الرسالة إلى العبرانيين | 12 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي عَشَرَ
في الأصحاح الماضي أمثلة من العهد القديم على حقيقة الإيمان وتسلُّطه على سيرة شعب الله ولو في مدة الامتحان الشديد والتجارب والضيقات. وكان المراد بذلك تحريك إيمان العبرانيين المؤمنين للثبات في الإقرار المسيحي لما كانوا في حال الاضطهاد وخطر السقوط كما سيظهر من الاطلاع على هذا الأصحاح. فإنه في أول الأمر يشبههم بالذين يتبارون في الميدان والناس تنظر إليهم فكأنهم يركضون في الجهاد المسيحي وكأن رجال العهد القديم الذين جاهدوا ونالوا إكليل الغلبة ينظرون إليهم من السماء (ع ١). وعلى الخصوص يوجه أفكارهم إلى المسيح الذي جاهد جهاداً أعظم من جهادهم لكي يقتدوا به (ع ٢ و٣). ثم يقول الكاتب أن الشدائد التي كانوا يحتملونها مرسلة من الله لأجل تأديبهم وخيرهم الروحي فلا يجوز أن يضجروا بل يجب أن يتخذوا ذلك واسطة لتنشيطهم وتقويتهم في السعي المسيحي (ع ٤ – ١٧). ومما ينهضهم للثبات أن الله لا يخاطب الناس في العهد الجديد كما خاطبهم في العهد القديم بالتخويف والإرهاب بل بلسان المحبة وبمواعيد كريمة سامية (ع ١٨ – ٢٤). ولكن على شكل يوجب على المسيحيين أعظم مما يوجب على أهل العهد القديم لأن المتكلم هنا ليس بشراً بل هو ابن الله فمن يزدري بكلامه يقع تحت طائلة الجرم العظيم (ع ٢٥ – ٢٩).
١ «لِذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ ٱلشُّهُودِ مِقْدَارُ هٰذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا».
كولوسي ٣: ٨ و١بطرس ٢: ١ و١كورنثوس ٩: ٢٤ وفيلبي ٣: ١٣ و١٤ ورومية ١٢: ١٢ وص ١٠: ٣٦
الكلام في هذا العدد مجازي مبني على السباق في الركض وهو من جملة الملاعب التي كانت جارية عند الرومانيين واليونانيين وأدخلها الملوك الهيرودسيون بين شعب اليهود.
لِذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ ٱلشُّهُودِ مِقْدَارُ هٰذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا كان يحضر هذه الملاعب جمهور عظيم من الناس للتفرُّج يحيطون بالساحة التي يتراكض فيها اللاعبون. والإشارة في هذا المجاز إلى رجال الله في العهد القديم الذين سعوا سعيهم وظفروا والآن ينظرون من السماء إلى سعي من يعقبهم في الجهاد المسيحي فكأنهم سحابة. والكلمة الأصلية تحتمل معنى شهود ومعنى شهداء أيضاً. والشهود هم الشهداء المذكورون في الأصحاح السابق. وكما ينظرون إلينا ننظر نحن أيضاً إليهم ونتشجع ونتقوى عندما نتذكر سعيهم وظفرهم.
لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ العبارة الأولى وهي قوله «لنطرح كل ثقل» عبارة مجازية مستعارة من عادة الذين كانوا يتراكضون وقد نزعوا أثوابهم وكل ما كان يعيقهم في المحاضرة. وليس من الضرورة أن المشار إليه بلفظة «ثقل» يكون خطيئة بذاته فإن الخيرات الحقيقية الجائزة قد تكون خطيئة إذ تعلّقت قلوبنا بها أكثر من الواجب. وقوله «والخطية المحيطة بنا بسهولة» المعنى الحقيقي المراد بالمجازي أن الذين يحاضرون في الجهاد المسيحي يجب أن يلقوا عنهم كل ما يعيقهم في سعيهم ويؤدي بالإنسان إلى البطوء في سيره المسيحي فهي كالأثقال التي كان المتراكضون يخلعونها عنهم لئلا تعارضهم في سباقهم وعلى الخصوص الخطيئة المحيطة بنا بسهولة أي الخطيئة التي نحن معرضون لها أكثر من سواها. وكانت هذه الخطيئة للعبرانيين خطر الارتداد عن الإيمان المسيحي.
وَلْنُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا عبارة أخرى مجازية معناها المثابرة والمواظبة في الجهاد المسيحي بدون ملل أو انقطاع كالذين كانوا يتسابقون في الركض فإنهم كانوا يجدون فيه إلى النهاية راجين نيل إكليل الغلبة. ومعنى جميع العدد أنه بما أن جمهوراً وافراً من الآباء والأنبياء والشهداء سبقونا في الجهاد المسيحي وحافظوا على إيمانهم في وسط الشدائد والتجارب فنحن أيضاً لنلق عنا كل تملقات الدنيا والخطيئة ولنحافظ على رجائنا وإيماننا وسعينا إلى النهاية.
٢ «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱللّٰهِ».
لوقا ٢٤: ٢٦ وتيطس ٢: ٨ الخ و١بطرس ١: ١١ ومزمور ١١٠: ١ وص ١: ٣ و١٣ و٨: ١ و١بطرس ٣: ٢٢
نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ أي متمثلين بالمسيح الذي وضع الإيمان المسيحي وأكمله في العمل إلى درجة تامة. أو المعنى أنه بين الذين اشتهروا بالإيمان من زمان هابيل إلى زمان هذه الرسالة كان المسيح فيه رئيساً ومكملاً.
ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ جزاء له باعتبار عمله سر الفداء وكونه وسيط العهد الجديد. وليس السرور الموضوع أمام يسوع السرور بمجرد تمجيده بل السرور أيضاً بخلاص شعبه الذي مات لأجلهم والذين يشفع فيهم على الدوام. قال الله «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ» (إشعياء ٥٣: ١١). وبعضهم يفسر قوله «من أجل» بمعنى عوض و «السرور» هو ما كان حائزاً عليه في السماء قبل انحداره إلى الأرض. والأول هو الأصح لما فيه من رائحة المجاز السابق فإن الذين كانوا يتحاضرون كانوا إنما يفعلون ذلك لنيل إكليل الغلبة الموضوع أمامهم في نهاية السعي.
ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ أي آلام الصليب.
مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ أي مزدرياً بالعار الذي احتمله في حياته على الأرض وموته على الصليب.
فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱللّٰهِ أي نال أسمى مقام في المجد السماوي وارتفع إلى أعالي المجد بعد اتضاعه العجيب مكافأة له على ما احتمله من الآلام والعار والموت لأجل خلاص البشر. ومعنى جميع العبارة انظروا إلى يسوع واضع الديانة المسيحية والمقياس الأعلى والقدوة العظمى للإيمان فإنه لأجل نيل السرور السماوي احتمل كثيراً فنال الغلبة والجزاء هكذا أنتم افعلوا كما فعل لتشاركوه في مجده العظيم.
٣ «فَتَفَكَّرُوا فِي ٱلَّذِي ٱحْتَمَلَ مِنَ ٱلْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هٰذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ».
متّى ١٠: ٢٤ و٢٥ ويوحنا ١٥: ٢٠ وغلاطية ٦: ٩
فَتَفَكَّرُوا فِي ٱلَّذِي ٱحْتَمَلَ مِنَ ٱلْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هٰذِهِ الفاء هنا الفاء الفصيحة وهي ما أفصحت عن جواب شرط مقدر أي إن كنتم تريدون أن تعرفوا الجهاد الواجب فتفكروا الخ. ومعنى العبارة انظروا إلى المسيح الذي احتمل من الخطأة مقاومة وصلت إلى درجة القتل الفظيع طلباً لخلاص العالم.
لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ أي إذا تأملتم بما احتمله المسيح وبما حازه من المجد بعد ذلك لم تضعفوا ولم تيأسوا وتسقطوا وترتدوا عن الإيمان المسيحي فإن التأمل في ذلك ينهض رجاءكم ويقوي عزمكم ويثبتكم في جهادكم المسيحي.
٤ «لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى ٱلدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ ٱلْخَطِيَّةِ».
١كورنثوس ١٠: ١٣ وص ١٠: ٣٢ إلى ٣٤
لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى ٱلدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ ٱلْخَطِيَّةِ يحتمل المعنى أن يكون أحد أمرين الأول أنهم لم يقاوموا كل المقاومة الخطيئة بمعى الخطأة الذين كانوا يضطهدونهم بقصد تحويلهم عن الإيمان المسيحي وهو مبني على المجاز السابق من المجاهدة فإنهم لم يبلغوا جميع ما تؤدي إليه مقاومة أضدادهم. والثاني إن في مقاومتهم تجربة الارتداد عن إيمانهم لم يبلغوا أقصى ما يُحتمل من الاضطهاد أي القتل كما احتمل غيرهم فإن حيل الأعداء وبغضهم وضررهم لم يصل بعد حتى الدم أي إلى القتل. والمعنى الأخير هو الأفضل عند جمهور المفسرين.
٥ «وَقَدْ نَسِيتُمُ ٱلْوَعْظَ ٱلَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: يَا ٱبْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ ٱلرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ».
أيوب ٥: ١٧ وأمثال ٣: ١١
في هذه الآية وما يليها إلى ع ١١ يذكر الكاتب أمراً جديداً لتحريضهم على الثبات في الإيمان المسيحي وهو إن الشدائد والاضطهادات التي كانوا يقاسونها لأجل إيمانهم كانت مرسلة من الله لأجل خيرهم كما يُقصد من تأديب الوالد لولده فإنه تعالى يقصد في تأديبات شعبه أولاً امتحان إيمانهم وإظهاره للوجود شهادة على كونه صحيحاً ومفعولاً من نعمته. وثانياً تقوية إيمانهم بواسطة التمرن والممارسة كما قصد في امتحانه لإيمان إبراهيم. وبناء على ذلك يقول إن النظر إلى الشدائد من هذا القبيل يجب أن يُنهض إيمانهم إلى احتمالها بالصبر والشجاعة فلا يصح أنها تقتادهم إلى الضعف والسقوط والارتداد.
وَقَدْ نَسِيتُمُ ٱلْوَعْظَ ٱلَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ أي إنكم ولو سمعتم كثيراً كلام الله في كتب العهد فد نسيتم ما قيل لكم في هذا الشأن وهو –
يَا ٱبْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ ٱلرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ عبارة من (سفر الأمثال ٣: ١١). هذا كلام سليمان ونُسب في الآية هنا إلى الله لأن سليمان تكلم بالوحي فكان كلامه كلام الله. وأهمية الاقتباس هنا في القول «يا ابني» فيجب أن نعتبر الشدائد كتأديب من أب محب لأولاده فلا نقلق منها بل ننظر إلى قصد الله فيها ونحولها إلى فائدة أنفسنا فإذا وبخنا على أعمالنا أو افتقدنا بمصيبة لم يجُز لنا أن نخور أي يضعف إيماننا ورجاؤنا بالله بحيث نعدل عن سيرنا المسيحي.
٦ «لأَنَّ ٱلَّذِي يُحِبُّهُ ٱلرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَقْبَلُهُ».
مزمور ٩٤: ١٢ و١١٩: ٧٥ وأمثال ٣: ١٢ ويعقوب ١: ١٢ ورؤيا ٣: ١٩
لأَنَّ ٱلَّذِي يُحِبُّهُ ٱلرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَقْبَلُه تتمة العبارة السابقة المنقولة عن (أمثال ٣: ١٢) على الترجمة السبعينية ولا خلاف جوهري فيها عن الأصل وهكذا الغالب في النقل عن العهد القديم إلى العهد الجديد فإنه يُنظر إلى المعنى أكثر من النقل الحرفي. ومعنى العبارة أن التأديب لا يدل على غضب الله بل على محبته لأنه تعالى إنما يقصد خير شعبه فإذا احتيج إلى التأديب كان ذلك من باب المحبة.
٧ «إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ ٱلتَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ ٱللّٰهُ كَٱلْبَنِينَ. فَأَيُّ ٱبْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟».
تثنية ٨: ٥ و٢صموئيل ٧: ١٤ وأمثال ١٣: ٢٤ و١٩: ١٨ و٢٣: ١٣
إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ ٱلتَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ ٱللّٰهُ كَٱلْبَنِينَ أي إذا احتملتم التأديب بصبر فيجعله الله لخيركم فتكون معاملته لكم معاملة البنين خلافاً لما إذا ضجرتم وارتددتم عن طريق البر فلا يعاملكم حينئذ كالبنين بل كالعصاة لأوامره هذا رأي بعضهم. وقال أخرون بل المعنى إذا أصابكم تأديب من الله فلا يدل ذلك على بغضه تعالى لكم بل على محبته فإنما في هذا التأديب يعاملكم كالبنين وهو التفسير المرجح.
فَأَيُّ ٱبْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ جملة تفسيرية للمعنى السابق الأخير يظهر منها صحته.
٨ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ ٱلْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ».
مزمور ٧٣: ١٥ و١بطرس ٥: ٩
وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، (قَدْ صَارَ ٱلْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ) فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ تكرار العدد السابق على شكل سلبي. وقد وضعنا قوله «قد صار الجميع شركاء فيه» بين هلالين للدلالة على أنها جملة معترضة بين الشرط وجوابه. قوله «نغول» أو أولاد غير شرعيين. ومعنى جميع العبارة أنه لما كان الأب يؤدب بنيه دائماً لأجل خيرهم وهذا التأديب أعظم دليل على محبته لهم هكذا أنتم إنما يؤدبكم الله كبنيه لأجل خيركم كما قد أدب جميع بنيه وهو المراد بقوله «قد صار الجميع شركاء فيه». فإن لم تنالوا تأديباً لا تكونون بني الله ولا يعترف بكم تعالى بأنكم بنوه. نظن أحياناً أننا مؤدبون أكثر من غيرنا ونفتكر أنه لا مصيبة كمصيبتنا ولكن الله يؤدب جميع أولاده. ولو عرفنا مصائب غيرنا حق المعرفة كنا نقر بأنها ليست أقل من مصائبنا.
٩ «ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِٱلأَوْلَى جِدّاً لأَبِي ٱلأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟».
عدد ١٦: ٢٢ و٢٧: ١٦ وأيوب ١٢: ١٠ وجامعة ١٢: ٧ وإشعياء ٤٢: ٥ و٥٧: ١٦ وزكريا ١٢: ١
ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ المراد أنه إذا كان التأديب الذي حصل لنا من آبائنا الطبيعيين مقبولاً وممدوحاً ومصحوباً بالهيبة والطاعة فمن باب أولى أن نخضع لله الذي هو أبو أرواحنا ويعرف الذي هو خير لنا أكثر من الآباء الجسديين كما يقول في العبارة الآتية.
أَفَلاَ نَخْضَعُ بِٱلأَوْلَى جِدّاً لأَبِي ٱلأَرْوَاحِ والمقابلة ظاهرة بين أبي الجسد وأبي الروح في الولادة الثانية. فجاء في (عدد ١٦: ٢٢) «إِلٰهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ» وفي (زكريا ١٢: ١) «جَابِلُ رُوحِ ٱلإِنْسَانِ فِي دَاخِلِهِ» أي إن الله خلق الإنسان وجعل فيه روحه فيعرف روح الإنسان ويقدر أن يعلمه ويطهره بواسطة التأديب.
فَنَحْيَا لأن حياة الروح هي بالاتحاد مع الله.
١٠ «لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ ٱسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هٰذَا فَلأَجْلِ ٱلْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ».
لاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢ و١بطرس ١: ١٥ و١٦
لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ ٱسْتِحْسَانِهِمْ تعليل لما قاله في العدد السابق والمعنى أن آباءنا الجسديين كانوا يؤدبوننا مدة صغرنا وكثيراً ما يكون تأديبهم حسب استحسانهم بدون فائدة حقيقية لنا فإنه مهما كان الأب الأرضي حريصاً على نفع أولاده قد لا يكون حكيماً في نوع التأديب وأسلوبه.
وَأَمَّا هٰذَا فَلأَجْلِ ٱلْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ أي وأما تأديب أبي أرواحنا فليس حسب استحسان قد لا يكون مصيباً بل هو دائماً لنفعنا الروحي الذي يقوم بزيادة القداسة فينا. ومعنى القداسة الأصلي هو الانفصال. وغاية التأديب هي انفصال أبناء الله عن عالم الخطيئة فلا يشتركون في خطايا العالم بل في قداسة الله. ولا ينفصل أبناء الله عن العالم من جهة المكان لأنهم في العالم غير أنهم ليسوا من العالم. ونسبة الأولاد إلى والديهم نسبة وقتية وزمان التربية والتأديب محدود وغاية التأديب هي استقلال الأولاد عن والديهم وأما نسبة أبناء الله إلى الآب السماوي فنسبة أبدية وغاية تأديبه هي الاتحاد به والاتكال عليه على الدوام. ولا قوة للإنسان ولا فرح ولا راحة كالتي تأتيه من اتحاده بالله. ومع ذلك لا يطلب الإنسان هذا الاتحاد إلا إذا اضطر إليه بواسطة الضيق والحزن وعلى ذلك تكون نتيجة التأديب خيراً.
١١ «وَلٰكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ».
يعقوب ٣: ١٨
وَلٰكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ هذا صحيح في كل حال فإنه مدة الشدة يصعب على الإنسان أن يرى خيراً في التأديب أو فرحاً كما يصعب على الولد مدة القصاص.
وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ المقابلة بين زمان القصاص والزمان الذي يعقبه ففي الأول يضجر المتأدب وفي الثاني ينال ثمر التأديب في خيره وسلامته وسعادته الحقيقية. والمشابهة شديدة بين تربية الأولاد من هذا القبيل وتربية المسيحيين بعناية أبيهم السماوي.
١٢ «لِذٰلِكَ قَوِّمُوا ٱلأَيَادِيَ ٱلْمُسْتَرْخِيَةَ وَٱلرُّكَبَ ٱلْمُخَلَّعَةَ».
أيوب ٤: ٣ و٤ وإشعياء ٣٥: ٣
لِذٰلِكَ قَوِّمُوا ٱلأَيَادِيَ ٱلْمُسْتَرْخِيَةَ وَٱلرُّكَبَ ٱلْمُخَلَّعَةَ هذه العبارة مقتبسة من (إشعياء ٣٥: ٣) ومعناها أنه إذا كان التأديب الأبوي قد أصابكم على شكل الاضطهاد وقد أرسله الله لنفعكم فتشددوا ولا تلقوا بأنفسكم إلى الحزن والهم والاسترخاء. قوله «الأيادي المسترخية والركب المخلعة» للدلالة على ما يصيب الإنسان من الضعف واليأس مدة الشدة. وعلى كل إنسان أن يقوّم أيادي نفسه ثم يقوّم أيادي غيره.
١٣ «وَٱصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً، لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ ٱلأَعْرَجُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يُشْفَى».
أمثال ٤: ٢٦ و٢٧ وغلاطية ٦: ١
وَٱصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً الظاهر أن هذه العبارة مقتبسة من (أمثال ٤: ٢٦) وهي قريبة من الترجمة السبعينية وتختلف في اللفظ لا في المعنى عن العبراني والمراد بالأصل اليوناني ليكن سيركم ثابتاً مستقيماً يبقى له أثر واضح يستدل به الذين يرافقونكم ويتبعونكم. ولعل المخاطبين كانوا مترددين بين الديانة اليهودية والديانة المسيحية أحياناً يميلون إلى الواحدة وأحياناً إلى الأخرى. أو كانوا غير ثابتين في سلوكهم الأدبي فكانت مسالكهم هذه غير مستقيمة وعثر فيها الضعفاء الذين تبعوا خطواتهم.
لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ ٱلأَعْرَجُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يُشْفَى أي لكي لا يضل الأعرج وهو هنا كناية عن ضعيف الإيمان والمتردد فيه فإنه إذا كان الطريق مستقيماً كان المشي فيه سهلاً للصحيح والأعرج الذي قد يشفي فيه خلافاً لما إذا كان في طريق متعرجة مضلة. والكلام هنا مجازي والمعنى اسلكوا طريقاً مستقيماً لنفع أنفسكم ونفع الضعفاء المترددين الذين تيسرون أمامهم وهم يقتفون أثركم.
١٤ «اِتْبَعُوا ٱلسَّلاَمَ مَعَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ».
مزمور ٣٤: ١٤ ورومية ١٢: ١٨ و١٤: ١٩ و٢تيموثاوس ٢: ٢٢ ومتّى ٥: ٨ و٢كورنثوس ٧: ١ وأفسس ٥: ٥
اِتْبَعُوا ٱلسَّلاَمَ مَعَ ٱلْجَمِيعِ السلام هنا ضد الخصام والمراد حياة لجميع الناس ولا سيما إخوتهم الضعفاء المسيحيين.
وَٱلْقَدَاسَةَ السلام المأمور به هنا هو السلام مع القداسة أي لا يجوز لنا أن نترك القداسة لنحصل على السلام. والسلام وإن كان مرغوباً فيه هو بعد القداسة. انظر قول المسيح (متّى ١٠: ٣٤) «مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً» أي الذين يتبعون المسيح لا يقدرون أن يرضون الناس فيما يمس الإيمان. غير أن السلام الحقيقي هو من نتائج القداسة.
ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ (١) لأن الرب لا يرتضي بالخطأة كما نتعلم من مثل عرس ابن الملك (متّى ٢٢: ١ – ١٤) فإن كل من يدنو من الملك يجب عليه أن يلبس لباس العرس أي أن يخلع خطاياه وبرّه الذاتي ويلبس بالإيمان ثوب بر المسيح. (٢) لأن الدنسين وغير التائبين وغير المؤمنين لا يقدرون أن يروا لأن كلاً منهم كالأعمى الذي لا يقدر أن يرى النور لأن ليس فيه قوة البصر وهم كذلك لا يقدرون أن يروا لأن ليس فيهم قوة البصر الروحي. فإن كثيرين رأوا المسيح وهو على الأرض في الجسد ولم يروا فيه ما يسرهم. وإن كثيرين اليوم لا يرون في الكتاب المقدس ما يستلزم الاحترام لأن ليس لهم قوة الإدراك الروحي.
١٥ «مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ ٱنْزِعَاجاً، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ».
٢كورنثوس ٦: ١ وغلاطية ٥: ٤ وتثنية ٢٩: ١٨ وص ٣: ١٢
مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أي انظروا أن لا يميل أحد منكم عن طريق القداسة التي لن يرى أحد الرب بدونها فيخيب من نعمة الله أي من رضاه.
لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ ٱنْزِعَاجاً كلام مجازي معناه انظروا أن لا يظهر بينكم أحد سيرته رديئة فيزعجكم ويقلقكم.
فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ أي إن وجود مثل هذه السيرة في الكنيسة تفسد كثيرين. وقال بعضهم أن المراد هنا خطيئة الانشقاق والخصام لسبب ما أشار إليه الكاتب في العدد السابق من أتباع السلام. وقال غيرهم بل المراد خطيئة الارتداد تبعاً للموضوع العام (تثنية ٢٩: ١٨) ولا يظهر ذلك جلياً لأن الكاتب يتكلم في العدد التالي على خطيئة الزنا. فالأوفق أن يُحمل كلامه على القداسة وضدها (انظر ع ١٤).
١٦ «لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِياً أَوْ مُسْتَبِيحاً كَعِيسُو، ٱلَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ».
أفسس ٥: ٣ وكولوسي ٣: ٥ و١تسالونيكي ٤: ٣ و١تيموثاوس ١: ٩ وتكوين ٢٥: ٣٣
لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِياً زناء روحياً وهو الارتداد عن عبادة الله على رأي الأكثرين. وقد يكون المراد الزناء الحقيقي على رأي غيرهم.
أَوْ مُسْتَبِيحاً الكلمة الأصلية تفيد الاحتقار بالدين والهزء به.
كَعِيسُو، ٱلَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ أي البركة التي كانت في ذلك الوقت تُعطى للبكر فإنه ازدرى بها بقوله «هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى ٱلْمَوْتِ، فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ» (تكوين ٢٥: ٣٢) فيكون قد أتى الكاتب بخبر عيسو شاهداً على الاستباحة والهزء بالدين. وبعضهم يظن أن عيسو كان أيضاً مثالاً لا يحتذر منه في أمر الزناء ويأتون بما ورد في (تكوين ٢٦: ٣٤ و٣٥) إثباتاً لذلك وليس هذا واضحاً. والمعنى المراد أن انظروا لئلا يزدري أحد منكم بالديانة المسيحية وببركاتها الروحية ويتعلق بخيرات هذه الدنيا فيكون كعيسو الذي استهان ببكوريته وباعها بأكلة واحدة لأنه لم يعدها شيئاً.
١٧ «فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضاً بَعْدَ ذٰلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ ٱلْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ».
تكوين ٢٧: ٣٤ و٣٦ و٣٨ وص ٦: ٦
فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضاً بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد ما باع بكوريته ليعقوب.
لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ ٱلْبَرَكَةَ وجاء وطلبها من أبيه.
رُفِضَ أي لم ينلها.
إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً أي إن تأسفه على الماضي لم يفده شيئاً. وبعضهم يفهم «التوبة» بمعنى تغيير القصد وينسبون ذلك إلى إسحاق أي ولم يجد عيسو في أبيه إسحاق تغييراً في قصده بعد أن كان أعطى البركة ليعقوب. واليوناني يحتمل هذا المعنى.
مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ أي أنه طلب البركة بدموع ولكن بدون فائدة (تكوين ص ٢٧). والمعنى المراد هنا انظروا لا تستهينوا بالديانة المسيحية وتتعلقوا بالدنيا من جهة طرق الخطيئة في الجملة أو من جهة الارتداد عن الديانة الحقيقية فإنكم إذا فعلتم ذلك يصيبكم ما أصاب عيسو تتأسفون على الماضي ولا يجديكم الأسف نفعاً.
١٨ «لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَلٍ مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِٱلنَّارِ، وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ».
خروج ١٩: ١٢ و١٨ و١٩ و٢٥: ١٨ وتثنية ٤: ١١ و٥: ٢٢ ورومية ٦: ١٤ و٨: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ٧
من جملة ما ذكره الكاتب لتثبيت إيمان العبرانيين ووقايتهم من الارتداد ما ورد هنا وهو المقابلة بين العهد القديم والعهد الجديد ويظهر منها أن غرض العهد القديم (١) ما يُرى ويُسمع ويُمس فأموره أرضية ووقتية ورموز فقط. وغرض العهد الجديد إعلان المرموز إليه والأمور الثابتة والحقيقية والروحية والسماوية. (٢) إنه على المخاطبين مسؤولية أعظم من مسؤولية القدماء لكونهم في العهد الجديد ولهم معرفة ووسائط أفضل مما كان للقدماء وإذا استعفوا من المتكلم من السماء ولم يسمعوا الكلام الذي شهد به ربوات من الملائكة والمفديين ورفضوا محبة الله المعلنة في ابنه يسوع المسيح يستحقون عقاباً أشد من عقاب الذين رفضوا الكلام من جبل سيناء.
لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَلٍ مَلْمُوسٍ والمراد جبل سيناء كما يظهر من الوصف التابع وسماه ملموساً أي واقعاً تحت الحواس الظاهرة بحيث يمكن لمسه خلافاً لجبل صهيون المعنوي المراد به ملكوت المسيح على الأرض وفي السماء كما سيأتي.
مُضْطَرِمٍ بِٱلنَّارِ، وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ هذه الحوادث مذكورة في خبر نزول الشريعة (خروج ص ١٩ وتثنية ص ٥).
١٩ «وَهُتَافِ بُوقٍ وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ، ٱسْتَعْفَى ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَـهُمْ كَلِمَةٌ».
خروج ١٠: ١٩ وتثنية ٥: ٥ و٢٥ و١٨: ١٦
وَهُتَافِ بُوقٍ (خروج ١٩: ١٦ و١٩) المصاحبات المذكورة لنزول الشريعة كانت مما تجعل تلك الحادثة لدى أعين الناس منظراً مهيباً فاعلاً فيهم التأثير الصالح والتذكر الدائم لأوامر الله ونواهيه المتضمنة في الوصايا العشر (خروج ٢٠: ٢٠) وربما كان لها معنى رمزي وهو أن اضطرام الجبل بالنار كان دليلاً على قوة الله في قصاص الخطأة وإهلاكهم. «والضباب والظلام» كانا دليلاً على إخفاء الله نفسه عن الناس في الشريعة الأدبية وعدم ظهوره لهم إلا في الإنجيل حيث سُفك دم الفداء لأجلهم. «والزوبعة» كانت دليلاً على المخاوف التي تقوم في ضمير الإنسان من جرى فعل الشريعة التي يخالفها. «وهتاف البوق» كان دليلاً على صوت الشريعة الذي هو كبوق يبوق في أذن الخاطئ بكونه عاصياً ومحتاجاً إلى رحمة الله المعلنة في إنجيله الكريم.
وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ، ٱسْتَعْفَى ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ أي لما سمعوا صوت الله الرهيب وصوت البوق وشاهدوا تلك المناظر الهائلة خافوا وقالوا لموسى «تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا ٱللّٰهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ» (خروج ٢٠: ١٨ و١٩).
٢٠ «لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ مَسَّتِ ٱلْجَبَلَ بَهِيمَةٌ تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ».
خروج ١٩: ١٣
لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ أي نظراً إلى ما سبق لم يستطيعوا أن يسمعوا ما كان الله يأمر به وهو أمره تعالى القائل –
وَإِنْ مَسَّتِ ٱلْجَبَلَ بَهِيمَةٌ تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ (خروج ١٩: ١٣) فإن ذلك الأمر أوقع الرعبة في قلوبهم لأن المنع عن الدنو من الجبل لم يكن لهم فقط بل للبهائم أيضاً وكان القصاص لمخالفته صارماً جداً وهو القتل.
٢١ «وَكَانَ ٱلْمَنْظَرُ هٰكَذَا مُخِيفاً حَتَّى قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!».
خروج ١٩: ١٦
وَكَانَ ٱلْمَنْظَرُ هٰكَذَا مُخِيفاً حَتَّى قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ أي وكان منظر الجبل حينئذ مخيفاً جداً حتى قيل إن الشعب ارتعد جداً (خروج ١٩: ١٦). وكان موسى معهم غير أنه لم يقل في الخبر أنه قال أنا مرتعب ومرتعد فعرف الكاتب ذلك على سبيل النتيجة أو على سبيل الوحي أو ربما كانت إشارة إلى ذلك في (تثنية ٩: ١٩). وقوله «مرتعب ومرتعد» أي مرتعب جداً على الاصطلاح العبراني الذي كثيراً ما يظهر في اليوناني المستعمل في العهد الجديد وهو من باب العطف بمعنى الوصف والبيان.
٢٢ «بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ».
غلاطية ٤: ٢٦ ورؤيا ٣: ١٢ و٢١: ٢ و١٠ وفيلبي ٣: ٢٠ وتثنية ٣٣: ٢ ومزمور ٦٨: ١٧ ويهوذا ١٤
بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ من هنا بدأ الكاتب المقابلة بين قوله «لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَلٍ مَلْمُوسٍ» الخ (ع ١٨) وقوله هنا «بل قد أتيتم إلى جبل صهيون» الخ والمراد المقابلة بين العهد القديم والعهد الجديد تحت كناية جبل سيناء وجبل صهيون.
وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ تفسير لجبل صهيون أي كما أنه يُراد بجبل صهيون أورشليم المبنية عليه هكذا يُراد الآن بجبل صهيون المعنوي أورشليم السماوية وهي كناية عن السماء بعينها على نوع أن أورشليم الأرضية كانت مركز ديانة اليهود حيث كان هيكلهم والمقام الذين كانت تتجه إليه جميع آمالهم والمكان الذي كان يظهر الله فيه على نوع خاص لشعبه في العهد القديم وأما أورشليم السماوية فهي مدينة الله الحي كما كانت أورشليم الأرضية مدينة الملك العظيم (متّى ٥: ٣٥).
وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ الربوة بحسب وضعها الأصلي بمعنى عشرة آلاف وكانت تُستعمل في الاصطلاح اليوناني بمعنى العدد العظيم غير المحدود وهو المراد هنا. والكاتب هنا يقابل مصاحبة الملائكة لظهور الإلهي على جبل سيناء راجع هذه الرسالة (ص ٢: ٢) بمحفل الملائكة في السماء فلم يكن لليهود وصول للملائكة ولمعاشرتهم وأما شعب الله في العهد الجديد فيرونهم الآن بعين الإيمان ثم عند انتقالهم إلى السماء يرونهم بنوع أتمّ.
٢٣ «وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَإِلَى ٱللّٰهِ دَيَّانِ ٱلْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ».
خروج ٤: ٢٢ ويعقوب ١: ١٨ ورؤيا ١٤: ١٤ لوقا ١٠: ٢٠ وفيلبي ٤: ٣ ورؤيا ١٣: ٨ وتكوين ١٨: ٢٥ ومزمور ٩٤: ٢ وفيلبي ٣: ١٢ وص ١١: ٤٠
وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ المراد «بالكنيسة» في أصل استعمالها المحفل أو الجماعة ثم شعب الله وهو معطوفة على «ربوات» في العدد السابق والتقدير وإلى «كنيسة أبكار». قوله «أبكار» مجاز مبني على أن في الزمان القديم كان للبكر حقوق خاصة يمتاز بها عن بقية إخوته فصارت الكلمة على معنى ثانوي أن يحوز الإنسان نعماً خاصة وبركات عظيمة. وبناء على ذلك تسمى إسرائيل «بكر الله» (خروج ٤: ٢٢) وكذلك أفرايم (إرميا ٣١: ٩) والشعب المسيحي (يعقوب ١: ١٨) وربما كان المراد بها هنا أنفس الآباء والأنبياء والرسل والشهداء الذين اشتهروا بأعمال التقوى والصلاح. قوله «مكتوبين في السماوات» أي لهم حقوق أهل المدينة السماوية كما كان يُكتب أسماء أصحاب الحقوق في مدن الرومانيين في دفتر مخصوص فمن يُكتب في سفر السماء يكن له جميع حقوق أهل المدينة السماوية (رؤيا ٢٢: ١٩). وقد اختلفوا في أنه هل المراد هنا الكنيسة المحاربة على الأرض والكنيسة المنتصرة في السماء في المعنى المقصود. وبعضهم لا يقدّرون كلمة «إلى» في أول الآية ٢٣ فيفهمون أن المشار إليه جماعة واحدة فيها ملائكة وفيها مفديون من الناس أي كنيسة أبكار وعدد هذه الجماعة كلها ربوات أي ما لا يحصى.
وَإِلَى ٱللّٰهِ دَيَّانِ ٱلْجَمِيعِ أي أنه في العهد الجديد يُقترب من الله ديّان جميع البشر بدون خوف لأنه قد صالحنا بدم ابنه حتى لم يبق علينا شيء من الدينونة (رومية ٨: ١).
وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ أي أرواح الذين قد تبرروا بدم المسيح وقد رآهم يوحنا (رؤيا ٧: ٩ – ١٧) وفي هذه الكلام إشارة إلى الفوز في الجهاد الروحي الذي ذكره الكاتب في بداءة الأصحاح وإلى ما يعقبه من المجد لكن لا يكمل مجدهم إلا عند القيامة (١تسالونيكي ٤: ١٥ – ١٧ و١كورنثوس ١٤: ٢٣ و٥١ – ٥٤).
٢٤ «وَإِلَى وَسِيطِ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ: يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ».
ص ٨: ٦ و٩: ١٥ وخروج ٢٤: ٨ وص ١٠: ٢٢ و١بطرس ١: ٢ وتكوين ٤: ١٠ وص ١١: ٤
وَإِلَى وَسِيطِ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ: يَسُوعَ أي وسيط عهد النعمة الذي فيه ننال فوق المغفرة القوة لحفظ وصايا الله وذلك بالنظر إلى ذبيحة المسيح الكافية وإلى وساطته وشفاعته لنا.
وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يطهر من الخطيئة تطهيراً حقيقياً لا مجازياً خارجياً كما كان الأمر في رتبة العهد القديم.
يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ لأن دم هابيل كان يصرخ من الأرض طالباً النقمة من سافكه وأما دم المسيح فإنما يصرخ من الصليب لأجل مغفرة خطايا العالم حتى خطيئة الذين صلبوه ودم المسيح يكفر الخطيئة.
٢٥ «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ تَسْتَعْفُوا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّمِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُولَئِكَ لَمْ يَنْجُوا إِذِ ٱسْتَعْفَوْا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّمِ عَلَى ٱلأَرْضِ، فَبِٱلأَوْلَى جِدّاً لاَ نَنْجُو نَحْنُ ٱلْمُرْتَدِّينَ عَنِ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
ص ٢: ٢ و٣ و٣: ١٧ و١٠: ٢٨ و٢٩
المراد بذلك تثبيت العبرانيين في إيمانهم المسيحي وعدم ارتدادهم إلى الديانة الموسوية. فإن الكلام الذي من السماء لا بد من أن يكون له تأثير أكثر من تأثير الكلام الذي على الأرض.
اُنْظُرُوا أَنْ لاَ تَسْتَعْفُوا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّمِ لكم في الإنجيل أو بدمه إشارة إلى ما ذُكر في نهاية العدد السابق. والمعنى انظروا أن لا تتنحوا عن المسيح وترتدوا عن الإيمان به.
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أُولَئِكَ لَمْ يَنْجُوا إِذِ ٱسْتَعْفَوْا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّمِ عَلَى ٱلأَرْضِ الإشارة إلى العهد القديم في الرتبة التي كان موسى المتكلم بها على الأرض فإن كانوا لم ينجوا من القصاص على المخالفة ولا سيما الارتداد عن عبادة الله إلى الأصنام كما مرّ في تفسير مثل هذه العبارة في (ص ١٠: ٢٨).
فَبِٱلأَوْلَى جِدّاً لاَ نَنْجُو نَحْنُ ٱلْمُرْتَدِّينَ عَنِ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي الذي نزل من السماء وهو المسيح والمعنى أنه نظراً إلى فضل المسيح على موسى والعهد الجديد على العهد القديم ينتج من ذلك أنه إن كان المرتدون عن الديانة الموسوية لم ينجوا من القصاص فبالأولى لا ينجو المرتدون عن الديانة المسيحية. وأما المتكلم فهو الله إن كان في العهد القديم أو في العهد الجديد. وكان الملائكة والأنبياء والرسل مرسلين من قبله فتكلموا عنه لا من أنفسهم. كان كلامه في العهد القديم بواسطة رموز وفرائض جسدية كانت تُظهر أموراً وتستر أخرى وأما الآن أي في العهد الجديد فيتكلم من السماء وهي مسكنه الحقيقي ويُعلن نفسه على نوع أوضح ويُعلن الأمور السماوية الحقيقية الثابتة المرموز إليها بفرائض العهد القديم. وكان صوت الله في العهد القديم لآذانهم الجسدية ولكنه في العهد الجديد لقلوبنا فيجب أن يكون تأثيره أشد وعلى من يرفضه خطية أعظم. والكاتب هنا يضم نفسه إلى المخاطبين لتلطيف العبارة في الخطاب (انظر ص ٢: ٣).
٢٦ «ٱلَّذِي صَوْتُهُ زَعْزَعَ ٱلأَرْضَ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ وَعَدَ قَائِلاً: إِنِّي مَرَّةً أَيْضاً أُزَلْزِلُ لاَ ٱلأَرْضَ فَقَطْ بَلِ ٱلسَّمَاءَ أَيْضاً».
خروج ١٩: ١٨ وحجي ٢: ٦
ٱلَّذِي صَوْتُهُ زَعْزَعَ ٱلأَرْضَ حِينَئِذٍ أي حين نزول الشريعة على جبل سيناء (ع ١٩).
وَأَمَّا ٱلآنَ أي في العهد المسيحي.
فَقَدْ وَعَدَ قَائِلاً في (حجي ٢: ٦).
إِنِّي مَرَّةً أَيْضاً أُزَلْزِلُ لاَ ٱلأَرْضَ فَقَطْ بَلِ ٱلسَّمَاءَ أَيْضاً كلام النبي يعود إلى زمان مجيء المسيح إلى الأرض ليبني ملكوته الروحي مدة وجود الهيكل الثاني الذي بناه عزرا والزلزال المشار إليه في الآية كناية عن خراب أورشليم ومملكة اليهود الذي جرى في بداءة العهد المسيحي. وقد يكون في هذا الكلام تلميح إلى نهاية الدنيا أو إلى هدم ممالك الأرض لبناء ملكوت المسيح. لا نفهم أن السماء التي فيها مسكن الله وكرسيه تتزلزل بل سماء الدنيا أي التي تلي الأرض وتتبعها. والقول «الأرض والسماء» يشير إلى انقلاب عام لا مجرد أمور مادية كخراب مدينة أورشليم والهيكل وزوال العبادة والفرائض الموسوية وتشتت شعب اليهود وما أشبه ذلك.
٢٧ «فَقَوْلُهُ «مَرَّةً أَيْضاً» يَدُلُّ عَلَى تَغْيِيرِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْمُتَزَعْزِعَةِ كَمَصْنُوعَةٍ، لِكَيْ تَبْقَى ٱلَّتِي لاَ تَتَزَعْزَعُ».
مزمور ١٠٢: ٢٦ ومتّى ٢٤: ٣٥ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٢١: ١
فَقَوْلُهُ «مَرَّةً أَيْضاً» في العبارة المنقولة عن حجي النبي في العدد السابق.
يَدُلُّ عَلَى تَغْيِيرِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْمُتَزَعْزِعَةِ أي التي تقبل التغيير والانقلاب.
كَمَصْنُوعَةٍ أي زمنية فإن كونها مصنوعة يدل على قبولها التغيير لأن كل مصنوع متغير غير دائم. والمعنى أن مع تغيير المملكة اليهودية وخراب هيكلهم يتم أيضاً خراب جميع رتبتهم الطقسية.
لِكَيْ تَبْقَى ٱلَّتِي لاَ تَتَزَعْزَعُ أي لتدخل رتبة هي الرتبة المسيحية التي تبقى إلى آخر الزمان. والقول «مرة أيضاً» يعني مرة واحدة فقط أي أنه بعد التزعزع المشار إليه لا يكون تزعزع أيضاً بل يثبت ملكوت المسيح وسعادة المفديين. ويجب أن لا تضطرب قلوبنا لأن ما يزول ليس من الأمور الحقيقية بل رموز وظلال. وأما تلك الأمور فتبقى جميعها. ومن أمثلة ذلك كسر القالب وبناء المسبوك فيه وهدم ما تبنى عليه القنطرة وبقاء القنطرة. وكل ما في هذا العالم استعداد لملكوت الله فيزول وأما ملكوت الله فيبقى إلى الأبد.
٢٨ «لِذٰلِكَ وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتاً لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ ٱللّٰهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى».
لِذٰلِكَ وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتاً لاَ يَتَزَعْزَعُ أي بما أننا حاصلون على الرتبة المسيحية التي لا تتزعزع كما تزعزعت ونُسخت الرتبة اليهودية.
لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ أي لنشكر الله على هذه النعمة العظيمة التي بها نلنا الرتبة السامية ودخلنا ملكوت المسيح الذي هو كنيسته وجسده السري. وهذا الشكر بعيد عن الضعف والارتداد الذي كان العبرانيون في خطر منه.
بِهِ نَخْدِمُ ٱللّٰهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً أي أننا إذا شكرنا الله على هذه النعمة العظيمة فإنما يكون ذلك خدمة منا مرضية له تعالى لأنه يسر بذبيحة الشكر.
بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى متعلق بقوله «شكر» على الأصح والمعنى لنشكره تعالى بتقوى خشوعية لأنه يُقصد بالكلمات المترادفة على الاصطلاح العبراني الذي يُتبع على جانب عظيم في إنشاء هذه الرسالة زيادة البيان في المعنى المقصود فيكون المعنى بخشوع تقوّي أو بتقوى خشوعية والثاني هو الأصح لمطابقته للعبارة الآتية.
٢٩ «لأَنَّ إِلٰـهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ».
خروج ٢٤: ١٧ وتثنية ٤: ٢٤ و٩: ٣ ومزمور ٥٠: ٣ و٩٧: ٣ وإشعياء ٦٦: ١٥ و٢تسالونيكي ١: ٨ وص ١٠: ٢٧
لأَنَّ إِلٰـهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ أي إن الله يقاص الكفر والارتداد والخطيئة قصاصاً صارماً يهلك فيه العصاة فهو كنار تأكل وتهلك جميع ما أمامها. والعبارة منقولة عن (تثنية ٤: ٢٤) ومراد الكاتب بذكرها إظهار نتيجة الارتداد عنه تعالى الهائلة كما أظهر من الجهة الأخرى البركات التي ينالها المؤمنون الثابتون في المسيح. والنار قد تكون للخير أيضاً فإنها تخدم الإنسان في إعداد مأكولاته وتلطيف هواء بيته وفي بعض صناعاته وهي واسطة للتطهير. وهكذا صفات الله الكاملة تُنشى الخوف في قلوب أعدائه وتنشئ التعزية والفرح والرجاء اليقيني في قلوب المؤمنين.
فوائد
- لكل إنسان خطيئة أو خطايا يميل إليها أكثر من ميله إلى سواها وقوة تجربتها شديدة فيه ولذلك ينبغي عليه شديد الحذر منها. فقد تكون الكبرياء أو الحسد أو محبة المال أو الشهوة الأثيمة أو غير ذلك لا يقتلعها شيء من الإنسان أو يحفظه من السقوط في غوائلها إلا الصلاة الدائمة والسهر على تجنب أسبابها ولا سيما إبعاد الأفكار الأولى فيها. فإنه إذا أخذ يتردد فيها بالفكر أولاً فلا يلبث زمناً طويلاً أن يجريها بالفعل إذا مكنته الأحوال من ذلك «فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ ٱحْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ ٱلْحَيَاةِ» (أمثال ٤: ٢٣).
- الصبر في الشدة على جميع أنواعها من الواجبات المسيحية. ولما كانت جميع هذه الحياة مملوءة شقاء ومصاعب ولا يخلو أحدٌ من بعض أنواعها كان لا بد من أن يلاقيها الإنسان العاقل بالشجاعة والاحتمال. وللمسيحي وجه غير ذلك وهو أنه يؤمن بأنها من الله فلا تكون إلا للخير مهما كانت مرة أو صعبة أو كانت بحسب الظاهر مخالفة لمقتضى محبة الله الأبوية.
- مصائب المسيحي تأديبات آتية من أبيه السماوي ولا ينتج منها إن الذي تصيبه يكون قد ارتكب خطيئة عظيمة كما توهم أصحاب أيوب لما رأوا يد الله قد اشتدت عليه وكما يتوهم كثير من الناس. وإنما هي في قضاء الله السري الذي لا تُدرك أحكامه. فغاية ما نعلمه من هذا القبيل إن الله يرسلها لخير بني البشر فإذا احتملها الإنسان بالصبر والتسليم أدت إلى تقدُّمه في طاعة الله وقرب السير معه تعالى وزهده في الدنيا ورفع قلبه نحو الآخرة.
-
الكتاب المقدس أي العهد القديم والعهد الجديد كله كتاب واحد وكله موحى به من الله وإله العهد القديم هو إله العهد الجديد والله واحد فنرى في العهد القديم عدله ومحبته الفائقة وكذلك في العهد الجديد. غير أننا نرى تقدماً في إعلان الله نفسه للبشر. فإن في العهد القديم ذبائح وفرائض ورموزاً ونبوءات وفي العهد الجديد الحقائق المشار إليها. وفي العهد الجديد ظهرت محبة الله بأكثر وضوح وظهر أيضاً غضبه على الخطيئة بأكثر وضوح.
السابق |
التالي |