الرسالة إلى العبرانيين | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
لما كان قصد المؤلف في هذه الرسالة مدح الديانة المسيحية وتحريض اليهود المؤمنين على الثبات فيها وعدم الارتداد عنها بدأ بالقول أن المسيح الذي وُكل إليه إعلان العهد الجديد هو أفضل من الأنبياء الذين وُكل إليهم العهد القديم لأنه رب المسكونة وخالقها (ع ١ و٢) وهو صورة الله الحقيقية. وبعد أن كفّر عن خطايا البشر رُفع إلى أعالي المجد في السماوات (ع ٣). وهو أعظم من الملائكة لأن اسمه ابن الله أعظم من اسمهم (ع ٤ و٥) والملائكة تسجد له وما هم إلا رسل الله (ع ٦ و٧). والمسيح ملك ملكه مستقيم أبدي وهو أرفع من جميع الملوك لسبب محبته للبر (ع ٨ و٩) وهو خالق السماوات والأرض لا يتغير ولا يفنى (ع ١٠ – ١٢) وليست كذلك الملائكة (ع ١٣). بل هم خدمة لنفع الذين يرثون الخلاص (ع ١٤).
١ «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ».
خروج ٣: ٤ وعدد ١٢: ٦ و٨ ودانيال ٢: ١٩ و١٠: ٨
كان بولس في جميع رسائله يذكر أولاً اسمه واسماء المخاطبين كقوله في (رومية ١: ١ – ٧) «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ… إِلَى جَمِيعِ ٱلْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ» وأما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فلم يذكر اسمه ولا أسماء المرسَل إليهم بل ابتدأ بموضوع السفر بلا مقدمة.
اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ أي سلفاء اليهود (لوقا ١: ٧٢ و١١: ٤٨ ورومية ٩: ٥) ويظهر من هذه التسمية أن كاتب هذه الرسالة كان يهودياً يخاطب أبناء جنسه. والمراد بأن «الله كلم الآباء» أي أعلن لهم إرادته تعالى.
بِٱلأَنْبِيَاءِ بواسطة الأنبياء وهم جميع الذين استخدمهم الله واسطة لإعلان ما أراد أن يوحي به في العهد القديم. والمراد «بالأنبياء» هنا جميع الذين أرسلهم الله ليعلنوا للناس إرادته في المستقبل أو في الحاضر لا الذين أعلنوا المستقبلات فقط.
قَدِيماً في الزمن القديم بالنسبة إلى الزمن الذي كتب فيه الكاتب أو مدة العهد القديم بالنسبة إلى العهد الجديد. وربما كانت الإشارة في ذلك إلى انقطاع النبوءة من زمان ملاخي وهو آخر أنبياء العهد القديم وكان قبل المسيح نحو ٤٠٠ سنة.
بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ لا فرق في المعنى بين «الأنواع والطرق» في الترجمة العربية وهكذا الكلمتان في الأصل اليوناني على مذهب بعض المفسرين. وقال غيرهم أن الكلمة الأولى تفيد التجزئة والثانية الكيفية أي أن الله لم يُعلن الديانة دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً بالتتابع لنبي بعد آخر ولم يكن ذلك على كيفية واحدة بل على كيفيات كثيرة فكلم إبراهيم بواسطة ملائكة ويعقوب بواسطة حُلم وموسى من العليقة المشتعلة وصموئيل في النوم إلى غير ذلك.
٢ «كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ».
تثنية ٤: ٣٠ وغلاطية ٤: ٤ وأفسس ١: ١٩ ويوحنا ١: ١٧ و١٥: ١٥ وص ٢: ٣ ومزمور ٢: ٨ ومتّى ٢١: ٣٨ و٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ ورومية ٨: ١٧ ويوحنا ١: ٣ و١كورنثوس ٨: ٦ وكولوسي ١: ١٦
كَلَّمَنَا نحن كما كلم الآباء في العهد القديم.
فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ بعض المحققين يحذفون كلمة «الأخيرة» من المتن لعدم وجودها في بعض النسخ القديمة ولا يتغير المعنى بهذا الحذف لأن المراد ظاهر من مقابلة قوله «هذه الأيام» بقوله «قديماً» في العدد السابق والمعنى العهد المسيحي الجديد بالنسبة إلى العهد اليهودي القديم.
فِي ٱبْنِهِ لم يُذكر الضمير المضاف «ابن الله» في الأصل اليوناني والمعنى بمقتضاه أنه كلم الله الآباء بالأنبياء وأما نحن فكملنا بابنٍ والمقصود هو المسيح فإن التكلم بواسطة ابن أعظم جداً من التكلم بواسطة عبد. ولم يكلم الناس بتعليم المسيح فقط بل كلمهم فوق ذلك بأعماله وسيرته وجميع صفاته فكان هو الكلمة لا مجرد المتكلم في الله ولا يمكن الناس أن يعرفوا الله معرفة حقيقة بواسطة الأنبياء بل بالابن لأن الابن هو الله.
ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ أي أعطاه المُلك التام المطلق لأن الوراثة هنا على سبيل المجاز ولا محل لمعناها الأصلي في هذا المقام.
ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً أي بواسطته.
عَمِلَ أي خلق.
ٱلْعَالَمِينَ وفي الأصل الدهور وهكذا فسرها البعض بمعنى دهور الدنيا وأدوارها ولكن الإشارة واضحة إلى خلق العالم بأسره أو العالمين وهذا المعنى موافق لما ورد في (أفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ١٥ و١٦ ويوحنا ١: ٣ و١٠) وغيرها.
وأحوال المسيح الثلاث مذكورة هنا وهي:
- كونه منذ الأزل وهذا في قوله «الذي به عمل العالمين».
- تجسده وهو في قوله «كلمنا بابنه»
- ارتفاعه وهو في قوله «جعله وارثاً لكل شيء».
٣ «ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي».
يوحنا ١: ١٤ و١٤: ٩ و٢كورنثوس ٤: ٤ وكولوسي ١: ١٥ ويوحنا ١: ٤ وكولوسي ١: ١٧ ورؤيا ٤: ١١ وص ٧: ٢٧ و٩: ١٢ و١٤ و٢٦ ومزمور ١١٠: ١ وأفسس ١: ٢٠ وص ٨: ١ و١٠: ١٢ و١٢: ٢ و١بطرس ٣: ٢٣
ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ أي أن المسيح هو ضياء نور الله.
وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ أي صورة ذاته تعالى والمعنى في كل ذلك مجازي مستعار من الشمس ونورها والشيء وصورته أي أن الله المحجوب عن أبصارنا قد أعطانا صورته أو رسمه في المسيح إذ تلطف نور الله الذي لا يُدنى منه في سر التجسد. وبناء على ذلك لا يكون المراد هنا بيان النسبة الأزلية بين الآب والابن كما ذهب البعض بل المراد إعلان الله ذاته لنا في ابنه. وهذا يوافق قول يوحنا «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨). وقوله أيضاً «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا ١٤: ٩). وأيضاً «ٱلَّذِي يَرَانِي يَرَى ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا ١٢: ٤٥). والحق أن الله لم يُعلن لنا إرادته فقط بواسطة المسيح ولكنه أعلن لنا صفاته كما يمكن ظهورها في الإنسان يسوع المسيح. فنتعلم:
(١) إن مجد المسيح هو من الله كالضوء من الشمس لأنه بهاء مجده.
(٢) إن للمسيح مجداً في ذاته كما أن صورة الخاتم (رسم جوهره) في الطين هي من الخاتم ومثله ولكنها كائنة بذاتها. فيتميز المسيح عن المؤمنين الذين يعكسون مجد الله ولكن ليس لهم مجد في نفوسهم. وفهم بعضهم أن «المجد» المذكور هو مجد المسيح قبل التجسد والأرجح أنه مجده بعده. والمجد ليس في الأمور الخارجية كمجد ملوك العالم بل في المسيح ذاته وفي صفاته كقداسته وحكمته ومحبته.
وَحَامِلٌ أي مدبّر ومدير.
كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ كل العالم.
بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ بكلمته القديرة فهو كالقول «ليكن نور فكان نور» (تكوين ١: ٣). وأيضاً «لأنه قال فكان هو أمر فصار» (مزمور ٣٣: ٩) فكما أن المسيح خلق العالم هو أيضاً الذي يسوسه ويدبره بحكمته. وهي شهادة صريحة بأن المسيح إله وبفضل الديانة التي وضعها على تلك التي جاءت للآباء في أزمنة متقطعة وطرق كثيرة على يد الأنبياء والملائكة.
بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ أي بموته (ص ٢: ١٤) وبدمه ص ٩: ١٢).
تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا أي تكفيراً عنها. هكذا الترجمة السبعينية عن العبراني (خروج ٢٩: ٣٦ و٣٠: ١٠) وسيأتي معنى التطهير المذكور في سياق هذه الرسالة.
جَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي أي في السماء وهذا الجلوس كناية عن الارتقاء والحكم والتسلط (انظر ع ١٣).
٤ «صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ ٱسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ».
أفسس ١: ٢١ وفيلبي ٢: ٩ و١٠
صَائِراً بعد أن صنع تطهيراً وجلس في يمين العظمة.
أَعْظَمَ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ في طبيعة ناسوته كما كان في طبيعة لاهوته (انظر العدد السابق).
بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ نال.
ٱسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ هو «ابن الله» وهو اسم خاص به وإن قيل أنه يُطلق أحياناً على الملائكة والبشر فالجواب أن تخصيص هذا الاسم بالمسيح هو على معنى غير ما يُقال في الملائكة والبشر أنهم أبناء الله.
٥ «لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟ وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً؟».
مزمور ٢: ٧ وأعمال ١٣: ٣٣ وص ٥: ٥ و٢صموئيل ٧: ١٤ و١أيام ٢٢: ١٠ و٢٨: ٦ ومزمور ٨٩: ٢٦ و٢٧
لما ذكر الكاتب في الآية السابقة «إن المسيح أعظم من الملائكة لأنه ورث اسماً أفضل منهم» أثبت ذلك من العهد القديم فاقتبس آيتين بهذا المعنى تشيران إلى كون المسيح قد سمي «ابن الله». فالأولى مقتبسة من (مزمور ٢: ٧) والإشارة فيها ظاهرة إلى المسيح لأن وصف النبي لا يصدق إلا عليه كما يظهر من مراجعة (ع ١ و٨ و١٢) وإذا صدق جزئياً على داود فإنما لأنه كان رمزاً للمسيح. والثانية مأخوذة من (٢صموئيل ٧: ١٤) حيث الإشارة في أول الأمر إلى سيلمان ثم على الطريقة النبوية إلى المسيح (ع ١٣ و١٦) الذي كان سليمان رمزاً إليه. وبالضرورة كان اليهود في عهد الكاتب يسلمون بأن هذه الآيات تشير إلى المسيح ولو أنكروا ذلك الآن على أنه يمكن إثبات هذا الأمر من تفاسير علمائهم الأولين وإلا فلا نظن أن الكاتب كان يقتبسها.
لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي استفهام إنكاري والمعنى أنه لم يقل قط لأحد منهم «أنت ابني» الخ. وإن قيل أنه قد ورد ذكرهم أحياناً بهذا الاسم فالجواب أنه لم يُقصد معنى واحد في الاسمين لأن الواحد يشير إلى بنوة مجازية مكتسبة والثاني إلى بنوة حقيقية أصلية كما يظهر لدى التأمل في نسبة المسيح ونسبة الملائكة إلى الله. وفي قوله «لمن» ربما إشارة إلى مراتب في الملائكة لأن الكلام يشير إلى وجود بعضهم أعلى من بعض فلا علاهم لم يقل أنت ابني.
أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ أكثر المفسرين يحملون هذا الكلام على طبيعة الناسوت لأن اللاهوت في المسيح أي أنه قيل بالنظر إلى اتخاذه صورة الإنسان ويفهمون قوله «ولدتك» بمعنى جعلتك وأثبتك كما قال الملاك لمريم قبل ولادته وكما نزل الصوت عند معموديته وعند تجلّيه على الجبل وعند قيامته من الأموات (رومية ١: ٤) ففيها جميعها قد سمي المسيح «ابن الله» باعتبار أن الأقنوم الثاني قد صار إنساناً. وهذا وإن قَيد الظرفية في قوله «اليوم» لا يصح أن يقال في ولادته الازلية بل في ولادته في زمان. وأما قول أوغستينوس إن كل زمان لله إنما هو اليوم وأنه بالنسبة إليه تعالى لا يوجد ماض ومستقبل وإن المراد بهذا القول ولادة أقنوم المسيح من الله الآب في الأزل ففيه نظر على ما سبق.
وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً (٢صموئيل ٧: ١٤) قد سبق التفسير في بداءة الكلام على هذه الآية. وربما وجب أن نفهم من قوله «أكون» «وهو يكون» في المضارع ولادة المسيح بالجسد لا ولادته الأزلية.
٦ «وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ».
رومية ٨ : ٢٩ وكولوسي ١: ١٨ ورؤيا ١: ٥ تثنية ٣٢: ٤٣ حسب ٧٠ ومزمور ٩٧: ٧ و١بطرس ٣: ٢٢
هنا يقدم الكاتب برهاناً جديداً على كون المسيح أفضل من الملائكة وهو أنهم أُمروا أن يسجدوا له. وقد ارتبك العلماء في هذا الاقتباس لأنه يوجد في اليونانية في مكانين من العهد القديم. الأول (تثنية ٣٢: ٤٣) حسب الترجمة اليونانية السبعينية لكن لا وجود له في الأصل العبراني ولا في جميع نسخ الترجمة اليونانية بل هو في بعضها فقط فضلاً عن أن القرينة لا تدل على كون المسيح هو المشار إليه. غير أن الاقتباس حرفي عن المكان المذكور وليس هو كذلك عن المكان الثاني وهو (مزمور ٩٧: ٩). فرفض بعضهم كون الاقتباس عن المكان الأول للأسباب التي ذُكرت. وقال غيرهم أن الكاتب استخدم كلمات الترجمة اليونانية ليعبر بها عن أمر جرى فعلاً عند ولادة المسيح لما ظهر للرعاة ملائكة يسبحون. وبعضهم يقول بل الاقتباس عن المحل المذكور فهو قراءة من القراءات في النسخ القديمة على عهد الترجمة فيجوز النقل عنها. وربما رأى أكثر المفسرين النقل عن (مزمور ٩٧: ٧) والمانع هنا أن النقل ليس نصاً وإن الألهة المشار إليهم في الأصل غير الملائكة على أن الترجمة السبعينية ذكرت الملائكة عوضاً عن الآلهة. وبعضهم يرى عدم موافقة في تفسير العبارة كما وقعت في المزامير باعتبار أنها في شأن المسيح ولكن من يراجع المزمور المذكور يجد أنه لم يُذكر فيه غير اسم الله فيكون نبوءة صريحة بمُلك المسيح وخراب ملكوت الظلمة وفرح الكنيسة في ذلك. ولا يلزم أن يكون النقل نصاً لأنه ليس كذلك في أكثر الاقتباسات المنقولة في العهد الجديد عن القديم.
وَأَيْضاً برهان جديد على فضل المسيح على الملائكة أو اقتباس جديد.
مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ أي عند تأنّسه – «البكر» أما الوحيد أو مجاز للشرف ورفعة المقام مأخوذ عن شرف البكر ورفعته عند الناس وهكذا قوله «بكر كل خليقة» (كولوسي ١: ١٥ ورؤيا ٣: ١٤).
٧ «وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ».
مزمور ١٠٤: ٤ ودانيال ٧: ١٠ وزكريا ٦: ٥
في هذه الآية وما بعده يتتبع الكاتب المقابلة بين المسيح والملائكة لأجل إظهار فضله وسموه عليهم – وهي مقتبسة من (مزمور ١٠٤: ٤) في كلام النبي في عظمة الله في أعماله وعنايته واستخدامه للملائكة.
وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً قال بعض اليهود أن المعنى في الأصل العبراني هو أن الرياح هي المرسلة من الله لأجل خدمته فيجعلون المفعول الأول مسنداً إلى الثاني وينكرون أن للملائكة دخلاً في هذا المقام والحال أن ترتيب الكلمات في الأصل هو كما في الترجمة وأن المعنى المقصود ظاهر في العربية كما في العبراني. وقوله «رياحاً» من باب التشبيه لإظهار معنى الخفة والسرعة.
وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ أي كلهيب نار من باب التشبيه أيضاً لما ذكر «الملائكة» بلفظ «خدامه» عرف أن عمل الملائكة الخدمة كما قال في (ع ١٤) «أنهم أرواح خادمة مرسلة للخدمة».
٨، ٩ «٨ وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. ٩ أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰـهُكَ بِزَيْتِ ٱلابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ».
مزمور ٤٥: ٦ و٧ وإشعياء ٩: ٧ وإشعياء ٦١: ١ وأعمال ٤: ٢٧ و١٠: ٣٨
الآيتان اقتباس من (مزمور ٤٥: ٦) وقد أتى بهما الكاتب لأجل مقابلة المسيح بالملائكة كونه إلهاً وكونهم خدَمة. هو ملك وملكه لا ينتهي وأما هم فمأمورون هو يحكم على البشر ويرعاهم ويسوسهم حسب مبادئ العدل والاستقامة وأما هم فاستخدمهم الله في إنزال الشريعة التي كان معظمها ترتيبات خارجة. ولكن هل كان المزمور المأخوذ عنه هذا الكلام أُغنية كُتبت وأُنشدت عند زيجة سليمان بإحدى بنات الملوك أو هل متجه للمسيح والكنيسة؟ أكثر العلماء يسلمون بالقول الأول غير أن الجميع يهوداً ومسيحيين يحملون كلام المزمور على المسيح أيضاً وبنوع أولى لأنه فضلاً عن تسميته «بكلمة الله» يقال أن «ملكه ملك أبدي» وهذا لا يصدق على سليمان.
وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ لا عن الملائكة قال.
كُرْسِيُّكَ الكرسي المجلس الذي جرت عادة الملوك أن تجلس عليه في معاطاتهم أحكام المملكة وهو مستعمل هنا على سبيل المجاز للسلطان.
يَا أَللّٰهُ نداء ولا يظهر أن الأصل يحتمل تأويلاً آخر كما حاول البعض في ترجمة العبارة «كرسي إلهك» أو «كرسيك الإلهي».
إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ أي إلى الأبد.
قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ «القضيب» المذكور هنا هو صولجان الملك الذي يشار به إلى إجراء الأحكام وإنفاذ الإرادة الملكية وسمي «قضيب استقامة» لأن هذه الأحكام وهذه الإرادة لا تكون إلا على الاستقامة أي حسب العدل والإنصاف.
أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ تفسير لقوله «قضيب استقامة قضيب ملكك» فإن الاستقامة هي محبة البر وبغض الإثم.
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰـهُكَ بِزَيْتِ ٱلابْتِهَاجِ المسح وهو عبارة عن دهن الرأس كان في الزمان القديم رسماً خارجياً عند تعيين الملوك وإقامتهم (انظر تفسير ١صموئيل ١٠: ١ و١٦: ١٣ ومزمور ٢: ٢). وكان يُستعمل أيضاً في أوقات الفرح والإشارة هنا إلى إقامة المسيح في رتبته الملكية غير أن مسحه لم يكن بدهن مطيب مقدس وإنما كان بالروح القدس الذي حل عليه عند معموديته وعلى رسله بوعد خاص من الآب. وترجم بعضهم الأصل بهذه الكلمات مسحك يا الله إلهك وهو يحتملها.
أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ أو رفقائك كما تُرجمت إلى العربية في المزمور المذكور. وقد اختلفوا على المراد فالبعض يقول هم الملوك أي أن رتبة المسيح الملكية أفضل من ملوك الأرض. والبعض يذهب إلى أن المراد هنا شعب المسيحيين الذين قيل فيهم «أنهم ملوك ممسوحون لله وكهنوت مقدس» (١بطرس ٢: ٩) والمسيح أفضلهم ورأسهم. وربما المعنى هنا مجاز للدلالة على الارتقاء الفائق على جميع أصحاب الرُتب العالية في السماء والأرض وعلى جميع الذين مسحوا من ملوك وأنبياء وكهنة.
١٠ – ١٢ «١٠ وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. ١١ هِيَ تَبِيدُ وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، ١٢ وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلٰكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى».
مزمور ١٠٢: ٢٥ الخ إشعياء ٣٤: ٤ و٥١: ٦ ومتّى ٢٤: ٣٥ و٢بطرس ٣: ٧ و١٠ ورؤيا ٢١: ١
آيات أخر من العهد القديم لأجل إثبات سموّ المسيح وعدم تغيره وأمانته وهي مأخوذة عن (مزمور ١٠٢: ٢٥ – ٢٧) حيث يتكلم النبي في بدائته على خَدَمة الله الذين يحزنون على حال الكنيسة ثم على وقت افتقادها وخلاصها بواسطة المسيح ثم في كلمات الآية على المسيح نفسه في أمانته لعهده وثباته في تخليص العالم.
وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أي بدء الزمان الذي قبله لم يكن زمان.
أَسَّسْتَ ٱلأَرْض جعلتها ثابتة غير معرضة للخراب من حوادث الأفلاك أو بمعنى أنه خلق المواد التي بعد ذلك أتقنها على حالها الحاضر كما يعتقد أهل الجيولوجيا الآن.
وَٱلسَّمَاوَاتُ كانوا يفهمون بالسماوات جميع ما فوق الأرض وما ميّزوه عنها كالشمس والقمر والكواكب والنجوم إلى غير ذلك مما يُشاهد أعلى الأرض.
هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ مستعار من الإنسان إلى الله فالإنسان يعمل بيديه وأما الله فيخلق بكلمته وإرادته بقوله كن فيكون فنُسب عمل الأيدي مجازاً له تعالى.
هِيَ تَبِيدُ (ع ١١) أي تتلاشى.
وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى العالم آيل أخيراً إلى الخراب إذا لم يكن للتلاشيء الذي ينكره العلماء الطبيعيون وأما الله فلا يمسه شيء من ذلك بل هو الحي الباقي.
وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى شبّه عالم الطبيعة بالثوب الذي بعد الاستعمال يرثُّ.
وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا (ع ١٢) أي تعزلها بعد إتمام خدمتها وربما أراد أن السموات التي ذُكرت كأنها بساط ممدود يطوى أخيراً (إشعياء ٣٤: ٤).
فَتَتَغَيَّرُ أي لا تبقى على حالها الأول.
وَلٰكِنْ أَنْتَ أَنْتَ لا تتغيّر.
وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى لا تنقص ولا تنتهي إلى الأبد. فالأرض والسماوات تخلقان وتصيران إلى العدم أو الخراب ولكن الله لا يتغير لا في ذاته ولا في مقاصده ولا في أمانته في عهده بل هو أمساً واليوم وإلى الأبد.
١٣ «ثُمَّ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟».
مزمور ١١٠: ١ ومتّى ٢٢: ٤٤ ومرقس ١٢: ٣٦ ولوقا ٢: ٤٢ و٤٣ وع ٣ وص ١٠: ١٢
ما زال الكاتب يقتبس الآيات من العهد القديم وقد أثبت منها أن المسيح هو ابن الله بمعنى لم تحرزه الملائكة أو غيرهم وأن الملائكة مأمورون بالسجود له وأنه ملك مقام ليحكم العالم بالاستقامة وأنه إله غير متغير وأنه سيقهر أخيراً جميع أعداء الله فيصير الحكم لله الآب – وأما الملائكة فخدضمة مأمورون.
ثُمَّ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ استفهام إنكاري أي أنه لم يقل قط لأحد منهم ما سيرد.
ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي دلالة على الارتقاء الأسمى ومعاطاة السلطان والحكم.
حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ مجاز لقهر أعداء الحق والبر على الأرض مأخوذ من عادة الملوك الأولين الذين كانوا يطأون أعناق الذين غلبوهم وكسروهم في الحرب.
١٤ «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ!».
تكوين ١٩: ١٦ و٣٢: ١ و٢ و٢٤ ومزمور ٣٤: ٧ و٩١: ١١ و١٣: ٢٠ ودانيال ٣: ٢٨ و٧: ١٠ و١٠: ١١ ومتّى ١٨: ١٠ ولوقا ١: ١٩ و٢: ٩ و١٣ وأعمال ١٢: ٧ الخ و٢٧: ٢٣ ورومية ٨: ١٧ وتيطس ٣: ٧ ويعقوب ٢: ٥ و١بطرس ٣: ٧
أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً أي الملائكة الذين شأنهم الخدمة في تنفيذ أوامر الله.
مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ كيف يستخدمهم الله في ذلك لا نعلم أهو بالحراسة كقول بعضهم بالملائكة الحراس لدفع الاضرار الجسدية أو الروحية أو بطريق أخرى لا نعلمها – لا نعلم أكثر مما أوحي أن الله يستخدمهم لأجل شعبه في ما يؤول إلى خيرهم فما أبعد ما أعلنه الله لنا بهذا الشأن عن اتخاذهم موضوعاً للصلاة والعبادة والشفاعة.
فوائد
- استخدم الله قديماً لإعلان إرادته أناساً كثيرين مختلفين النفَس والعادات والأزمنة واجتمعت أقوالهم في الكتاب المقدس فصارت كتاباً واحداً ذا موضوع واحد وغاية واحدة كأنها تأليف مؤلف واحد لأن الجميع كتبوا بالوحي وكلامهم كلام الله.
- إن الله لم يُعلن للبشر جميع ما أراده دفعة واحدة بل بالتتابع والزيادة إلى أن تناهى وحي العهد القديم عند ظهور المسيح. غير أن جميع ما وصل إلينا بواسطة رجال الله في العهد القديم والجديد يُنسب إلى الله الذي كلمهم وأوحى إليهم ولذلك كان من الواجب علينا أن ندرس باجتهاد الكتب الإلهية وأن نؤمن بما أُعلن فيها ونخضع لما أمرت به.
- إن الله أعلن نفسه لنا إعلاناً خاصاً في المسيح الذي هو ابنه تعالى وبهاء مجده وصورة جوهره. فأظهر لنا في التعليم والمثال ما هي الصفات الإلهية وما هي السيرة الصالحة التي يرضى بها تعالى.
- لما كان المسيح هو صانع الفداء كان عمله تاماً وهو أساس الحياة الأبدية لجميع الذين يؤمنون به.
-
لما كان المسيح إلهاً حقيقياً أُمرت الملائكة بالسجود له فالذين يسجدون له ويعبدونه مثلهم لا يخالفون الأمر الإلهي القائل «لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى ٤: ١٠).
السابق |
التالي |