتقلب.

٢٠ «لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ ٱللّٰهِ فَهُوَ فِيهِ ٱلنَّعَمْ وَفِيهِ ٱلآمِينُ، لِمَجْدِ ٱللّٰهِ، بِوَاسِطَتِنَا».

رومية ١٥: ٨ و٩

هذا تقرير لما سبق في (ع ١٨ و١٩) وخلاصته أنه ليس في المسيح ما يوجب الريب لأنه قد أُنجزت به كل مواعيد الله.

مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ ٱللّٰهِ في شأن المسيح الموعود به من جهة تبرير التائبين وتقديس المؤمنين وتعزيتهم ومساعدتهم في الضيقات والإرشاد في الارتباك والأمن والاطمئنان عند الموت.

فَهُوَ فِيهِ ٱلنَّعَمْ وَفِيهِ ٱلآمِينُ أي الحق والإنجاز إذ تمت مواعيده لكل الذين آمنوا به وستتم لمن يؤمنون لأنه الحق (يوحنا ١٤: ٦) «ٱلآمِينُ، ٱلشَّاهِدُ ٱلأَمِينُ ٱلصَّادِقُ» (رؤيا ٣: ١٤).

لِمَجْدِ ٱللّٰهِ، بِوَاسِطَتِنَا إن الرسل كانوا وسائل الله بإعلانهم إياه لكي يؤمن الناس به. واختبار المؤمنين صحة مواعيد الله بالمسيح حملهم على تمجيده واتخاذه إله الحق والنعمة وذلك على وفق قوله «مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ» (يوحنا ٣: ٣٣). وقوله «إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ٱبْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللّٰهُ عَنِ ٱبْنِهِ» (١يوحنا ٥: ٩ و١٠).

٢١، ٢٢ «٢١ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ ٱللّٰهُ ٢٢ ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا».

١يوحنا ٢: ٢٠ و٢٧ أفسس ١: ١٣ و٤: ٣٠ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ورؤيا ٢: ١٧ ص ٥: ٥ وأفسس ١: ١٤

ذكر الرسول في الآيتين السابقتين المسيح باعتبار كونه موضوع المواعيد الإلهية وركن إيمان المؤمنين. وذكر في هاتين الآيتين الله الآب باعتبار كونه منشئ إيمانهم ومقدرهم على الثبوت فيه وأنه سيمنحهم الخلاص التام الذي وعدهم به وأعطاهم عربونه.

ٱلَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ أي يقدرنا على أن نبقى متمسكين بالمسيح. والمثبتون هم الرسل والذين أُرسلوا هم إليهم أي المعلِّمون والمعلَّمون فنعمة الثبوت لم تُعطَ بعض المؤمنين دون غيرهم بل كل المؤمنين الحقيقيين فتُعطى الكورنثيين كما يُعطاها بولس.

فِي ٱلْمَسِيحِ أي التمسك به موضوعاً لإيمانهم ورجائهم ومحبتهم وطاعتهم واعترافهم وهم متحدون به يحيون بحياته.

وَقَدْ مَسَحَنَا أي أهلّنا للقيام بما فُرض علينا. وكان الأنبياء والكهنة والملوك يمسحون حقيقة حين يعينون لأعمالهم. قال المسيح «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ الخ» (لوقا ٤: ١٨). وقال بطرس «يَسُوعُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ ٱللّٰهُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْقُوَّةِ» (أعمال ١٠: ٣٨). وقيل في المسيحيين أنهم مُسحوا بتأثيرات روح الله حين وقفوا أنفسهم لخدمته تعالى واستعدوا لها بدليل قول يوحنا الرسول «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ» وقوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَٱلْمَسْحَةُ ٱلَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هٰذِهِ ٱلْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ» (١يوحنا ٢: ٢٠ و٢٧).

لم يقتصر بولس الرسول على نسبة هذه المسحة إلى الرسل بل نسبها إلى المؤمنين كلهم بدليل قوله «الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا» فحكم بالمسيح المشترك كما حكم بالتثبيت المشترك وبدليل أن مسحة الروح واتخاذ عربون الروح ليسا بمقصورين على الرسل. وتأثير تلك المسحة في المؤمنين تيقنهم أن الله منشئ إيمانهم وهو يقدرهم على الثبوت في الإيمان.

هُوَ ٱللّٰهُ أي هو الذي يثبتنا ويمسحنا.

ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً الغاية من الختم ثلاثة أمور:

  • الأول: بيان أن المختوم ملك صاحب الختم.
  • الثاني: إثبات الصك أو الرسالة.
  • الثالث: حفظ المختوم على حاله. وعمل الروح القدس يُعتبر أحياناً مسحة وأحياناً ختماً فختم الروح القدس للمؤمنين بيان أنه لله وذلك مثل قول يوحنا «وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالِعاً مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ مَعَهُ خَتْمُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (رؤيا ٧: ٢). ويقرب منه قول بولس «لٰكِنَّ أَسَاسَ ٱللّٰهِ ٱلرَّاسِخَ قَدْ ثَبَتَ، إِذْ لَهُ هٰذَا ٱلْخَتْمُ. يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِينَ هُمْ لَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٩). والروح يشهد لأرواح المؤمنين أنهم أولاد الله ويجعلهم يثمرون أثمار البر لكي يعرفوا أنهم أولاد الله ويجعلهم يثمرون أثمار البر لكي يعرفوا أنهم لله ويعرف غيرهم ذلك ويحفظهم من الارتداد والهلاك ولذلك قال الرسول «لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ» (أفسس ٤: ٣٠).

وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا أي إنه بحضوره معنا وعمله فينا يحقق لنا فداءنا. والعربون هنا جزء ثمن الشيء المؤدي سلفاً إثباتاً أنه ستؤدي البقية. فسكنى الروح القدس في قلوب المؤمنين وهم على الأرض علامة تأكيد خلاصهم الأبدي فالذي تحقق سكنى الروح في قلبه لا يبقى له سبيل إلى الخوف من جهة خلاصه بدليل قوله «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٦ و١٧ انظر أيضاً أفسس ١: ١٤). وما يسمى بعربون الروح أحياناً يسمى أيضاً باكورة (رومية ٨: ٢٣).

والذي نتعلمه من هاتين الآيتين أن الله هو الذي يثبت شعبه في اتحادهم بالمسيح ونيلهم كل فوائد الفداء ويؤكد لهم ذلك بأنه يمسحهم ويختمهم ويعطيهم عربون الروح. وأثمار الروح في المؤمنين هي العلامة الوحيدة لحضوره فيها فالذين يأتون بتلك الأثمار يمكنهم أن يتحققوا خلاصهم والذين يبقون خالين منها لا حق أن يتوقعوا شركة القديسين في السماء فمن ثبت في الإيمان ثبت في القداسة.

ونتيجة تعليم الآية السابعة واضحة وهي أن تعليم بولس لا يمكن أن يكون كذباً كما اتهمه أعداؤه لأن الله مصدره وفحواه المواعيد التي أعطاها الله وأكملها المسيح ولأنه هو التعليم الذي شهد الروح القدس فيه بأنه مسح الرسل والذين آمنوا بواسطتهم وختمهم أيضاً وأعطاهم عربون ميراثهم الأبدي.

٢٣ «وَلٰكِنِّي أَسْتَشْهِدُ ٱللّٰهَ عَلَى نَفْسِي أَنِّي إِشْفَاقاً عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ إِلَى كُورِنْثُوسَ».

رومية ١: ٩ وص ١١: ٣١ وغلاطية ١: ٢٠ وفيلبي ١: ٨ ١كورنثوس ٤: ٢١ وص ٢: ٣ و١٣: ٢ و١٠

رجع هنا بولس إلى الموضوع الذي ابتدأ الكلام فيه وهو إبطاؤه في المجيء إلى كورنثوس كما قصد أولاً وعدل عنه في أثناء الخطاب قليلاً ليدفع تهمة أنه لا يوثق به في مناداته بالإنجيل. ولعل علة إبطائه لم تخطر على بالهم ولولا تهمة الأعداء لأخفاها بولس عنهم.

لٰكِنِّي أَسْتَشْهِدُ ٱللّٰهَ بالنظر إلى أنه يعمل كل شيء ويعاقب الكاذبين. قال الكتاب «إِنَّ ٱلنَّاسَ يُقْسِمُونَ بِٱلأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ ٱلتَّثْبِيتِ هِيَ ٱلْقَسَمُ» (عبرانيين ٦: ١٦). فأقسم بولس بالله على أنه يذكر العلة الحقة لعدم مجيئه كما وعد.

عَلَى نَفْسِي أي يعاقبني إن كذبت.

إِشْفَاقاً عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ أي لكي لا أسبب لكم حزناً وألماً بتوبيخي الشديد وإجراء التأديب الأليم. وهذا دليل على أن كنيسة كورنثوس كانت يومئذ في سوء حال للزناء الذي ذكره في الأصحاح الخامس من رسالته الأولى إليها فلو أتى لاضطر أن يأتي بالعصا كما قال في (١كورنثوس ٤: ٢١). وللحذر من ذلك ولإعطائهم الفرصة للتوبة ولإصلاح الخلل عدل عن قصده الأول وأرسل إليهم رسالة بدلاً من ذهابه إليهم وتوقع ماذا تكون نتيجة تلك الرسالة.

٢٤ «لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ بَلْ نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ. لأَنَّكُمْ بِٱلإِيمَانِ تَثْبُتُونَ».

١كورنثوس ٣: ٥ و١بطرس ٥: ٣ رومية ١٥: ١٣ رومية ١١: ٢ و١كورنثوس ١٥: ١

لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ قال ذلك تلطفاً وبياناً لقوله «إشفاقاً عليكم» لكي لا يظنوا أنه يأتي إليه بمنزلة قاض أو حاكم في الدينيات. ومراده بقوله «إيمانكم» عقائدهم الروحية فصرّح بولس أنه لم يأخذ على نفسه بالنظر إلى كونه رسولاً الحكم بما يجب أن يؤمنوا به أولاً وأنه أراد أن يتخذوا أساس إيمانهم أقوال الله لا قوله ولا قول غيره من الناس.

وليس في كلام بولس هذا ما ينفي أنه ممن أوحي إليهم أو أنه معصوم في تبليغ الوحي. فمراده أن الإنجيل الذي بشر به هو إنجيل الله وأن سلطة الإنجيل منه تعالى فليس لبولس أن يزيد عليه أو ينقص منه وأنه ليس بسيد الإنجيل بل خادمه مكلف بطاعته كسائر الناس.

نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ أي معنيون فالإنجيل بشارة لهم وله فجعل نفسه كواحد منهم بالنسبة إليه. ومعنى «السرور» هنا الفرح بالإنجيل وكان بولس شريكاً لهم في قبوله والمسرة بمواعيده فرغب في أن يعينهم على زيادة إيمانهم بالإنجيل وسلوكهم بموجبه.

لأَنَّكُمْ بِٱلإِيمَانِ تَثْبُتُونَ قال سابقاً أنه لا يريد أن يسود على إيمانهم وقال هذا أنهم بالنظر إلى عقائد الإيمان ليسوا تحت مسؤولية أحد سوى الله وضمائرهم فلا حق لأحد وإن كان رسولاً أن يدخل بينهم وبين الله في تلك الأمور. نعم أنه باعتبار كونه رسولاً كان له أن ينبئهم بما أوحى الله إليه من التعاليم السماوية وهذا حد سلطته في أمور الإيمان فكان عليهم وعليه أن يطيعوا الإعلان لأنه إعلان الله ولكن مع هذا يجب أن نذكر أن الله منح الرسول سلطاناً على سياسة الكنيسة النظامية وإجراء التأديبات اللازمة وإلى هذا أشار بقوله «إشفاقاً علكيم لم آت».

فوائد

  1. إنه في كل ضيقة مصدر التعزية الكافية الحقيقية هو الله. إن كل إنسان على وجه الأرض عرضة للمصائب فتقع عليه في وقت ما من حياته فقد تكون كثيرة شديدة وهو يطلب طبعاً التعزية في وقت مثل هذا فيطلبها بعض الناس بالأقوال الفلسفية وغيرهم يطلبها بلذات العالم لينسوا بها أحزانهم وبعضهم يطلبها من أصدقائهم. وكل ذلك عبث فإن الله هو أبو الرأفة وإله كل تعزية لأنه أبو ربنا يسوع المسيح (ع ٣).
  2. إنه على الذين عيّنهم الله مبشرين بالإنجيل ورعاة لكنيسته أن يتوقعوا أن تكون مصائبهم أشد من مصائب سائر الناس. كذا كان شأن بولس وسائر الرسل أبغضهم الأشرار واضطهدوهم لأنهم منعوهم من إجراء مقاصدهم الشريرة ولهذا يثير الشيطان عليهم المقاومات. ويسمح الله بأنهم يمتحنون لكي يختبروا الأحزان فيتعلموا أن يشعروا بأحزان المصابين ويعزوهم ولكي يكونوا أمثلة لغيرهم باحتمال الأرزاء بالصبر. وتقتضي خدمتهم للكنيسة أن يعرفوا من أحزان رعيتهم ما لا يعرفه غيرهم فيشاركوهم في جميعها على وفق قوله «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ» (ص ١١: ٢٩) (ع ٥).
  3. الذين يصابون كثيراً في سبيل الإنجيل لهم أن يتوقعوا عظيم العزاء وعلى قدر اضطهاد الناس لهم يملأ المسيح قلوبهم فرحاً وسلاماً وحين يهينونهم ويطردونهم يتيقنون أن أسماءهم مكتوبة في سفر الحياة. لا أحد يعلم قيمة مواضيع الكتاب وما فيها من التعزية ما لم يكن قد لجأ إليها وقت المصاب.
  4. إنه من مقاصد الله بسماحه بنزول النوازل بالمؤمنين أن يؤهلهم لتعزية غيرهم لأنه لا يستطيع أحد أن يفوه بكلمات العزاء للمصابين مثل من أصيب كما أُصيبوا (ع ٤ و٦ و٧).
  5. من أفضل التعزيات في الأرزاء أن المسيح يتألم معنا فإنه يعتبر التعييرات والاضطهادات التي تقع علينا من أجل اسمه واقعة عليه (ع ٥).
  6. إنه على الذين حصلوا على التعزية في الحزن والمعونة في الضيق أن يفتشوا عن المصابين ويعزوهم كما تعزوا هم وأن يعتبروا ما حصلوا عليه من التعزيات كنزاً ينفقون منه على المحتاجين إليها وعلى هذا قال داود النبي «خير لي أني تذللت» وقال «هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه» وقال بمقتضى اختباره «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب طوبي لجميع المتكلين عليه» (ع ٦ و٧).
  7. لا شيء في قرب موت المؤمن مما يخيفه. إن بولس توقع الموت ولم يجد سبيلاً إلى النجاة منه ولكن لم يؤثر ذلك فيه شيئاً سوى إن زاد ثقته بالله. فلجأ إلى المسيح في وقت الأمن وسلم إليه ومن ثم كان خالياً من كل اضطراب في المستقبل (ع ٩).
  8. إن على الذين رجعوا إلى الصحة بعد أن أدناهم المرض من القبر والذين خُطفوا من مخالب المنون أن يروا شفاءهم ونجاتهم من الله كأنها إقامة من الموت ويعلموا أنهم مديونون لله ثانية بحياتهم وأنه واجب عليهم الشكر العظيم والحب الشديد والخدمة الصادقة (ع ٩).
  9. إن لنا من الفائدة السابقة أنه إذا شُفي لنا من مرض خطير والد أو ولد أو قريب أو صديق وجب أن نعتبر شفاءه هبة من الله وعلامة رحمته وقدرته كأنه أقامه من الموت وأنه يدعونا بذلك إلى محبة جديدة وشكر جديد وثقة شديدة بفاعلية الصلاة (ع ٩).
  10. إن لصلوات المؤمنين المشتركة فاعلية عظيمة لنفع الأفراد والكنيسة (ع ١١).
  11. إنه يجب على كل المسيحيين أن يسيروا بمقتضى المبادئ التي أوجبها الرسول على نفسه. وهي أن يقاد بنعمة الله وأن يتصرف ببساطة القلب وإخلاص الله وأن يطلب مجد الله وخلاص الناس بتعليمه مجرد الحق الإنجيلي غير محتال بغية أن يخيف الناس من ارتكاب الشر ويجذبهم إلى فعل الخير. إن الله لم يشأ أن يستعمل عبيده الحيل الدنيوية لإقناع الناس وجذبهم إليه (ع ١٢).
  12. ما قيل في هذا الأصحاح يبين لنا نفع الضمير الصالح للمؤمن فإنه يهب لفكره راحة وسعادة أكثر من كنوز الذهب وأكاليل الملوك وبه استطاع بولس أن لا يكترث بتهم الناس الكاذبة وبغضهم له وأن لا يخاف ولو كان على نفسه حكم الموت (ع ١٢).
  13. إنه يجب على المسيحيين أن يتكلموا أبداً بالصدق لأن المسيح كان يصدق دائماً على الله والله صدق بإنجاز كل مواعيده. فالذي يدّعي أنه تلميذ «الشاهد الأمين» وجب عليه دائماً أن يتكلم بالحق وبكل الحق وأن لا يتكلم بشيء سوى الحق. والمسيحي الذي يعد ولا ينجز ويبالغ في الخير ويحرف الكلام يشين اسم المسيح ودينه فكان عليه ان يتخذ مجرد قوله بمنزلة القسم الأعظم ومجرد وعده كالصك الموقع المختوم (ع ١٨).
  14. إن على المسيحيين أن يعتبروا أنفسهم وقفاً لخدمة الله كما كان قدماء الملوك والكهنة والأنبياء يُمسحون لأعمالهم لأنهم بدعوة الله لهم ونذورهم له أوجبوا على أنفسهم أن يعيشوا له أبداً.
  15. إن في هذا الأصحاح بيان عظمة بركات المسيحيين لأنهم مسحاء الله خُتموا للسماء ولهم في قلوبهم عربون ميراثهم الأبدي (ع ٢١ و٢٢).
  16. إنه على المسيحيين الحذر من أن يحزنوا الروح القدس الذي به مُسحوا وخُتموا وحصلوا على عربون الخلاص. وأنه لا حق لهم أن يمارسوا عملاً من الأعمال أو يخالطوا أصحاباً أو يقرأوا كتاباً أو يتصوروا تصورات عاقبتها طرد الروح القدس من قلوبهم ومنعه من المكث فيها (ع ٢٢).
  17. إنه يحسن أن نأخذ كل هذا الأصحاح بياناً لمقدار ما يوجبه الدين المسيحي على تابعيه من المشاركة بعضهم لبعض في الحزن والفرح ومشاركتهم للمسيح في آلامه وأمجاده وفي كونهم أولاداً لله لأنه صرّح بأن الله لنا أبو الرأفة وإله كل تعزية (ع ٣) وإننا شركاء المسيح (ع ٥). وأن الرسل شركاء آلام المسيحيين وأن المسيحيين شركاء آلامهم لكي يشاركوا بعضهم بعضاً في التعزية والأفراح والشكر لله (ع ٦ – ١١). وفي ذكر الرسول أنه مفتقر إلى صلوات الكنيسة (ع ١١). وأن الرسل جميعاً ليسوا سوى مؤازري سرورها (ع ٢٤) وأنها علة افتخاره الآن وفي يوم الدين (ع ١٤).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى