الرسالة إلى أفسس | 03 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى أفسس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
كون بولس رسولاً إلى الأمم (ع ١ – ١٣) وصلاته من أجل مؤمني أفسس (ع ١٤ – ٢١).
تعيين الله بولس رسولاً ع ١ إلى ١٣
إن الرسول حين كتب هذه الرسالة كان رسول يسوع المسيح لأجل الأمم الذين الأفسسيين منهم (ع ١) وأن تعيينه رسولاً إليهم كان من النعمة (ع ٢). وأن ما أهّله لهذه الخدمة هو إعلان خاص كما أبان سابقاً (ع ٤). وأنه عُيّن لكي يخبر الأمم بالسر الذي هو موضوع الإنجيل كله أي الخلاص بالمسيح (ع ٥ و٦). وأن ذلك التعيين من النعمة أيضاً (ع ٧). وأن الغاية من تلك الخدمة عظيمة جداً (ع ٨ و٩). وأنها تبلغ الناس وجنوده السماء (ع ١٠) وتكمل غاية الله في المسيح (ع ١١). الذي به نقرب إلى الله بثقة (ع ١٢). وأنه يجب أن لا تكون شدائد الرسول سبباً لأن يكلوا (ع ١٣).
١ «بِسَبَبِ هٰذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَمَمُ».
أعمال ٢١: ٣٣ و٢٨: ١٧ و٢٠ وص ٤: ١ و٦: ٢٠ وفيلبي ١: ٧ و١٣ و١٤ و١٦ وكولوسي ٤: ٣ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ٩ وفليمون ٩ غلاطية ٥: ١١ وكولوسي ١: ٢٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٠
بِسَبَبِ هٰذَا أي لكونكم أيها الأمم رعية مع القديسين ولا سيما كونكم يا مؤمني أفسس جزءاً من هيكل الله.
أَنَا بُولُسُ ابتدأ هذه الجملة هنا ووقف عن تكميلها لأخذه في كلام معترض أبان به أن الإنجيل هو السر الذي كان مكتوماً وقد أُعلن وتمام الجملة في الآية الرابعة عشرة وهو قوله «أحني ركبتي» ثم ابتدأ هناك بما ابتدأ به هنا وهو قوله «بسبب هذا» وما ذكره كان سبباً كافياً لحمله أن يصلي من أجلهم ويسأل الله نموهم الخ.
أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ كما أني خادمه ورسوله وكان وقتئذ سجين بيته في رومية (أعمال ٢٨: ١٦ و٣٠) ومراده أنه للمسيح على كل حال وأنه اعتبر وُثُقه واسطة لخدمة المسيح كما أعلن بقوله لأهل فيلبي «أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ» (فيلبي ١: ١٢ و١٣) ولذلك قال إنه «سفير في سلاسل» (ص ٦: ٢٠).
لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَمَمُ إن مناداته بالإنجيل للأمم كانت علة بغض اليهود إياه وشكواهم عليه إلى الولاة الرومانيين وعلة حمله أسيراً إلى رومية (أعمال ٢٢: ٢١ و٢٢).
٢ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ».
رومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١كورنثوس ٤: ١ وص ١: ١٠ و٤: ٧ وكولوسي ١: ٢٥ أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ ورومية ١٢: ٣ وغلاطية ١: ١٦ وع ٨
غاية الرسول من هذه الآية إثبات كونه رسولاً إلى الأمم.
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ «إن» هنا للتعليل لا للشك فمعناه لا ريب في أنكم قد سمعتم. وجاء بالتأكيد على هذه الصورة تلطفاً وتواضعاً.
بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أراد بهذا الوكالة التي أنعم الله عليه بها فاعتبر تعيين الله إياه رسول المسيح إلى الأمم نعمة منه تعالى لا يستحقها فتحمله دائماً على التواضع والشكر. ولم يستعظم تلك الخدمة لشرفها أو ما فيها من السلطة أو لربح دنيوي منها بل لمحبته للمسيح ولنفوس الناس وللفرصة التي انتهزها للتبشير تمجيداً للمسيح ونفعاً لإخوته البشر ولا سيما أنه أعلن بواسطتها سر الإنجيل المشتمل على دعوة الأمم إلى مشاركتهم لليهود في الخلاص بالمسيح. وكون هذه الخدمة وُكلت إليه دون غيره من الرسل هو ما قصده من لفظة «تدبير».
لأَجْلِكُمْ كان هو رسول الأمم اختاره يسوع المسيح لهذه الخدمة ووهبه لذلك مواهب خاصة بدليل قول الرب له «قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأَمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ الخ» (أعمال ٢٦: ١٦ – ١٨).
٣ «أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِٱلسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِٱلإِيجَازِ».
أعمال ٢٢: ١٧ و٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ وغلاطية ١: ١٢ رومية ١٦: ٢٥ وكولوسي ١: ٢٦ و٢٧ ص ١: ٩ و١٠
أَنَّهُ هذا وما بعده (أي صلته) مفعول قوله «سمعتم» وبيان للمسموع.
بِإِعْلاَنٍ هذا مثل ما في قوله (وقد أثبته بأدلة مفصلة) «أُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١١ و١٢). ومثل ما في قوله في (رومية ١٦: ٢٥ و٢كورنثوس ١٢: ١٧). وهذا الإعلان كان شرطاً ضرورياً لتأهيله أن يكون رسولاً لأن شهادة الرسل امتازت على شهادة غيرهم من المؤمنين بناء على كونهم قد سمعوا ورأوا ما شهدوا به ولم ينقلوه عن غيرهم. والأرجح أن بولس أشار بهذا إلى الإعلان الذي كان له في هيكل أورشليم (أعمال ٢٢: ١٧ – ٢١).
بِٱلسِّرِّ السر هنا ما لا يحصل على معرفته إلا بالوحي وفحوى هذا السر أن ينادى بالإنجيل بين الأمم كما نودي به بين اليهود وأن الفريقين يتحدان برب واحد بالإيمان والمحبة.
٤ «ٱلَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٤: ١ وص ٦: ١٩
كان للأفسسيين حينئذ أن يتخذوا ما سبق من كلام هذه الرسالة في سر دعوة الأمم دليلاً على معرفته بكل أمور طريق الخلاص.
بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ أي سر الفداء الذي بيسوع المسيح وهو قصد الله المكتوم في الأجيال الماضية أن يخلص الخطأة ويجدد الجنس البشري بواسطة ابنه الأزلي. ومن أجزاء هذا السر العظيم دعوة الأمم إلى مشاركة اليهود في الخلاص وهذا على وفق قوله «ٱلَّذِينَ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأَمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧). وقوله «مُصَلِّينَ… لِيَفْتَحَ ٱلرَّبُّ لَنَا بَاباً لِلْكَلاَمِ، لِنَتَكَلَّمَ بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَنَا مُوثَقٌ أَيْضاً» (كولوسي ٤: ٣). وقوله «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأَمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦).
٥ «ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ».
أعمال ١٠: ٢٨ ورومية ١٦: ٢٥ وع ٩ ص ٢: ٢٠
ٱلَّذِي أي سر المسيح.
فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ وهي الأجيال التي قبل مجيء المسيح وموته وقيامته وسكب الروح القدس. وفيها إشارة إلى أن الإعلانات الجزئية التي كانت على التوالي للآباء وموسى وداود وسائر الأنبياء.
لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ هذا على وفق قوله «حَسَبَ إِعْلاَنِ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأَمَمِ بِٱلْكُتُبِ ٱلنَّبَوِيَّةِ» (رومية ١٦: ٢٥ و٢٦) فارجع إلى التفسير هناك.
بَنُو ٱلْبَشَرِ حتى أنبياء العهد القديم فإنهم فهموا بعض الأمر كما أبان بولس بما اقتبسه مما كتبوه (رومية ٩: ٢٥ – ٣٣).
كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ إن ذلك السرّ كان قد أُعلن بعضه الإعلان لكنه لم يُعلن كما أُعلن يوم كتابة هذه الرسالة.
لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ المقصود بالأنبياء هنا أنبياء العهد الجديد كما أبان في (ص ٢: ٢٠). والفرق بين الرسل والأنبياء من جهة الإلهام أن الرسل كانوا ملهمين دائماً وأما الأنبياء فكانوا يلهمون أحياناً. ونعت الرسل بكونهم «قديسين» لأنهم موقوفون لخدمة الله بنوع خاص. وقيل مثل ذلك في أنبياء العهد القديم (لوقا ١: ٧ و٢بطرس ١: ٢١). ولم يقصد الرسول أن يمدح نفسه بنعته الرسل الذين هو واحد منهم بكونهم قديسين إذ المراد من القداسة هنا وقف النفس للخدمة الدينية.
بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو مُبلغ الوحي ومعلن سر المسيح. وما جاء هنا دليل على أن أقانيم اللاهوت الثلاثة جوهر واحد إذ نُسب الإعلان أحياناً إلى الله (ع ٣) وأحياناً إلى المسيح (غلاطية ١: ١٢) وأحياناً إلى الروح كما في الآية. إن إلهام الرسل والأنبياء بالروح أهّلهم لأن يضعوا أساس الكنيسة فكان من الضروري حينئذ لأنه لم يكن الإنجيل يومئذ كاملاً بين أيدي الناس ولم يعرف العالم سوى قليل من حوادث تاريخ المسيح وحقائق تعليمه فكان الناس مفتقرين إلى التعليم شفاهاً من المعصومين من الخطإ وإثبات التعليم بالمعجزات. ولكن بعدما كمل الإنجيل وعُرفت حوادثه واشتهرت وأُثبتت وأُسست الكنيسة لم يبق من حاجة إلى وجود الرسل ولم يقم الله رسلاً بعدهم.
٦ «أَنَّ ٱلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي ٱلْمِيرَاثِ وَٱلْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ بِٱلإِنْجِيلِ».
غلاطية ٣: ٢٨ وص ٢: ١٤ ص ٢: ١٥ و١٦ غلاطية ٣: ١٤
في هذه الآية بيان أن «جزء سر المسيح» الذي أُعلن للرسل والأنبياء في العهد القديم والذي عيّن بولس أن يكون مبشراً به هو أن الأمم يشاركون اليهود في بركات ملكوت المسيح.
الظاهر أنه قبل يوم الخمسين لم يخطر على بال تلاميذ المسيح أن الأمم يخلصون بدون أن يتهودوا أولاً ولو آمنوا بالمسيح وأن كل نظام الشريعة الموسوية يبطل وأنه يقام نظام جديد يناسب كل قبائل الأرض وأنه يبطل التمييز بين اليهود والأمم لكن ذلك السر أُعلن للرسل والأنبياء ليعلنوه للكنيسة على أنه عسر عليهم أن يقبلوه حتى أُعلن لبطرس بطريق خاصة يوم إيمان كرنيليوس (أعمال ص ١٧ وص ١١). وقد نُسب إلى الأمم ثلاثة أمور:
الاول: إن متنصري الأمم مساوون لمتنصري اليهود في حقوق الميراث الروحي وذلك يشتمل على كل بركات عهد النعمة كمعرفة الحق والتبني والتقديس وسكنى الروح القدس فيهم والشركة في الكنيسة وفوائدها من الأسرار والعبادة. فبإيمانهم صاروا أولاد الله وورثته على وفق قوله «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧).
وَٱلْجَسَدِ أي وشركاء في الجسد. هذا هو الأمر الثاني من الثلاثة التي نُسبت إلى الأمم وهو أن يكونوا كاليهود في أنهم أعضاء الجسد الذي المسيح رأسه. والخلاصة أنهم أعضاء كنيسة المسيح كمتنصري اليهود لأنهم قبلوا الحياة رأساً من ذلك الرأس كما قبلها أولئك. إن اليد لم تكن في الجسد بإذن العين ولا العين بإذن اليد كذلك الأمم لم يكونوا أعضاء في كنيسة المسيح بإذن اليهود ولم يكن اليهود كذلك بإذن الأمم.
نَوَالِ مَوْعِدِهِ هذه الأمر الثالث من الأمور الثلاثة المذكورة آنفاً والموعد هنا هو الوعد بالفداء الذي وعده أبوانا الأولون وكُرر لإبراهيم ولأنبياء العهد القديم كقوله «لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» وقوله «ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» وقوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية ٣: ١٤ و٢٢ و٢٩). وهذا يتضمن كل البركات الروحية.
فِي ٱلْمَسِيحِ اي بالاتحاد به. وهذا هو الشرط الوحيد لمشاركة الأمم لليهود في فوائد الفداء وهو شرط لا بد منه. فكل من الفوائد الثلاث التي حصل الأمم عليها إنما حصلوا عليها بالمسيح.
بِٱلإِنْجِيلِ أي بواسطة الإنجيل فإنه هو وسيلة اتحادهم بالمسيح لا ولادتهم ولا رسوم خارجية ولا دخولهم أولاً في جماعات ظاهرة فالعمدة الإيمان بابن الله المعلن بالإنجيل.
ولنا من هذه الآية أن البركات التي شارك الأمم اليهود فيها هي نيل الميراث وعضوية الكنيسة والدخول في العهد وأن شرط نيل كل ذلك هو الاتحاد بالمسيح وأن واسطة ذلك الاتحاد هو الإنجيل.
وكلام الرسول في الآيات الخمس الآتية بيان أن التبشير بالإنجيل نعمة عظيمة للمبشر.
٧ «ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ».
رومية ١٥: ١٦ وكولوسي ١: ٢٣ و٢٥ رومية ١: ٥ ورومية ١٥: ١٨ وص ١: ١٩ وكولوسي ١: ٢٩
ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ صرّح بهذا أن خدمة الإنجيل هي العمل الذي عيّنه الله له ووقف هو نفسه له.
حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ اعتبر بولس دعوته إلى خدمة الإنجيل إحساناً وافراً وبركة عظيمة وأنه لم يُدع إليها لأنه استحقها بل لأن الله وهبها له فإنه كان مجدفاً ومضطهداً لا يستحق إلا العقاب.
حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ أي أن الله فضلاً عن إظهار نعمته بدعوة من كان مجدفاً ومضطهداً إلى أن يكون رسولاً أظهر وقته أيضاً في تغييره بأن جعله مؤمناً بالمسيح بعد أن كان كافراً به وخادماً له بعد أن كان مقاوماً له بكل ما أتاه ليعده لعمله. ولم ينسب بولس تغيره إلى النور الذي رآه في الطريق وهو سائر إلى دمشق ولا إلى الصوت الذي سمعه بل إلى قوته تعالى التي أثرت في قلبه. وهذا كقوله «لِتَعْلَمُوا… مَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (ص ١: ١٨ و١٩).
٨ «لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى».
١كورنثوس ١٥: ٩ و١تيموثاوس ١: ١٣ و١٥ غلاطية ١: ١٦ و٢: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و١تيموثاوس ١: ١١ ص ١: ٧ وكولوسي ١: ٢٧
أشار بولس في هذه الآية إلى أنه لم يكن مستحقاً أن يكون رسولاً.
أَصْغَرَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ المراد «بالقديسين» هنا شعب الله كما جاء في (١كورنثوس ١: ١ ورومية ١: ٧). والذي حمل بولس على لومه لنفسه واعتبار أنه دون غيره من المؤمنين ليس خطاياه عموماً بل اضطهاده للمسيح وكنيسته فإنه لما سّر الله أن يعلن ابنه فيه وعلم هو عظمة المسيح وجودته شعر بفظاعة مقاومته له وأن سائر الخطايا ليست شيئاً بالنسبة إلى تلك الخطيئة. وهذا مثل قوله في (١كورنثوس ١٥: ٩ و١٠ و٢كورنثوس ١١: ٣٠ و١٢: ٩ – ١١) فإنه أبان في كل ذلك إخلاص توبته وفرط تواضعه.
أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حسب النعمة العظمى أن يسمح الله لمرتكب خطيئة فظيعة كخطيئته أن ييشر بالمسيح بين الناس.
بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى إن غنى المسيح يشمل «الحكمة والبر والقداسة والفداء» (١كورنثوس ١: ٣٠) فلا يقدر العقل البشري أن يتصور عظمته ولا يستطيع لسان أن يعبر عن حقيقته. ومن هذا الغنى يهب الله لنفوس شعبه المغفرة والقداسة والخلاص هبة أبدية. وعظمة تلك النعمة التي وُكل إليه إعلانها للناس زادت رسوليته عظمة وشرفاً.
٩ «وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ فِي ٱللّٰهِ خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ١: ٩ وع ٣ رومية ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ٢: ٧ وع ٥ وكولوسي ١: ٢٦ مزمور ٣٣: ٦ ويوحنا ١: ٣ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢
وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ لا الأمم فقط بل كل بني البشر على قدر طاقتهم فالإنارة هي تأثير الإنجيل. وقد وصف بطرس الإنجيل بأنه «سراج منير في موضع مظلم» (٢بطرس ١: ١٩). وقال المسيح لبولس يوم أرسله للتبشير «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ» (أعمال ٢٦: ١٨). وقال الرسول بولس نفسه إن «إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَـهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٤). والذي ينيره الإنجيل هو روح الإنسان وضميره وقلبه لا عقله فقط.
شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ هذا مضمون الإنجيل الذي كان بولس خادماً له وهذا أكثر من دعوة الأمم إلى الخلاص والمساواة لليهود فإنه يشمل كل نظام الفداء الذي هو دعوة كل الناس إلى الاشتراك في الخلاص بواسطة المسيح كما جاء في قوله «حَسَبَ إِعْلاَنِ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ» (رومية ١٦: ٢٥ و٢٦). وقوله «ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأََجْيَالِ، لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ الخ» (كولوسي ١: ٢٦ – ٢٨).
مُنْذُ ٱلدُّهُورِ أي من بدء الخليقة إلى أزمنة الإنجيل. وكان مكتوماً عن الناس لأن الله استحسن وقتئذ أن يعلنه بعض الإعلان بواسطة الإشارات والرموز والناس لم يدركوا حقيقة معناها.
فِي ٱللّٰهِ أي في قضائه.
خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ قال الرسول هذا بياناً أن إله الخلق هو إله الفداء وأنه لكونه خالق كل الأشياء حق له أن يقضي في الكل بمقتضى مشيئته ويكتم ما يشاء ويعلن ما يشاء متى شاء. وأنه كما أمكنه أن يخلق العالمين يمكنه أن يجدد نفوس الناس ويجعلها خليقة جديدة وبياناً أنه حين قصد أن يخلق البرايا قصد أيضاً عمل الفداء.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ خلت من هاتين الكلمتين بعض النسخ القديمة وليس وجودهما هنا بأمر جوهري إذ جاء في أماكن كثيرة أن الخليقة كانت بيسوع المسيح ومن ذلك ما في (يوحنا ١: ٣ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢).
١٠ «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ».
رومية ٨: ٣٨ وص ١: ٢١ و١بطرس ١: ١٢ و٣: ٢٢ و١كورنثوس ٢: ٧ و١تيموثاوس ٣: ١٦
لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ هذا متعلق «بأبشر» أو «أنير» في (ع ٨ و٩) بياناً لقصد الله من تبشير الأمم بسر الفداء وإنارة كل الناس في أمر ذلك السر. وذكر «الآن» يمنع من تعلّق الجار «بخالق» والقرينة تدل على أن سر الفداء هو الذي كُتم منذ الدهور وأُعلن الآن للكنيسة وبها لا على أنه شيء من متعلقات الخليقة.
ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي الملائكة الأطهار كما يدل عليه مسكنهم وموضوع تعلمهم. وذكر بطرس مثل ذلك فيهم بقوله «تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا» (١بطرس ١: ١٢). وفي كلام بولس بيان لسلطتهم وسمو شأنهم وانهم يزيدون معرفة وشعوراً بحكمة الله بواسطة الكنيسة وهذا يزيد الكنيسة فخراً إذ لم تعلم الناس فقط بل الملائكة أيضاً.
بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ الكنيسة جماعة مؤلفة من مختاري الله من قبائل الناس في كل العصور وهي المشهد الذي فيه يُظهر الله عجائب حكمته بإجراء عمل الفداء الذي يتفق به العدل والرحمة وتُعاقب الخطيئة ويخلص الخاطئ. وبها أظهر الله حكمته بتجسد المسيح وسحق نسل المرأة رأس الشيطان وتعليم ابنه وجعل موته ينبوع حياة للعالم وبها أعلن الله سامي تلك الحكمة بفعل الروح القدس مثل إرشاده الناس وإقناعهم وتجديدهم وبسياسة الكنيسة وهدايتها ووقايتها من أعدائها الكثيرة داخلاً وخارجاً وتكليلها بنعمة وجمال وإعدادها للكمال في السماء.
إن الكنيسة مؤلفة من خطأة افتداهم المسيح فلا يمكنها من تلقاء نفسها أن تعلم الملائكة حكمة الله ولكنها تُعلن تلك الحكمة كلما بشرت بإنجيل المسيح وصار الإنجيل بواسطتها قوة الله وحكمته لخلاص الناس. وعلى وفق تعليم هذه الآية قال الرسول في رسل الكنيسة ومبشريها «أَرَى أَنَّ ٱللّٰهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَراً لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَٱلنَّاسِ» (١كورنثوس ٤: ٩). وبهذا المعنى قوله «قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣). وبه قال المسيح «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا ١٥: ٧ و١٠ انظر أيضاً متّى ١٨: ١٠ و١كورنثوس ١١: ١٠).
ووُصفت حكمة الله بكونها متنوعة لأن كل حادثة في تاريخ الكنيسة تُظهر علامة جديدة من علامات الحكمة الإلهية فمنها ما صارت إلى تقدمها مع أن ظاهرها كان يدل على ملاشاتها مثل جعل أشد اعدائها وشر مقاوميها من أحسن أصدقائها وخير المحامي عنها. فحكمته تعالى متنوعة لتنوع قضائه وأعماله كدعوة الأمم ورفض اليهود مدة ثم ردهم وقبولهم وجعلهم واسطة خلاص للعالم وأن كل حوادث العالم رُتبت حتى تجري إلى غاية واحدة هي فداء البشر. وهي تشهد بأن حكمة الله كثيرة الأنواع وعجيبة المقدار.
١١ «حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
ص ١: ٩
في هذه الآية بيان أن حكمة الله بالكنيسة جزء من قضائه الأزلي.
حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ أي قصد الله الأزلي الذي كان في العصور الخالية وتحقق أنه يجريه في الحال والمستقبل وهذا مثل قوله في (ص ١: ١١).
ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا أي أن الله أنجز قصده من جهة فداء العالم بتجسد ابنه وموته. وقال في المسيح أنه «يسوع ربنا» لبيان أن المسيح الموعود به هو الذي عرفه الناس بيسوع الناصري وكان حقيقة الرب من السماء.
١٢ «ٱلَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَة».
ص ٢: ١٨ عبرانيين ٤: ١٦
في هذه الآية كرر الرسول معنى قوله «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (ص ٢: ١٨)
ٱلَّذِي بِهِ بناء على ما فعله ليصالحنا مع الله ويكفر عنا خطايانا وبناء على استحقاقه غير المحدود الذي نتكل عليه فالمسيح يقدّر شر الخطأة أن يقترب من الله القدوس الذي هو نار «آكلة» (عبرانيين ١٢: ٢٩).
لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ كجراءة الأولاد وقدومهم عند والديهم لتحققهم أنه يقبلهم ويسمع طلباتهم. وأراد بقوله «لنا» كل المؤمنين لا صنف منهم امتاز على غيره كرؤساء الكنيسة دون رعاياهم فإنه كان لكنهة العهد القديم من حق الاقتراب إلى الله ما لم يكن مثله لغيرهم من الشعب ولكنه منذ موت المسيح شق حجاب الهيكل بين القدس وقدس الأقداس ومنذ ذلك الوقت صار المؤمنون كلهم «جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ» (١بطرس ٢: ٩). وكان ذلك بواسطة «رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ٤: ١٤). وتلك الجراءة خالصة من خوف الرفض مقترنة بالنعمة بتمام المصالحة بين الله والناس بالمسيح.
بِإِيمَانِهِ أي الإيمان الذي هو موضوعه بدليل قوله «ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ» (ص ٢: ١٣). وهذا الإيمان مبني على سمو مقام المسيح وشفاعته وقيمة دمه فعلى كل خاطئ أن يسأل «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي» (ميخا ٦: ٦ و٧). وجواب الإنجيل عن هذا السؤال «بالإيمان بيسوع المسيح». وإن اتكلنا على بر أنفسنا أو على شيء من أعمالنا الصالحة أو على وسيط غير المسيح من أهل الأرض أو أهل السماء كانت محاولتنا الاقتراب من الله عبثاً.
عَنْ ثِقَةٍ هذا متعلق «بقدوم» والمعنى أن المؤمن يقترب من الله بدون أدنى ريب في أن يقبله أو أدنى خوف من أن يرفضه وهذه الثقة مبنية على يقين أن المسيح جعل المصالحة التامة بين الله والإنسان.
إن الفرق عظيم بين تقدم المؤمن إلى الله بواسطة المسيح وتقدم أستير إلى الملك أحشويرش لتسأله حياتها وحياة شعبها بعد أن ذكرت شريعة مملكته وهي «أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ ٱمْرَأَةٍ إِلَى ٱلْمَلِكِ إِلَى ٱلدَّارِ ٱلدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ، فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ، إِلاَّ ٱلَّذِي يَمُدُّ لَهُ ٱلْمَلِكُ قَضِيبَ ٱلذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا» فإنها قالت «أَدْخُلُ إِلَى ٱلْمَلِكِ خِلاَفَ ٱلسُّنَّةِ. فَإِذَا هَلَكْتُ هَلَكْتُ» (أستير ٤: ١١ و١٦).
إن الله يحبنا أكثر مما يحب الوالد أولاده وهو أكثر استعداداً منه لأن يعطي عطايا صالحة لأولاده (متّى ٧: ١١). فيحق لنا أن «نَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عبرانيين ٤: ١٦).
١٣ «لِذٰلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ».
أعمال ١٤: ٢٢ وفيلبي ١: ١٤ و١تسالونيكي ٣: ٣ ع ١ و٢كورنثوس ١: ٦
لِذٰلِكَ أي لأن لكم قدوماً عن ثقة إلى الله الذي هو مصدر كل خير ولأنكم شركاء في فوائد الفداء المذكورة آنفاً (ع ٦ – ١١) ولأن الله أنعم عليّ بأن أكون خادماً لكم لتحصيل تلك الفوائد.
أَطْلُبُ لم يتبين جلياً أن ذلك الطلب إلى الله في الصلاة أو منهم لتحصيل تلك الفوائد.
أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ أي أن لا تجبنوا وتسلموا أنفسكم لليأس بضعف إيمانكم. كان بولس أسيراً في قيصرية سنتين وفي رومية نحو سنتين قبل أن كتب هذه الرسالة فخاف أن تكون لهم شدائده وهو مسجون علة يأس وكلال لأنه امتنع في تلك المدة كلها من أن يجول بخدمهم باعتبار كونه رسولهم.
ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ لأنها لا بد أن تؤول إلى نفعكم. كان بولس يفتخر بضعفاته (٢كورنثوس ١١: ٣٠) لأنه كان كلما زادت زادت تعزيته (٢كورنثوس ١: ٥) ولأنه بها «َأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ: ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ» (كولوسي ١: ٢٤) فأراد أن لا يحسبوا آلامه من أجلهم عاراً عليهم وعلى فشلهم وآية ترك الله إياه فتركه إياهم بل أن يحسبوها سبباً للشكر والسرور إذ هي شهادة بقوة الحق وقوة نعمة المسيح لأنه أسيره وسفيره في سلاسل فهو بذلك شاهد بالحق وبالنعمة. فإن الله بذل ابنه ليتألم من أجلهم وذلك آية محبته لهم فأراد الرسول أن يتخذوا آلامه باعتبار كونه رسول المسيح آية حبه إياهم فوجب عليهم أن يتخذوا شدائده آيات محبة المسيح لهم وموضوع مجد لأن المسيح جعله يتألم من أجلهم ووسيلة للمناداة بالإنجيل بين الأمم الذين هم منهم لكي يشتركوا في كل فوائد الفداء.
صلاة الرسول من أجل كنيسة المسيح وتسبيح لله ع ١٤ إلى ٢١
توجيه الرسول صلاته إلى الله الآب (ع ١٤ و١٥) وكون موضوع صلاته تقويتهم بالروح القدس في الإنسان الباطن أو بأن يمكث المسيح فيهم بالإيمان (ع ١٦ و١٧). وغايته من ذلك أن يتأصلوا في المحبة وأن يدركوا عظمة السر الذي تكلم عليه ليعرفوا بالاختبار وفرة محبة المسيح لهم ويمتلئوا بكل ملء الله (ع ١٨ و١٩).
١٤ «بِسَبَبِ هٰذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
بِسَبَبِ هٰذَا أي كونكم صرتم شركاء الفداء الذي بيسوع المسيح. ابتدأ صلاته من أجل الأفسسيين في الآية الأولى من هذا الأصحاح ثم وقف عنها لما أورده من الكلام المعترض ثم كرر ما ابتدأ به.
أَحْنِي رُكْبَتَيَّ هذا بيان هيئته في الصلاة وهو علامة الاتضاع والرغبة في الطلب.
أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا بيان النسبة بين الله والمؤمنين التي حصلوا عليها بعهد النعمة. إن الله أبو ربنا يسوع المسيح وسيطنا وشفيعنا ولذلك كان أبانا وأبا كل المفديين في كل زمان ومكان في الأرض والسماء. وبناء على هذه النسبة قدم الرسول صلاته بثقة من أجل مؤمني أفسس.
١٥ «ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ».
ض ١: ١٠ وفيلبي ٢: ٩ إلى ١١
ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ العشيرة هنا الجماعة التي هي سلالة أب واحد بعيد أو قريب كالقبيلة وبهذا المعنى جاءت عشيرة داود (لوقا ٢: ٤). والمراد بها في الآية جماعة المفديين الذين صاروا أهل بيت الله لأن المسيح صالحهم له بدمه وأدخلهم في نسبة البنين. فهي لا تشمل هنا الملائكة الأطهار لأنهم لم يسقطوا ولم يحتاجوا إلى الفداء نعم أنهم دُعوا في بعض الأماكن «أبناء الله» لأنهم خلقه أما المؤمنون فدعوا «ابنا الله» لأنهم صاروا بالفداء إخوة الفادي. وتسمى العشيرة بنسبتها إلى اسم أبيها فالمؤمنون يسمون أهل الله وأولاده بناء على نسبتهم إليه أبا روحياً والله يعتبرهم أولاده ويعترف بهم هنا وسيعترف بهم في اليوم الأخير.
١٦ «لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ».
رومية ٩: ٢٣ وص ١: ٧ وفيلبي ٤: ١٩ وكولوسي ١: ٢٧ ص ٦: ١٠ وكولوسي ١: ١١ رومية ٧: ٢٢ و٢كورنثوس ٤: ١٦
ذكر بولس في هذه الآية الطلبة الجوهرية في صلاته وهي أن يقويهم الله «بحسب غنى مجده» في الإنسان الباطن.
بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أي على قدر وفرة صفاته المجيدة. إن كبر النهر أو صغره يتوقفان على كبر الينبوع أو صغره وهبات الملك محدودة طبعاً بمقدار ثروته فسأل بولس الله أن يعامل مؤمني أفسس بمقتضى وفرة مجده لأن ذلك يؤول إلى تمجيده تعالى ونفعهم.
أَنْ تَتَأَيَّدُوا أي تتقووا. لم يطلب الرسول تقوية أذهانهم للإدراك ولا تقوية أرواحهم على شهواتهم بل تقوية الإنسان الجديد على الإنسان العتيق في الحرب بين الجسد والروح التي وصفها الرسول في (رومية ٧: ٢٢ و٢٣ وغلاطية ٥: ١٧) ليتمكنوا من أن يدركوا سر الفداء ويتأسسوا في المحبة ويمتلئوا بكل ملء اللاهوت.
بِٱلْقُوَّةِ أي القوة الإلهية التي هي منشأ القوى فإن الله «يُعْطِي ٱلْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ ٱلْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَٱلْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّراً. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو ٱلرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً» (إشعياء ٤٠: ٢٩ – ٣١) لكي يكونوا «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ» (كولوسي ١: ١١)
بِرُوحِهِ أي الروح القدس الذي به يمنح الله القدير الإنسان الضعيف الذي هو عرضة للسقوط القدرة التي يحتاج إليها. وخلاصة تلك الطلبة سؤال الروح القدس لهم الذي وعد المسيح به تلاميذه بقوله «مَتَى جَاءَ ٱلْمُعَزِّي ٱلَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ ٱلآبِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» (يوحنا ١٥: ٢٦). وبقوله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال ١: ٨).
فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ أي إنسان القلب الخفي (١بطرس ٣: ٤) الذي ذكره الرسول في مقابلة الإنسان الخارج بقوله «إِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً» (٢كورنثوس ٤: ١٦). وأول ما يتجدد المؤمن لا يكون سوى طفل في يسوع المسيح لكنه بعمل الروح القدس في قلبه ينمو على توالي الأيام في المعرفة والنعمة.
١٧ «لِيَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ بِٱلإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ».
يوحنا ١٤: ٢٣ وص ٢: ٢٢
إن التقوية التي سألها بولس لمؤمني أفسس في الآية السادسة عشرة بفعل الأقنوم الثالث سألها في هذه الآية بسكنى الأقنوم الثاني فيهم على وفق قوله «المسيح فيكم رجاء المجد» (كولوسي ١: ٢٧) فسكنى المسيح فيهم ليست نتيجة هبة الروح إذ هما شيء واحد بدليل قول المسيح وهو يعدهم بمجيء ذلك الروح «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ١٦ – ٢٠). وبناء على ذلك قال بولس «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١) وقال «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠).
إن الله يسكن حيث يظهر حضوره إظهاراً خاصاً دائماً وعلى هذا جاء في الكتاب أنه «ساكن السماء» (مزمور ١٢٣: ١) وأن «الساكن في صهيون» (مزمور ٩: ١١) وأنه «يَسْكُنُ، وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ» (إشعياء ٥٧: ١٥). و «في شعبه» (٢كورنثوس ٦: ١٦). وقيل أحياناً أن الله يسكن في قلوب شعبه كما ذُكر وأحياناً «إن روح الله يسكن فيها» (رومية ٨: ٩) وأوقاتاً أن الذي يسكن فيها روح المسيح (رومية ٨: ١٠). وأحياناً أن المسيح نفسه هو الذي يسكن فيها كما في هذه الآية. واختلاف هذه العبارات منبي على كون الأقانيم الثلاثة ذات جوهر واحد وعلى ذلك يصح أن يقال «من رأى الابن فقد رأى الآب أيضاً» وأنه «من له الابن فله الآب» وحيث روح الله يكون الله وحيث روح المسيح يكون المسيح. ويلزم من ذلك أن معنى كون المسيح فينا هو أن روحه لنا وإن كان روحه لنا يستلزم كونه فينا. وجعل مسكنه القلوب باعتبار كونها محل العواطف وحيث يسكن المسيح بروحه تنشأ الحياة الإلهية والمعرفة السماوية والعواطف والأشواق الروحية. والمسيح يرغب أبداً في أن يسكن قلوب المؤمنين دائماً ليس كسكناه وقتاً قصيراً كما كان يسكن هو على الأرض كسكناه في بيت لحم والناصرة وأورشليم. وهو لا يقتصر على أن يسكن الكنيسة جملة بل يسكن كل فرد من مختاريه ليكون حافظاً له وكاهناً ونبياً وملكاً وموضوع محبته وثقته. وله حق أن يجلس على عرش القلب ولا يكتفي بأن يكون له محل في العقل ولا أن يسوس اللسان فقط بل لا يزال يقول اليوم كما كان يقول قديماً يا ابني أعطني قلبك (أمثال ٢٣: ٢٦).
يَحِلَّ بِٱلإِيمَانِ أي إيمانكم فالأعمى إذا وقف أمام أجمل ما في العالمين لا يشعر بجماله فبدون الإيمان في قلوبنا لم يكن للمسيح في أعيننا صورة ولا جمال ولا منظر مشتهى فبذلك الإيمان نقدر أن نتحقق وجوده وجودته ومجده وأن نقبله ونثق بمواعيده ونتمسك به للخلاص فمتى وقف على أبواب قلوبنا وقرع نفتح تلك الأبواب له بالإيمان الذي هو موهبة الروح.
وهنا نهاية طلبة الرسول من أجل مؤمني أفسس وما يأتي بيان نتائجها التي رغب فيها ورجا حصولها وهي تثبيتهم في المحبة وقوتهم على إدراك عظمتها وامتلاؤهم بكل ملء الله.
١٨ «وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ».
كولوسي ١: ٢٣ و٢: ٦ ص ١: ١٨ رومية ١٠: ٣ و١٢ و١٣
وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ هذا نتيجة تقوية الروح في الإنسان الباطن وفي سكنى المسيح في القلوب فليست هي محبة الله أو محبة المسيح لنا بل المحبة باعتبار كونها فضيلة مسيحية بدون بيان ما هو موضوع تلك المحبة كما قال «أَمَّا ٱلآنَ فَيَثْبُتُ ٱلإِيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ، هٰذِهِ ٱلثَّلاَثَةُ وَلٰكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ» (١كورنثوس ١٣: ١٣) وهذه المحبة تنشأ عن الإيمان بدليل قوله «الإيمان العامل بالمحبة» (غلاطية ٦: ٦) وهي أول ما ذُكر من أثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٣) وهي لله وللإخوة وتوضح حال النفس وهي متأصلة ومتأسسة في المسيح.
وقوله «متأصلون ومتأسسون» مجاز فيه استعارتان الأولى استعارة الشجرة الممتدة أصولها في التربة والثانية استعارة البناء الراسخ على أساسه للمؤمنين. والمعنى أن المحبة أثرت فيهم تأثيراً عظيماً كالعصير في أصل الشجرة فإنه يؤثر في كل غصن وورقة وزهرة وثمر في الشجرة فالمحبة المسيحية تؤثر في كل فكر وقول وفعل في مسيحي أفسس أفراداً وإجمالاً. ومراده بكونه «متأسسين في المحبة» أنه كما يكون في البناء أن كل طبقة وقنطرة وعمود وحجر من أسفله إلى قمته يحفظ موضعه وصورته وجماله من متانة أساسه كذلك كنيسة أفسس بمحبتها للمسيح ولكل مؤمن تبقى ثابتة حسناء كاملة على وفق قوله «ٱلْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلٰكِنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَبْنِي» (١كورنثوس ٨: ١) فيحق أن يُقال في المحبة أنها الفضيلة الأساسية.
حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا كما يجب. وهذه الكلمات تشير إلى أنه يعسر على المؤمنين أن يدركوا محبة المسيح وإلى وجوب أن يجتهدوا في إصابة ذلك الإدراك وإلى افتقارهم إلى المعونة السماوية فوق كونهم متأصلين ومتأسسين في المحبة. وهذا الإدراك يتضمن معرفة واختباراً والعلاقة بين التأسس في المحبة وإدراك محبة المسيح هي أن اختبار المحبة في القلوب إعداد للثقة بحقيقة محبة المسيح وعظمتها. إن الذي لا يشعر في قلبه بالمحبة لغيره لا يقدر أن يدرك محبة غيره له. والإدراك الذي طلبه الرسول في صلاته روحي ومصدره الروح القدس ولا يقدر أن يحصل عليه إلا الروحيون الذين تجددوا واستنيروا من العلى.
مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ أي مع كل شعب الله. وهذا يدل على أن شعب الله يعتبر هذا الإدراك من أثمن المطالب وإنما يحصلون عليه برغبتهم في طلبه إجابة لصلواتهم وصلوات الرسول من أجلهم. وأن اتفاق المؤمنين على طلب هذا الإدراك يمكنهم من تحصيل مقدار أعظم مما لو طلبه كل وحده.
مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ أي عظمة محبة المسيح التي حملته على تقديم نفسه ذبيحة لفدائنا. إن الإنسان متى أراد أن يصف عظمة مادة كبناء أو هيكل يستعمل تلك الكلمات الهندسية التي اعتاد الناس استعمالها في مساحة البناء فاتخذها الرسول لوصف أمر روحي وهو محبة المسيح ونحن نفهم منها أنها تشير إلى أن تلك المحبة عظيمة جداً مع أننا لا نستطيع أن نحكم بما قصد من كل منها. وكثرة الأقوال بها دليل واضح على عدم إمكان المفسرين إصابة حقيقتها ولنذكر أحدها مثالاً لباقيها وهو.
إن المراد «بعرض» المحبة أنها واسعة تمتد إلى كل الأمم المنتشرة على وجه الأرض. «بطولها» أنها تشمل الناس في كل العصور وتدوم إلى نهاية العالم. و «بعمقها» الإشارة إلى زيادة الشقاء والفساد اللذين تنشل المحبة الناس منها و «بعلّوها» أنها ترفع الناس إلى السماء ليتمتعوا بمجده ومحبته. ولا دليل على أن الرسول قصد ذلك أو ما يشبهه إنما عنى أن محبة المسيح في غاية العظمة فيصح أن يقال فيها ما قيل في معرفة الله في سفر أيوب وهو قوله «أَإِلَى عُمْقِ ٱللّٰهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ ٱلْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ ٱلأَرْضِ طُولُهُ وَأَعْرَضُ مِنَ ٱلْبَحْرِر» (أيوب ١١: ٧ – ٩).
١٩ «وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١: ١٦ وص ١: ٢٣ وكولوسي ٢: ٩ و١٠
وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ أي تعرفوها بعض المعرفة وتعلموا أن الموضوع فوق علم الإنسان لكونه ليس بمحدود. ولا يقدر أن يعلمه أحد تمام العلم إلا الله. وكانت محبة المسيح لنا فائقة المعرفة لأنه الله وكل ما يتعلق بالله لا يستطيع البشر أن يدركوه إدراكاً تاماً مثل أبديته وأزليته وكونه في كل مكان. ولا نستطيع إدراكها لأننا لا نستطيع إدراك التنازل المتعلق بتلك المحبة ولا شدة آلام المسيح التي احتملها لكي يظهر محبته ولا عظمة البركات التي تنال بواسطتها. وعدم إمكاننا أن ندرك عظمة تلك المحبة لا يمنع أن نعرف أنها عجيبة مجانية خالصة متأنية دائمة وعدم استطاعتنا إدراك ذلك الآن يستلزم أن المؤمنين يتقدمون شيئاً فشيئاً في إدراك محبة المسيح على قدر ما يبديه المسيح من المظاهر الجديدة لتلك المحبة وعلى قدر زيادة اختبارهم إياها وزيادة اقتدارهم على معرفتها والشعور بها.
لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ أي لكي تبلغوا الكمال الإلهي كقوله في المسيح «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ» (كولوسي ١: ١٩). وقوله «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤).
إن الله كامل الحكمة والعلم المحبة وهذا الكمال هو معنى الملء فالمؤمنون يمتلئون بتلك الفضائل على قدر ما لهم من الإمكان وذلك نتيجة سكنى المسيح فيهم وما يدركونه من عظمة محبته. وهذا موافق لقول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول الرسول «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣) فالقياس الذي يجب على المؤمنين أن يجعلوه نصب عيونهم لكي يبلغوه هو الكمال التام وسيملكونه بنعمة الله لا دفعة بل تدرجاً لأنهم قد عينوا سابقاً «ليكونوا مشابهين صورة ابن الله» (رومية ٨: ٢٩). فيكونوا أناساً كاملين كما أن الله إله كامل أي أنهم متى سكن الله فيهم إلى الغاية أخذوا يفتكرون ويشعرون ويعملون كما يشاء الله منهم. ومن سكن المسيح قلبه بالإيمان لا يعوزه شيء لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة لأن المسيح «هو الكل في الكل» (كولوسي ٣: ١١). وله في المسيح القوة والإيمان والمحبة والحكمة والعلم والقداسة كقول الرسول «كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ… أَمِ ٱلْعَالَمُ، أَمِ ٱلْحَيَاةُ، أَمِ ٱلْمَوْتُ، أَمِ ٱلأََشْيَاءُ ٱلْحَاضِرَةُ، أَمِ ٱلْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَٱلْمَسِيحُ لِلّٰهِ» (١كورنثوس ٣: ٢١ – ٢٣). ومتى امتلأ المؤمن بكل ما يمكن المخلوق بلوغه من الملء بقي البون عظيماً بينه وبين الله وما أعظم الفرق بين ملء القدح وملء الأوقيانوس. والفرق بين كمال المخلوق وكمال الخالق أعظم جداً.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ ٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، ٢١ لَهُ ٱلْمَجْدُ فِي ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ».
رومية ١٦: ٢٥ ويهوذا ٢٤ و١كورنثوس ٢: ٩ ع ٧ وكولوسي ١٠: ٢٩ رومية ١١: ٣٦ و١٦: ٢٧ وعبرانيين ١٣: ٢١
ختم الرسول الجزء التعليمي من رسالته إلى الرومانيين بتمجيد حكمة الله الفائقة (رومية ١١: ٣٣ – ٣٦) وختم الجزء التعليمي من هذه الرسالة بتمجيد قوة الله ومحبته.
وقد بلغ الرسول بصلاته من أجل مؤمني أفسس أسمى ما يمكن أن يبلغه الإيمان أو الرجاء أو التصور لكنه ما اكتفى بما طلبه لهم لأنه علم أن الله يقدر أن يعلم أكثر مما يستطيع أن يطلبه أو يفتكر فيه بما لا يوصف فجعل قوة الله قياس الهبات التي أرادها لهم لا صلاته ولا تصورات قلبه وأظهر ذلك على طريق التسبيح.
وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ… نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ ما اكتفى الرسول في هذه الآية بوصف الله بأنه قادر على كل شيء بل زاد على ذلك بيان أنه قادر على أن يفعل فوق كل شيء ثم ما اكتفى بهذا حتى قال أنه يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر. ولنا من ذلك أن وجود الله لا يقيد بطلباتنا أو بتصورنا ما نحتاج إليه أو ما يقدر هو أن يهبه. فإذاً لا حد لوفرة البركات التي يتوقعها من يسكن المسيح في قلوبهم فإنهم مواضيع محبته.
بِحَسَبِ ٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا إن القوة التي أظهرها الله لنا في الماضي والحاضر هي القوة التي لنا أن نتوقع إعلانه إياها لنا في المستقبل.
إن الله الآب قد أرسل الروح القدس ليعمل فينا فنعلم من ذلك أنه يفعل فوق كل ما نقدر أن نطلبه أو نتصوره.
لَهُ أي الله القدير ووله وحده.
ٱلْمَجْدُ أي ليتمجد الله. أو المعنى ليكن مجد الله معروفاً ومعترفاً به وهذا المجد هو نتيجة كل ما ذُكر من أعمال الله.
فِي ٱلْكَنِيسَةِ إن الكنيسة هي مشهد يُعرف فيه ذلك المجد ويُعلن وهي جماعة المؤمنين في السماء وعلى الأرض وفيها أظهر الله حكمته المتنوعة ونعمته غير المحدودة في القرون الماضية وسيظهرها في كل القرون الآتية وهي لا تزال تنسب له إلى الأبد المجد والإكرام والسلطة.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي أن الكنيسة تمجد الله بواسطة المسيح رأسها ونائبها وهذا مناسب لكل فحوى هذه الرسالة باتحاد الكنيسة في المسيح.
إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ أي إلى الأبد. جمع الرسول في هذه الكلمات ما يستعمله الناس إشارة إلى أزمنة متوالية طويلة لكي يعبر بها عن الزمان الذي لا نهاية له أي الأبدية.
آمِينَ أي ليكن كذلك. وأظهر الرسول بهذا رغبته في أن يتم ما سأله ويدعو لكل قراء الرسالة أن يوافقوه على ذلك وسؤال الإجابة.
السابق |
التالي |