أفسس

الرسالة إلى أفسس | 05 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى أفسس

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

نصائح خاصة ع ٣ – ٢٠ وبيان واجبات الزوجين (ع ٢١ – ٣٣).

نصائح خاصة ع ٣ إلى ٢٠

حثّ الرسول أهل أفسس أن يعتزلوا النجاسة والطمع وأن يمتنعوا عن كل ما لا يليق من القول والعمل (ع ٣ و٤). وذلك لأن خطايا النجاسة والطمع تجلب غضب الله على مرتكبيها فيقتضي أن لا يشترك المسيحيون في تلك الخطايا لأنهم قد أُنيروا من فوق وصاروا أبناء النور الذي يوجب عليهم الصلاح والبر والصدق وعليهم أن يظهروا تلك الصفات وأن يجتنبوا كل أعمال الظلمة ويوبخوها (ع ٧ – ١٠). إن أعمال الظلمة قبيحة جداً إلى حد أن يُستقبح مجرد ذكرها لكنها تتلاشى بالنور الذي يضيء للمؤمنين ولذلك قال الكتاب إن النور الذي ينتشر من المسيح يبلغ المخلوقات حتى الموتى (ع ١١ – ١٤). فعلى المؤمنين أن يكونوا حكماء وينتهزوا كل فرصة لعمل الخير بالنظر إلى كثرة الشرور المحيطة بهم (ع ١٥ و١٦). وأن لا يسكروا بالخمر بل يمتلئوا بالروح القدس ويظهروا سرورهم بالترنيمات والتسابيح مسبحين الله وشاكرين له بيسوع المسيح (ع ١٧ – ٢٠).

٣ «وَأَمَّا ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ».

رومية ٧: ١٣ و١كورنثوس ٦: ١٨ و٢كورنثوس ١٢: ٢١ وص ٤: ١٩ و٢٠ وكولوسي ٣: ٥ و١تسالونيكي ٤: ٣ الخ و١كورنثوس ٥: ١

نهى الرسول في الفصل السابق عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على أخيه لكنه نهى في هذا الفصل عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على ذاته.

ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ لم يكتف بأن نهى عن الزناء حتى نهى عن كل ما يشابهه ويؤدي إليه وزاد على ذلك أن نهى عن مجرد ذكره كأنه ينجس شفتي المتكلم وآذان السامعين.

طَمَعٍ قرن الطمع بالنجاسة كما قرنه بها في الأصحاح السابق (ع ١٩) لأن الوثنيين كانوا عرضة لها على نوع خاص. والأحداث أكثر عرضة للآثام المنافية للعفاف والشيوخ أكثر عرضة لحب المال.

كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ كون المسيحيين مختارين من العالم وموقوفين لله ومطهرين بالروح القدس يستلزم أن لا يكون لهم أدنى مشاركة في تلك الخطايا.

٤ «وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ».

متّى ١٢: ٣٥ وص ٤: ١٩ رومية ١: ٢٨

ٱلْقَبَاحَةُ كل دنيء ومكروه قولاً وفعلاً يصف الناس المنظر بالحسن أو القبح ووصفوا بذلك الأعمال الأدبية فدعوا الفضائل حسنة والرذائل قبيحة.

كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ أشار بذلك إلى ما هو أقل قبحاً مما سبق والذي يجب على المؤمنين أن يمتنعوا عنه لأنه لا يليق بدعوتهم وكثيراً ما يكون سبباً للعثرات ومنه أن تؤخذ آيات الكتاب وسيلة إلى حمل السامعين على الضحك وكلام الهزل والمزاح يشغل الوقت بالباطل. واشتهر الأفسسيون قديماً بمثل ذلك حتى ضرب المثل بهم في الهزل والمزاح.

ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ بالقديسين لأنهم وقفوا ألسنتهم لخدمة المسيح.

بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ يجوز للمؤمن أن يسر وأحسن طريق لإظهار مسرّته الشكر والتسبيح (كما يظهر الملائكة سرورهم في السماء) لا كلام السفاهة والهزل.

٥ «فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأََوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ».

١كورنثوس ٦: ٩ وغلاطية ٥: ١٩ و٢١ كولوسي ٣: ٥ و١تيموثاوس ٦: ١٧ غلاطية ٥: ٢١ ورؤيا ٢٢: ١٥

ذكر في هذه الآية علة نهيه في الآية الثالثة.

فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا مما سمعتموه من الإنجيل الذي بُشرتم به ومن إنارة ضمائركم بالروح القدس.

طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأََوْثَانِ جاء مثل هذا في (كولوسي ٢: ٦). والطمع من أكثر الخطايا عموماً فيرتكبه الناس أكثر مما سواه ويعتبرونه أقل شراً من غيره ولكن الله يعتبره كعبادة الأوثان التي نهى الله عنها لأنها مكروهة جداً في عينيه ومما يجلب غضبه ودينونته على مرتكبيه. وكان الطمع مثل عبادة الأوثان لأن في كل منهما تفضيل المخلوق على الخالق وكلاهما يصرف النفس عن الله ويهلكها. فالطماع يجعل ماله إلهاً له كما يجعل عابد الوثن صنمه. فمن ضروريات المؤمنين أن يعلموا كيف يحسب الله الطمع الذين كلهم عرضة له فلا طريق إلى الهرب من خطره أحسن من أن ينفقوا أموالهم على الفقراء وخدم المسيح في كنيسته وبذلك يجعلون أصدقاء لهم في السماء من مال الظلم بدليل قول المسيح في (لوقا ١٦: ٩).

لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ الخ هذا يصدق على كل من الوثني والطماع فأهل الملكوت الذي جاء المسيح ليؤسسه هم مفديون بالمسيح ومغسولون بدمه ومقدسون بروحه وسيتمتعون بالله إلى الأبد. إن ذلك الملكوت هو ملكوت النعمة الآن ولكنه سيكون ملكوت المجد أخيراً. ومعنى «ملكوت المسيح والله» إن المسيح صاحب الملكوت هو الله كما أن معنى «الله والآب» في (ص ١: ٣) الله الذي هو الآب (قابل هذا بما في تيطس ٢: ١٣) وهذا موافق لتعليم بولس في كل رسائله في شأن لاهوت المسيح ومساواته للآب.

٦ «لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هٰذِهِ ٱلأَُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ عَلَى أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ».

إرميا ٢٩: ٨ ومتّى ٢٤: ٤ وكولوسي ٢: ٤ و٨: ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٣ رومية ١: ١٨ ص ٢: ٢ وكولوسي ٣: ٦

لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ أشار بذلك إن كثيرين استحقوا بتلك الخطايا التي هو وبخ عليها. فالوثنيون استخفوا بها عموماً حتى فلاسفتهم ويحتمل أنه وافقهم على ذلك بعض المدعين أنهم مسيحيون إذ احتجوا أن تلك الخطايا الشهوية من الأمور الطبيعية وأنها مما يختص بالجسد فلا تدنس النفس شيئاً وحسبوا الطمع اقتصاداً فأجازوها فحذر بولس المؤمنين من الغرور بمثل ذلك الاحتجاج المغالطي ووصف ذلك الاحتجاج بأنه كلام باطل إذ لا صدق فيه وأنه خادع مضل.

غَضَبُ ٱللّٰهِ أي قصده أن يعاقب المذنبين إن غضب الإنسان مخيف مع أنه محدود فبالأولى أن يكون غضب الله مخيفاً لأن قدرته على العقاب غير محدودة.

أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ أي العصاة المصرّين على العصيان (راجع تفسير ص ٢: ٢). وقول الرسول «يأتي غضب الله الخ» بيان ما يقع عليهم في الحال من عواقب معصيتهم فإن الله يرفع روحه عنهم ويتركهم إلى ذهن مرفوض. فكثيراً ما يعاقب الزناة بأمراض خبيثة أو يقصر حياتهم علاوة عن تعذيبهم في النار الأبدية (رؤيا ٢٢: ١٥).

٧ «فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ».

حذّر بولس المؤمنين بناء على قصد الله أن يعاقب النجسين من أن يشتركوا في خطاياهم ويعرّضوا أنفسهم للعقاب.

٨ « لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا ٱلآنَ فَنُورٌ فِي ٱلرَّبِّ. ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ».

إشعياء ٩: ٢ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ٢٦: ١٨ ورومية ١: ٢١ وص ٢: ١١ و١٢ و٤: ١٨ وتيطس ٣: ٣ و١بطرس ٢: ٩ يوحنا ٨: ١٢ و١٢: ٤٦ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و٤: ٦ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ٢: ٩ لوقا ١٦: ٨ ويوحنا ١٢: ٣٦

أثبت ما قاله بمقابلة حالهم قبل إيمانهم حين كانوا في الخطيئة والشقاء بحالهم بعد انتقالهم إلى حال القداسة والسعادة.

قَبْلاً أي قبل إيمانكم وتجديدكم.

ظُلْمَةً تُستعار الظلمة للجهل والدنس والشقاء كما في (متّى ٤: ١٦ ولوقا ١: ٧٩ ويوحنا ٣: ١٩ ورومية ٢: ١٩ وكولوسي ١: ٢ و١يوحنا ١: ٦ و٢: ٩ و١٠). وغلب أن يقال على مثلهم أنهم في الظلمة أو جالسون فيها أو سالكون كذلك لكنه قيل هنا «أنهم كانوا ظلمة» كأن الظلمة بلغت باطن نفوسهم حتى صاروا مصادرها لأنفسهم ولغيرهم فحجبوا نور السماء عنهم.

نُورٌ فِي ٱلرَّبِّ أي كنتم باتحادكم بالرب متنورين وقُدستم أيضاً وصرتم واسطة نور وبركة لغيركم. إن المسيح هو النور الحقيقي شمس البر (يوحنا ١: ٤ – ٩ و٣: ١٩ و٨: ١٢ و٩: ٥ و١٢: ٤٦) فتلاميذه يكونون أنواراً بإنارته إياهم (متّى ٥: ١٤ ولوقا ١١: ٣٣ – ٣٦ ويوحنا ٥: ٣٥).

ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ أي اسلكوا كما يليق بمتنورين ومتقدسين باتحادهم بالرب يسوع. وهذا يستلزم أن يكونوا أطهاراً باطناً وظاهراً وأن يشبهوا الله أبا الأنوار (يعقوب ١: ١٧). وأن يحبوا الحق (يوحنا ٣: ٢١ و١يوحنا ١: ٦). وأن يكونوا أنواراً لغيرهم (انظر تفسير يوحنا ١٢: ٣٦). وتنورهم ليروا شر الأمور التي نهاهم عنها يستلزم أن يعتزلوها كل الاعتزال.

٩ «لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ».

غلاطية ٥: ٢٢

ثَمَرَ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو المنير والمقدس وذُكر من أثمار الروح التي هي أثمار النور أيضاً (كما جاء في أكثر النسخ) ثلاثة هنا وذُكر غيرها في (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣). فيليق أن ننسب إلى النور أثماراً لأن النور في العالم الطبيعي ضروري لنمو النبات وإثماره وننعت أعمال الظلمة بكونها غير مثمرة (ع ١١).

فِي كُلِّ صَلاَحٍ أي في كل أنواع الصلاح (كما في كل أنواع البر والحق أيضاً) وهو إظهار المحبة في الأعمال.

وَبِرٍّ هو الاستقامة بمقتضى شريعة الله. والصلاح والبر يشملان كل التقوى.

وَحَقٍّ أي دين حق. فإذاً أثمار البر هي كل الفضائل والتقوى.

١٠ «مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ».

رومية ١٢: ٢ وفيلبي ١: ١٠ و١تسالونيكي ٥: ٢١ و١تيموثاوس ٢: ٣

ما ذُكر في الآية التاسعة كلام معترض وما في الآية العاشرة متعلق بالآية الثامنة فكأنه قال «اسلكوا كأولاد نور مختبرين ما هي إرادة الله». إن أبناء هذا الدهر يختبرون ما هو مرض لأنفسهم ولغيرهم ممن حولهم أما أولاد النور فيجعلون رضى الله مقياس كل ما يأتونه وما يمتنعون عنه. إن بولس حين ظهر له يسوع وهو ذاهب إلى دمشق قال «ماذا تريد يا رب أن أفعل» ولم يفتر في كل حياته الطويلة أن يبرهن بسيرته أنه جعل مشيئة المسيح قانون حياته.

١١ «وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا».

١كورنثوس ٥: ٩ و١١ و١٠: ٢٠ و٢كورنثوس ٦: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ٦ و١٤ رومية ٦: ٢١ و١٣: ١٢ وغلاطية ٦: ٨ لاويين ١٩: ١٧ و١تيموثاوس ٥: ٢٠

أبان في الآية السابقة أن كونهم أولاد نور أوجب عليهم حسن السلوك. وأبان هنا ما أوجب ذلك عليهم من جهة أعمال الذين لم يزالوا في الظلمة. وقد أتى الرسول بمثل قوله هنا في قوله لأهل كورنثوس «أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ» (٢كورنثوس ٦: ١٤ و١٥) فارجع إلى التفسير هناك. ومما أوجب عليهم الرسول من جهة أعمال الظلمة أمران الأول أن يمتنعوا عنها والثاني أن يوبخوها. والمراد «بأعمال الظلمة» هو ما ينشأ من الإنسان لجهله الله ولفساد قلبه. ووصفها بكونها «غير مثمرة» دلالة على عدم نفعها وعلى كونها أيضاً مضرة للنفوس وتعرّض مرتكبيها للهلاك المعد لكل من لا يأتي بثمر (يوحنا ١٥: ٦). إن الاشتراك في الأعمال يدل على الرغبة فيها والاستمرار على ممارستها ومن المعلوم أن مثل هذا الارتباط بأعمال الظلمة محرم على المؤمنين.

وَبِّخُوهَا أي اظهروا بكلامكم عدم رضاكم إياها. والأصل اليوناني يشير إلى أكثر من التبكيت وهو أن يقنع الإنسان بعد توبيخه على شره إن ما أتاه شر وأن يبين له أنه تدنس بذلك وأهلك نفسه. فعلى أولاد النور أن يجعلوا نور الحق يشرق على كل أعمال الظلمة لكي يرى كل إنسان دنسها وفظاعتها.

١٢ «لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ».

رومية ١: ٢٤ و٢٦ وع ٣

في هذه الآية والتي تليها علة أنه يجب أن نوبخ أعمال الظلمة على ذلك الأسلوب. قيل سابقاً إن الأعمال الشريرة تسمى أعمال الظلمة لأنها تنتج عن الجهل لله وتسمى كذلك أيضاً لأن مرتكبيها يخافون من النور فيطلبون الظلمة لكي لا يكشف شرهم لذلك اقتضت أن يوبخها المؤمنون لكي تُعلن بالتوبيخ أسرارها. وفظاعتها تمنع من ذكرها إلا ما كان ضرورياً لتوبيخها فلا يجوز أن تكون موضوع الحديث لئلا تدنس شفاه المتكلمين وآذان السامعين. وكان بولس مثالاً لنا في طريق توبيخها مما أتاه في رسائله من ذلك.

١٣ «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ».

يوحنا ٣: ٢٠ و٢١ وعبرانيين ٤: ١٣

مفاد هذه الآية أن تلك الخطايا ليست بممتنعة الشفاء وأنها قابلة الإصلاح ولذلك وجب أن توبخ وأن يشرق عليها بذلك نور الحق الإلهي. فيجب أن يقابلها بشريعة الله المقدسة ويبين ماذا يستحق مرتكبوها من العقاب وماذا فعل المسيح لرفع الخطية وما هو استعداد الروح القدس لأن يفعل لكي يقدس الناس بالحق المعلن في كتاب الوحي.

ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ أي كل الأمور الحادثة سراً على ما في الآية السابقة وهي تظهر حين توبخ.

يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ الحق كالنور لأنه يبدد ظلمات الضلال كما النور ظلمات الليل وهو الواسطة التي بها يجعل الروح القدس الجهلاء حكماء وغير التائبين تائبين ويجد الضالون سبيل الهدى والحياة والسلام.

كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ في هذا بيان قوة الحق الإلهي الذي يشرق من الإنجيل ومن أعمال المؤمنين وهو يفعل فعل النور فينير القلب الذي تشرق فيه ويقدسه فيكون المتنور واسطة إنارة لغيره ولذلك طلب الرسول في الصلاة أن تسكن في قلوب المؤمنين كلمة الله بغنىً (كولوسي ٣: ١٦). وقد نسب إلى الحق هنا ثلاثة أفعال:

الأول: إنه يبدد الظلمة ويعلن المكتوم.

الثاني: إنه يجعل الظلمة منيرة.

الثالث: إن المُنار به يصير واسطة لتنوير غيره. ومن الواضح أن تلك القوة لا تكون للحق إلا بواسطة روح الله. فكما أن النور لا يقدر أن يجعل العميان مبصرين كذلك الحق وحده لا يستطيع أن يجدد الأموات في الروح ولكن الروح القدس لا يفعل بدون الحق فلذلك وجب على المسيحيين أن يفعلوا كل ما في الطاقة ليعلنوا حق الله للجهلاء والضالين.

١٤ «لِذٰلِكَ يَقُولُ: ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ».

إشعياء ٦٠: ١ ورومية ٣: ١١ و١٢ و١كورنثوس ١٥: ٣٤ و١تسالونيكي ٥: ٦ يوحنا ٥: ٢٥ ورومية ٦: ٤ وص ٢: ٥ وكولوسي ٣: ١

لما كان ذا قوة كما ذُكر ومقدماً للجميع حق للكتاب المقدس أن ينبه القيام والموتى ليقوموا ويستنيروا بأشعته.

لِذٰلِكَ يَقُولُ لم يتضح إلى أي شيء نسب الرسول هذا أإلى فحوى مجموع الكتاب أو إلى جملة معينة منه فإن كان المقصود الثاني فالآية التي هي أقرب إلى ما اقتبسه هي ما في (إشعياء ٦٠: ١) واقتبسها معنىً لا لفظاً وجرى بها مجرى كتبة العهد الجديد في أن نسب إلى المسيح ما نسبه أنبياء العهد القديم إلى يهوه.

إن المخاطبين كانوا في ظلمة روحية كالظلمة المحيطة بالنيام والموتى. والنور الذي أشرق بالمسيح كافٍ لإيقاظ النيام حتى الذين ناموا نوم الموت. وقوله هنا كقول المسيح «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأََمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٥). وهو يثبت ما قيل في (ع ١٣) «لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ».

ٱسْتَيْقِظْ… وَقُمْ أي انتبه من نوم الغفلة والأمن الكاذب وقم من موت الخطيئة إطاعة لأمر المسيح الذي يدعو بكلمته وروحه (رومية ١٣: ١١ – ١٤).

فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ هذا علة وفق قول بطرس الرسول في النبوءة المتعلقة بالمسيح «تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ» (٢بطرس ١: ١٩).

إن المسيح نور العالم (يوحنا ١: ٤ و٨ و٨: ١٢ وعبرانيين ١: ٣). وإن حال الخطأة كحال النيام والموتى حقيقة لأنهم لا يشعرون بما يحدث حولهم ولا يتلفتون إلى من يكلمهم فلا يدركون دعوة الداعي إلى كسب الخير إو إلى النجاة من الشر وتختلف عنها بأن ليس على النيام والموتى حقيقة مسؤولية الاستيقاظ والقيام لكن نوم الخطأة إثم بشهادة ضمائرهم فلا يجوز الاستمرار عليه ساعة واحدة.

١٥ «فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ».

كولوسي ٤: ٥

هذه الآية متعلقة بالآية العاشرة والآية الحادية عشرة. وكونهم أولاد نور يوجب عليهم أن يسلكوا بتدقيق كما أوجب عليهم أن لا يشتركوا في أعمال الظلمة وأن يوبخوها.

تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ كي لا تميلوا عن سنن القداسة والطاعة البتة لا يميناً ولا شمالاً.

لاَ كَجُهَلاَءَ مثل أولاد هذا الدهر الموصوفين بأنهم جالسون في الظلمة.

بَلْ كَحُكَمَاءَ أي كأولاد النور والحق المتعلمين من الله.

١٦ «مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ».

غلاطية ٦: ١٠ وكولوسي ٤: ٥ جامعة ١١: ٢ و١٢: ١ ويوحنا ١٢: ٣٥ وص ٦: ١٣

مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ هذا أحد الطرق التي يظهر فيها الحكماء حكمتهم وذلك باغتنام كل فرصة تمكنهم من أن يكسبوا الخير ويفعلوه مختطفين الوقت من الإتلاف وسوء الاستعمال. والافتداء هنا يشير إلى وجوب بذل كل حكمة والاجتهاد في سبيل التوصل إلى المقصود كما يفعل التاجر في الدنيويات. والموجب لذلك أن الله وهب لنا الوقت لغايات ثمينة لكي نتعب فيها لإدراك أسباب المعاش لنا ولعيالنا ولنكسب العلم المفيد ولنفعل خيراً لغيرنا في الجسديات والروحيات وأن يتمجد الله ونستعد للأبدية فإذاً ليس لنا من دقيقة نستغني عنها أو نشغلها بالكسل أو بطلب الأباطيل.

لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ أي يكثر فيها الشر وتكثر التجارب القوية وتحيط الأخطار من كل جهة فما على الإنسان أن يفعله يجب أن يفعله بسرعة لكي ينجو من الشر ولكي يحمل غيره على النجاة منه. وقد نبه المسيح تلاميذه على وجوب انتهاز الفرص في مثَل قاضي الظلم إذ قال «أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ» (لوقا ١٦: ٨).

١٧ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ».

كولوسي ٤: ٥ رومية ١٢: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٣ و٥: ١٨

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لأن الأيام شريرة.

لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ معنى هذه العبارة قريب من معنى قوله «لا كجهلاء» (ع ١٥). والغبي هو الذي لا يستعمل عقله كما يجب ولا يرى الأمور في النور الحق ولا يحكم فيها على قدر قيمتها فكأنه قال لا تكونوا أغبياء حتى لا تميزوا بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام وبين المهم وما لا طائل تحته وبين ما هي غاية حياتنا الحقة هنا وما ليست كذلك.

فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ هذا كقوله «كحكماء» (ع ١٥). والمراد أن يقيسوا كل الأمور بمقياس الرب يسوع وأن يجعلوا مشيئته قانون سيرتهم.

١٨ «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ».

أمثال ٢٠: ١ و٢٣: ٢٠ و٣٠ وإشعياء ٥: ١١ و٢٢ ولوقا ٢١: ٣٤

لاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ فإن ذلك عين الغباوة المنهي عنها فلا تليق بالمؤمن الحكيم لأن من دأب الحكماء أن لا يطلبوا الانتعاش والتسلية بالمسكر بل بتأثير الروح القدس.

ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ لأن السكر بالخمر يؤدي إلى اتباع الشهوات المحرمة وهلاك الجسد والنفس كليهما لأنه به تخضع النفس للأهواء الجسدية وتزيد سلطة بزيادة خضوع الإنسان لها حتى تكون النفس المخلوقة على صورة الله أَمة للشهوات وللشيطان.

بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس حتى يسوس الأفكار والانفعالات وللأقوال والأعمال. وكثر استعمال مثل هذا في الإنجيل فقيل أن المسيح «ممتلئ من الروح القدس» (لوقا ٤: ١). وأن استفانوس «مملوء من الإيمان والروح القدس» (أعمال ٦: ٥). وأن برنابا «كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أعمال ١١: ٢٤). وحضور الروح القدس في المؤمن على قوته ومسرته ويحمله بدلاً من أن يتغنى كالسكير بأغاني المجون والدعارة على أن يترنم بما ذُكر في الآية الآتية.

١٩ «مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ».

أعمال ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ١٤: ٢٦ وكولوسي ٣: ١٦ ويعقوب ٥: ١٣

أشار بهذه الأية إلى ما اعتاده المؤمنون يومئذ في اجتماعاتهم الدينية من الترنم معاً أو على التناوب بمزامير التسبيح وترنيمات العبادة إعلاناً لمحبتهم لله وابتهاجهم بعبادته وخدمته. ويطلق «المزمور» على القصيدة الروحية التي يترنم به بمساعدة الآلات الموسيقية وعلى أحد المزامير المكتوبة في السفر الإلهي المشهور كما جاء في (أعمال ١٣: ٣٣ و١: ٢٠). وعلى قصيدة روحية على أسلوب مزامير داود. والأرجح أن هذا هو المراد بما في (١كورنثوس ١٤: ٢٦) ولا نقطع بما هو المراد هنا من تلك المعاني.

تَسَابِيحَ أي أشعار موضوعها التسبيح لله.

أَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ قُسمت الأغاني يومئذ إلى عالمية ودينية وهي الروحية بمعنى أنها من وحي الروح القدس أو بمعنى أنها تعبير عن الأفكار الروحية والأشواق الروحية والأرجح أن هذا هو المراد لأنه قيل أن المؤمنين امتلأوا من الروح وذلك يحملهم على أن يظهروا تأثير ذلك الروح بأغانيهم كما يعلنونه بالأحاديث والسيرة.

مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لا بمجرد شفاهكم. وهذا شرط كل ترنم لكي يكون لائقاً بالمؤمنين ومرضياً لله. ولا فرق بين الترنم والترتيل إلا أن الثاني أعم من الأول ولعله يشتمل على استعمال الآلات الموسيقية مع الصوت الإنساني (انظر ١كورنثوس ١٤: ١٥ ويعقوب ٥: ١٣ ورومية ١٥: ٩).

لِلرَّبِّ أي للمسيح. إننا بتسبيحنا للمسيح نسبح الله ونسبح لله في المسيح كلما حملتنا أشواقنا على أن نبيّن محبتنا وشكرنا له. فلا نقدر أن نسبح لأقنوم من الأقانيم الثلاثة ما لم نسبح للآخر.

٢٠ «شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِلّٰهِ وَٱلآبِ».

مزمور ٣٤: ١ وإشعياء ٦٣: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٨ و٢تسالونيكي ١: ٣ عبرانيين ١٣: ١٥ و١بطرس ٢: ٥ و٤: ١١

في هذه الآية بيان الاتفاق بين الترنم للمسيح والشكر لله الآب فإن الرسول اعتبرهما جزئين من عبادة واحدة ومما يجب على كل المؤمنين.

شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ ليس مرة بل دائماً على توالي الأيام على المراحم الجسدية والروحية التي أنعم الله بها في الماضي وينعم بها في الحال.

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حتى على ما يظهر لنا في أول أمره أنه من النوازل لكن الله قصد نفعنا به.

فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بهذا الاسم نادى الرسول وصنعوا المعجزات وبه أُمر المسيحيون أن يصلوا وأن يشكروا على كل شيء وأن يفعلوا كل شيء فالذي يفعلونه باسمه يفعلونه بسلطانه وباتكالهم عليه بغية النجاح.

لِلّٰهِ وَٱلآبِ أي الله الذي هو أبو المسيح وأبونا أيضاً بمقتضى عهد الفداء الذي به لنا ثقة القدوم إليه كبنين إلى آبائهم (يوحنا ١٥: ١٦ و١٦: ٢٣ و٢٤).

نصائح للزوجين ع ٢١ إلى ٣٣

إنه يجب على المؤمنين جميعاً أن يخضع بعضهم لبعض بمقتضى نسبة أحدهم إلى الآخر (ع ٢١). ويجب على النساء أن يخضعن لرجالهنّ إكراماً للرب (ع ٢٢). وإن ذلك الوجوب مبني على أن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة (ع ٢٣). وإن ذلك الخضوع يجب أن يكون في كل الأمور (ع ٢٤). وإنه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم وأن قياس محبتهم لهن محبة المسيح للكنيسة ( ٢٥ – ٢٧). وأن علة المحبة في الأمرين واحدة لأن الرجل والمرأة جسد واحد وكذلك المسيح والكنيسة (ع ٢٨ – ٣١). وإن اتحاد المسيح بالكنيسة أسمى من اتحاد الرجل بالمرأة ولكن هذا لا يمنع من وجوب أن تخضع النساء لرجالهن وأن يحب الرجال نساءهم (ع ٣٢ و٣٣).

٢١ «خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ».

فيلبي ٢: ٣ و١بطرس ٥: ٥

بيّن الرسول في هذه الآية القانون العام في أن يخضع بعض المؤمنين لبعض باعتبار نسبة كل إلى الآخر. وقد فصل هذا القانون في ما يأتي من بيان واجبات كل من الزوجين للآخر وكل من الأولاد لوالده وكل من الوالدين لأولاده وكل من العبيد لسيده وكل من السادة لعبيده. ومثل قول بولس هنا قول بطرس الرسول «كُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ» (١بطرس ٥: ٥). وقول بولس «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِٱلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية ١٢: ١٠). وقوله «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ… لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٢ و٣). وفي هذا نهي للناس عن أن يحسبوا أنهم مستقلون وتقرير لقوله «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ» (رومية ١٤: ٧). ووجوب خضوع بعض المؤمنين لبعض مبني على كونهم متساوين أمام الله ومحتاجاً كل منهم إلى الآخر وذلك يمنع من الكبرياء وادعاء الأفضلية وعدم الاكتراث بآراء الإخوة في العقائد والأعمال. ويوجب على كل مؤمن أن يعتبر مقاصد وآراء إخوته الاعتبار اللائق حاسباً نفسه جزءاً من الجسد الواحد الذي هو الكنيسة ذات الإيمان الواحد والسلوك الواحد.

فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ أو خوف المسيح على ما في أكثر النسخ. فوجوب خضوع بعض المؤمنين لبعض مبني على وجوب خضوعهم للمسيح (الذي هو أيضاً الله) واعتبارهم لإرادته ومجده. فيجب أن يرغبوا في رضاه بالطاعة وأن يخافوا إغاظته لأنهم سيقفون أمامه للدينونة وهو يحسب ما صُنع لأصغر إخوته أنه صُنع له.

٢٢ «أَيُّهَا ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ».

تكوين ٣: ١٦ و١كورنثوس ١٤: ٣٤ وكولوسي ٣: ١٨ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ ص ٦: ٥

إن وجوب الخضوع العام يتضمن وجوب أن تخضع النساء لرجالهن وذكر هذا الوجوب حمل الرسول أن يوضح حقيقة الخضوع الواجب على المرأة لرجلها وعلته ومقداره. ومثل قول الرسول في هذه الآية ما في (كولوسي ٣: ١٨ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ – ٦) والتلميح الذي في (١كورنثوس ١١: ٣ و٧ – ٩ و١٤: ٣٤ و٣٥ و١تيموثاوس ٢: ١١ و١٢).

كَمَا لِلرَّبِّ أي إطاعة لأمر الرب لأنه هو الذي أعطى تلك السلطة للرجال فالخضوع لرجالهن جزء من خضوعهن الواجب للمسيح وأحد واجباتهن المسيحية. وليس معنى هذا القول أن يكون خضوع المرأة للرجل مطلقاً كخضوعها للمسيح. فخضوعها لرجلها إكراماً للمسيح وإطاعة له أخف عليها من أن يكون بدون نظر إلى المسيح.

٢٣ «لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ».

١كورنثوس ١١: ٣ ص ١: ٢٢ و٤: ١٥ وكولوسي ١: ٧ ص ١: ٢٣

إن الرسول مع تصريحه بأن وجوب أن تخضع المرأة لرجلها من الواجبات الدينية أوضح هنا أن علة ذلك الخضوع أمر طبيعي كأكثر أوامر الله.

لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ علة وجوب أن تخضع المرأة لرجلها هي أن الله لما خلق الرجل خلقه أقوى من المرأة جسداً وعقلاً ووهب له من الصفات الجسدية والعقلية ما أهله لأن يكون رأسها. وقد سبق الكلام على ذلك في تفسير (١كورنثوس ١١: ٣ – ٩) فأثبت الرسول أفضلية الرجل على المرأة من كتاب الله وأبان أن الرجل خُلق قبل المرأة وأنها أُخذت منه وأن خضوعها لرجلها لائق في ذاته فضلاً عن كونه طبيعياً واختبار الناس يشهد بحسن هذا النظام الإلهي. وأن كون المرأة دون الرجل في السلطة لا يستلزم أنه دونه في سائر الأمور ولا دونه في ملكوت الله ونفع كنيسة المسيح والعالم. إن إنجيل المسيح لا يبطل سلطة الرجال على النساء ووجوب خضوع النساء للرجال لكنه جعل المرأة رفيقة الرجل ومعينة له وشريكته في أفراحه وأحزانه وأعلى شأنها بأن رفعها من كونها أَمة للرجل إلى كونها شريكة له.

كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ وجب على المرأة أن تخضع للمسيح والذي أمر بوجوب أحد الأمرين أمر بوجوب الآخر.

وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ هذا يصدق على المسيح فضلاً عن كونه رأس الكنيسة. والمرجّح أن الرسول ذكر هذه العبارة بياناً لأن نسبة الكنيسة إلى المسيح أعظم وأرفع من نسبة المرأة إلى الرجل. وأن نسبة المسيح إلى الكنيسة غير مقصورة على أنه يسوسها ويعلمها بل على أنه يخلصها أيضاً من الخطيئة والهلاك ويبررها ويقدسها. ولا رجل يستطيع أن يصنع لامرأته مثل ما صنع المسيح للكنيسة ولذلك لا حق له أن يطلب من المرأة الخضوع الذي يحق للمسيح أن يطلبه من الكنيسة.

٢٤ «وَلٰكِنْ كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ ٱلنِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ».

كولوسي ٣: ٢٠ و٢٢ وتيطس ٢: ٩

لٰكِنْ أي مع التمييز بين نسبة المسيح إلى الكنيسة ونسبة الرجل إلى المرأة على ما ذُكر.

كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ… فِي كُلِّ شَيْءٍ هذا بيان مقدار الخضوع الواجب على المرأة للرجل. وعنى بقوله «كل شيء» أن لا يجوز للمرأة أن تخضع في بعض الأشياء وتستقل في غيرها بل في كل ما يحق له أن يأمرها به. وهذا لا يستلزم أن سلطته عليها غير محدودة لأنها مقيدة بحقيقة النسبة الزوجية وبأن سلطة الله فوق سلطته وليس عليها أن تخالف شريعة الله إطاعة لأمر زوجها وليس له سلطان على عقائدها أو ضميرها.

٢٥ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا».

كولوسي ٣: ١٩ و١بطرس ٣: ٧ أعمال ٢٠: ٢٨ وغلاطية ١: ٤ و٢: ٢٠ و ع ٢

إن الرسول كما أوجب على النساء الخضوع لرجالهن (ع ٢٣) أوجب على الرجال المحبة لنسائهم وجعل قياسها وعلة وجوبها محبة المسيح للكنيسة وبنى وجوبها على الاتحاد الكليّ الخاص بين الرجل وامرأته.

أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ إن محبة المسيح للكنيسة مثال لحب الرجال لنسائهم وقياس له فإنهم مكلفون بأن ينكروا أنفسهم لأجلهم كما أنكر المسيح نفسه لأجل الكنيسة فإنه أحبها حتى أنه مات من أجلها فعلى الرجال أن يخاطروا بأنفسهم إذا اقتضت الحال وقاية لنسائهم. وإن إظهار الرجال محبتهم لأزواجهم من أفضل الوسائط لحملهن على الخضوع لهم. وخضوع النساء لرجالهنّ من أحسن الوسائل إلى حملهم على محبتهن ولكن يجب أن يكون كل من الخضوع والمحبة خالصاً بمقتضى الأوامر الإلهية والإطاعة للمسيح لا لقيام كل من الزوجين بما يجب عليه للآخر.

وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا صنع المسيح للكنيسة أكثر مما يستطيع الرجل أن يصنعه لامرأته فقدم نفسه ذبيحة على الصليب ليفدي الكنيسة ويقدسها. فالرجال الذين يريدون أن يتمثلوا بالمسيح في إنكار أنفسهم يندر أن يجدوا فرصاً لذلك في سوى تخفيف ما عليها من الأثقال وتعزيتها في الضيقات وطلب خلاص نفسها وبذلك كل ما في طاقته قولاً وعملاً ليقودها إلى الاتكال على المسيح والتثمل بمثله.

٢٦ «لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ».

يوحنا ٣: ٥ وتيطس ٣: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢ ويوحنا ٥: ٦ يوحنا ١٥: ٣ و١٧: ١٧

انتهز الرسول فرصة التكلم في واجبات الأزواج لإيضاح الاتحاد بين المسيح وكنيسته وبيان أن من غايات موته تقديمه إياها أخيراً لنفسه لكي يسّر بها وأنه في هذا الزمان يؤهلها لغايته السامية منها وأوضح ذلك بطريق المجاز معتبراً الكنيسة عروساً للمسيح. وأعلن في ذلك ثلاثة أمور:

الأول: إن الكنيسة موضوع محبته الخاصة العظيمة.

الثاني: إنه كما أن العروس لزوجها خاصة كذلك الكنيسة للمسيح خاصة.

الثالث: إن اتحاد المسيح بالكنيسة قوي جداً كالاتحاد الزوجي فإن المؤمنين عظم من عظامه ولحم من لحمه وإن الكنيسة موضوع أعظم ابتهاج للمسيح فهو يقصد أن يقدمها لنفسه عروساً على وفق قوله تعالى «كَفَرَحِ ٱلْعَرِيسِ بِٱلْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلٰهُكِ» (إشعياء ٦٢: ٥). ولذلك يجب أن يطهرها ويزينها لكي تكون أهلاً للجلوس معه على عرشه. وما قاله في الكنيسة إجمالاً يصدق على كل أعضائها أفراداً فهم موضوع حبه الخاص وعنايته وابتهاجه فيرغب أن يكون كل مؤمن كاملاً في القداسة والمجد.

لِكَيْ يُقَدِّسَهَا أي يفرزها وينقيها من دنس الخطيئة. إن غاية موت المسيح تقديس شعبه وحصل على ذلك بمصالحتهم لله وبإعطائه إياهم الروح القدس كما أبان في قوله «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ… لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأَُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ و١٤).

مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ قد يُراد بهذا في الكتاب المقدس التطهير الروحي الذي الغسل بالماء رمز إليه (حزقيال ١٦: ٩ و٣٦: ٢٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢) وأكثر ما يُراد به المعمودية ومن ذلك قول حنانيا لشاول «قُمْ وَٱعْتَمِدْ وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ» (أعمال ٢٢: ١٦) لأن المعمودية هي الغسل بالماء واعتاد الذين كتب إليهم بولس أن يحسبوها بمعنى واحد. والتطهير هنا هو التنقية من جرم الخطيئة ودنسها (عبرانيين ١: ٣ و٩: ١٤ و٢٢ و٢٣ و١يوحنا ١: ٧). والذي يؤيد قولنا أن المراد هنا «بالغسل بالماء» المعمودية. إن المعمودية كثيراً ما اقترنت بمغفرة الخطايا كما في قوله «قَالَ لَـهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا» (أعمال ٢: ٣٨ و٢٢: ١٦).

فإن قيل كيف يمكن أن يكون التطهير بالمعمودية قلنا أن المعمودية تطهر من الخطية كما أن الكلمة تطهر منها حيث الكلام في الكلمة هنا كالكلام في التطهير بغسل الماء أي المعمودية. وجاء في الإنجيل أننا «نخلص بالكلمة» وأننا نولد بها ونتقدس وذلك لا يستلزم أن قوة سرية تخرج من الكلمة لتأتي بتلك النتائج ولا أن تلك النتائج تقترن أبداً بسمع الكلمة فإنه يفعل كذلك في الأطفال الذين لا يقدرون أن يفهموا الكلمة. وكل ما قيل على الكلمة قيل على المعمودية مثل أنها تغسل من الخطيئة (أعمال ٢٢: ١٦) وإنها تقرننا بالمسيح وأنها تجعل موت المسيح موتنا (رومية ٦: ٤ وكولوسي ٢: ١٢) وأنها تخلصنا (١بطرس ٣: ٢١). وهذه الأقوال لا تستلزم أن قوة سرية تخرج من المعمودية ولا من المعمد لتأتي بتلك النتائج ولا أن تلك النتائج تقترن أبداً بالمعمودية ولا أن الروح القدس لا يجدد غير المعتمدين فيتركهم يهلكون لأن كثيرين من المعتمدين لا يزالون أشراراً وأن كثيرين من غير المعتمدين قدسوا وخلصوا.

والذي نتعلمه من العبارة هو أن الله شاء بنعمته أن يقرن الفداء وبركاته بقبول كلمته بالإيمان وبقبول المعمودية كذلك. فكما يصدق أن نخلص بالكلمة يصدق أننا نخلص بالمعمودية مع أن المعمودية لا تنفع شيئاً بلا إيمان كما أن الكلمة لا تنفع شيئاً بدونه. ولذلك قيل «مَنْ آمَنَ وَٱعْتَمَدَ خَلَصَ» (مرقس ١٦: ١٦) وما قاله الرسول هنا في تأثير المعمودية في الكنيسة التي هي جسد المسيح وعروسه قاله باعتبار كونها مؤلفة من المؤمنين لا باعتبار الذين هم ليسوا بمؤمنين وهم غرباء عن عهود الموعد وأجنبيون عن رعوية إسرائيل ولذلك لم يذكر وجوب الإيمان مع المعمودية كشأن كثير من أقوال الكتاب. والمراد من «الكلمة» هنا جملة كلام الله أو الإنجيل لا أحد مواعيده أو أوامره أو البسملة.

٢٧ لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ».

٢كورنثوس ١١: ٢ وكولوسي ١: ٢٢ نشيد الأناشيد ٤: ٧ ص ١: ٤

لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ هذه غاية المسيح الأخيرة وغايته الأولى أنه يقدسها والمعنى أنه يضعها على القرب منه دليلاً على أنها له خاصة ويعترف قدام كل الخليقة بأنها عروسه التي اقتناها بدمه. ومن عادة الناس ان يُحضر العروس لعريسها رفيقاتها أو صديق العريس (يوحنا ٣: ٢٩). وأما المسيح الذين أسلم نفسه من أجلها فهو وحده يهيئها ويحضرها ويقبلها. والوقت الذي يحضرها فيه لنفسه هو وقت مجيئه الثاني حين يأتي «لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (٢تسالونيكي ١: ١٠) وحين يقام الموتى في شبه ابن الله ويتغير الأحياء وحين يلبس هذا الفاسد عدم الفساد وهذا المائت عدم الموت وحينئذ تكون الكنيسة كعروس مزينة لرجلها (رؤيا ٢١: ٢ و١٩: ٧ – ٩).

كَنِيسَةً مَجِيدَةً إلى حد يبتهج بها عنده كل المشاهدين جمالها وهي خالية من كل عيب وحاوية كل كمال وذلك لأنها ستكون في شبه صورة المسيح يوم ظهر لتلاميذه على جبل التجلي فصاروا كأموات. لأن الله عيّن مختاريه ليكونوا مشابهين صورة ابنه (رومية ٨: ٢٩). وقيل أنهم «سيكونون مثله لأنهم سيرونه كما هو» (١يوحنا ٣: ٢).

لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ مما يشين جمالها أو ينقص كمالها أو يغير هيئتها بمرور الزمان كما هو المشاهد في الناس على الأرض لأنها تكون خالدة في شبيبتها.

بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ كما اختار الله آله أن يكونوا قبل تأسيس العالم (ص ١: ٤) فإذاً قصد الله الأزلي سيتم في الكنيسة عند تمجيدها باعتبار أنها عروس المسيح.

٢٨ «كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ».

رجع الرسول هنا إلى ذكر واجبات الرجال لنسائهم بعد آيتين معترضتين.

كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها بناء على كون الكنيسة جسده. وليس المراد من ذلك أنه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم بمقدار ما يحبون أجسادهم بل أن يحبوهن لأن نسبتهم إلى نسائهم كنسبة المسيح إلى الكنيسة فإنه أحبها كذلك وجب أن يحبوا نساءهم. واعتبرها جسده فوجب أن يعتبروهن أجسادهم فلا يحبونهم كأجسادهم بل لأنهن أجسادهم وهذا مستلزم من قوله سابقاً «إن الزوجين جسد واحد» على وفق قوله تعالى في (تكوين ٢: ٢٤) وما كرره المسيح في (متّى ١٩: ٤ – ٦) فما أوجبه الإنجيل على الرجال من محبتهم لنسائهم لا يقدرون أن يتعدوه ما لم يضروا أنفسهم أرواحاً وأجساداً وأولادهم والهيئة الاجتماعية فلا يجوز أن يُقطع رباط الزيجة إلا لأسباب ذكرها الإنجيل.

مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ هذا القول والقول «إن الرجل والمرأة جسد واحد» ليسا بياناً لما يجب أن يكون بل بياناً للواقع فإن الزوجين جسد واحد وكل جزء من الآخر فإذاً قوله «من يحب امرأته يحب نفسه» لا يحتاج إلى برهان.

٢٩ «فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ».

هذه الآية نتيجة الآية السابقة فإن محبة الرجال لنسائهم طبيعية كمحبة الإنسان لنفسه فكما أنه من المخالف للطبيعة أن يبغض الإنسان جسده مخالف لها أن يبغض امرأته. نعم إن من المحتمل أن الإنسان لا يعجبه جسده تمام الإعجاب فيرغب أن يكون أقوى أو أجمل وأقل تعرضاً للآلام والأمراض ولكنه لا يرى ذلك علة كافية لأن يبغضه ويهمله. وكذلك يحتمل أن يرى الإنسان عدم الكمال في امرأته لكن ذلك ليس بعلة كافية لأن يهملها أو يظلمها.

بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ وكذلك بمقتضى الشريعة الطبيعية وأوامر الله يجب على الرجل أن يعامل امرأته بكل رقة ويعتني بها ويقوم بحاجاتها ويطلب راحتها.

كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ أثبت ما قاله في الواجبات على الرجال للنساء بما فعله المسيح للكنيسة فإنها عالها كما يعول الإنسان جسده لأن نسبته إليها كنسبة الرجل إلى امرأته. زعم بعضهم أن الرسول أشار بقوت الكنيسة إلى العشاء الرباني. والحق عدم التقييد بذلك ولكنه يذكرنا قول المسيح «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ» وقوله «أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» ( يوحنا ٦: ٤٨ و٥١). وقوله «يربيه» كقول المسيح في أورشليم «يَا أُورُشَلِيمُ… كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا» (متّى ٢٣: ٣٧).

٣٠ «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ».

تكوين ٢: ٢٣ ورومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ٦: ١٥ و١٢: ٢٧

في هذه الآية علة ما قيل في الآية السابقة.

لأَنَّنَا نحن المؤمنين المتحدين بالمسيح بالإيمان.

أَعْضَاءُ جِسْمِهِ الخ إن المسيح يقوت الكنيسة ويربيها كما يقوت الإنسان جسده ويربيه لأن اتحادها به كاتحاد جسد الإنسان بنفسه. وما قيل هنا مبني على قول آدم لحواء «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» والمعنى أن النسبة بين المسيح وكنيسته كالنسبة بين آدم وحواء فإن حواء أُخذت من جسم آدم على وفق نص الآية. وقال الرسول في هذا الأمر أنه سر عظيم (ع ٣٢) فإذاً لا يمكن التفسير البشري أن يوضحه تمام الإيضاح لكننا نقدر أن نعتزل فيه سوء التأويل فنتركه كما تركه الرسول. وليس المراد مجرد أنه كما أن الزوجين متحدان كذلك المسيح والكنيسة. فحين قال المسيح لتلاميذه «أنا الكرمة وأنتم الأغصان» أراد ما يزيد على معنى الاتحاد وهو الحياة المشتركة. ومثله قوله في النسبة بين آدم ونسله ففيه معنى يزيد على الاتحاد. وكذا ما قيل في هذه الآية لأنه اشتراك في اللحم والدم وفي هذا الاشتراك معنى زائد على الاتحاد. وليس هو مجرد مجاز بمعنى أنه كما أن حواء أخذت جسدها من آدم كذلك نأخذ حياتنا الروحية من المسيح. نعم إن هذا حق ولكنه ليس الحق كله إذ قيل هنا إن حياتنا الروحية مأخوذة من جسد المسيح وإننا شركاء جسده.

ذهب بعضهم أن في الآية إشارة إلى تجسد المسيح لأن طبيعتنا البشرية مثل الطبيعة التي اتخذها المسيح وهذا على وفق ما جاء في (عبرانيين ٢: ١٠ و١٤). لكن تعليم تجسد المسيح هو أنه أخذ لحمنا ودمنا وتعليم هذه الآية إننا نشترك في جسد المسيح ودمه بعد اتخاذه إياهما. والمسيح بالتجسد اتحد بكل الجنس البشري لكن الاتحاد المذكور في الآية ليس إلا بين المؤمن والمسيح. وذهب آخرون إلى أن الاتحاد المشار إليه هنا هو كالاتحاد الذي يحدث حين نتناول العشاء الرباني وإننا صرنا من جسده لأننا أكلنا جسده. لكن لا إشارة هنا إلى العشاء الرباني الذي قال الكتاب إنه اشتراك في لحم المسيح ودمه. والكلام هنا في خلق المرأة والنسبة الزوجبة التي عبر عنها بالاشتراك في اللحم والعظام. وأما ما صّرح به هنا هو أن حواء كما أنها أخذت حياتها من جسد آدم وصارت شريكة له في حياته كذلك المؤمنون يتخذون حياتهم من جسد المسيح ويصيرون شركاء له في حياته وكلام بولس في ذلك ليس بتفسير للسر بل تصريح بكونه.

إن حواء بقيت شريكة لآدم في حياته بعد مرور السنين ونفاد كل جزء من جسمه الذي أُخذ منه جسمها لكنها ما زالت مدة عمرها عظماً من عظامه ولحماً من لحمه كما كانت في اليوم الذي خُلقت فيه.

ونحن شركاء آدم في حياته مع أنه لا شيء من جسد آدم في أجسادنا والقول هنا وفي أماكن أخرى في الكتاب إن الزوجين «جسد واحد» وإن المسيح والكنيسة واحد نمثل ما ذُكر ففي كلها إشارة إلى الحياة المشتركة وكل ما يختص بالحياة سر لا يعلم بماذا تقول ولا كيف نتسلسل. وما قيل هنا في شأن اتحاد المسيح بشعبه واتخاذهم حياتهم من جسده أُشير إلى أنه كان بواسطة جسده (رومية ٧: ٤). وبواسطة دمه (ص ٢: ١٣) و «بجسم بشريته» (كولوسي ١: ٢٢) وفي كل ذلك بيان أن جسد المسيح مصدر حياتنا وأننا بالاشتراك فيه ننال الحياة الأبدية كما صرّح المسيح بقوله «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٥٣ و٥٤).

٣١ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً».

تكوين ٢: ٢٤ ومتّى ١٩: ٥ ومرقس ١٠: ٧ ١كورنثوس ٦: ١٦

هذه الآية مقتبسة من سفر التكوين (تكوين ٢: ٢٤) واقتبسها الرسول إثباتاً أن ما قاله مبني على كلام الله وأن نسبة المسيح إلى الكنيسة قريبة جداً لأنها كالنسبة التي بين الرجل وامرأته وهي ألصق من كل نسبة بشرية حتى النسبة بين الوالدين والأولاد. فحق له أن ينسب إلى المسيح وشعبه حياة مشتركة لأنهم اتخذوا حياتهم من جسده كما اتخذت حواء حياتها من جسد آدم. وقد وجد المفسرون كلهم صعوبة في بيان العلاقة بين قوله «نحن أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» وقوله «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه». وزعم بعضهم إن في ذلك إشارة إلى أن المسيح عند مجيئه إلى العالم ترك حضن أبيه لكي يلتصق بكنيسته. وأفضل سبيل إلى حل هذا الإشكال هو أن بولس اقتبس الجملة كلها كما في سفر التكوين ومراده الجزء الأخير منها وهو قوله «ويكون الاثنان جسداً واحداً» لأن فيه تشبيهاً لنسبة المسيح إلى الكنيسة وأما بقية الجملة من ترك الآب والأم غير مقصودة في الإثبات. وكثيراً ما رأينا في مواضع أخر من الإنجيل اقتباس آية من العهد القديم بغية جزء منها دون غيره. ومن أمثلة ذلك (عبرانيين ٢: ١٣) إذ اقتُبست الآية كلها لمجرد لفظة «أولاد» (غلاطية ٣: ١٦) فإنها اقتُبست لمجرد لفظة «نسل».

٣٢ «هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ، وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ ٱلْمَسِيحِ وَٱلْكَنِيسَةِ».

هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ معنى السر هنا ما لا يصل العقل إلى إدراكه والمقصود به هو الاتحاد الروحي بين المسيح والكنيسة حتى كأنهما جسد واحد الذي نسبة الرجل إلى امرأته إشارة إليه.

وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ الخ قال هذا دفعاً لأن يظن أحد قراء رسالته أنه حسب الزيجة سراً وبياناً لأن السر العظيم العجيب المقصود هنا هو اتحاد المسيح بالكنيسة.

٣٣ «وَأَمَّا أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا».

ع ٢٥ وكولوسي ٣: ١٩ و١بطرس ٣: ٦

وَأَمَّا أي مع أن النسبة بين المسيح وكنيسته أعظم بما لا يحد من النسبة بين الرجل وامرأته المشابهة كافية ليبنى عليها ما يأتي.

أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ أي كل منكم أيها المؤمنون.

فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا أي كما أحب المسيح الكنيسة.

كَنَفْسِهِ كما جاء في (ع ٢٨) لأن امرأته جزء منه فمحبته لها محبة لنفسه.

وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا للهيبة درجات حسب موضوعها من الهيبة للمخلوق إلى الهيبة للخالق وهي في كل درجاتها مبنية على اعتبار الهائب أفضلية المهوب عليه. وهيبة المرأة للرجل واجبة لكونه «رأسها» وهذا أساس خضوعها الذي أوجبه عليها سابقاً.

وفي هذه الآية تصريح بالأمرين اللذين أوصى الله بهما حتى تكون الزيجة واسطة سعادة الزوجين ونفعهما وهما أن الرجل يحب امرأته حتى يعتني بها ويحميها وأن المرأة تهاب رجلها حتى تخضع له الخضوع الواجب اختياراً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى