الرسالة إلى العبرانيين | 11 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلْحَادِي عَشَرَ
لما ذكر الكاتب الإيمان في نهاية (ص ١٠) وقال إنه صفة الذين يثبتون في الديانة المسيحية (وأما نحن فلسنا من الارتداد للهلاك بل من الإيمان لاقتناء النفس) أتى هنا للكلام في حقيقة الإيمان. وبعد أن عرّفه بقوله إنه «الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى» ذكر أنه كان صفة رجال الله في العهد القديم وقدم أمثلة كثيرة له يظهر منها أن الإيمان لا يُقتصر على المعتقد ولكنه يستولي على أعمال الإنسان ويسوقه إلى طاعة الله والسيرة الحسنة. وقد أظهر أيضاً في الأمثلة المذكورة عمل الإيمان في تقوية رجال الله وتنشيطهم ونصرهم في وسط التجارب والضيقات والمصاعب التي أحاطت بهم (ع ١ – ٣١) ثم ينتهي بجملة على غاية ما يكون من الفصاحة يجمع فيها أعمال الإيمان العظيمة التي أتوا بها والتي لم يمكنه الزمان من ذكرها فرداً فرداً (ع ٣٢ – ٤٠) وكانت غايته في كل ذلك حث العبرانيين على الاقتداء بالذين أشار إليهم في إيمانهم وثباتهم إلى النهاية ونيلهم الجزاء الصالح.
١ «وَأَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى».
رومية ٨: ٢٤ و٢٥ و٢كورنثوس ٤: ١٨ و٥: ٧
وَأَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى أي أن الإنسان يعتقد اعتقاداً وثيقاً نيل أمر يرجوه. ويمتاز عن الرجاء فإننا نرجو نيل خيرات في المستقبل ولكننا نؤمن بأننا أخذناها في الوقت الحاضر وبالإيمان نحققها فتصير الأمور المستقبلة كأنها حاضرة.
والإيمان الموصوف هنا يمتاز عن الإيمان بيسوع المسيح وهو النعمة الخلاصية التي بها نقبل المسيح كما هو مقدم لنا في الإنجيل ونتكل عليه وحده للخلاص فإن الإيمان هنا ما ظهر في حياة الأفاضل القدماء وأعمالهم وهو تيقن أمور مستقبلة فحققوها وفضلوها على أمور العالم الزائلة.
وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى أي أن يؤمن إيماناً ثابتاً بوجود أشياء لا يراها بعينه. هذا نظراً إلى المعنى الثاني للإيقان وأما المعنى الأول فهو البرهان والحجة القاطعة ومن ذلك أتى المعنى المذكور في العدد أي الإيقان وهو حالة في العقل ناتجة عن فعل البرهان القاطع. ولا يختلف هذا الحد عن تعريف العلماء للإيمان بأنه التصديق المبني على الشهادة لا على الحواس لأن الكاتب يقول أن الإيمان هو الثقة بما يرجوه وهو لا يراها فخرج بهذا القيد ما كان الإنسان حاصلاً عليه أو ما كان يراه ولما كان موضوع الإيمان ما يُرجى وما لا يُرى عُرف أنه مبني على شهادة الغير لنا لا على شهادة حواسنا. وعلى ذلك يكون الإيمان بالله مثلاً الإيقان بوجوده بناء على شهادة أعماله تعالى والإيمان بقيامة الموتى اليقين المبني على شهادة الله لنا في كتابه والإيمان بالسماء التي نرجوها ولا نراها الإيقان بوجودها بناء على شهادة الكتب لها.
٢ «فَإِنَّهُ فِي هٰذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ».
عدد ٣٩
فَإِنَّهُ فِي هٰذَا أي في الإيمان المذكور في العدد السابق.
شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ شهادة حسنة لأن الكلمة الأصلية كثيراً ما تأتي بهذا المعنى ومعنى «القدماء» رجال الله الصالحين الذين كانوا مدة العهد القديم. ومعنى جميع العبارة أنهم قد اشتهروا بالإيمان ومُدحوا لأجله. والكاتب يذكر أمثلة لذلك في ما يأتي.
٣ «بِٱلإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ ٱلْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ».
تكوين ١: ١ ومزمور ٣٣: ٦ ويوحنا ١: ٣ وص ١: ٢ و٢بطرس ٣: ٥
بِٱلإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ ٱلْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي لما لم نكن مشاهدين خلقة الله للموجودات كانت معرفتنا بذلك من فعل الإيمان فهو شاهد واضح لقوله في (ع ١) أن الإيمان هو الإيقان بأمور لا تُرى وليس المراد بقوله «العالمين» إثبات قول من يقول إن عالمنا واحد بين عوالم كثيرة كالنجوم التي يظن بعض العلماء أنها مسكونة بل معناه عالم الوجود الممتد إلى أباعد الكون. وقوله «بكلمة الله» أي بأمره تعالى لما قال لها «كوني فكانت». وقوله «أتقنت» يعم الإيجاد من العدم أولاً ثم الإتقان والتجهيز هلى هيئتها الحاضرة بدليل العبارة الآتية.
حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ أي بحيث أن الأشياء المنظورة لم تتكون من أشياء أخر أزلية لا بداءة لها كما كان يقول الفلاسفة القدماء بقدم الهيولي بل إنما نفهم بالإيمان أن الله خلقها من العدم ثم أتقنها على هيئتها الحاضرة. وفي هذا العدد بدأ الكاتب يذكر الإيمان العام بالله الخالق ولم يذكر إيمان أبوينا الأولين لأنه لم يرد شيء من هذا القبيل في الكتب. وبعد ذلك يذكر القدماء الذين اشتهروا بالإيمان حسب ترتيبهم التاريخي.
٤ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!».
تكوين ٤: ٤ و١يوحنا ٣: ١٢ وتكوين ٤: ١٠ ومتّى ٢٣: ٣٥ وص ١٢: ٣٤
بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ هذا هو المثل الأول الذي ذُكر على الإيمان وهو شاهد عليه لأن ذبيحة هابيل إذ تقدمت بالإيمان كانت أفضل من تقدمة قايين التي كانت بغير إيمان وقدم هابيل من أبكار غنمه وسمانها وأما قايين فقدم قربانه من أثمار الأرض. وقد اختلفوا من جهة العلة لفضل ذبيحة هابيل على تقدمة قايين فقال بعض لأن ذبيحة هابيل كانت تقدمة ينظر فيها إلى الترضية عن الخطيئة والإشارة إلى ذبيحة المسيح المبني عليها القبول لدى الله وأما تقدمة قايين فلم تكن كذلك. ولعل الله كان قد أمر الناس بتقديم ذبائح وأطاع هابيل أمره وأما قايين فقدم حسب استحسانه أي من أثمار الأرض على خلاف أمر الله. وقال غيرهم إن فضل الواحدة على الأخرى كان عائداً إلى النية فقدم هابيل بنية مقبولة لدى الله الفاحص القلوب والعالم بالنوايا وهي الحالة التي سُميت هنا «الإيمان» وأما تقدمة قايين فكانت بغير إيمان لأن نيته وحالة قلبه وإحساساته على الجملة لم تكن مرضية لله.
فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ الباء في قوله «فبه» سببية والمعنى أنه بسبب إيمانه شُهد له أنه مؤمن بالله ويخافه تعالى والدليل على ذلك أن الله شهد لقرابينه بأنها مقدمة على طريقة يرضى الله بها لأنه تعالى قبلها. ولم يُذكر في الخبر (تكوين ٤: ٤) كيف ظهر قبوله تعالى لها إلا أن القرينة تُفهم أن ذلك كان باحتراقها بنار نزلت من السماء كما كان يحدث في مثل هذه الأحوال (انظر لاويين ٩: ٢٤ وقضاة ٦: ٢١).
وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ أي وبإيمانه لا يزال هابيل ولو كان قد مات يتكلم للذين بعده إذ يقدم لهم مثال الإيمان وشاهداً على أن الله لا ينظر إلى التقدمات الخارجة إذا لم يصاحبها نية صالحة وخشية منه تعالى. وقال بعضهم إن الإشارة في قوله «وبه وإن مات يتكلم بعد» هي إلى قوله «صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلأَرْضِ» (تكوين ٤: ١٠) وإن الكاتب يعيد المعنى في قوله (ص ١٢: ٢٤) «وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ». وعلى ذلك يكون المراد أن موت هابيل شهيداً يكلم المؤمنين ويحثهم إلى اثبات في الإيمان والطاعة لله.
٥ «بِٱلإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ ٱللّٰهَ نَقَلَهُ إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى ٱللّٰهَ».
تكوين ٥: ٢٢ و٢٤
بِٱلإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ أي إن الله نقل أخنوخ من هذه الحياة بدون أن يرى الموت لسبب إيمانه بالله وسيرته الصالحة الصادرة عن إيمان صحيح بالله. وأما نقله بدون موت فمبني على عبارة الكتاب «أخذه الله» التي فهمها جميع المفسرين قديماً وحديثاً يهوداً ومسيحيين بمعنى انتقاله بدون موت.
ذكر الكتاب اثنين فقط انتقلا بدون موت وهما أخنوخ وإيليا. ولا نقول أن الانتقال هكذا ينتج ضرورة عن الإيمان لأن كثيرين آمنوا كما آمنا وماتوا. ولكن جميع المؤمنين يحققون أمور الأبدية وهم أحياء فإيمانهم هو الانتقال الروحي الحقيقي الذي رمز إليه انتقال أخنوخ وإيليا الجسدي.
وَلَمْ يُوجَدْ أي اختفى عن الأرض بغتة ولم يُشاهد بعد ذلك بين الناس.
لأَنَّ ٱللّٰهَ نَقَلَهُ من هذه الدنيا إلى الآخرة ومن الفساد إلى عدم الفساد.
إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى ٱللّٰهَ لأنه قيل أن «أخنوخ سار مع الله» (تكوين ٥: ٢٤) أي أنه لما كان أخنوخ سائراً مع الله ومرضياً له كان ذلك دليلاً على إيمانه به تعالى الذي لا يتأنى أن يرضي الله بدونه كما يظهر في العدد التابع.
٦ «وَلٰكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللّٰهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ».
وَلٰكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ الكلام هنا على هيئة قضية أولية لا تحتمل الشبهة كقوله «ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا ٱللّٰهَ» (رومية ٨: ٨) ولما كان ذلك غير ممكن وكان أخنوخ مرضياً لله لزم من ذلك أنه كان مؤمناً فإن الإيمان يسبق السيرة الصالحة المرضية.
لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللّٰهِ في العبادة والاتكال والخدمة أو يقترب منه تعالى لينال مغفرته ورضاه.
يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وإلا كيف يأتي وإن أتى رياء كيف يقبله الله.
وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ في الصلاة والخدمة له. وعلى ذلك يكون الإيمان بوجود الله وعنايته الأساس المبني عليه جميع الواجبات الدينية وإرضاؤه تعالى فهو للمؤمن كما عرفه الكاتب «ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (ع ١) والأجر حسب الإيمان أجر هو بالأمور غير المنظورة أي الفضائل الروحية الداخلية وليس بالخيرات الجسدية الخارجية.
قيل إن المؤمنين يطلبون الله لا الأجر فيعطيهم نفسه وهو أعظم أجر ويعطيهم أيضاً ما لم يطلبوه ولم يفتكروا فيه أي جميع الخيرات. ونستنتج من هذا إن الله لم يُظهر نفسه لأخنوخ قبل انتقاله فآمن كما يؤمن غيره من المؤمنين بمن لم يره.
٧ «بِٱلإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكاً لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ ٱلْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثاً لِلْبِرِّ ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلإِيمَانِ».
تكوين ٦: ١٣ و٢٢ و١بطرس ٣: ٢٠ ورومية ٣: ٢٢ و٤: ١٣ وفيلبي ٣: ٩
بِٱلإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ (تكوين ٦: ١٣) وكانت هذه الأمور التي أُوحيت إلى نوح أن الله كان مزمعاً أن يهلك العالم بالطوفان وكان هذا الوحي له قبل الطوفان بمئة وعشرين سنة فلم يكن يراه لما آمن بكلمة الله وجّهز طريقاً للخلاص من الغرق.
خَافَ من غضب الله الذي كان مزمعاً أن يفتقد الناس.
فَبَنَى فُلْكاً كما أمره تعالى وبناء على إيمانه بحكمة الله.
لِخَلاَصِ بَيْتِهِ أي لنجاته مع أهل بيته من الطوفان. وظهرت عظمة إيمان نوح بما يأتي (١) إنه كان مؤمناً وحده دون غيره في كل العالم. (٢) إنه ثبت في إيمانه مدة مئة وعشرين سنة على رغم ازدراء العالم. (٣) إنه لم يكن لإيمانه أساس إلا مجرد كلمة الله.
فَبِهِ دَانَ ٱلْعَالَمَ أي بإيمانه بوعيد الله دان العالم لما أخذ يبني الفلك مدة مئة وعشرين سنة وأهل العالم أي الخطأة متوغلون في الخطيئة والكفر والاستهزاء به على عمله ونظره للمستقبل فكانت سيرته هذه الناتجة عن إيمانه شهادة على العالم بكفرهم وعدم اكتراثهم بإنذاره. ودان العالم لأنه برهن بنجاته أنه كان يمكنهم الخلاص أيضاً لمن آمنوا كما آمن هو.
وَصَارَ وَارِثاً لِلْبِرِّ أي حصل على التبرير أمام الله حتى عامله الله كأنه بار فلم يحسب عليه خطيئة.
ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلإِيمَانِ أي البر أو التبرير الذي يناله الإنسان من الله إنما هو بواسطة الإيمان أو بالنطر إليه. ولما كان هذا هو نفس التبرير الذي يناله الإنسان بإيمانه بالمسيح نتج من ذلك أن الخاطئ يتبرر بالإيمان بما يعلنه الله فلم يكن يلزم معرفة المسيح لتبرير نوح بل كفاه أن يؤمن بما أوحى الله إليه. إلى هنا ذكر الكاتب الذين اشتهروا بالإيمان قبل الطوفان والآن يأتي إلى الذين كانوا بعده.
٨ «بِٱلإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي».
تكوين ١٢: ١ و٤ وأعمال ٧: ٢ إلى ٤
بِٱلإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ كان موطن إبراهيم بين النهرين فلما دعاه الله ليخرج منه ويترك شعبه ويذهب إلى أرض كنعان وهي المشار إليها بقوله –
إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً أطاع إبراهيم الأمر لسبب إيمانه بالله إيماناً كان يسوقه إلى طاعته تعالى على أنه لم يُوعد بأن نسله يرث الأرض المذكورة إلا بعد وصوله إليها (تكوين ١٢: ٧).
فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي أي إلى أرض غريبة لم يعرفها قبلاً وكان هذا الأمر دليلاً على قوة إيمان إبراهيم. وأشبهت أحوال المخاطبين في هذه الرسالة أحوال إبراهيم فإنهم كانوا مدعوين من الله أن يخرجوا من المذهب اليهودي ويدخلوا المذهب المسيحي فكان عليهم أن يطيعوا دعوة الله وهم غير عارفين ما يصيبهم من الاضطهاد والتجارب.
٩ «بِٱلإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ ٱلْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِناً فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ٱلْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهٰذَا ٱلْمَوْعِدِ عَيْنِهِ».
تكوين ١٢: ٨ و١٣: ٣ و١٨ و١٨: ١ و٩ وص ٦: ١٧
بِٱلإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ ٱلْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ أي أن إبراهيم جاور تلك الأرض غريباً فيها مؤمناً بوعد الله أنها ستكون له ولذريته.
سَاكِناً فِي خِيَامٍ أي عائشاً فيها عيشة الغريب لأنه لم يكن فيها حينئذ ملك.
مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ٱلْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهٰذَا ٱلْمَوْعِدِ عَيْنِهِ فإن الوعد كان له ولذرّيته فأقاموا فيها إقامة الغرباء وسكنوا في خيام لا في بيوت إشارة إلى غربتهم.
١٠ «لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلَّتِي لَهَا ٱلأَسَاسَاتُ، ٱلَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا ٱللّٰهُ».
ص ١٢: ٢٢ و١٣: ١٤ ورؤيا ٢١: ١٩ و٢٠ وص ٣: ٤ ورؤيا ٢١: ٢ و١٠
لأَنَّهُ حرف تعليلي للدلالة على أن السبب الذي لأجله رضي إبراهيم أن يتغرب عن أرضه ويعيش عيشة الغرباء إنما كان ما ذكره في العبارة التالية.
كَانَ يَنْتَظِرُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلَّتِي لَهَا ٱلأَسَاسَاتُ، ٱلَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا ٱللّٰهُ وهذا الوصف لا يصح على أورشليم الأرضية كما يصح على أورشليم السماوية ولذلك يجب فهم القول أن إبراهيم إذ كان مؤمناً بالله والآخرة أطاعه تعالى لما أمره بالخروج من أرضه والتغرب في أرض غريبة غير مبال بالمشقات التي أكسبته إياها الغربة لأن قلبه لم يكن في هذه الدنيا بل في السماء. وكان هذا الإيمان متسلطاً على حياته وأعماله فرضي أن يسكن في الخيام لسبب إيمانه بالوصول إلى المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله.
١١ «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً».
تكوين ١٧: ١٩ و١٨: ١١ و١٤ و٢١: ٢ ولوقا ١: ٣٦ ورومية ٤: ٢١ وص ١٠: ٢٣
بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ بحسب الظاهر هذا القول مخالف للواقع كما نرى في الخبر (تكوين ١٨: ١٢) حيث قيل أن سارة ضحكت لما سمعت قول الملاك لإبراهيم «ويكون لسارة امرأتك ابن» ولكنه بحسب الظاهر فقط لأن بعد الوهلة الأولى من الريبة التي داخلتها من أن امرأة في سنها تحمل وتلد يظهر أنها آمنت بوعد الله لها. قوله «سارة نفسها أيضاً» أي بالنظر إلى كبر سنها وخرق العادة في حملها وولادتها أو بالنظر إلى كونها شريكة إبراهيم في إيمانه. قوله «أخذت قدرة» الخ يدل على أن ما حصل من هذا القبيل كان على سبيل المعجزة.
وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً أي وبعد أنها فاتت الزمان الذي فيه تحمل النساء وتلد حملت وولدت بقدرة الله لأنها آمنت بصدق مواعيده تعالى.
١٢ «لِذٰلِكَ وُلِدَ أَيْضاً مِنْ وَاحِدٍ، وَذٰلِكَ مِنْ مُمَاتٍ، مِثْلُ نُجُومِ ٱلسَّمَاءِ فِي ٱلْكَثْرَةِ، وَكَالرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ ٱلَّذِي لاَ يُعَدُّ».
رومية ٤: ١٩ وتكوين ٢٢: ١٧ ورومية ٤: ١٨
لِذٰلِكَ أي لسبب إيمان سارة وإبراهيم والأعجوبة التي أجراها الله فيهما.
وُلِدَ أَيْضاً مِنْ وَاحِدٍ أي من شخص واحد والمراد إبراهيم.
وَذٰلِكَ مِنْ مُمَاتٍ أي من شخص كأنه ميت لأن إبراهيم كان ابن مئة سنة حين وُلد إسحاق.
ُمِثْلُ نُجُومِ ٱلسَّمَاءِ فِي ٱلْكَثْرَةِ، وَكَالرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ ٱلَّذِي لاَ يُعَدّ عبارة مبالغة تدل على كثرة الذرّية التي وُلدت من إبراهيم والمبالغة كثيرة الاستعمال في اللغات الشرقية (يوحنا ٢١: ٢٥).
١٣ «فِي ٱلإِيمَانِ مَاتَ هٰؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى ٱلأَرْضِ».
ع ٣٩ ويوحنا ٨: ٥٦ وع ٢٧ وتكوين ٢٣: ٤ و٤٧: ٩ و١أيام ٢٩: ١٥ ومزمور ٣٩: ١٢ و١٩: ١٩ و١بطرس ١: ١٧ و٢: ١١
فِي ٱلإِيمَانِ مَاتَ هٰؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ أي إبراهيم وسارة ويعقوب المذكورون في الأعداد السابقة.
وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوَاعِيدَ أي إنهم ماتوا على الإيمان مع أنهم لم ينالوا المواعيد بل نالها نسلهم. هذا إذا كانت المواعيد المذكورة هي التي كانت تتعلق بملك أرض كنعان وكثرة الذرية وولادة المسيح من نسلهم (تكوين ١٧: ٥ – ٨ و٢٦: ٣ و٤) غير أن الكلمات تحتمل معنىً آخر روحياً وهو أنهم وهم على الأرض لم ينالوا المواعيد السماوية بل ماتوا وهم مؤمنون بها.
بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا بإيمانهم بها كما يحيّي الغريب منزله عند العودة وهو يراه من بعيد.
وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى ٱلأَرْضِ وذلك بالنظر إلى كنعان الأرضية والسماوية.
١٤ «فَإِنَّ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هٰذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَناً».
ص ١٣: ١٤
فَإِنَّ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هٰذَا القول بأنهم غرباء ونزلاء.
يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَناً أي دار إقامة. وهذا الوطن لم يكن عندهم أرضياً بل كان سماوياً كما يظهر من العدد التابع. وقد أقرّ إبراهيم لبني حثّ (تكوين ٢٣: ٤) ويعقوب لفرعون (تكوين ٤٧: ٩) إنهما كانا غريبين.
١٥ «فَلَوْ ذَكَرُوا ذٰلِكَ ٱلَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَـهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ».
ُفَلَوْ ذَكَرُوا ذٰلِكَ ٱلَّذِي خَرَجُوا مِنْه أي لو كان مطلوبهم الوطن الأرضي لكان يمكنهم نيله بالسهولة.
لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ وذلك لأنه كان لهم أن يرجعوا من الأرض التي تغربوا منها إلى الوطن الذي خرجوا منه ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يطلبون وطناً ليس أرضياً سماوياً.
١٦ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ يَبْتَغُونَ وَطَناً أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيّاً. لِذٰلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ ٱللّٰهُ أَنْ يُدْعَى إِلٰهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَـهُمْ مَدِينَةً».
خروج ٣: ٦ و١٥ ومتّى ٢٢: ٣٢ وأعمال ٧: ٣٢ وفيلبي ٣: ٢٠ وص ١٣: ١٤
وَلٰكِنِ ٱلآنَ يَبْتَغُونَ وَطَناً أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيّاً أي ولكنهم مدة غربتهم المشار إليها بقوله «الآن» كان مطلوبهم وطناً أفضل من كنعان باقياً في السموات.
لِذٰلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ ٱللّٰهُ أَنْ يُدْعَى إِلٰهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَـهُمْ مَدِينَةً أي نظراً إلى إيمانهم بمواعيده وتغربهم إطاعة لأوامره لا يستحي أن يُدعى إلههم كما قيل كثيراً «إله إبراهم وإله إسحاق وإله يعقوب» بل قد أعدّ لهم مدينة في السماء باقية على وفق مرادهم وشهوتهم فلم يخيب آمالهم بمواعيده تعالى.
١٧ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ».
تكوين ٢٢: ١ و٩ ويعقوب ٢: ٢١
بعد أن ذكر ما سبق إيمان رؤساء الآباء على الجملة أتى هنا إلى الكلام في كل منهم فرداً فرداً.
بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ للذبح ولكنه لم يذبحه لأن الله أوحى إليه أن يعدل عن ذلك. فيقال أن إبراهيم قدّم ابنه لأنه كان بالحقيقة كأنه قدّمه لما مدّ يده ليذبحه.
وَهُوَ مُجَرَّبٌ الكلمة الأصلية تحتمل معنيين الأول التجريب للخطيئة وهذا لا يُنسب إلى الله أبداً (يعقوب ١: ١٣) والثاني الامتحان وهو المراد في الخبر أي أن الله امتحن إيمان إبراهيم لا ليعرف تعالى ما كان يعرفه بل ليُظهر إيمانه مثالاً للعالم وليتمرّن بالعمل.
قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ الذي قبل المواعيد من إبراهيم وهو الذي قدم ابنه الوحيد فللأمن من اللبس كان يجب أن تكون العبارة والذي قبل المواعيد قدم وحيده. والمعنى أن ذلك الذي قبل المواعيد من الله نظراً إلى كثرة نسله أُمر بأن يذبح ابنه الوحيد الذي منه وحده يمكن أن يأتي النسل الموعود به. فأطاع إلى أنه لم يبق لإجراء الأمر إلا لحظة واحدة فيها عدل عن عمله بأمر من الله فكان ذلك دليلاً عجيباً على إيمان إبراهيم بالله لأنه كان يقدم ابنه الوحيد للذبح وبحسب الظاهر يقطع كل آماله بوعد الله له بأنه يعطيه نسلاً من إسحاق (تكوين ٢١: ١٢).
١٨ «ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ».
تكوين ٢١: ١٢ ورومية ٩: ٧
ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ أي أن إبراهيم قدم ابنه الذي وعده الله أن يقيم له نسلاً به كما سبق.
١٩ «إِذْ حَسِبَ أَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ عَلَى ٱلإِقَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أَيْضاً، ٱلَّذِينَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ أَيْضاً فِي مِثَالٍ».
رومية ٤: ١٧ و١٩ و٢١
إِذْ حَسِبَ أَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ عَلَى ٱلإِقَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أَيْضاً أي أنه لم يمتنع عن تقديم ابنه ولو تعلقّت به جميع مواعيد الله له لأنه كان يؤمن بأنه تعالى لا يمكن أن يُخلف الوعد فلما أمره أن يذبح ابنه كان في قصده أن يقيمه من الموت.
ٱلَّذِينَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ أَيْضاً فِي مِثَالٍ والمعنى على الأرجح هو أن إبراهيم قبل ابنه حياً من المذبح الذي كان وضعه عليه فلم يمت إسحاق موت حقيقي بل كان وضعه على المذبح مثال موت حقيقي وقيامته من المذبح مثال القيامة من موت حقيقي. وأما امتحان إبراهيم فهو حقيقي فإنه لم يعلم أن الله سينهاه عن ذبح إسحق.
٢٠ «بِٱلإِيمَانِ إِسْحَاقُ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَعِيسُو مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ عَتِيدَةٍ».
تكوين ٢٧: ٢٧ و٣٩
بِٱلإِيمَانِ إِسْحَاقُ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَعِيسُو أي لما آمن إسحاق بمواعيد الله له ولنسله (تكوين ٢٦: ٤) طلب بركة الله على ابنيه يعقوب وعيسو لما شاخ.
مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ عَتِيدَةٍ أن تحدث لنسلهما (تكوين ص ٢٧) وذُكر يعقوب قبل عيسو أخيه الأكبر إما لسبب فضله أو لسبب نيله بركة أعظم.
٢١ «بِٱلإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ٱبْنَيْ يُوسُفَ، وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ».
تكوين ٤٨: ٥ و١٦ و٢٠ وتكوين ٤٧: ٣١ حسب ٧٠
بِٱلإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ٱبْنَيْ يُوسُفَ خبر ذلك في (تكوين ٤٨: ١٤ و١٧) حيث قيل أنه «خالف يديه» فكانت يده اليمنى على رأس أفرايم الأصغر لسبب معرفته بالوحي أن سبطه سيكون الأكبر وكان ذلك قبل مرضه الأخير وقبل مباركته لرؤوس الأسباط. وقيل أنه باركهما عند موته بمعنى قرب موته.
وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ إشارة إلى الصلاة السرّية التي قدمها وهو متوكئ على عصا شيخوخته لما حلف له يوسف بأن يدفن جثته في أرض كنعان أرض الموعد. وقد اتبع الكاتب قراءة السبعينية لأن القراءة العبرانية الموجودة هي «على رأس فراشه» وهاتان القراءتان تختلفان بحركتين والترجمة السبعينية بلا حركات. وأما سجود يعقوب فعبر عن إيمانه بأن الرب يفي بكل مواعيده وشكره على المراحم السابقة واتكاله عليه في وقت موته. وكانت هذه الحادثة قبل مباركته لأفرايم ومنسى ولكنها ذُكرت هنا لعلاقتها بوصيته ليوسف من جهة عظامه. ولمباركته ابني يوسف علاقة مع مباركته يعقوب وعيسو.
٢٢ «بِٱلإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ».
تكوين ٥٠: ٢٤ و٢٥ وخروج ١٣: ١٩
بِٱلإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي إذ كان يوسف مؤمناً بمواعيد الله من جهة خروج بني إسرائيل من أرض مصر وذهابهم إلى كنعان وامتلاكهم إياها ذكر ذلك عند نهاية حياته.
وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ أي أوصى أن تُحمل عظامه إلى كنعان فكان يعد نفسه غريباً في مصر على أنه كان قد نال رتبة سامية فيها. وربما كان ذلك لسببين الواحد أنه أراد أن تُدفن عظامه مع آبائه وهو طبيعي للإنسان. والثاني أنه قصد أن يكون ذلك ذكراً لبني إسرائيل أن لا ينسوا مواعيد الله من جهة أرض كنعان (خروج ١٣: ١٩ ويشوع ٢٤: ٣٢).
٢٣ «بِٱلإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا ٱلصَّبِيَّ جَمِيلاً، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ ٱلْمَلِكِ».
خروج ٢: ٢ وأعمال ٧: ٢٠ وخروج ١: ١٦ و٢٢
بِٱلإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ في خبر موسى (خروج ص ٢) ذُكر أن أمه فقط حاولت خلاصه ولكن هذا يستلزم موافقة أبيه لها.
لأَنَّهُمَا رَأَيَا ٱلصَّبِيَّ جَمِيلاً تعليق إخفاء موسى على جماله كان أمراً طبيعياً ولعلهم رأوا في جمال الصبي علامة تدل على أنه مختار من الله فتُحفظ حياته لأجل خدمة خاصة.
وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ ٱلْمَلِكِ أي أنهما كانا يثقان بأن الله يخلصهما من يده ويستطيعان أن يختفيا في مخالفتهما لأمر الملك بأن يُقتل كل ولد ذكر من أولاد الإسرائيليين (خروج ١: ٢٢).
٢٤ «بِٱلإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ».
خروج ٢: ١٠ و ١١
بِٱلإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أي صار رجلاً وهو ابن أربعين سنة (أعمال ٧: ٢٣).
أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ ورد في الخبر أن ابنة فرعون ربته كأنه ابنها (خروج ٢: ١٠) ولم يقل أنه أبى هذه التسمية ولكن عمله في مشاركته لشعبه لما قتل المصري (خروج ٢: ١١) وتركه مصر أخيراً لأجلهم يدل على أنه رفض المقام العالي الذي كان قد ناله في بيت فرعون.
٢٥ «مُفَضِّلاً بِٱلأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ ٱللّٰهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِٱلْخَطِيَّةِ».
مزمور ٨٤: ١٠
مُفَضِّلاً بِٱلأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ ٱللّٰهِ الإسرائيليين الذين كانوا حينئذ في حال الذل والعبودية للمصريين يقاسون أشد مصاعب الظلم (خروج ١: ٨ – ٢٢).
عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِٱلْخَطِيَّةِ أي اختار مشاركة شعبه في الذل على التنعم بالخطيئة في قصور فرعون قوله «تمتُّع وقتي بالخطية» يشير إلى أن هذه اللذّات الأثيمة قصيرة وكثيرة ما يتبعها القصاص السريع وإن طالت فتنتهي عند نهاية الحياة خلافاً لرضى الله فإنه ينبوع فرح دائم في هذه الحياة ويمتد إلى الآخرة ولا ينتهي إلى الأبد. وليس التمتع بالخيرات الجسدية خطيئة بذاته لأن الله خلقها لتُتناول بالشكر من المؤمنين ولكنه خطيئة على من يترك خدمة الله لينالها.
٢٦ «حَاسِباً عَارَ ٱلْمَسِيحِ غِنىً أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمُجَازَاةِ».
ص ١٣: ١٣ وص ١٠: ٣٥
حَاسِباً عَارَ ٱلْمَسِيحِ غِنىً أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ أي أن موسى بواسطة الإيمان الذي اتصل إليه من مخالطته لأبويه وشعبه كان يحسب أن العار الذي احتمله معهم في العبودية للمصريين غنىً أعظم من خزائن مصر التي كان له وصول إليها لما كان ابن ابنة فرعون. والكاتب يُسمي هذا العار «عار المسيح» إما لأنه كان كعار المسيح الذي تعير لأجل خيرنا أو لأنه احتمله لأجل المسيح رئيس شعبه أو لأنه عار الإسرائيليين وعار شعب الله في جميع الأجيال عائد بالحقيقة إلى شخص المسيح الذي احتمل العار في نفسه وفي شعبه أيضاً (مزمور ٨٩: ٥٠ و٥١ و٢كورنثوس ١: ٥ وكولوسي ١: ٢٤).
لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمُجَازَاةِ أي كان يوقن بها وينتظرها فإنه تعالى قد وعد أنه يجازي كل خدمة له وكل خسارة واحتمال لأجله (متّى ١٩: ٢٩ و٢٥: ١٤ الخ) وذلك ليس على سبيل التكفير للخطيئة بل على سبيل المجازاة من فضل الله وكرمه. ومجازاة المؤمنين في الزمان الحاضر تقوم بما ينالونه من التعزية والفرح في محبة الله وخدمته (انظر قول المسيح في مرقس ١٠: ٣٠) «يأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان» ولها مجازاة أيضاً في الدهر الآتي أي الحياة الأبدية. فلا شك أن موسى نظر إلى المجازاة بنوعيها.
٢٧ «بِٱلإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ ٱلْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى».
خروج ١٠: ٢٨ و٢٩ و١٢: ٣٧ و١٣: ١٧ و١٨ ع ١٣
بِٱلإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ ٱلْمَلِكِ يحتمل أن يكون المراد هرب موسى من مصر لما قتل المصري وذهب إلى مديان واثقاً بالله أن يخلصه من غضب الملك وقوته. ويحتمل أن يكون خروجه مع الإسرائيليين من مصر واثقاً بأن الله معهم فلم يخف من غضب الملك وربما كان القول الأول هو الأصحّ.
قيل في (خروج ٢: ١٤ و١٥) «فخاف موسى… فهرب من وجه فرعون» أي لم يقدر أن يقاوم الملك فيبقى في مصر وهو متحد بشعب إسرائيل. وقيل هنا أنه «غير خائف من غضب الملك» أي كان يمكنه لو أراد أن يطلب منه السماح عن ما كان فعله فيبقى في مصر ويتجنب شعب الله ولكنه اختار الاتحاد بشعب الله وإن كان ذلك يفصله عن الملك ويجلب على نفسه غضبه. فخاف في الأمر الجسدي الوقتي ولم يخف في ما يتعلق بالإيمان.
لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى أي لأن إيمانه حمله إلى هذه الأعمال فإنه كان يعتقد بالله الذي لا يُرى وإنه تعالى يكون معه ويخلّصه من طائلة الملك فكان إيمانه على ما قال الكاتب في بداءة هذا الأصحاح «إيقان بأمور لا ترى» (ع ١).
٢٨ «بِٱلإِيمَانِ صَنَعَ ٱلْفِصْحَ وَرَشَّ ٱلدَّمَ لِئَلاَّ يَمَسَّهُمُ ٱلَّذِي أَهْلَكَ ٱلأَبْكَارَ».
خروج ١٢: ٢١ الخ
بِٱلإِيمَانِ صَنَعَ ٱلْفِصْحَ وَرَشَّ ٱلدَّمَ أي بناء على أمر الله ووحيه إليه أقام الفصح بذبح الحمل ورش الدم على قوائم وأسكفة الأبواب.
لِئَلاَّ يَمَسَّهُمُ ٱلَّذِي أَهْلَكَ ٱلأَبْكَارَ ليجتاز الملاك القاتل عن أبواب الإسرائيليين في إهلاكه لأبكار المصريين (خروج ص ١٢) فآمن بأن الله سيفعل بالمصريين كما قال ويخلص الإسرائيليين بالوسائط التي أمرهم باستعمالها.
ونظر بالإيمان إلى المسيح الموعود به وهو حمل الله الحقيقي الذي يرفع خطيئة العالم. وتظهر عظمة إيمان موسى مما يأتي:
- ترك أعظم المقامات في مصر فإنه كان محسوباً من أهل بيت الملك وكانت مصر أُولى ممالك العالم في الغنى والمجد والعلوم.
- تولى عملاً لا أصعب منه وهو أن يقود نحو مليونين من العبيد معهم نساء وأطفال ومواش في قفر بلا ماء وبلا طعام مسافة ٢٠٠ ميل على الأقل على رغم أعظم ملك في العالم. وكان عليه أيضاً أن يقنع الإسرائيليين فيسمعوه ويطيعوه.
- عمل هذا العمل العظيم واحتمل أخطاراً وأتعاباً كثيرة مدة ٤٠ سنة ولم يأخذ أجراً لنفسه ولا لأولاده ولم يقصد ذلك ولا استنظره.
٢٩ «بِٱلإِيمَانِ ٱجْتَازُوا فِي ٱلْبَحْرِ ٱلأَحْمَرِ كَمَا فِي ٱلْيَابِسَةِ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي لَمَّا شَرَعَ فِيهِ ٱلْمِصْرِيُّونَ غَرِقُوا».
خروج ١٤: ٢٢ و٢٩
بِٱلإِيمَانِ ٱجْتَازُوا فِي ٱلْبَحْرِ ٱلأَحْمَرِ كَمَا فِي ٱلْيَابِسَةِ آمنوا بأن الله قادر أن يخلصهم من البحر وآمنوا بأنه إلههم وما عملوه فهو بأمره.
ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي لَمَّا شَرَعَ فِيهِ ٱلْمِصْرِيُّونَ غَرِقُوا لأن عملهم ليس بأمر الله ولا وعد لهم منه فصار البحر للإسرائيليين يابسة وصارت اليابسة للمصريين بحراً (انظر نبأ مشي بطرس على الماء متّى ١٤: ٢٥ – ٣٣).
٣٠ «بِٱلإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ».
يشوع ٦: ١٢ إلى ٢٠
بِٱلإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وذلك أن الله وعد يشوع أنهم إذا أحاطوا بها وطافوا حولها سبعة أيام تسقط أسوارها من نفسها وبناء على إيمانهم بهذا فعلوا ما أمرهم الله به وافتتحوا المدينة. وظهرت قوة إيمانهم بأنهم ضربوا بالأبواق التي ليس فيها قوة لإسقاط الأسوار وإنهم طافوا حول المدينة سبعة أيام بالسكوت مع أن أهل المدينة كانوا بلا شك يستخفون بهم.
٣١ «بِٱلإِيمَانِ رَاحَابُ ٱلزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ ٱلْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ ٱلْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ».
يشوع ٢: ١ و٦: ٢٣ ويعقوب ٢: ٢٥
بِٱلإِيمَانِ رَاحَابُ ٱلزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ ٱلْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ ٱلْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ والمعنى أنه لما آمنت راحاب بأن الله إله إسرائيل قد أعطاهم أرض كنعان ملكاً قبلت الجاسوسين وأخفتهما وبعهد عقدته معهما خلصت هي وبيت أبيها ودخلت بين شعب الله. فكان كل ذلك لسبب إيمانها. وكان الزنى من أعمال العبادة الوثنية والأمر واضح أن راحاب تركت هذه الخطيئة لما آمنت وانضمت إلى شعب إسرائيل غير أنها لم تزل تلقب بالزانية. وأما العصاة المذكورون فهم شعب الأرض الذين عصوا على إرادة الله في مقاومتهم لإسرائيل مع أن الله بأفعاله الخارقة كان قد أعطاهم برهاناً واضحاً على إرادته تعالى.
٣٢ «وَمَاذَا أَقُولُ أَيْضاً؟ لأَنَّهُ يُعْوِزُنِي ٱلْوَقْتُ إِنْ أَخْبَرْتُ عَنْ جِدْعُونَ، وَبَارَاقَ، وَشَمْشُونَ، وَيَفْتَاحَ، وَدَاوُدَ، وَصَمُوئِيلَ، وَٱلأَنْبِيَاءِ».
قضاة ٦: ١١ وقضاة ٤: ٦ وقضاة ١٣: ٢٤ وقضاة ١١: ١ و١٢: ٧ و١صموئيل ١٦: ١ و١٣ و١٧: ٤٥ و١صموئيل ١: ٢٠ و١٢: ٢٠
وَمَاذَا أَقُولُ أَيْضاً انتقال مبني على بلاغة في صناعة الإنشاء والخطاب فإنه كان يحدث ملل لو أطال الكلام في تقديم أمثلة للإيمان الظاهر في حوادث خصوصية تتعلق برجال الله في العهد القديم ولذلك عدل هنا إلى ذكر أسماء بعض الذين اشتهروا في الإيمان.
لأَنَّهُ يُعْوِزُنِي ٱلْوَقْتُ إِنْ أَخْبَرْتُ عَنْ جِدْعُونَ، وَبَارَاقَ، وَشَمْشُونَ، وَيَفْتَاحَ، وَدَاوُدَ، وَصَمُوئِيلَ، وأعمالهم مذكورة بالتفصيل في العهد القديم ومعروفة عند جميع هذه الرسالة فنرى –
(١) إن هؤلاء الأفاضل كانوا غير كاملين في صفاتهم الأدبية والروحية فلا نفهم أن الكاتب مدحهم على كل ما فعلوه بل على إيمانهم الذي ظهر في طاعتهم للرب واتكالهم عليه على رغم ضعفهم وقوة المقاومين.
وَٱلأَنْبِيَاءِ كإيليا وأليشع ودانيال وغيرهم.
٣٣ «ٱلَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرّاً، نَالُوا مَوَاعِيدَ، سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ».
٢صموئيل ٧: ١١ الخ وقضاة ١٤: ٥ و٦ و١صموئيل ١٧: ٣٤ و٣٥ ودانيال ٦: ٢٢
ٱلَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ انتقل الكاتب من أسماء إلى أعمال اشترك فيها كثيرون منها قهر الممالك فإن ذلك جرى كثيراً في زمان بني إسرائيل.
صَنَعُوا بِرّاً أي عدلاً في أحكامهم مثل صموئيل وغيره من قضاة إسرائيل وداود وغيره من الملوك الأتقياء.
نَالُوا مَوَاعِيدَ والمعنى (١) أنهم أُعطيوا مواعيد أجراً لإيمانهم وشجاعتهم. (٢) إنهم بإيمانهم نالوا المواعيد التي أُعطيت لهم سابقاً.
سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ الإشارة إلى دانيال (دانيال ٦: ٢٢) وربما كانت أيضاً إلى شمشون (قضاة ١٤: ٦) وداود (١صموئيل ١٧: ٣٤).
٣٤ «أَطْفَأُوا قُوَّةَ ٱلنَّارِ، نَجَوْا مِنْ حَدِّ ٱلسَّيْفِ، تَقَوَّوْا مِنْ ضَعْفٍ، صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي ٱلْحَرْبِ، هَزَمُوا جُيُوشَ غُرَبَاءَ».
دانيال ٣: ٢٥ و١صموئيل ٢٠: ١ و١ملوك ١٩: ٣ و٢ملوك ٦: ١٦ و٢ملوك ٢٠: ٧ الخ وأيوب ٤٢: ١٠ ومزمور ٦: ٨ وقضاة ١٥: ٨ و١٥ و١صموئيل ١٤: ١٣ الخ و١٧: ٥١ و٥٢ و٢صموئيل ٨: ١ الخ
أَطْفَأُوا قُوَّةَ ٱلنَّارِ الإشارة إلى الفتيان الثلاثة أصحاب دانيال الذين عصوا أمر ملك بابل بالسجود لصنمه الذهبي فطُرحوا في أتون النار ولم يهلكوا لأنهم آمنوا بالله وأطاعوه.
نَجَوْا مِنْ حَدِّ ٱلسَّيْفِ كما نجا داود (١صموئيل ١٨: ١١ وص ١٩: ١٠) وإيليا (١ملوك ١٩: ١ و١٠) وأليشع (٢ملوك ٦: ١٤ و٣١) وأستير ومردخاي وكثير من اليهود من مكيدة هامان.
تَقَوَّوْا مِنْ ضَعْفٍ كما حدث لحزقيا الملك لما مرض وصلى بإيمان وشُفي (٢ملوك ص ٢٠ وإشعياء ٣٨: ٣ و٥).
صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي ٱلْحَرْبِ أكثر قضاة بني إسرائيل كانوا كذلك وهكذا شاول وداود ويوناثان وغيرهم.
هَزَمُوا جُيُوشَ غُرَبَاءَ كما جرى كثيراً في حروب بني إسرائيل مع أعدائهم.
٣٥ «أَخَذَتْ نِسَاءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بِقِيَامَةٍ. وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا ٱلنَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ».
١ملوك ١٧: ٢٣ و٢ملوك ٤: ٣٥ وأعمال ٢٢: ٢٥
أَخَذَتْ نِسَاءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بِقِيَامَةٍ كما جرى لأرملة في صرفة صيدون التي أقام إيليا ابنها (١ملوك ص ١٧) وللشونمية امرأة أخرى صالحة أقام ابنها أليشع النبي (٢ملوك ص ٤).
وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا ٱلنَّجَاةَ لا يُعلم إلى من الإشارة بهذا الكلام فإن في الكتب القانونية لم يُذكر شيء من ذلك بالتوضيح ولا سيما إذا نظرنا إلى الكلمة الأصلية التي تفيد التمدد على آلة للضرب بالسياط على الأصح. وبعضهم يفهم الإشارة إلى ما حدث لشهداء زمان المكابيين فإنه لما جاء أنطوخيوس أبيفانيوس وأخذ أورشليم ونجس الهيكل أمر اليهود بإبطال عبادة الله وبأن يعبدوا الأصنام وأن لا يختتنوا فأطاعه كثير من اليهود إلا بعضهم وأبوا ولذلك عُذبوا وضُربوا وتمزقت أجسادهم وصُلبوا أحياء (يوسيفوس قديمات اليهود كتاب ١٢ فصل ٥: ٤).
لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ من قيامة الجسد لهذه الحياة كما قام ولدا الامرأتين المذكورتين في تفسير هذا العدد فإنهم كانوا يتوقعون قيامة الأبرار في السماء.
٣٦ «وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ».
تكوين ٣٩: ٢٠ وإرميا ٢٠: ٢ و٣٧: ١٥
وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ كما جرى في زمان المكابيين (١مكابيين ٩: ٢٦ و٢مكابيين ٧: ٧).
وَجَلْدٍ (٢مكابيين ٦: ١٠ و٧: ١)،
ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ (١مكابيين ١٣: ١٢ و١ملوك ٢٢: ٢٧ وإرميا ٣٧: ١٨).
٣٧ «رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِٱلسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ».
١ملوك ٢١: ١٣ و٢أيام ٢٤: ٢١ وأعمال ٧: ٥٨ و١٤: ١٩ و٢ملوك ١: ٨ وزكريا ١٣: ٤ ومتّى ٣: ٤
رُجِمُوا كما جرى لزكريا بن يهودياداع (٢ أيام ٢٤: ٢١).
نُشِرُوا قيل على تقليد عند اليهود إن إشعياء نُشر بأمر منسى الملك.
جُرِّبُوا لترك الدين الحقيقي وعبادة الأصنام.
مَاتُوا قَتْلاً بِٱلسَّيْفِ كالأنبياء الذين قُتلوا بأمر إيزابل وغيرهم على عهد منسى وأنطيوخوس أبيفانوس.
طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى إذ لم يكن لهم لباس يلبسونه في هربهم وطول غربتهم.
مُعْتَازِينَ ضروريات الحياة في غربتهم كما حدث لإيليا في هربه من أمام وجه آخاب وغيره.
مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ من الاضطهاد والحاجة والغربة. والإشارة في هذا العدد إلى كثير مما حصل في ملك منسى وآخاب وأنطيوخوس.
٣٨ «وَهُمْ لَمْ يَكُنِ ٱلْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَـهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ ٱلأَرْضِ».
١ملوك ١٨: ٤ و١٩: ٩
وَهُمْ لَمْ يَكُنِ ٱلْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَـهُمْ جملة معترضة قطع الكاتب فيها كلامه من جهة الشدائد التي قاساها بعض رجال الله ولم يعبأوا بها لسبب إيمانهم بالله والآخرة. ومعنى العبارة أن العالم الذي كان يضطهدهم لم يكن يستحقهم لأن الاضطهاد الذي أثاره عليهم كان بالحقيقة على مبادئ الديانة والحق والبر فلم يستحق أن يرسل إليه أنبياء ولما أرسلهم الله لم يقبلوهم بإكرام بل عاملوهم بالقساوة والطرد ولذلك لم يستحقوهم.
تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ ٱلأَرْضِ علاقة هذه العبارة بما سبق في العدد السابق ومعناها أن أهل العالم الخطأة طردوهم من مساكن البشر فذهبوا تائهين في البراري كما جرى الأمر أحياناً كثيرة منها ما ذُكر في (١ملوك ١٨: ٤ و١٣ و٢مكابيين ٥: ٢٧ و٦: ١١).
٣٩ «فَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهُوداً لَـهُمْ بِٱلإِيمَانِ، لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوْعِدَ».
ع ٢ و١٣
فَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ المؤمنون الذين سبق ذكرهم في هذا الأصحاح.
مَشْهُوداً لَـهُمْ بِٱلإِيمَانِ أي وهم ممدوحون لأجل إيمانهم الذي أظهروه بسيرة توافق الإيمان في أوقات التجارب والشدائد والاحتمال.
لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوْعِدَ ظن بعضهم المراد «بالموعد» الأرض المقدسة. وبعضهم كنعان السماوية أي أنهم بقوا في مكان متوسط بعد الموت لحين صعود المسيح إلى السماء فصعدوا هم أيضاً معه. والأرجح أن المعنى هو أنهم أخذوا المواعيد بمجيء المسيح في الجسد وكفارته للخطيئة والخلاص به والاقتراب به إلى الله والحياة الأبدية ولكنهم لم يروا وفاء هذه المواعيد كما رآه المخاطبون في هذه الرسالة.
٤٠ «إِذْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئاً أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا».
ص ٧: ٢٢ و٨: ٦ وص ٥: ٩ و١٢: ٢٣ ورؤيا ٦: ١١
إِذْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَنَظَرَ لَنَا أي الذين كانوا في العهد المسيحي.
شَيْئاً أَفْضَلَ هو النور الأعظم الذي أشرق بمجيء المسيح والذي لم ينله أهل العهد القديم والذي يتعلق عليه بركات كثيرة.
لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا قد اختلفوا على معنى هذه العبارة. فقال بعضهم المراد أن الأتقياء في العهد القديم لم ينالوا السماء إلى حين صعود المسيح وليس منها يخالف هذا المعتقد كصعود أخنوخ وإيليا (انظر أيضاً رومية ٣: ٢٥ وهذه الرسالة ٩: ١٥) حيث يظهر أن فوائد موت المسيح كانت تمتد إلى الزمان الماضي كما تمتد إلى الزمان المستقبل. هذا وإن التكميل في قوله «لا يكملوا» له معنى خاص في هذه الرسالة وهو التطهير من الخطيئة وراحة الضمير من جهة نيل المغفرة (انظر ص ٧: ١١ و ٩: ٩ و١٤) وبناء على ذلك يتعين معنى قوله «بدوننا» أي بدون العهد المسيحي الذي تم في زماننا. ويكون معنى جميع العبارة أن رجال الله في العهد القديم لم ينالوا بركات العهد الجديد عياناً ولكنهم نالوا مفاعليها الخلاصية معنا نحن الذين جرى عمل الفداء في أيامنا. ومراد الكاتب بذلك أن التزام المسيحيين بالإيمان وأثماره بناء على ما تقدم من الفرق بين أهل العهدين هو أعظم من الذين اشتهروا في العهد القديم بالإيمان.
فوائد
- الإيمان ركن الديانة الذي لا تقوم بدونه لأنه لما كان موضوعها الأمور التي تُرجى ولا تُرى كان من المستحيل وجودها من غير إيمان. وركن الإيمان هو الشهادة فإن اعتقادنا بالله مثلاً مبني على شهادة عقولنا مما يُرى من الموجودات وإتقانها إلى ما لا يُرى من موجدها الذي أتقنها ويسوسها على الدوام. واعتقادنا بقيامة الأموات مبني على شهادة الله لنا على ذلك في كتابه وبواسطة أنبيائه ورسله ولذلك كان من المستحيل أن نقترب منه تعالى أو نرضيه من غير إيمان.
- العلاقة بين الإيمان والعمل شديدة جداً كما نرى من الأمثلة التي قدمها الكاتب في الأصحاح السابق. لأننا نرى أن إيمان نوح مثلاً أدى به ليس إلى تصديق ما أوحى الله إليه به فقط بل إلى بناء الفلك الذي شرع فيه قبل الطوفان بمثة وعشرين سنة. وإيمان إبراهيم ساقه إلى تقديم ابنه ذبيحة وهكذا في ما بقي. فيظهر من ذلك أنه إذا لم يكن الإيمان عاملاً في السيرة وكانت الديانة غير عاملة في العيشة الصالحة كان كلاهما باطلَين.
- معظم مواعيد الديانة تتعلق بالحياة الآتية حتى أنه قد لا يجد الإنسان ثمرة من إيمانه وديانته إلا في الآخرة. فإن كثيرين من رجال الله القدماء لم ينالوا مواعيد تمت في زمانهم وكانت تلك المواعيد الزمنية رمزا إلى ما نالوه في السماء.
- قد يكون الإيمان سبباً للعار والذل والاضطهاد في هذه الحياة. وأما رجل الله فلا يعبأ بذلك ولا يتحيّر إذا أصابه لأن كل القرون شاهدة على بغض العالم لشعب الله ومقاومته لهم. فليس له أن يتذمر إذا التفت إلى العدد الذي لا يُحصى من المضطهدين لأجل البر ولا سيما إذا نظر إلى المسيح الذي احتمل أمر المقاومة وأشد الاضطهاد لأجل الشهادة بالحق. وليس العبد أفضل من سيده.
-
لإيمان ضعف أحياناً وغلبات أحياناً أخرى. وهذه الغلبات مكتوبة في سفر الحياة وهي موضوع دائم لتسابيح أهل السماء على ما ورد في (سفر الرؤيا ٧: ٩ – ١٧) غير أن المسيحي لا ينالها إلا بالإيمان الوثيق بذلك الذي حارب قوات الظلمة وغلب وصار ينبوع القوة والغلبة لجميع شعبه الذين يلتجئون إليه.
السابق |
التالي |