العبرانيين

الرسالة إلى العبرانيين | المقدمة | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى العبرانيين

للدكتور . وليم إدي

إذا نظرنا إلى باطن هذه الرسالة وجدنا أنها خطاب موجه إلى اليهود المسيحيين الذين كانوا في خطر الارتداد فحثهم الكاتب على الثبات في الإيمان المسيحي وحذرهم من الرجوع إلى الديانة اليهودية. وهي في غاية الموافقة لهذا الغرض العظيم لأن الكاتب قد أثبت فيها فضل الديانة المسيحية على اليهودية وأنها الحقيقة التي أشارت إليها رموز الشريعة الموسوية وتمت فيها. والديانة المسيحية كما رسمها المؤلف عهد بين الله والناس وبموحب هذا العهد هو إلههم وهم شعبه (ص ٨: ١٠) فلا يذكر خطاياهم بل هم مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (ص ١٠: ١٠) والعهد المرموز إليه والذي رجاءه شعب الله صار حقيقة بالمسيح وهو ثابت وباق إلى الأبد لأن المسيح حي في كل حين (ص ٩: ١٢).

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو         

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

مقدمة الرسالة

اختلف علماء الكنيسة المسيحية من الأزمنة القديمة إلى الآن على أمور كثيرة تتعلق بالرسالة إلى العبرانيين. والمسائل الرئيسية التي وقع عليها الاختلاف هي:

  • الأولى: الكاتب الذي كتبها.
  • والثانية: الجماعة التي كُتبت إليهم.
  • والثالثة: دخولها في قانون العهد الجديد أي بين كتبه القانونية.

فذهب اكليمندس الاسكندري إلى أن بولس الرسول كتبها في اللغة العبرانية ثم ترجمها لوقا إلى اليونانية ووافقه البعض بناء على وجود مشابهة لغوية بين هذه الرسالة وإنجيل لوقا وأعمال الرسل. وقال أرويجانوس إن معاني الرسالة لبولس والتصنيف للوقا وأنه موافق في ذلك لمن سبقه. وقال أيضاً لا يعلم أحد الكاتب إلا الله وحده. وقال ترتليانوس إن التقليد الجاري في كنائس أفريقيا الشمالية هو أن كاتبها كان برنابا. وكنائس إيطاليا وسائر الكنائس الغربية في القرون الأربعة والأولى لم تنسب الرسالة إلى بولس ولم تذكر اسم مؤلفها. ودام هذا الاختلاف مدة القرون الأربعة الأولى ثم اتفق عامة الآباء بعد التحقيق الطويل على أن بولس الرسول هو الكاتب ولم يزل هذا القول مقبولاً إلى أيام لوثيروس فقال أن أبلُس هو الكاتب ويوافقه بعض العلماء في هذا العصر بناء على ما ذُكر في (أعمال ١٨: ٢٤) فإن أبلّس كان اسكندرياً والمدرسة الاسكندرية كانت تستعمل الرموز والمعاني الغامضة وكان أبلّس رجلاً فصيحاً مقتدراً في الكتب المقدسة وكان خبيراً في طريق الرب وحار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب وهذا كله يوافق كاتب هذه الرسالة.

ومن الاعتراضات على القول بأن بولس هو المؤلف:

  1. إن النفَس ليس نفَس بولس لأنه مرتب ومنتظم وهو كسير نهر عظيم في سهل وأمّا نفَس بولس فهو حاداً وكثيراً ما يخالف قوانين الإنشاء فيبتدئ الجملة ولا يكملها أو يشوشها ويطولها فيشبه سيلاً نازلاً من الجبال بقوة وهيجان (انظر أفسس ١: ٣ – ١٤ و١تيموثاوس ١: ٣ و٤).
  2. إن موضوع الرسالة الأساسي كهنوت المسيح وهو موضوع لم يتكلم بولس فيه كثيراً. والإيمان في هذه الرسالة هو النظر في ما لا يرى وأما في رسائل بولس فهو النظر إلى يسوع غير أن هذا الاختلاف هو في مجرد النظر لا في التعليم.
  3. إن المخاطبين في هذه الرسالة عبرانيون ولكن بولس كان رسولاً للأمم.

فنقول إننا لا نعرف الكاتب وعدم معرفتنا إياه لا تأثير له في تفسير الرسالة ولا في اعتبارنا إياها كلام الله.

وربما كان هذا الاختلاف على كاتب الرسالة هو السبب العظيم في إنكار البعض إنها من الكتب القانونية على أن لا يلزم من عدم معرفة اسم الكاتب رفض الكتاب من القانون لأنه يوجد بين الكتب المقدسة أسفار كثيرة لا يُعرف كاتبها بالتحقيق كأسفار القضاة والملوك والأيام وغيرها. غير أن الضروري في ذلك هو أن نعلم هل قبلها خلفاء الرسل الأولون بين الكتب القانونية ثم سلموها إلى من خلفهم مع بقية الأسفار الموحى بها. ولنا شهادات صريحة على أنها قُبلت في أول الأمر على الكيفية المذكورة. فإن اكليمنتوس الروماني الذي كتب في سنة ٧٠ أو ٩٥ أي في أواخر القرن الأول كان ينقل عن هذه الرسالة أكثر مما كتبه مشحون بما ورد فيها. ولم يرفضها أحد في القرن الثاني إلا الاراتيكيان باسيليدس ومارشيونوس ونرى مما وصل إلينا من تآليف ذلك القرن أنه أقرّ بها اكليمنتوس الروماني ويوستينوس الشهيد وبلنتوس أسقف كريت وسلفاء اكليمنتوس الاسكندري وأوريجانوس في الاسكندرية والذين ألفوا الترجمة السريانية عن العهد الجديد المعروفة بالبسيطة التي ظهرت في آخر القرن الثاني.

غير أنه عند نهاية المدة المذكورة آنفاً أي نحو منتهى القرن الثاني أخذت كنيسة أفريقيا الشمالية في إظهار الريب في سلطان هذا الرسالة القانوني. ووافقهم على ذلك بقية الكنائس التي كانت تشاركهم في التكلم باللغة اللاتينية فأضيفت إلى ترجمة الكتاب المقدس اللاتينية القديمة (نحو سنة ١٧٠) منسوبة لبرنابا وخالية من السلطان القانوني. واستمر الحال على ما ذُكر بين آباء الكنيسة الرومانية والإفريقية الشمالية نحو قرنين بعد ذلك فحذفها من القانون كيريانوس وترتوليانوس وفكترويتوس وغيرهم. ثم لما طال البحث في هذه المسئلة قبلها في القرن الرابع هيلاريوس وأمبروسيوس وفابيوس وغيرهم. وعند منتهى القرن المذكور قام أيرونيموس الذي كان أعلم آباء الكنيسة الغربية وجدد البحث فرأى من شهادة أقدم الآباء وشهادة الكنيسة وجميع الكنائس الشرقية ما أقنعه بأن هذه الرسالة من أسفار العهد الجديد القانونية ووافقه أوغستينوس. وبناء على مذهب هذين العالمين وافقت الكنائس اللاتينية الكنائس الشرقية وقبلت الرسالة بين الكتب القانونية وثبت حكمها في المجمع القرطاجي الثالث (سنة ٣٩٧).

وأما السبب الذي حمل كنيسة أفريقيا الشمالية والكنيسة اللاتينية على التردد في هذا الشأن فكان شدة اعتناء الكنيسة الأولى في البحث عن الشهادات الكافية لقبول الأسفار القانونية. فإنهم لما رأوا هذه الرسالة من غير اسم الذي كتبها مختلفة الأسلوب عن الرسائل الأُخر الرسولية لم يرضوا بحكم كنيسة الاسكندرية بأنها قانونية ولو كان كاتبها مجهولاً بل رفضوها على الإطلاق. غير أن ذلك كان محصوراً في الكنائس اللاتينية من منتصف القرن الثاني إلى نهاية الرابع خلافاً لما بقي من جميع الكنائس المسيحية التي اتفقت على قبولها من أول ظهورها حتى أنه لم يظهر أدنى ريب في شيء من هذا القبيل من كتب المؤلفين اليونانيين أو السريانيين. واما في الأزمنة المتأخرة فرفضها الكردينال كاجيتانوس وأقرّ بها إيراسيموس وكلفينوس وبيزا على أنهم ترددوا في أمر كاتبها. واصطلح جمهور الكنائس على وضعها عند آخر رسائل بولس ووضعها لوثيروس بعد رسالتي يعقوب ويهوذا قبل الرؤيا بناء على أن هذه الأسفار الأربعة أقل سلطاناً واعتباراً من أسفار العهد الجديد الأُخر.

فيظهر مما تقدم أن التقليد في الكنائس المسيحية كاف لوضع هذه الرسالة بين الكتب القانونية وإن التردد فيها نشأ في الكنائس البعيدة عن فلسطين حيث توزعت أولاً فلم يبلغها التقليد الشفاهي في ذلك الزمن ولا سيما بسبب خراب أورشليم وتشتيت كنيسة فلسطين الذي جرى من ذلك. ويظهر أيضاً إنه عند زيادة المعرفة وبعد البحث الطويل اتفقت جميع الكنائس القديمة والحديثة على قبولها بين الأسفار المقدسة.

نستنتج مما جاء في الرسالة نفسها أنها كُتبت قبل خراب أورشليم لأن ليس فيها إشارة إلى ذلك مع أن من المواضيع الرئيسية في الرسالة زوال الفرائض الموسوية وكان ذكر خراب أورشليم والهيكل موافقاً جداً لهذه الغاية لو كُتبت بعد الحوادث المذكورة. ويظهر من (عبرانيين ٢: ٣ و١٣: ٧) أن المخاطَبين لم يكونوا من العصر الأول من المؤمنين لأنهم كانوا قد تسلموا الإنجيل من سلفائهم. ويظهر من (ص ١٣: ٢٣) أن الرسالة كُتبت بعد إطلاق تيموثاوس فالأرجح أنها كُتبت نحو سنة ٦٨ ب. م. وقيل أنها كُتبت أولاً باللغة العبرانية ثم ترجمها لوقا إلى اليونانية وأول من قال بذلك اكليمندس الاسكندري ووافقه أوسابيوس وثيودوريتوس ووإيرونيموس وغيرهم من الآباء المتأخرين. غير أنه يظهر أن الترجمة البسيطة السريانية منقولة عن أصل يوناني لا عبراني وقال العلامة بليك أن لغتها اليونانية فصيحة لا يظهر عليها لوائح الترجمة وأن الآيات المنقولة في هذه الرسالة عن العهد القديم مأخوذة عن الترجمة السبعينية لا عن الأصل العبراني فلا يتفق أنها كُتبت باللغة العبرانية. وله أدلة غير ما ذُكر يظهر منها أنها كُتبت باللغة اليونانية فيكون ما بين أيدينا الآن هو الأصل الحقيقي لا ترجمة عنه.

وأما الجماعة الذين كُتبت إليهم فهم على ما قال يوحنا فم الذهب اليهود المؤمنون الذين كانوا في أورشليم وفلسطين. وعنوان الرسالة وهو «الرسالة إلى العبرانيين» في جميع النسخ والترجمات القديمة. ويظهر ذلك أيضاً من مضمون الرسالة لأن غايتها بيان فضل الديانة المسيحية على الرسوم الموسوية. ففي (ص ١: ١) ما نصه «الله بعدما كلم الآباء». وفي (ص ١٢: ١٦) لما ذكر التجسد قال ما مفاده أن يسوع أمسك نسل إبراهيم ولم يقل أمسك الطبيعة البشرية. وقال في (ص ٤: ٩) «بقيت راحة لشعب الله» أي لا يميز بين اليهود والأمم. وكل الإشارات إلى خدمة الهيكل تدل على أن قراء الرسالة عرفوها واعتبروها.

والرسالة تختلف عن بقية الرسائل إلا رسالة يوحنا الأولى بأنها خالية من اسم الكاتب في مقدمتها وتشبه الرسائل الرسولية بأن فيها تحريضات شخصية وتبليغ السلام لأناس معلومين. ثم أن حجة الرسول وموضوع الكلام لا يوافقان إلا اليهود العارفين بالرسوم الموسوية ورسوم خدمة الهيكل التي يُشار إليها على الدوام في هذا الرسالة غير أنه يُشاهد فيها من روح الفلسفة المعروفة بالاسكندرية ما حمل البعض إلى أنها كُتبت لعامة اليهود المؤمنين من غير اختصاص. وقال جمهور المحققين أنها كُتبت ليهود أورشليم أو فلسطين وهو الأرجح.

وكانت الكنائس المسيحية الكثيرة المتفرقة في اليهودية (أعمال ٩: ٣١) عرضة حينئذ لاضطهاد اليهود (١تسالونيكي ٢: ١٤) الذي كان يزيد بزيادة عدد الكنائس وانتشر شغب الأمة اليهودية حتى بلغ في ثورة سنة ٦٦ الحكم الروماني فنشأ عنه خراب أورشليم والهيكل المقدس. وفي مدة الاضطهاد المذكور قُتل يعقوب أسقف أورشليم شهيداً (أعمال ١٢: ١ و٢) وظهر أيضاً بينهم جماعة أصلهم من الفرقة الفريسية كانوا ينادون بوجوب الرسوم الموسوية (أعمال ١٥: ١ و٥) فكان الضعفاء منهم في خطر عظيم من الارتداد إلى الديانة اليهودية. ولذلك كُتبت هذه الرسالة لهم لأجل تثبيتهم في الإيمان المسيحي.

وبناء على ما تقدم إذا نظرنا إلى باطن هذه الرسالة وجدنا أنها خطاب موجه إلى اليهود المسيحيين الذين كانوا في خطر الارتداد فحثهم الكاتب على الثبات في الإيمان المسيحي وحذرهم من الرجوع إلى الديانة اليهودية. وهي في غاية الموافقة لهذا الغرض العظيم لأن الكاتب قد أثبت فيها فضل الديانة المسيحية على اليهودية وأنها الحقيقة التي أشارت إليها رموز الشريعة الموسوية وتمت فيها. والديانة المسيحية كما رسمها المؤلف عهد بين الله والناس وبموحب هذا العهد هو إلههم وهم شعبه (ص ٨: ١٠) فلا يذكر خطاياهم بل هم مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (ص ١٠: ١٠) والعهد المرموز إليه والذي رجاءه شعب الله صار حقيقة بالمسيح وهو ثابت وباق إلى الأبد لأن المسيح حي في كل حين (ص ٩: ١٢).

وكان أمام اليهود لما نظروا إلى الديانة المسيحية ثلاث معثرات:

  1. نقض الرسوم الموسوية.
  2. آلام المسيح.
  3. عدم وجود كهنة وحُلل وجسديات العبادة. وقد نظر المؤلف إلى ذلك كله من ثلاثة أوجه:
    1. فضل المسيح وسيط العهد الجديد على الملائكة الذين استخدمهم الله وسطاء في إعلان العهد القديم (ص ١ و٢).
    2. فضل المسيح رئيس العهد الجديد على موسى رئيس العهد القديم (ص ٣ و٤).
    3. فضل المسيح حبر الديانة المسيحية العظيم على أحبار اليهود وفضل خدمته على خدمتهم لأن خدمتهم كانت رمزاً إلى الحقائق التي أجراها المسيح وظلاً لخيرات الديانة المسيحية (ص ٥ – ١٠).

وكثيراً ما عدل المؤلف في أثناء الكلام إلى حثهم على الثبات في الإيمان فذكر لهم أمثلة مشهورة على ذلك مأخوذة من سيرة رجال الله في العهد القديم (ص ١١). وثم ختم الرسالة بنصائح وتحذيرات ووصايا للتمسك بالديانة المسيحية والسلوك بمقتضى أوامرها وروحها (ص ١٢ و١٣).

 

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى