الرسالة إلى أفسس | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى أفسس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
هذا الأصحاح بداءة القسم الثاني من هذه الرسالة وهو الجزء العملي منها حثّ فيه على الاتحاد (ع ١ – ١٦) وعلى القداسة وغيرها من الفضائل المسيحية (ع ١٧ – ٣٢).
حفظ الاتحاد الروحي ع ١ إلى ١٦
طلب الرسول من مؤمني أفسس أن يسلكوا كما يليق بدعوتهم المسيحية في التواضع والوداعة وطول الأناة والاجتهاد في حفظ وحدة الكنيسة الروحية وسلامها (ع ١ – ٣). وأبان أن الكنيسة واحدة لأنها جسد واحد ولها روح واحد ورجاء واحد ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد على كل الأعضاء وبكلهم وفي كلهم (ع ٤ – ٦). وهذه الوحدة لا تمنع من تنوع المواهب التي يوزعها المسيح حسب مشيئته (ع ٧). واثبت كلامه ببعض أقوال المزامير (ع ٩ و١٠). وبيّن أنواع المواهب بأنواع أصحابها (ع ١١). وإن الغاية من إقامة خدم الكنيسة هي بنيانها وتكميلها (ع ١٢ – ١٦).
١ «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا ٱلأَسِيرَ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا».
ص ٣: ١ وفليمون ١ و٩ فيلبي ١: ٢٧ وكولوسي ١: ١٠ و١تسالونيكي ٢: ١٢
فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ نظراً لعظمة البركات التي اشتراها المسيح وجعلكم أيها الأمم شركاء فيها.
أَنَا ٱلأَسِيرَ فِي ٱلرَّبِّ كان بولس أسيراً لكونه مسيحياً وكان «في الرب» أي متحداً به وموثقاً من أجله فلم يستثقل وُثقه لمحبته لربه ولتيقنه أن وثقه تؤدي إلى نجاح الإنجيل فبنى طلبه عليه على كونه أسيراً لا لتحريك شفقتهم عليه بل لحملهم على زيادة إصغاء إلى كلامه واعتبار لأهميته. ولعله أراد أن يبين لهم أنه راض بأسره ومسرور بأن أُعدّ أهلاً لأن يتألم من أجل المسيح.
أَنْ تَسْلُكُوا الخ إن الله دعاهم وهم أمم أصلاً إلى التبني (ص ١: ٥) وبذلك دعاهم إلى القداسة والشرف والاتحاد بالمسيح وإلى مشابهة صورة ابنه وأن يكونوا جزءاً من شعبه المقدس وآل بيته السماوي.
ولم يأمرهم الرسول أن يسلكوا بالاستقامة لكي يستحقوا أن يكونوا مدعوين بل أن يسلكوا بها لأنهم مدعوون وهم غير مستحقين والذي أوجب عليهم السيرة الطاهرة هو الشعور بعظمة البركات الناشئة عن محبة المسيح لهم والشكر له وبعظمة الشرف الذي أكرمهم الله وأنعم عليهم به فألزمهم ذلك كله أن يسلكوا كما يحق لدعوتهم الشريفة العظمى.
٢ «بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْمَحَبَّةِ».
أعمال ٢٠: ١٩ وغلاطية ٥: ٢٢ و٢٣ وكولوسي ٣: ١٢ و١٣
بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ هاتان الصفتان من الصفات التي يجب أن يمتاز السلوك المسيحي بها والتواضع مبني على الشعور بالخطيئة والعجز وعدم استحقاق المدح وعكسه الإعجاب بالنفس والكبرياء التي تحمل الإنسان على الرغبة في نيل المدح من الناس والارتقاء فيهم. وطعن الرسول في هذه الرذيلة بقوله «غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِٱلأُمُورِ ٱلْعَالِيَةِ» (رومية ١٢: ١٦). وبقوله «إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ» (غلاطية ٦: ٣). وقوله هنا كقوله في رسالة فيلبي «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٣ انظر أيضاً كولوسي ٢: ١٨ و٢٣ و٣: ١٢ و١٣). والوداعة تشبه التواضع وتبني عليه وكثيراً ما تقترن في ذكر الفضائل وهي تحمل المسيحي على احتمال ذنوب الناس وتعدياتهم بلا غيظ ولا تذمر. قال المسيح في نفسه «إِنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ» (متّى ١١: ٢٩). وذكر الرسول وداعة المسيح في (٢كورثوس ١٠: ١). ويمتاز الخروف عن سائر البهائم بوفرة وداعته وشُبّه المسيح قدّام قاتليه «بشاة أمام جازيها» (إشعياء ٥٣: ٧).
بِطُولِ أَنَاةٍ هذه الصفة الثالثة التي امتاز بها السلوك المسيحي وهي تحمل الإنسان على ضبط نفسه عن الغضب (٢كورنثوس ٦: ٦ وغلاطية ٣: ٢٢ وكولوسي ٣: ١٢) وأن يتمهل عن عقاب المذنبين ويعامل إخوته من البشر بالصبر (١تيموثاوس ١: ١٦ و٢تيموثاوس ٤: ٢).
مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْمَحَبَّةِ هذا تفسير لطول الأناة وظرف للفضائل الثلاث التواضع والوداعة وطول الأناة فمن في قلبه محبة لإخوته يقدر بواسطتها أن يقي نفسه من الغضب وطلب الانتقام في يوم التجربة. فمحبة الوالد لأولاده تحمله على أن يحتمل نقائصهم ومحبة المسيحي لإخوته تحمله على غض النظر عن عيوبهم وتقصيرهم في شأنه.
٣ «مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ».
كولوسي ٣: ١٤
مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ أي الوحدانية التي ينشئها الروح القدس بسكناه قلوب المؤمنين وهذا عمله الخاص (في جسد المسيح الذي هو كنيسته) المنسوب إليه في الإنجيل. وقوله «مجتهدين أن تحفظوا الخ» يشير إلى عظمة المسؤولية وإلى الخطر من فقدها أو ضعفها. إنه ليس للمسيحي قدرة على إنشائها لأنها من مواهب الله لكنه يقدر أن يعرف قيمتها ويحفظها باجتهاد من كل ما يطبلها داخل الكنيسة أو خارجها.
بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ إن السلام هو الواسطة التي تحفظ بها في الكنيسة وحدانية الروح وهو ينتج من المحبة والتواضع وطول الأناة واحتمال كلٍ غيره. وهو ضروري لحياة الكنيسة ونموها وثمر الروح وعلامة حضوره. فالبغض والكبرياء والخصام بين أعضاء الكنيسة تحمل الروح القدس على أن يفارقهم كما أن السلام والمحبة تدعوانه إلى أن يبقى فيها. قال المسيح «طوبى لصانعي السلام» (متّى ٥: ٩). وقال الرسول «فَلْنَعْكُفْ إِذاً عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ» (رومية ١٤: ١٩).
إن كون كنيسة المسيح مؤلفة من مختلفي البلاد والعوائد والأسماء والطوائف يستلزم حضور الروح القدس فيها واجتهاد محبي السلام فيها لكي تكون في وفاق واتحاد وتُحفظ كذلك. واجتهد بولس في كل رسائله أن يقود مؤمني اليهود والأمم إلى أن يحتمل بعضهم بعضاً وأن يسحب الفريقان أنفسهما أنهما واحد في المسيح.
٤ «جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ ٱلْوَاحِدِ».
رومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ١٢: ١٢ و١٣ وص ٢: ١٦ و١كورنثوس ١٢: ٤ و١١ ص ١: ١٨
بعد أن حث الرسول الأفسسيين على حفظ وحدانية الروح أبان لهم ما تتوقف عليه تلك الوحدانية وهو سبعة أمور «جسد واحد وروح واحد ورجاء دعوة واحد ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد». وهذه المبادئ السبعة الإلهية هي التي نظمت الكنيسة المسيحية بموجبها.
جَسَدٌ وَاحِدٌ هذا إخبار بما وقع لا أمر بما يجب أن يكون والمعنى أن المؤمنين كلهم جسد المسيح الواحد لأن كلهم «في المسيح» وكلهم أعضاؤه لا أجساد كثيرة بل جسد واحد بدليل قوله «نَحْنُ ٱلْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ» (رومية ١٢: ٥ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٠: ١٧ و١٢: ٢٧). وقد سبق في هذه الرسالة أن الكنيسة هي جسد المسيح (ص ١: ٢٣).
إن كل المؤمنين الحقيقيين هم أعضاء هذا الجسد الواحد لكنهم ليسوا مجموعين في نظام واحد منظور فيتضح من ذلك أن الجسد الذي ذكره بولس هنا ليس بكنيسة من الكنائس المعروفة المسماة باسم خاص على الأرض بل هو الكنسية غير المنظورة المؤلفة من كل المفديين في الأرض والسماء فهي الجسد الروحي الذي المسيح رأسه. ويتضح أيضاً أن نسبة بعض المؤمنين إلى بعض كنيسة بعض الأعضاء في جسد واحد إلى بعض.
رُوحٌ وَاحِدٌ في الجسد الكثير الأعضاء روح واحد وهي النفس الناطقة مركز الحياة كذلك في جسد المسيح الروح القدس هو الذي ينشئ الحياة والقوة للجسد كله ويسكن كل الأعضاء بدليل قوله «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً» (١كورنثوس ١٢: ١٣). وقوله «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ» (١كورنثوس ٣: ١٦ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ١٩ ورومية ٨: ٩ و١١). وكون جميع المؤمنين أعضاء جسد المسيح وكون الروح القدس فيهم وكونه علة حياتهم تستلزم أن يجتهدوا في حفظ وحدانية الروح وأن يحب كل منهم الآخر محبة أخوية وأن يرتبطوا جميعاً برباط السلام.
كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ ٱلْوَاحِدِ هذا هو الرباط الثالث من ربط الوحدانية فإنهم حين دُعوا ليكونوا مؤمنين كان أمامهم نفس الرجاء الذي وُضع أمام غيرهم من المؤمنين لأن لكلهم عين المواعيد التي بنوا عليها آمالهم. كان لهم رجاء واحد لأن تُغفر خطاياهم بدم المسيح وأن يكتسوا بثوب بر المسيح وأن يُحفظوا بقوة المسيح وإنهم كلهم متوقعون نيل الميراث العظيم في السماء الذي اشتراه المسيح لهم. فوحدة رجاء المؤمنين دليل على أنهم جسد واحد.
وقال «رجاء دعوتكم» لتعلقه بالدعوة طبعاً لأنه حين دعاهم الروح القدس الدعوة الباطنة الفعالة أنشأ فيهم هذا الرجاء. دعاهم ليكونوا شركاء ميراث القديسين في النور فرجوا طبعاً نيل ما دُعوا إليه. دُعوا إلى المصالحة مع الله والتمتع برضاه فانتظروا طبعاً الخلاص المستلزم من ذلك. وما حصلوا عليه من نتائج الدعوة الآن ينهض فيهم الرجاء في المستقبل على وفق قوله في ختم الروح «عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ» (ص ١: ١٤). وقوله «ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا» (٢كورنثوس ١: ٢٢). وما حصلوا عليه من مواهب الروح جعلهم يشتهون مواهب أخرى أعظم منها تنشئ الرجاء فيهم.
٥ «رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ».
١كورنثوس ١: ١٣ و٨: ٦ و١٢: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٤ ع ١٣ ويهوذا ٣ غلاطية ٣: ٢٧ و٢٨ وعبرانيين ٦: ٢
ذكر في هذه الآية ثلاثة أشياء تستلزم أن تكون الكنيسة جسداً واحداً بروح واحد الأول خارج عنها والثاني داخلها والثالث بعضه خارج وبعضه داخل.
رَبٌّ وَاحِدٌ الذي هو رأس الكنيسة. إن لكل رب ملكاً وسلطة والمسيح رب في الأمرين. فنحن لسنا لأنفسنا فيجب أن نمجده بأرواحنا وأجسادنا التي هي له (١كورنثوس ٦: ٢٠). ويجب أن تخضع عقولنا لتعليمه وضمائرنا لأوامره وتكون قلوبنا وأعمالنا موافقة لإرادته والعبودية للمسيح لا تبطل حريتنا لأنها عبودبة للحق والقداسة اللذين يكون بهما خيرنا وصلاحنا وسعادتنا. إن يسوع ربنا لأنه إلهنا ولأنه فادينا وقد فدانا بدمه الكريم (١بطرس ١: ٢ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ٢٠). فقد قال الكتاب «لِهٰذَا مَاتَ ٱلْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى ٱلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (رومية ١٤: ٩).
وكوننا عبيد المسيح يستلزم أن نكون مرتبطين معاً برباط واحد مع جميع عبيده ولا سيما لأن الرباط بيننا وبين المسيح قلبي لا خارجي فقط فمحبي سيد واحد لا يمكنهم إلا أن يحب بعضهم بعضاً.
إِيمَانٌ وَاحِدٌ موضوعه الرب الواحد وهذا هو الرباط الخامس من ربط الوحدانية. وكثيراً ما جاء الإيمان في الإنجيل بمعنى موضوعه أي المؤمن به ومن ذلك قوله «كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ ٱلَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ ٱلآنَ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ» (غلاطية ١: ٢٣). وقوله كان «جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ» (أعمال ٦: ٧). وقوله «أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ ٱلإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهوذا ٣).
إنه يصدق على من يقرون إقراراً واحداً في الدين أنهم أهل إيمان واحد ولكن المؤمنين الحقيقيين لا يقتصرون على الاعتراف الشفاهي بالإيمان الواحد بل يعتقدون قلبياً كل ما هو جوهري للتقوى وللخلاص. إن كون وحدة الإيمان في الكنيسة تامة يستلزم أن يكون لجميع الأعضاء معرفة تامة وقداسة تامة والكنيسة تتقدم دائماً إلى نحو هذا الغرض وتدركه في السماء فما اتفقت عليه الآن الكنيسة الحقيقية هو أن الكتاب المقدس كلمة الله وقانون الإيمان والسيرة وأن يسوع المسيح هو ابن الله وأنه موضوع المحبة والعبادة ووجوب الاتكال على موته لأجل الفداء وعلى روحه لأجل التقديس.
مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ بها يدخل المؤمنون في العهد مع المسيح وبعضهم مع بعض ولا إشارة هنا إلى طريق استعمال الرسم الخارجي مثل كونه تغطيساً أو رشاً أو سكباً أو كونه للبالغين أو للأطفال فالمراد أن كل المعتمدين بالمعمودية المسيحية وقفوا أنفسهم للإله الواحد واعترفوا اعترافاً واحداً وتعاهدوا تعاهداً واحداً لربهم وفاديهم وعلى ذلك قال الرسول «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٧ و٢٨).
٦ «إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ».
ملاخي ٢: ١٠ و١كورنثوس ٨: ٦ و١٢: ٦ رومية ١١: ٣٦.
إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ إنه كذلك لجميع الناس باعتبار كونه خالقهم وحافظهم ولكنه للكنيسة حق خاص بأن تدعو الله إلهها وأباها لأنه ليس لها إله بعيد بل قريب يُظهر كل صفاته لها ويعتني بها بمحبة الوالد لولده.
لا ذكر في هذه العبارة للثالوث على وجه التصريح لكننا نرى الكلام موافقاً له لأنه ذُكر فيها روح واحد ورب واحد وآب واحد ووحدة الكنيسة مبنية على اعتقاد أن لنا أباً واحداً ورباً واحداً وروحاً واحداً. وحياة الكنيسة الروحية ناشئة عن حياة الله في قلوب أعضائها إن حياة المسيح والمؤمنين به واحدة وحياة المسيح وحياة الله واحدة فإذاً وحدة الكنيسة قائمة لا باتحادها بالمسيح فقط بل بالله المثلث الأقانيم فجاء في الكتاب «الروح يسكن في المؤمنين والمسيح يسكن فيهم» وهذا على وفق قول المسيح «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١).
ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ كلام الرسول هنا مقصور على نسبة الله إلى الكنيسة فلم يشر إلى سياسته للعالم وعنايته بالبشر عموماً. إن الله الآب هو على كل المؤمنين لأنه ملكهم ومرشدهم وحاميهم «وبالكل» لأن الكنيسة هيكله الذي يسكن فيه «وفي الكل» لأنه حاضر في كل أجزاء الكنيسة وفاعل في كلها بروحه. فكما أن حياة الإنسان في جسده كله وهي مؤثرة في كل أجزائه كذلك الحياة التي أنشأها المسيح في الكنيسة تبلغ كل عضو منها. وأعظم ما يطلب للكنيسة هو أن تمتلئ بالله كما امتلأ هيكل أورشليم بمجده يوم «تدشينه» (٢أيام ٧: ١ و٢). ولأن حضور روحه فيها هو مجدها ومؤكد دوامها وكمالها وسعادتها. والغاية التي قصدها الرسول من ذلك واضحة وهي وجوب أن يكون كل المؤمنين واحداً لأن الإله الذي يسكن في قلوب الكل ويعمل في الكل هو واحد.
٧ «وَلٰكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١٢: ٣ و٦ و١كورنثوس ١٢: ١١
هذه الآية تبيّن أن وحدة الكنيسة وتساوي أعضائها لا يمنعان من أن تكون المواهب التي أُعطيتها متنوعة وقد ذكر ذلك بالتفصيل في الأصحاح الأول من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس فأبان أنه كما أن الإنسان جسد واحد وله أعضاء كثيرة مختلفة في الهيئة والرتبة والعمل وأن الله عيّن لكل عضو موضعاً وعملاً كذلك الكنيسة الكثيرة الأعضاء فإن المسيح عيّن فيها موضعاً لكل عضو ومقامه ومواهبه وأعماله.
لٰكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أي لكل عضو على حدته. هذا مع ما نُسب إلى الجميع من الوحدة فلا أحد من الأعضاء يُترك في توزيع المواهب وكل مكلف باستعمال موهبته لنفع الجميع.
أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ أي الموهبة الروحية الإلهية الفعالة المجانية وهي مع كونها واحدة في حقيقتها متنوعة في صورها حسب ما وُكل إلى كل مؤمن من العمل. وهذه النعمة جعلت البعض رسلاً والبعض أنبياء مبشرين.
حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ التي استحسن أن يهبها لكل مؤمن. إن المعطي هو الرب يسوع المسيح وهو الله مصدر الحياة والقوة في الكنيسة وخدمها تلك النعمة منذ يوم صعوده (ع ٨). وقياس هبته ليس استحقاقهم ولا قابليتهم ولا شدة طلبهم بل مجرد مسرته فجعل بولس رسولاً مع أنه كان «مجدفاً ومسيئاً». فتوزيع المواهب الذي نُسب إلى المسيح هنا نُسب إلى الروح القدس في (١كورنثوس ١٢: ١١) ولكن لا تناقض في ذلك لأن المسيح والروح القدس أقنومان في لاهوت واحد فما يُنسب إلى أحدهما يُنسب إلى الآخر. ولنا من هذه الآية أنه يجب على كل مؤمن أن يقتنع بالخدمة التي عُيّن لها ولا يحسد من فوقه أو يحتقر من دونه. ويستلزم ذلك وجوب المواساة للذين هم أعضاء في الجسد الواحد بمقتضى القانون الذي هو «إِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأََعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأََعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ» (١كورنثوس ١٢: ٢٦)
٨ «لِذٰلِكَ يَقُولُ: إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا».
مزمور ٦٨: ١٨ قضاة ٥: ١٢ وكولوسي ٢: ١٥
ما قاله الرسول في الآية السابعة من أن الرب يسوع المسيح هو مصدر الحياة والقوة للكنيسة وموزع المواهب عليها برهن في هذه الآية على أنه موافق لما أُعلن في كتاب الله. واقتبس من المزامير ما يثبت أن المسيح كظافر راجع من الحرب بغنائم كثيرة يوزع الهدايا على الناس.
لِذٰلِكَ يَقُولُ الكتاب أو الله المتكلم فيه. والمقول هنا مقتبس من المزمور الثامن والستين فاتخذه الرسول نبوءة بانتصار المسيح عند صعوده مع أنه قيل أولاً في الإتيان بالتابوت إلى جبل صهيون بعد محاربة شعب الله لأعدائه وحق له ذلك لأن كل الأمجاد التي كانت متعلقة بالتابوت واحتفالاته وانتصارات داود وسليمان الجزئية لم تكن سوى رموز ونبوءات بانتصارات ابن الله في عمل الفداء المجيد.
فما نسبه بولس إلى المسيح نُسب في المزمور إلى الله وهذا موافق لما مرّ من أن كثيرين من الأعمال المنسوبة إلى يهوه في العهد القديم نُسبت إلى المسيح في الإنجيل ومن ذلك قول موسى إن يهوه قاد شعبه في البرية (خروج ١٣: ٢١) وجاء في الإنجيل أن المسيح قاد ذلك الشعب (١كورنثوس ١٠: ٤). وقال إشعياء أن مجد يهوه ظهر له في الهيكل (إشعياء ٦: ١) وقال يوحنا البشير إن الذي رآه إشعياء هو مجد المسيح (يوحنا ١٢: ٤١). وما قيل في العهد القديم على لسان يهوه وهو قوله «بِذَاتِي أَقْسَمْتُ. خَرَجَ مِنْ فَمِي ٱلصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجِعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ. يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ» (إشعياء ٤٥: ٢٣) قاله بولس في المسيح إذ اتخذه برهاناً على أننا نقف أمام عرشه فقال «إِنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: َنَا حَيٌّ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ ٱللّٰهَ» (رومية ١٤: ١٠ و١١). وما قيل في الله باعتبار كونه خالقاً غير متغير في (مزمور ١٠٢: ٢٥) قيل في المسيح في (عبرانيين ١: ١٠). وبمقتضى ذلك إرشاد الروح القدس ما قيل في المزمور الثامن والستين في شأن يهوه صاعداً في صهيون نُسب هنا إلى المسيح صاعداً إلى السماء.
صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ ما جاء في المزمور في صيغة الخطاب إذ قيل «صعدت الخ» جاء هنا في صيغة الماضي فإن الإشارة في الأصل إلى صعود شعب الله منتصراً إلى جبل صهيون بقيادة ملكهم يهوه الحاضر معهم غير منظور وهي هنا إلى المسيح صاعداً إلى السماء.
سَبَى سَبْياً المشار إليه بهذا أصلاً الأسرى في الحرب حقيقة والمشار إليه هنا انتصار المسيح على الموت وعلى الذي له سلطان الموت أي الشيطان (عبرانيين ٢: ١٤ و١٥). وما أراده الرسول بقوله في المسيح «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٥). وما أراده المسيح بقوله «إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ» (لوقا ١١: ٢٠ – ٢٢). فيكون أسرى المسيح الذين سباهم أعداءه الذين هو يسحقهم كالشيطان والخطيئة والموت أو الذين كانوا أعداءه من البشر فخطفهم من قوة الشيطان وفداهم بنعمته وجعلهم شعبه إتماماً لقول النبوءة «شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ» (مزمور ١١٠: ٣).
وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا وفي الأصل العبراني «قبلت عطايا بين الناس» فسعى المفسرون بطرق كثيرة في أن يجدوا الموافقة بين القولين وأحسن ما قالوه أن المرنم ذكر الأمر الواقع وهو أخذ العطايا وأن الرسول ذكر غاية ذلك الأخذ وهو أن يعطي الناس. إن الملك الظافر يوزع الغنائم التي يأخذها فيأخذ حتى يعطي فلاحظ بولس قصد المسيح المنتصر من أخذ الغنائم فذكره بدلاً من الأخذ والمعنى واحد فالمسيح هو الغالب والآخذ الغنائم الكثيرة والقادر أن يُغني جنوده.
٩، ١٠ «٩ وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ ٱلأَرْضِ ٱلسُّفْلَى. ١٠ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ ٱلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ ٱلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ ٱلْكُلَّ».
يوحنا ٣: ١٣ و٦: ٣٣ و٦٢ أعمال ١: ٩ و١١ و١تيموثاوس ٣: ١٦ وعبرانيين ٤: ١٤ و٧: ٢٦ و٨: ١ و٩: ٢٤ أعمال ٢: ٢٣
غاية الرسول من هاتين الآيتين أن يبرهن أن ما اقتبسه من المزمور يصدق على المسيح والبرهان أن صعود الله المذكور مع كونه واهب العطايا الروحية يستلزم أنه نزل قبلاً وأن الصعود المذكور ليس سوى رجوع من كان وطنه السماء إليها. وهذا على وفق قول المسيح في نفسه «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣) صرّح بولس هنا أن الذي نزل هو يسوع ابن الله وينتج من ذلك أنه هو الذي صعد. نعم إنه ذُكر في التوراة مراراً نزول الله وصعوده وانتصاراته لكن لم يتم في شيء من ذلك ما قُصد بما في المزمور الثامن والستين ولا في غيره من مرار صعوده ونزوله وانتصاره على أعدائه لأن تلك كلها لم تكن إلا رموزاً إلى ما سيفعله المسيح. وما قيل في ذلك على نزول الله كان رمزاً إلى مجيء المسيح إلى الأرض متجسداً. وما ذُكر فيه من أمر الصعود كان رمزاً إلى قيامته من القبر وصعوده إلى السماء.
وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضا أي إن القول الأول يستلزم الثاني أي أن صعوده يستلزم سبق نزوله إياه.
إِلَى أَقْسَامِ ٱلأَرْضِ ٱلسُّفْلَى قد يقصد بهذا الأرض نفسها بالنظر إلى السماء ومن ذلك قول النبي «تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَعَلَ. اِهْتِفِي يَا أَسَافِلَ ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٤: ٢٣). وقد يُراد به القبر في (مزمور ٦٣: ٩). وقد يستعار في الشعر العبراني للرحم (مزمور ١٣٩: ١٥) وقد يرُاد به دار الأموات في (حزقيال ٣٢: ٢٤) والقرينة تدل على أن المُراد به في هذه الآية المعنى الأول فيكون المعنى أن الذي صعد إلى السماء هو الذي نزل إلى الأرض ليلبس طبيعتنا البشرية.
اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ ٱلَّذِي صَعِدَ أي أن الذي نزل إلى الأرض وأخذ طبيعتنا هو الذي صعد لا سواه.
فَوْقَ جَمِيعِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي أعلى ما يمكن من الارتفاع. وكثيراً ما عبّر العهد القديم عن السماء بصيغة الجمع فجرى بعض كتبة العهد الجديد مجراهم فذكر بولس السماء الثالثة (٢كورنثوس ١٢: ٢) إذ اعتبر الجو سماء واحدة وسماء الكواكب سماء ثانية ومسكن الله سماء ثالثة.
ومعنى العبارة أن المسيح فوق كل البرايا المنظورة وغير المنظورة «سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين» فهذه كلها خضعت للمسيح حين قام.
لِكَيْ يَمْلَأَ ٱلْكُلَّ أي ليملأ المسيح السماء والأرض بحضوره وآيات قدرته وعمل روحه ويسود على الكل بحكمته وعنايته. وهذا موافق لقوله «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأََرْضِ» (متّى ٢٨: ١٨ انظر أيضاً فيلبي ٢: ٩ و١٠ ورؤيا ٥: ١٣).
وليس المقصود إن جسد المسيح المتجسد يوجد في كل مكان كما زعم بعضهم بل الذي يوجد كذلك هو ابن الله الذي صعد إلى السماء وقد تسربل طبيعتنا فهو حاضر في كل مكان بلاهوته وفي المكان الذي يشاءه بناسوته.
١١ «وَهُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ».
١كورنثوس ١٢: ٢٨ وص ٢: ٢٠ أعمال ٢١: ٨ و٢تيموثاوس ٤: ٥ أعمال ٢٠: ٢٨ رومية ١٢: ٧
أفضل المواهب التي وهبها المسيح بعد صعوده للكنيسة هي الخدم الأمناء فهم هبة إلهية كالمواهب التي أعطوها وهم مختلفون بالمقامات والأعمال وكل ذلك ضروري لوحدة الكنيسة وبنيانها وامتدادها.
رُسُلاً هم الذين أرسلهم المسيح وكانوا شهود عين بسيرته ومعجزاته وقيامته وكانوا معصومين في تعليمهم وسياستهم للكنيسة بناء على ما كان لهم من الوحي والسلطان الذي أعطاهم إياه المسيح (انظر تفسير ١كورنثوس ١٢: ٢٨).
أَنْبِيَاءَ هم الذين كلم الله الناس بهم سواء كان كلامهم تعليماً أو تحذيراً أو إنباء بما في المستقبل فكل من تكلم بالوحي نبي. والفرق بين أنبياء العهد الجديد والرسل أن إلهام الأنبياء كان وقتياً وإلهام الرسل كان دائماً وأن سلطة الأنبياء في التعليم كان دون سلطة الرسل (انظر ١كورنثوس ص ١٤ وتفسير ١كورنثوس ١٢: ٢١). ومن الواضح أن إعطاء المسيح الكنيسة الرسل والأنبياء وإعطاءه إياهم سلطاناً على تعليم الكنيسة وسياستها يستلزمان إعطاءه إياهم المواهب الباطنة الضرورية لتكميل عملهم السامي ذي الشأن.
مُبَشِّرِينَ هم المرسلون للمناداة بالإنجيل حيث يجهله الناس فيجولون بالبشرى من مكان إلى آخر ومنهم فيلبس (أعمال ٢١: ٨) وتيموثاوس في أول خدمته للكنيسة (٢تيموثاوس ٤: ٥) وغلب أن يكون المبشرون مساعدين للرسل على أعمالهم.
رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ الأرجح أن الرعاة المعلمون أيضاً فليس بصنفين مختلفين والفرق بينهم وبين المبشرين أنهم مخصصون لخدمة كنائس معينة فكانوا يبشرون الذين يعرفون الإنجيل ويقيمون بالمواضع التي فيها كنائسهم ولا يجولون كالمبشرين. وسموا «رعاة» لأنهم أشبهوا رعاة الغنم بإرشاد جماعاتهم وعنايتهم بهم وإقالتهم بالأسرار. وسموا «معلمين» لتعليمهم الناس الإنجيل.
١٢ «لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ١٢: ٧ و١كورنثوس ١٤: ٢٦ وص ١: ٢٣ وكولوسي ١: ٢٤
بعدما ذكر الرسول الذين عينهم المسيح لخدمة الكنيسة ذكر غاية تعيينهم وهي ثلاثة أمور ويعسر علينا أن نحكم بأنه هل كان كل من هذه الأمور موضوعاً خاصاً أو هل كان كلها موضوعاً واحداً عبر عنه بالثلاثة ولكن بمقابلة هذه الآية بالتي بعدها يتضح أن أولها في الذكر هو تكميل القديسين هو الغاية العظمى وأن تعيين خدم الكنيسة للبنيان هو الواسطة إلى تلك الغاية.
لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ أي ليدرك أعضاء الكنيسة كل ما يحتاجون إليه ليكونوا كاملي المعرفة والقداسة والمحبة وهم كانوا كاملي التبرير حين آمنوا بدليل قوله «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٠) وقوله «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين ١٠: ١٤) ولكنهم كانوا بالنظر إلى معرفتهم ومحبتهم وإرادتهم وسلوكهم ناقصين وفيهم شكوى ومخاوف كثيرة فاحتاجوا إلى خدمة الرعاة وإلى مثل صلاة الرسول «لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ» (ص ٣: ١٦).
لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ أي أن الله عيّن من ذُكروا من الرسل والأنبياء وغيرهم لأجل تكميل القديسين. ولما كانت حاجات شعب الله مختلفة وكنوز الحكمة والنعمة في الإنجيل متنوعة أعطاهم مواهب مختلفة للقيام بتلك الحاجات وإعلان ما في تلك الكنوز.
لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ أي أن الله عيّن خدمه في الكنيسة بغية نموها وتقويتها لكي يكمل بواسطتهم القديسين. وخلاصة هذه الآية أن المسيح عيّن لتكميل آله أولئك الخدم ليخدموهم وتنجح الكنيسة التي هم من أعضائها. فطلب بنيان الكنيسة بدون الخدم الذين عينهم الله لها عبث وكذا توقع تكميل أفراد المؤمنين بدون الكنيسة وخدمها.
ولنا من ذلك أن نجاح الكنيسة غير متوقف على كثرة عدد أعضائها ولا على عظمة هياكلها التي هي معابد أعضائها ولا على الأموال التي في خزانتها ولا على بهاء احتفالاتها بل على قداسة أفراد أعضائها ومعرفتهم ونفعهم لغيرهم ومماثلتهم للمسيح.
١٣ «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ».
كولوسي ٢: ٢ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ وكولوسي ١: ٢٨ متّى ٦: ٢٧
في هذه الآية جواب سؤال هو إلى متى تبقى الكنيسة مع خدَمها لكي يبنوها ويتعبوا في تقديس رعيتها. ونتعلم من الجواب أن الكنيسة المسيحية ليست نظاماً وقتياً فهي تبقى حتى تبلغ غاية عبّر عنها الرسول بثلاثة أمور ليس لها سوى معنىً واحد جوهري أولها وحدة الإيمان والمعرفة وثانيها الإنسان الكامل وثالثها قياس قامة ملء المسيح.
إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا أي كل شعب المسيح قديسيه وأعضاء جسده (ع ١٢) وقال «جميعنا» لأنه واحد منهم فلم يحسب أنه بلغ الكمال (فيلبي ٣: ١٢).
وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ إن المسيح موضوع كل من الإيمان والمعرفة فيجب على أعضاء الكنيسة لكي يدركوا هذه الوحدانية أن يكونوا كاملي المعرفة والقداسة.
إن المعرفة والإيمان في الإنجيل قد يفيدان معنى واحداً وقد يكون معنى خاص فيمكن أن نحصل على المعرفة بدون الإيمان ولكن لا يمكننا أن نحصل على الإيمان بدون المعرفة بدليل قول الرسول «كَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ» (رومية ١٠: ١٤) فإننا بمعرفتنا المسيح ندرك أنه ذو طبيعة إلهية وأنه نبي وكاهن وملك وأنه مات عن البشر وقام وجلس عن يمين المجد في السماء. وبالإيمان نتمسك به باعتبار أنه مخلصنا وقد فدانا بدمه ونتكل عليه ونحبه ونعبده.
جاء في الآية الخامسة أن للمؤمنين «إيماناً واحداً» وقيل هنا أنهم سينتهون إلى وحدانية الإيمان فعجب بعضهم من أن الكنيسة لا تبلغ من غايتها إلا ما كان لها في بداءتها. فالكنيسة مع أن لها إيماناً واحداً في الجوهريات ليست متحدة بالإيمان في كل عقائدها فهي مع أنها جسد واحد لم تنل ما طلبه لها المسيح من الوحدانية بقوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١). فالمؤمنون على درجات مختلفة من المعرفة في الأمور الإلهية فاخلتف إيمانهم باختلاف معرفتهم فلا يمكنهم أن يبلغوا إلى وحدانية الإيمان حتى يعرفوا موضوع إيمانهم المسيح وإنجيله تمام المعرفة ويخلصوا به.
ٱبْنِ ٱللّٰهِ عبّر عن المسيح هنا بابن الله باعتبار كونه كذلك موضوع إيمان المؤمنين ومعرفتهم. وفي ذلك تصريح بأن طبيعته هي طبيعة الآب وصفاته صفاته وإكرامه إكرامه. فالذين لا يعرفون أن المسيح ابن الله لا يمكنهم أن ينالوا الحياة الأبدية بواسطته لأنه بدون معرفة أنه إله لا يمكنهم أن يتكلوا عليه أن يفديهم من الخطيئة والموت والدينونة ويرفعهم إلى القداسة والسعادة والسماء.
إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ أي أن يبلغوا الكمال الذي دعاهم الله إلى بلوغه وقصد أن ينالوه وهو الامتثال لأوامر الله في كتابه. والكاملون هم الذين في قوله «َكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين ١٢: ٢٣). إن المؤمنين في أول أمرهم أطفال في المسيح فقال الرسول «إن الله عيّن البعض رعاة ومعلمين الخ» لكي يصير الأطفال بخدمتهم أناساً كاملين في المعرفة والحكمة والثبات والغيرة للمسيح (١كورنثوس ١٢: ٢٨).
إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ هذا تفسير للإنسان الكامل أفراداً وللكنيسة إجمالاً وهو ما يجب على كل مؤمن في الكنيسة أن يناله وهو البلوغ في الحياة الروحية. وقياس هذا البلوغ هو ملء المسيح والمعنى البلوغ إلى صلاح كصلاح المسيح أو الصلاح الذي هو يمنحه. وهذا يشبه قوله قبلاً «لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ١٩). والمطلوب من ذلك التمثل بالمسيح في كل شيء حتى نكون كاملين كما أنه هو كامل. ومتى سكن المسيح في قلب المؤمن بالإيمان وصار المؤمن كامل المعرفة بالمسيح والإيمان به فحينئذ يمتلئ بملء المسيح وهو الغاية المقصودة؟ فإن قيل متى يتم ذلك قلنا جواب الإنجيل حين نبلغ السماء. فعلينا أن نطلب الكمال في كل يوم وساعة نسعى في سبيله. فالوعد في الكتاب أن المسيح في مجيئه الثاني «يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (ص ٥: ٢٧). ومثل ذلك قوله «مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (٢تسالونيكي ١: ١٠).
١٤ «كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ ٱلنَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ ٱلضَّلاَلِ».
إشعياء ٢٨: ٩ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ عبرانيين ١٣: ٩ متّى ١١: ٧ رومية ١٦: ١٨ و٢كورنثوس ٢: ١٧
هذه الآية متعلقة بالآية الرابعة عشرة لبيان غاية خدم الدين. وما قيل في هذا الموضوع في الآية الثالثة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة على طريق الإيجاب قيل هنا على طريق السلب.
كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً إن الأطفال سريعو التقلب والانخداع وقد شُبه المؤمنون بالأطفال في عدة مواضع في الكتاب (متّى ١٢: ٢٥ ولوقا ١٠: ٢١ و١كورنثوس ٣: ١ وعبرانيين ٥: ١٣).
مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ شبههم بالأطفال بياناً لتقلبهم ولهذا شبههم بسفينة لا ربان لها ولا خيزرانة تلعب بها الأمواج وتقلبها وتحملها الرياح تارة إلى هنا وتارة إلى هناك. وهذا كقوله «لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَوِّعَةٍ وَغَرِيبَةٍ» (عبرانيين ١٣: ٩) وقول يعقوب الرسول «لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ، لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ» (يعقوب ١: ٦).
بِحِيلَةِ ٱلنَّاسِ إن الأطفال عرضة للانخداع باحتيال الماكرين. والحيلة هنا في الأصل من احتيال لاعب النرد ليأتي الكعب بالعدد الذي يريده وقصده بذلك الاحتيال على الناس لسلب ما لهم فالمعلمون الكاذبون يستعملون الأدلة السفسطية ليخدعوا المؤمنين الذين هم كالأطفال في البساطة فيضلوا عن طريق الحق.
بِمَكْرٍ أي احتيال المعلمين الكاذبين لغاية خبيثة ضارة مهلكة. ونُسب المكر إلى الشيطان في (ص ٦: ١١). وأصل المكر إبليس عدو الحق والله والناس ومعلم كل الضالين والماكرين وقد حذر بولس مشائخ أفسس من مثل هؤلاء بقوله «لأَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ» (أعمال ٢٠: ٢٩ و٣٠) وحذر الكورنثيين من مثله (٢كورنثوس ١١: ٣).
إِلَى مَكِيدَةِ ٱلضَّلاَلِ قال هذا بياناً وتقريراً لخداع المعلمين المفسدين فهم كالوحوش الضارية لكن فرائسهم ليست سوى نفوس الناس (رؤيا ١٨: ١٣). فالذين يدرسون كتاب الله بإخلاص ويطلبون إرشاد الروح القدس هؤلاء يُحفظون من حيلة المضلين ومكرهم ومكيدتهم.
١٥ «بَلْ صَادِقِينَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ».
زكريا ٨: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٢ وع ٢٥ ويوحنا ٣: ١٨ ص ١: ٢٢ و٢: ٢١ كولوسي ١: ١٨
بَلْ صَادِقِينَ أي ثابتين في الحق معترفين به محبين له تابعين إياه وهذا عكس كونهم أطفالاً مضطربين ومحمولين الخ. والكلمة اليونانية المترجمة بالصادقين تعني حقّيين أي محبي الحق وتابعيه والمتمسكين به والمعترفين به. والحق الذي هم ثابتون فيه هو حق الله المعلن في إنجيله.
فِي ٱلْمَحَبَّةِ أي مظهرين المحبة للذين يشهد لهم بالحق فإنه يمكننا أن نتمسك بالحق ونعلنه بروح البغض لمن لا يعتقدونه مثلنا فيمكننا أن نتكلم على الحق بخشونة حتى يكرهه السامعون فإن شهدنا بالحق للضالين عنه وجب أن ننذرهم بلطف ورقة ورغبة في خلاص نفوسهم فإذا تكلمنا مع الأشرار أو أخبرناهم بعقاب الله وجب أن لا نتكلم كأننا سُررنا بأنهم يعاقبون بل برغبة شديدة في أن يرجعوا وينجوا من العقاب متمثلين بالمسيح الذي بكى على أورشليم حين أنذرها بالخراب الآتي عليها لعصيانها. إنه يعسر علينا أن نقنع أحداً بأنه ضال قبل أن نقنعه أولاً بأننا نحبه.
نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ مما يمكن النمو فيه كالإيمان والمعرفة والصدق والمحبة ولا يمكن أن ينمو سوى الحي فالمتحدون بالمسيح أحياء به فينمون.
إِلَى ذَاكَ أي المسيح ومعنى العبارة إنّا نتمثل به تماماً. وهذا هو الإنسان الكامل وقياس قامة ملء المسيح على ما ذُكر آنفاً (ع ٣).
ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ كون المسيح رأسنا وكوننا متحدين به كل الاتحاد يستلزمان أن نكون متمثلين به نامين في شبهه. وقد سبق أن المسيح رأس المؤمنين أفراداً على وفق قوله «أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ» (١كورنثوس ١١: ٣) وأنه رأس الكنيسة إجمالاً كقوله «وَإِيَّاهُ (أي المسيح) جَعَلَ (الله) رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ» (ص ١: ٢٢).
١٦ « ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ».
كولوسي ٢: ١٩
في هذه الآية أربعة أمور تتعلق بالكنيسة التي هي جسد المسيح والمسيح رأسها:
الأول: إن نموها من المسيح لأنه مصدر حياتها وقوتها.
الثاني: إن نموها متوقف على اتحاد كل أجزاء الجسد بالرأس بواسطة ربط مناسبة.
الثالث: إن نموها متناسب متعادل.
الرابع: إن ذلك النمو لا يكون بدون المحبة.
ٱلَّذِي مِنْهُ أي من المسيح الرأس ومصدر كل حياة ونمو ونشاط.
كُلُّ ٱلْجَسَدِ أي الكنيسة. إن الكنيسة مؤلفة من مؤمنين كثيرين متحدين معاً فهي تشبه بناء مركباً من حجارة كثيرة (ص ٢: ٢١ و٢٢) والجسد لأنه مركب من أعضاء كثيرة (١كورنثوس ١٢: ١٢).
مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً أي أن النسبة بين أعضاء الكنيسة والمسيح رأسها وبين كل مؤمن وآخر صارت بالحكمة الإلهية وبتعيين خدمها من رعاة ومعلمين تؤول إلى نموها الروحي وجمالها وقوتها ودوامها وكمالها كما أن تركيب الأعضاء في الجسد البشري موافق بالنسبة إلى الرأس وكل عضو للحركة والصحة والسعادة والجمال والنشاط. ولسنا بقادرين على فرض تغيير في وضع الأعضاء يزيد به راحة الجسد وقوته وجماله ولا نستطيع أن نجد نقصاً في الترتيب الذي عيّنه الله لكنيسته.
بِمُؤَازَرَةِ أي بمساعدة وهي هذه القوة الروحية التي ينالها كل عضو في الكنيسة من المسيح مصدر الحياة ويوصلها إلى غيره من الأعضاء فهي تشبه الحياة الطبيعية التي تنشأ من رأس الجسد البشري وتمتد من عضو إلى عضو حتى تبلغ كل الأعضاء للتنشيط والنمو. وهذا موافق لقوله «أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي ١: ١٩). ويساعدنا على فهم هذه الآية مقابلتها بقوله في موضع آخر «غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ» (كولوسي ٢: ١٩). ومن الواضح أن المؤزارة المذكورة هنا هي الحياة الروحية تجري من المسيح بواسطة الروح القدس إلى كل الكنيسة التي هي جسده. ولعل الإشارة بقوله «كل مفصل» إلى المواهب الروحية وأصحابها الذين جعلهم المسيح وسائط إلى تبليغ هذه النعمة الإلهية منه إلى شعبه. وربما لم يشر بالمفصل إلا إلى ارتباط بعض المؤمنين ببعض.
حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ هذه العبارة إما متعلقة «بمقترناً» أو «بمؤزارة» أو «بالنمو» في آخر الآية والأولى تعليقها بما قبلها لا بما بعدها. وأن نفهم من لفظة «عمل» التأثير الإلهي الذي يجري من المسيح الرأس إلى الأعضاء. وفي قوله «على قياس كل جزء» إشارة إلى القوة المعطاة لكل عضو أو لكل خادم من خدم الكنيسة لينال هذه النعمة الإلهية ويكون وسيلة إيصالها إلى غيره من أعضاء الكنيسة حتى لا يُترك جزء منها ولا يأخذ أكثر من المعدل لئلا يتشوش التناسب والتعادل. وهذا موافق لقوله «هُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً… وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ» (ع ١١). وهو يفيدنا أن هؤلاء هم الوسائط البشرية التي عيّنها الله في كنيسته لتوزيع تأثيرات الروح القدس بواسطة تعليمهم حقائق إنجيله.
يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ أي يحصل الجسد نموه ففاعل يحصّل ضمير يعود إلى الجسد في أول الآية ووضع هنا المظهر (أي الجسد) بدل المضمر لدفع الالتباس ولبعده عن مرجعه. والآية تدل أن نتيجة كل هذا التركيب الذي عيّنه الله فهي نمو الكنيسة أي تقدمها إلى الغاية التي هي الكمال. ولهذه الغاية هي مركة ومقترنة معاً ومقتانة بالقوة الآتية من رأسها الإلهي. وقد أُعطي كل من أجزائها حياة ونعمة حسب احتياجه باتصالها بالمسيح وارتباط بعضها ببعض وبذلك تنمو كلها.
لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ لأن المحبة شرط النمو والبنيان اللذين يرغب المسيح فيهما على وفق قول الرسول «المحبة تبني» (١كورنثوس ٨: ١) وقوله «المحبة… رباط الكمال» (كولوسي ٣: ١٤). فبالمحبة الذين جُمعوا في الكنيسة تعاهدوا وبالمحبة صار اتحادهم مأموناً ومثمراً. ونمو الكنيسة في شبه المسيح يستلزم أن تكون ممتلئة محبة وأن تكون أعمالها كلها مظهر المحبة حتى تكون كالذي اسمه محبة.
حث الأفسسيين على القداسة وغيرها من الفضائل بناء على مقتضى الفرق الواجب بين الإنسان العتيق والإنسان الجديد ع ١٧ إلى ٣٢
إن الرسول أوجب على الأفسسيين بناء على ما تقدم أن لا يسلكوا كالأمم (ع ١٧ – ١٩) بل كما علمهم المسيح وعلى ذلك أمرهم بأن يخلعوا الإنسان العتيق ويلبسوا الجديد متمثلين بالمسيح في كل شيء (ع ٢٠ – ٢٤) معتزلين الكذب متكلمين بالحق (ع ٢٥ ). ممتنعين عن الغضب لئلا ينتصر عليهم الشيطان مبتعدين عن السرقة راغبين في الدأب والسخاء (ع ٢٨) متنزهين عن الهُجر ناطقين بما يؤول إلى البنيان لئلا يغيظوا الروح القدس (ع ٢٩ و٣٠) محسنين ومسامحين كما يليق بأهل الله (ع ٣١ – ص ٥: ٢).
١٧ «فَأَقُولُ هٰذَا وَأَشْهَدُ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ ٱلأَُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ».
ص ٢: ١ إلى ٣ وع ٢٢ وكولوسي ٣: ٧ و١بطرس ٤: ٣ رومية ١: ٢١
أثبت الرسول في ما سبق إن المسيح عيّن كنيسته للتمثل به في كل شيء وأنه رتب الوسائل المؤدية إلى ذلك فصرح هنا بأنه على المؤمنين أن يسلكوا بمقتضى دعوتهم السامية.
فَأَقُولُ هٰذَا بناء على ما قلته سابقاً.
وَأَشْهَدُ فِي ٱلرَّبِّ وأدعو الرب شاهداً بصدق ما أقوله وأهميته. وقال «في الرب» لأنه كان عالماً حينئذ فكر الرب ومشيئته وأنه موكل أن يتكلم باسمه وسلطانه.
أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ ٱلأُمَمِ المقصود «بالسلوك» هنا سيرة الإنسان الذي يكون عمله ظاهراً دليلاً على باطنه فيشمل السلوك فوق تصرف الإنسان علناً حياة النفس السرية أمام خالقها. فنهى مؤمني أفسس عن الرجوع إلى عوائدهم وأعمالهم قبل تنصرهم وعن أن يسيروا سيرة الأمم المعاصرة.
بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ أي آرائهم ومقاصدهم وعواطفهم وضمائرهم وسائر قوى أنفسهم. وندر أن يميز الكتاب بين العقل الذي يعلم والقلب الذي يشعر أي أنه ينسب إلى القلب ما ينسبه إلى الذهن وبالعكس. وكما عبر «بالذهن» هنا عن كل قوى النفس كذلك عبر به في (رومية ٧: ٢٣ و٢٥). فمراده «يبطل ذهنهم» إنهم استعملوا عبثاً القوى التي وهبها لهم الله ليعرفوا لحق ويتمسكوا ويعرفوا لله ويعبدوه ويفضلوا القداسة على الخطيئة فأنفقوا تلك القوى الثمينة على أمور لا تستحق أن تطلبها النفس الخالدة. وكُتب سفر الجامعة بياناً لكون حياة الإنسان المنفصل عن الله «باطل الأباطيل». ومثله قول النبي «لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ» (إشعياء ٥٥: ٢).
١٨ «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ لِسَبَبِ ٱلْجَهْلِ ٱلَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غَلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ».
أعمال ٢٦: ١٨ غلاطية ٤: ٨ وص ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٥ رومية ١: ٢١
هذه الآية تفسير «لبطل ذهنهم» وإثبات له أي أن الأمم سالكون في الظلمة العقلية والظلمة الأدبية لأن أفكارهم مظلمة وهم بعيدون عن الله.
مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ هذا شرح الحال التي سقطوا إليها وكنى «بالظلمة» عن الإنسان المعرّض للضلال والشقاء والخطر. ونُسبت الظلمة إلى فكرهم بياناً لكونها من متعلقات العقل دون العواطف التي هي بعض ما أراده «بالذهن» وقد كلف الإنسان في الوصية «الأولى والعظمى» أن يحب الله من كل فكره (متّى ٢٢: ٣٧).
مُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ إن حياة الله هي الحياة الروحية التي الله مصدرها بمعنى خاص وهو ينشئها بروحه القدوس في المؤمنين بدليل قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأََبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣) والتجنب عن تلك الحياة يستلزم كل الأنفصال عن الله وعدم الاشتراك في الفوائد الناتجة من جريان حياة الله في حياة نفس الإنسان. وهذا التجنب من نتائج إظلام الفكر لأن عميان القلوب لا يمكنهم أن يعرفوا الله ويتقوه ويحبوه ويعبدوه وأول خطوات الرجوع إلى الله ما أشير إليه في قول المسيح لبولس أرسلك إلى الأمم «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ» (أعمال ٢٦: ١٨).
لِسَبَبِ ٱلْجَهْلِ الجهل من نتائج إظلام الفكر وعلة التجنب عن حياة الله فإن البصيرين يدفعون الجهل بالبصر ولكن الذين أفكارهم مظلمة يبقون في جهلهم. إن في المعرفة سعادة وتقدماً وجراء في المستقبل فالذين حُرسوا في الظلمة محرومو السعادة والتقدم وأسرى اليأس. وجهل الأمم اختياري كما بان من (رومية ١: ٢١ – ٢٨). وقوله «متجنبون عن حياة الله لسبب الجهل» يفيد أنهم لو عرفوا الله كما يجب وحاجتهم إليه لم بقوا متجنبين عن حياته بل كانوا قد طلبوه « لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً» كما قال بولس لأهل أثنيا (أعمال ١٧: ٢٧).
بِسَبَبِ غَلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ أي أن هذه الغلاظة علة كونهم متجنبين عن حياة الله. إن الله يدعو الناس إلى الاقتراب منه بلطفه ومعلناته في الخليقة وأعمال العناية وبكتابه المقدس وبروحه في قلوبهم ولكن غلاظتها تمنعهم من سمع صوته والميل إليه. وقد تُنسب في الكتاب غلاظة قلب الإنسان إلى فعل الشيطان (٢كورنثوس ٤: ٤) وقد تُنسب إلى فعل نفسه (خروج ٨: ١٥ و٣٢) وقد تُنسب إلى فعل الله عقاباً على إباءته الحق وعصيانه (خروج ١٠: ١ ويوحنا ١٢: ٤٠).
اختلف المفسرون في تعلق بعض العبارات الأربع في هذه الآية ببعض فربط بعضهم الأولى بالثالثة والثانية بالرابعة. فقال أن معنى الرسول أنهم مظلمو الفكر بسبب جهلهم وأنهم متجنبون عن حياة الله بسبب غلاطة قلوبهم وينافي هذا القول أنه جعل الجهل علة الظلمة والحق أنه نتيجتها وهو يخالف الأسلوب الذي جرى عليه الرسول من أنه يجعل عباراته يتبع بعضها بعضاً كحلقات سلسلة. فالأحسن أن نأخذ المعنى على ترتيب العبارات فيكون المعنى أن الوثنيين سلكوا ببطل ذهنهم لأن أفكارهم مظلمة بتجنبهم حياة الله بسبب جهلهم وغلاظة قلوبهم وعلى هذا يكون إظلام فكرهم علة جهلهم وجهلهم وغلاظة قلوبهم علتين لتجنبهم عن حياة الله. وهذا يوافق قول الرسول «ٱلإِنْسَانَ ٱلطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» (١كورنثوس ٢: ١٤). ولنا من ذلك أن تجديد القلب ضروري للأشواق والعواطف المقدسة فحين يفتح الله عيون القلب يأتي البصر والمعرفة والسرور والمحبة.
١٩ «اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا ٱلْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي ٱلطَّمَعِ».
١تيموثاوس ٤: ٢ رومية ١: ٢٤ و٢٦ و١بطرس ٤: ٣
فَقَدُوا ٱلْحِسّ أي أن ضمائرهم كفت عن أن توبخهم على ارتكابهم الشر أو عن تنهاهم عنه. إن من خواص الضمير إذا استمر الإنسان على مخالفته وترك ما يأمره به وإتيان ما ينهاه عنه عدل عن تبكيته. فالروح القدس يخاصم الإنسان ليحمله على الامتناع عن الخطيئة وعلى الإطاعة لله والعبادة له. ولكن إذا قاوم الروح القدس أغاظه فانصرف عنه وتركه يعمل ما يحمله عليه قلبه الغليظ فيبقى بلا إرشاد ولا إنذار من ذلك الروح السماوي.
أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ الخ هذا نتيجة فقدهم الألم الذي ينشأ عن توبيخ الضمير فقصد الله أن يكون ذلك حاجزاً يمنعهم من التسليم إلى أميالهم الفاسدة فمنزلة ذلك الحس منزلة سد النهر فإنه متى رُفع اندفعت المياه بقوة الثقل. والمقصود «بالدعارة» ارتكاب الخطايا المنافية للعفة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس. والكلمة اليونانية المترجمة بالدعارة أعم منها لأنها تدل عليها وعلى حب المال معاً وهاتان الخطيئتان امتاز بهما الأمم أكثر من غيرهم ولهذا جمعهما الرسول في قوله «ليعملوا كل نجاسة في الطمع» ونهى عنهما بقول «َكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ» وقوله كل «نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ… لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (ص ٥: ٣ و٥) وجمعهما في (كولوسي ٣: ٥ وفي رومية ١: ٢٩ و١كورنثوس ٥: ١٠). وذكر الدعارة هنا كأنها ناشئة طبعاً من التجنب عن حياة الله كما يتضح من قوله «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ،… لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ» (رومية ١: ٢١ و٢٤).
زعم بعضهم أن الإنسان يمكنه أن يحفظ الآداب دون الدين ولكن الاختبار والكتاب يشهدان أن الناس إذا لم يتقوا الله ويحبوه أسلموا أنفسهم للخطيئة ولا سيما النجاسة والطمع وقد برهن ذلك بولس في (رومية ص ١).
وظن بعضهم أنه لم يُرد «بالطمع» هنا سوى النجاسة وإنه ذكره بياناً لعظمة مقدارها فإن الأمم لم يكتفوا بالمقدار المعتاد من النجاسة فإنهم كانوا لا يفتأون يطلبون طرقاً جديدة لإشباع شهواتهم التي لا تشبع.
٢٠ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا ٱلْمَسِيحَ هٰكَذَا».
عنى بهذه الآية أن معرفتكم المسيح أيها المؤمنون حين آمنتم لم تسمح لكم أن تسلكوا كالأمم أي لم تقبلوه مخلصاً لكم على شرط أن يباح لكم أن تكونوا مثلهم. وقوله «تتعلموا المسيح» عبارة غريبة إذ التعلم لا يقع على الإنسان بل على مبادئه ولكن الرسول قصد به أكثر من معرفة مبادئ المسيح وحوادث حياته وهو المعرفة بالاختبار واختبروا قوته ليجددهم ويخلصهم. وهذا النوع من معرفة المسيح يمنع الإنسان من السلوك في الظلمة والدعارة.
٢١ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ».
ص ١: ١٣
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ «إن» للقطع لا للشك والمراد «بالسمع» هنا طاعة القلب فوق سمع الأذن فهو كما في قوله «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ» (متّى ١٣: ٩) وقوله «ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (عبرانيين ٤: ٧).
إن سمعهم صوت المسيح يستلزم أن لا يسلكوا كسائر الأمم ويفيد تعلمهم أموره من غيره الاتحاد به والجلوس عند أقدامه وقبول كلامه بالسرور من صميم القلب كقول المسيح «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي فَتَتْبَعُنِي» (يوحنا ١٠: ٢٧).
وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ أي الحق كما هو في يسوع. هذا النوع من معرفة المسيح يقتضي أن يكون صاحبه مسيحياً حقيقياً لأنه بواسطته الحياة الأبدية بدليل قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ» (يوحنا ١٧: ٣). وتلك المعرفة تستلزم محبة المسيح ومحبة القداسة لأنه قدوس ويمنع من السير في سنن الخطيئة. قال المسيح «أنا هو الحق» فالحق كما هو في يسوع هو في كلامه الذي علمه تلاميذه الذين تبعوه يوماً فيوماً وفي سيرته الطاهرة. واستطاع الأفسسيون أن يحصلوا على تلك المعرفة بواسطة روحه القدوس الساكن فيهم الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرهم (يوحنا ١٦: ١٤).
٢٢ «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ».
كولوسي ٢: ١١ و٣: ٨ و٩ وعبرانيين ١٢: ١ و١بطرس ٢: ١ ص ٢: ٢ و٣ وع ١٧ وكولوسي ٣: ٧ و١بطرس ٤: ٣ رومية ٦: ٧
في هذه الآية واللتين بعدها تفسير لقوله «كما هو حق في يسوع» وبيان أن خلاصة هذا التعليم التقديس الذي عبر عنه أحياناً بالموت عن الخطيئة وحياة القداسة (رومية ٦: ١١ وغلاطية ٢: ٢٠) وعبر عنه هنا بخلع الإنسان العتيق وليس الإنسان الجديد.
أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ استعار الخلع للترك والرفض. والعبارة كقوله «فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ ٱلظُّلْمَةِ» (رومية ١٣: ١٢). وقوله «ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ» (ع ٢٥) و «ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ الخ» (كولوسي ٣: ٨) و «كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ» (يعقوب ١: ٢١).
والمراد «بالإنسان العتيق» الطبيعة الفاسدة غير المتجددة بدليل قوله «لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ» (كولوسي ٣: ٩) ووُصف بالعتيق لأنه يسبق الجديد ولأنه مدين وسيُرفض ويُباد. وسمي «بالإنسان» لأنه الطبيعة الإنسانية الساقطة الفاسدة المفتقرة إلى التغيير لا مجرد إصلاح الأعمال.
وخلع هذه الطبيعة الفاسدة لا بد منه استعداداً لاتخاذ الطبيعة الجديدة. وقوله «من جهة التصرف السابق» فمعناه ترك المبادئ التي كانت قواعد سيرتهم السابقة يوم كانوا أمماً. ووصف الرسول ذلك التصرف في (ع ١٧ – ١٩).
ٱلْفَاسِدَ أي المائل إلى الفناء كما جاء في (٢كورنثوس ٤: ١٦).
بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ في هذا إشارة إلى قوة الشهوات الجسدية على الخداع فإنها هي آلات الضلال قال بولس «لأَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ، خَدَعَتْنِي» (رومية ٧: ١١). وتكلم على غرور الخطية في (عبرانيين ٣: ١٣). والخطية الساكنة في الإنسان تستخدم شهواته لكي تخدعه وتلقيه في سجنها.
٢٣ «وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ».
رومية ١٢: ٢ وكولوسي ٣: ١٠
تَتَجَدَّدُوا هذا وصف التقديس على طريق الإيجاب بعد وصفه على سبيل السلب. والتقديس عمل الله كما جاء في قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ» (ص ٢: ١٠) ولذلك قال «تتجددوا» وهو فعل لازم لا جددوا أنفسكم. وجاء إنه «تَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (تيطس ٣: ٥). فلنا أن نتخذ لبس الإنسان الجديد إشارة إلى التجديد الدفعي عند الولادة الجديدة أو إلى عمل التقديس التدريجي المشار إليه بقوله «لاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية ١٢: ٢ وفي كولوسي ٣: ٩ و١٠). والقرينة تدل على أن مراد الرسول هنا الإشارة إلى عمل التقديس الذي به يتغير الإنسان كله إلى صورة الله. ولا منافاة بين قوله «تتجددوا» وكون التجديد عمل الروح القدس لأن شعورهم بعجزهم عن أن يجددوا أنفسهم ومعرفتهم أن الروح القدس حاضر ومستعد أن يجددهم بحملاتهم على طلب مساعدته لهم. وكثيراً ما طُلب في الكتاب من الإنسان أن يعمل ما يعجز عنه من تلقاء نفسه لأنه وُعد بالمعونة السماوية.
بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ هذا التعبير غريب إذ من المعلوم أننا نتخذ الروح والذهن بمعنى واحد ولا يصح بمقتضى القرينة أن يكون المراد بالروح هنا الروح القدس فالأرجح أن الرسول أراد الإشارة إلى المركز الداخلي للحياة الروحية في نفس الإنسان تمييزاً له عن الأعمال الخارجية والعوائد والانفعالات والمقاصد الوقتية. وما عبر عنه مما في الهيكل «بقدس الأقداس» يعبر عنه مما في الإنسان «بروح ذهنه» فمتى تجدد روح ذهنه تحقق تمام تجدده هو إلى الأبد فروح ذهن الإنسان هو الذي يفعل فيه روح الله فيجدده ويسكن فيه ويملأه بذاته.
٢٤ «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ».
رومية ٦: ٤ و٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وص ٦: ١١ وكولوسي ٣: ١٠ ص ٢: ١٠
تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ كما أنه يجب علينا أن نطرح عنا الطبيعة العتيقة كما يخلع الإنسان الثوب النجس البالي يجب أن نأخذ طبيعة جديدة كثوب من النور. شبه الطبيعة غير المتجددة بإنسان عتيق ضعيف أشوه قريب من الفناء وكذلك شبه الطبيعة المتجددة بإنسان جديد شاب قوي جميل. وكثيراً ما يُراد بالجديد السامي البهيج الفاضل كأورشليم الجديدة والسماء الجديدة والأرض الجديدة. ولم يرد بلبس الإنسان الجديد لبس المسيح كما عنى في (رومية ١٣: ١٤) بدليل نعته إياه «بالمخلوق».
ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ أي بقوة الله (ص ٢: ١٠ وتيطس ٣: ١٥) أو بصورته كما في قوله «لَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي ٣: ١٠) وقول بطرس «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (١بطرس ١: ١٥). حق أن يُسمى هذا التجديد «خليقة جديدة» لأن الطبيعة الأولى الفاسدة ماتت (غلاطية ٦: ١٠) ولأنه يشبه عمل الله يوم الخليقة بدليل قوله «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تكوين ١: ٢٧). على أن المشابهة غير تامة لأن التجديد لم يتم دفعة بل تدريجاً ولأن صورة الله في الإنسان المتجدد تفوق مجداً صورة الله في آدم لأنها «بحسب الله في المسيح» مع أنه يصدق على كل منهما أنه بحسب الله.
فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ هذا بيان لما تقوم به المخلوقية «بحسب الله». متى ذكر الكتاب البر وحده فمعناه كل الفضائل الأدبية ومتى اقترن بالقداسة في الذكر كان معناه الاستقامة التي تحمل على العدل بين الناس وكان معنى القداسة الطهارة أمام الله ويعبر بهما معاً عن الإنسان الكامل. وذُكرا معاً في (لوقا ١: ٧٥ وتيطس ١: ٨ و١تسالونيكي ٢: ١٠).
وأضاف القداسة إلى الحق مقابلة لإضافة الشهوة إلى الغرور ولكون الحق من صفات الله فيجب أن يكون من صفات الإنسان المخلوق على صورته (يوحنا ٣: ٣٣ ورومية ١: ٢٥ و٣: ٧). والحق صار لنا بالمسيح (يوحنا ٣: ١٧) الذي هو الحق والحياة (يوحنا ١٤: ٦). ودُعي الروح القدس روح الحق (١يوحنا ٤: ٦) لأنه ينشئ الإنارة الإلهية في قلب المؤمن. وسُمي الإنجيل كلمة الحق (ص ١: ١٣) لأنه بها أعلن الله حقه للناس ليكون واسطة حياتهم الروحية. وقيل أن الحق يحررنا (يوحنا ٨: ٣٢) وأنه يقدسنا (يوحنا ١٧: ١٧).
ولنا مما ذُكر أن صورة الله في الإنسان تشتمل على كونه مخلوقاً ثانية في البر والقداسة لا في العقل والحكمة كما زعم بعض الناس ولا في كونه خالداً ولا في كونه متسلطاً على سائر المخلوقات الأرضية وإن خلقه على صورة الله يستلزم أنه لا يكون كاملاً بدون الحق أي معرفة الله الحقة.
٢٥ «لِذٰلِكَ ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ ٱلْبَعْضِ».
زكريا ٨: ١٦ وع ١٥ وكولوسي ٣: ٩ رومية ١٢: ٥
إن الرسول بعد أن خاطب الأفسسيين في وجوب القداسة وأن يكونوا متمثلين بالله أخذ يبين الواجبات الخاصة التي يستلزمها ذلك وذكر أكثر هذه الواجبات أولاً على طريق السلب ثم ذكره على طريق الإيجاب ومثال ذلك أنه نهاهم عن الكذب ثم أوجب عليهم الصدق وأبان علة ذلك. والخطايا التي خصها بالذكر أربع نهت عنها الوصية التاسعة والسادسة والثامنة والسابعة وكل ما قاله في هذه الخطايا قاله بالنظر إلى موضوع هذه الرسالة وهو وجوب الاتحاد بالمسيح وبالإخوة لأنهم أعضاء جسده الذي هو الكنيسة.
لِذٰلِكَ أي لأنكم عدلتم عن أن تسلكوا كسائر الأمم (ع ١٧) ولأنكم متمثلون بالله.
ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ معتبرين إياه كاللباس المختص بالإنسان العتيق (ع ٢٢).
وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ كثيراً ما يُقصد بالقريب الأخ من البشر لكن القرينة تدل على أن معناها هنا مؤمن أو أحد الإخوة المؤمنين كما في (رومية ١٥: ٢).
لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ ٱلْبَعْضِ في الجسد الواحد الذي المسيح رأسه (ع ١٦). فيستحيل أن تخضع اليد للرجل والعين للأذن إضراراً لها فما يضاد الحق أن يخدع المسيحي أخاه ويؤذيه. فلا حق لنا أن نخدع إخوتنا أكثر مما لنا حق أن نسرق منهم. نعم إنه يجب علينا أن نتكلم بالحق لأسباب أُخر غير نسبتنا إلى إخوتنا المؤمنين. ومن تلك الأسباب أن الحق فضيلة سامية وكريمة وأن الله أحب الحق وأوصانا به ويكره الكذب وسيعاقب الكذاب وإن من الحقوق التي علينا نحن باعتبار كوننا بشراً أن نتكلم بالصدق وهذا ضروري لخير العالم وكل ذلك يمنع من أن نعتبره ضرورياً علينا بالنظر إلى أننا أعضاء جسد المسيح.
٢٦، ٢٧ «٢٦ اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ ٢٧ وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً».
مزمور ٤: ٤ و٣٧: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٠ و١١ ويعقوب ٤: ٧ و١بطرس ٥: ٩
حذّرهم الرسول هنا من الغضب وقال فيه ثلاثة أمور الأول أن لا نجعله سبباً للخطيئة الثاني أن لا نسمح له بأن يمكث في قلوبنا والثالث أن لا ندع للشيطان سبيلاً إلى أن يجربنا بواسطته.
اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا فسر هذا بعضهم بقوله «لا تخطئوا بأن تغضبوا». والبعض بقوله «اغضبوا بشرط أن لا تخطئوا» أي يجوز لكم أن تغضبوا لكن يجب أن تحترسوا من أن يقودكم الغضب إلى الخطيئة فيجب أن تمسكوه حتى لا يحملكم أن تجاوزوا الحد الذي بين الحلال والحرام والأرجح أن هذا هو المعنى. فإن قيل إن الغضب من الخطايا المنهي عنها مطلقاً (ع ٣١) قلنا إن الغضب المنهي عنه هو الناتج عن الحقد أو المقترن به وهو الضار فلا يقال إن كل غضب حرام في كل درجاته بدليل أن المسيح نظر إلى المعترضين عليه بغضب (مرقس ٣: ٥) وكثيراً ما نسب الغضب في الكتاب المقدس إلى الله فلا بد من أنه غُرس في طبيعتنا ليعيننا على المحاربة بين الخير والشر في العالم حتى أننا نقاوم الظلم وسلب الحقوق لكن يعسر على الإنسان أن يغضب كغضب الله الناتج عن محبته وغيرته للعدل والقداسة وأن يكون غضبه مقترناً بمحبة المغضوب عليه. ولعل قوله «اغضبوا ولا تخطئوا» من أصعب أوامر الكتاب المقدس ومناهيه.
لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ هذا كشريعة تأدية الأجرة للعامل الفقير ورد ثوب الفقير المرهون (تثنية ٢٤: ١٣ و١٥). والمعنى النهي عن بقاء الغيظ في القلب وإن كان جائزاً. قال الحكيم «إِنَّ ٱلْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ ٱلْجُهَّالِ» (جامعة ٧: ٩). ونستنتج من هذا الكلام إن غضبنا يمكن أن يكون جائزاً ولكن الأرجح أنه ليس في محله وإن بقي في قلوبنا كان حراماً مطلقاً لأنه لا يبقى في القلب ما لم ينشئ بغضاً.
وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً هذا متعلق بالنهي عن الغضب وهو دليل واضح على أن الغضب يعطي إبليس فرصة لكي يدخل قلوبنا وأن يجربنا ويجعلنا نخطئ على وفق ما هو مستعد له أبداً بدليل قول بطرس الرسول «إِنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (١بطرس ٥: ٨). إن موسى كان أحلم الناس لكنه عندما تذمر عليه الشعب في مريبة اغتاظ حتى أنه فرّط بشفتيه (مزمور ١٠٦: ٣٣). ولعل تجربة الشيطان التي قصد الرسول أن يحذر الأفسسيين من الوقوع فيها هو نزع اتحاد الكنيسة وسلامها اللذين غاية الرسول حفظهما وإثباتهما.
٢٨ «لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ».
أعمال ٢٠: ٣٥ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ٨ و١١ و١٢ لوقا ٣: ١١
حذّرهم الرسول في هذه الآية بطريق السلب من السرقة وأوصاهم بطريق الإيجاب بالاجتهاد في العمل لتحصيل النفقة على أنفسهم والإحسان إلى الفقراء.
لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ الظاهر من هذا أن بعضهم كان يسرق ويعسر علينا أن نجعل الوفق بين هذا ومخاطبته إياهم كأنهم متجددون ودعوته إياهم إلى أن يسلكوا بمقتضى طبيعتهم المتجددة. قال البعض دفعاً لهذه الشبهة إن الأفسسيين نظراً لعوائد بلادهم في ذلك الوقت وما اعتادوه حين كانوا أمماً استعملوا لكسب المال طرقاً لا تجوز في شريعة الله لكن ضمائرهم لم تكن تمنعهم عنها إذ اعتبروها من باب النباهة ولكن الرسول نهاهم عنها فكانت أحوالهم كأحوال مؤمني كورنثوس فإن بعضهم كانوا يزنون والكنيسة لم تقطعهم من شركتها (١كورنثوس ٦: ١ – ٦). ودفعها آخر أن المراد بالسارق الذي كان سارقاً قبل تجدده وبقي يُسمى بما كان عليه كما يُسمى من قتل إنساناً مرة وتاب بالقاتل. وإن بولس خاطب من كان سارقاً بمقتضى «تصرفه السابق» وكان محتاجاً إلى أن يتعلم ما يجب عليه أن يفعله بعد تركه السرقة والمرجح أن هذا هو المقصود.
بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ أوصاه الرسول بأن يستعمل اليد التي كان يستخدمها للسرقة في الدأب وتحصيل المال الحلال وهذا على وفق المبدإ الذي هو قوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (٢تسالونيكي ٣: ١٠) لأن الكسلان الذي يجبر غيره على إعالته لا يكاد يفرق عن السارق.
إن من المبادئ الإنجيلية إن من يقدر على تحصيل أسباب معاشه بتعبه مكلف بأن يفعل ذلك وأن غيره مكلف بأن لا يطعمه وأن يطعم من لا يستطيع عملاً.
لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ هذا يوجب على الإنسان أن يجتهد في العمل لا لتحصيل ما يحتاج إليه فقط بل لكي يقدر أن يساعد الفقير والمحتاج من فضلات أثمار تعبه. وعمل الرسول كان موافقاً لتعليمه فإنه كان يعمل بيديه ليقوم بحاجات نفسه وحاجات من معه (أعمال ١٨: ٣ و ٢٠: ٣٤ و٢تسالونيكي ٣: ٨) ومثل تعليمه هنا تعليمه في أماكن أُخر ومن ذلك قوله «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأََخْذِ» (أعمال ٢٠: ٣٥) والشرط الذي قيد الرسول به العمل الذي للمؤمن أن يعمله وهو ما في قوله «عاملاً الصالح» يمنعه من أن يأتي عملاً يضر به غيره كعمل المسكرات أو الاتجار بها وكل ما يستلزم مخالفة شريعة الله كالعمل في يوم الرب. ومؤمنو أفسس أبانوا مثالاً حسناً للمؤمنين في كل زمان بأنهم حين آمنوا أتوا بما عندهم من كتب السحر التي كانوا يربحون بها الأموال الطائلة ظلماً وأحرقوها على مرأى من الناس مع أنها كانت يومئذ ثمينة جداً (أعمال ١٩: ١٩).
٢٩ «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ».
متّى ١٢: ٣٦ وص ٥: ٤ وكولوسي ٣: ٨ كولوسي ٤: ٦ و١تسالونيكي ٥: ١١ كولوسي ٣: ١٦
جرى الرسول في ما قاله في هذه الآية على استعمال اللسان كعادته بأن يوصي بالشيء على طريق النهي ثم يوصي به على طريق الأمر.
لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ أراد «بالكلمة الردية» هنا ما تهيج الأفكار النجسة وتقود إلى الأعمال الخبيثة كالقصص والروايات والأغنية المجونية وكل كلمة تهين شأن الله أو كتابه أو دينه وكل ما ينشئ التذمر على الله والبغض له وللناس. وهذا موافق لقول المسيح «ٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشُّرُورَ. وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ» (متّى ١٢: ٣٥ و٣٦). ومن الكلمات الرديئة الكلمة المرة (مزمور ٦٤: ٣). وأوضح معناها الرسول بقوله «ٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» (كولوسي ٣: ٨ و٩).
بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ أي طاهراً بالذات خارجاً من قلب صالح كقول المسيح في (متّى ١٢: ٣٥). ومفيداً للسامعين بالتعليم والنصح والإنذار والتعزية وموافقاً للاحتياج كما تدل عليه القرينة.
حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ أي أن يكون الكلام موافقاً لما يقصد من البنيان بالنظر إلى سن السامع ومقدار معرفته ومقتضيات أحواله. وهذا مثل قول الحكيم «تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا» (أمثال ٢٥: ١١).
كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ أي منفعة روحية وهذا على وفق النبوءة بالمسيح بأنه انسكبت النعمة على شفتيه (مزمور ٤٥: ٢). وذلك ما يجب أن نقصده من المكالمة لا مجرد إنفاق الوقت أو إرضاء السامع بل يجب أن يقصد مع ذلك إفادته الروحية. وهذا مثل قوله «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ» (كولوسي ٤: ٦).
٣٠ «وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ».
إشعياء ٧: ١٣ و٦٣: ١٠ وحزقيال ١٦: ٤٣ و١تسالونيكي ٥: ١٩ ص ١: ١٣ لوقا ٢١: ٢٨ ورومية ٨: ٢٣ وص ١: ١٤
لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ هذا معلق بما سبق من قوله «لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم» لئلا تحزنوه بذلك. فقيل في الرسالة إلى أهل كورنثوس «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ فَسَيُفْسِدُهُ ٱللّٰهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ مُقَدَّسٌ ٱلَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (١كورنثوس ٣: ١٦ و١٧). فلا شيء يدنس قلوب المؤمنين التي هي هياكل الله مثل الكلمات النجسة التي تهيج الأفكار النجسة وتغيظ الروح القدس. وقال الرسول في موضوع آخر «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ، ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ» (١كورنثوس ٦: ١٩) فالاعتبار الواجب علينا للروح القدس يمنعنا من أن نتفوه بكلمة مفسدة. وقوله «لا تحزنوا روح الله» يستلزم أن ذلك الروح يرغب كثيراً في قداسة المؤمنين ويحزن من كل ما يعيق قداستهم أو يمنعها منهم. قيل في الأشرار المضطهدين «إنهم يقاومون الروح القدس بشرورهم» (أعمال ٧: ٥). ولكن قيل في المؤمنين «أنهم يحزنونه حين يخطأون» وعلة إحزانهم إياه أنهم يستحقون بمحبته لهم وهم لا يأتون بما يجب عليهم من الشكر له. ولا شيء يحزن قلب الصديق البشري مثل عدم الشكر له على معروفه.
ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ سكنى الروح القدس في المؤمن يثبت أنه ابن الله ويؤكد خلاصه كما جاء في قوله «ختمتم بروح الموعد القدوس» (ص ١: ١٣). فحين يحزن الروح القدس يتعدى على ذلك الذي منح له رجاء نيل السماء لأن الروح بعد أن يسكن قلب المؤمن لا يفارقه أبداً ولكن لا ريب في أن المؤمن الذي يحزنه يخسر كثيراً من إعلانات فعل فيه فإن لم يبال بذلك فقد أبان أن ليس فيه روح المسيح وأنه ليس له.
٣١ «لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ».
كولوسي ٣: ٨ و١٩ تيطس ٣: ٢ ويعقوب ٤: ١١ و١بطرس ٢: ١ تيطس ٣: ٣
في هذه الآية والتي تليها وآيتين من الأصحاح الخامس حذر الرسول مؤمني أفسس من الانفعالات الخبيثة الانتقامية وحثهم على أن يكونوا لطفاء ومسامحين بناء على ما اختبروه من رحمة الله وحب المسيح.
لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ أي شراسة الأخلاق التي تجعل الإنسان سريع الغضب بطيء الرضى.
سَخَطٍ وَغَضَبٍ قيل إن السخط يمتاز عن الغضب بأنه لا يكون إلا من الكبراء والعظماء على من دونهم والغضب المطلق. ولعل المراد بالسخط هنا ما يشعر به الإنسان عند التجربة البغتية وإعلانه له حينئذ قولاً وفعلاً. والمراد بالغضب ما هو أعمق من السخط في القلب ويحمل على الانتقام من المغضوب عليه ولا يشفى إلا به.
صِيَاحٍ هو إظهار الغضب بالصوت فيهيج بذلك غضب الغير. وهذا مما لا يليق بالمؤمن لأن مثاله المسيح الذي قيل إنه «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متّى ١٢: ١٩).
وَتَجْدِيفٍ وهو ما ينتج من الغضب مقصوداً به إيلام الغير وأصله في اليونانية يفيد اللعنة والنميمة. ولعنة الإنسان لمثله لا تخلو من التجديف على خالقه.
مَعَ كُلِّ خُبْثٍ الخبث أصل في القلب وكل ما ذُكر آنفاً هو من فروعه. ورفع الفروع حتى لا تظهر أبداً يستلزم قلع الأصل وغرس عكسه وهو المحبة التي قيل فيها أنها «تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. لاَ تَحْسِدُ. وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِٱلإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ» (١كورنثوس ١٣: ٤ – ٦).
٣٢ «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ٢: ١٩ وكولوسي ٣: ١٢ و١٣ متّى ٦: ١٤ ومرقس ١١: ٢٥
حثهم في هذه الآية على ممارسة الفضائل المضادة للرذائل التي نهى عنها.
كُونُوا لُطَفَاءَ… شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ هذا كقوله في (غلاطية ٥: ٢٢ وكولوسي ٣: ١٢ و١بطرس ٣: ٩) لأن دين المسيح يوجب علينا تلك الانفاعالات الحبية في قلوبنا وإظهارها في أعمالنا.
كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ مسامحة الله لنا هي التي توجب علينا أن نسامح غيرنا فإنه غفر لنا خطايانا مجاناً مع كثرتها وفظاعتها. ومسامحته لنا أعظم بما لا يقاس مما يكلفنا به من المسامحة لغيرنا.
وكل مسامحة الله لنا «في المسيح» أي بواسطته فإنه بذل ابنه عنا ليكون كفارة لخطايانا حتى يغفرها بدون أن ينافي ما يقتضيه قداسته وعدله وحقه فيجب أن تكون مغفرة الله لنا قياس مغفرتنا لغيرنا فإنه غفر لنا مجاناً غفراناً كاملاً بقطع النظر عن وفرة خطايانا. فيجب علينا أن نذكر كلما اغتظنا من أخينا كثرة آثامنا أمام الله وفظاعتها وأنه قد غفرها كلها متذكرين مع ذلك قول المسيح «إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ» (متّى ٦: ١٥). اللطف حسن والشفقة أحسن وأما المغفرة للمسيئين إلينا فمماثلة لله.
ص ٥: ١ و٢
١ «فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ».
متّى ٥: ٤٥ و٤٨ ولوقا ٦: ٣٦ وص ٤: ٣٢
فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ نظراً لكونه قد سامحنا بالمسيح. إن الفضيلة التي حث الرسول الأفسسيين على ممارستها هي المحبة وأعظم ما أبانه الله من أدلة محبته للبشر هو أنه بذل ابنه من أجلنا بدليل قول يوحنا الرسول «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ الخ» (١يوحنا ٤: ١٠). وقوله «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأََبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). وقول بولس في حث الأفسسيين على التمثل بالله في المحبة. وقول المسيح لتلاميذه «كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ» (لوقا ٦: ٣٦).
كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ كون المؤمنين أولاد الله يستلزم أن يكونوا مثل أبيهم السماوي الذي هو محبة (١يوحنا ٤: ٨) وكونهم أحباء يستلزم أن يحب بعضهم بعضاً ويؤيد ذلك قول يوحنا الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَحَبَّنَا هٰكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً» (١يوحنا ٤: ١١). وهذا أعظم برهان على أننا أولاده ويؤيده قوله «نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ ٱنْتَقَلْنَا مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ ٱلإِخْوَةَ» (١يوحنا ٣: ١٤).
٢ «وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً».
يوحنا ١١٣: ٣٤ و١٥: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ و١يوحنا ٣: ١١ و٢٣ و٤: ٢١ غلاطية ١: ٤ و٢ ١٦ وعبرانيين ٧: ٢٧ و٩: ١٤ و٢٦ و١٠: ١٠ و١٢ و١يوحنا ٣: ١٦ تكوين ٨: ٢١ ولاويين ١: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٥
وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ إنهم مكلفون أن يظهروا هذه الفضيلة في كل سلوكهم أي أن يمارسوها على الدوام.
كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً هذا قياس محبتنا وموجبها علينا وتمثلنا بالمسيح كتمثلنا بالله لأن المسيح هو الله فاعتبر الرسول محبة الله لنا ومحبة المسيح لنا شيئاً واحداً.
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا أي بذلها عنا وهذا دليل قاطع على عظمة محبته كما جاء في قوله «أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (ع ٢٥) وقوله «وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ١٩) وقول المسيح نفسه «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوخنا ١٥: ١٣). وقول رسوله يوحنا «بِهٰذَا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ ٱلإِخْوَةِ» (١يوحنا ٣: ١٦).
قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً إن الكلمة الثانية تفسير للأولى. فكل ما قدم لله هو قربان لكن الذبيحة قربان دموي ومعنى الكلمتين أن المسيح سفك دمه ومات من أجلنا (متّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٣: ٢٥ و١تيموثاوس ٢: ٦) وبناء على ذلك لقب الابن الأزلي «َحملُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). ولذلك قال بطرس الرسول «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ١٨ و١٩).
لِلّٰهِ يصح أن يعلق بقوله «أسلم» أو بنعت ذبيحة من قوله «قربان وذبيحة» بعده وهذا هو الأرجح فيكون المعنى إن الله سرّ بقربان المسيح وذبيحته. واستعار الرسول هذا من العهد القديم ففيه إن الله كان يسر بالتقدمات ومن ذلك قوله في الذبيحة التي قدمها نوح «بَنَى نُوحٌ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ… وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ، فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا» (تكوين ٨: ٢٠ و٢١). وقوله في الذبائح «إنها رائحة سرور» (خروج ٢٩: ١٨ ولاويين ٤: ٣١) وأمثال ذلك كثيرة.
السابق |
التالي |