الرسالة الأولى إلى تيموثاوس | 03 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الأولى إلى تيموثاوس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
صفات خدم الكنيسة وما يجب عليهم
صفات الأسقف (ع ١ – ٧) قيل هنا أن عمله شريف (ع ١ – ٣) فيجب أن يكون صيته حسناً وسجاياه ممدوحة أمام الله والناس وأنه يسوس بيته حسناً (ع ٤ و٥). وأن يكون بالغاً في السن مختبراً الأمور حتى لا يقع في التجارب التي تعتري الشبان خاصة (ع ٦). وأن يكون ممدوحاً من الأجانب (ع ٧).
صفات الشمامسة (ع ٨ – ١٣). منها أن يكون الشماس حسن السمعة وقوراً مخلصاً (ع ٨) متمسكاً بالتعليم الصحيح (ع ٩) وأن يوجد بعد الامتحان أنه أهل للشمامسة (ع ١٠). وأن تكون زوجته مثالاً في الأعمال الصالحة (ع ١١). وأن يكون بعل امرأة واحدة ويسوس بيته حسناً (ع ١٢ و١٣).
بيان ما حمل الرسول على كتابة هذه الرسالة إلى تيموثاوس. إيضاح أهمية واجباته للكنيسة وعظمة الحقائق التي يُنادى بها بواسطة الكنيسة (ع ١٤ – ١٦).
صفات الأسقف وما يجب عليه ع ١ إلى ٧
١ «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: إِنِ ٱبْتَغَى أَحَدٌ ٱلأُسْقُفِيَّةَ فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحاً».
ص ١: ١٥ وأعمال ٢٠: ٢٨ وفيلبي ١: ١ وأفسس ٤: ١٢
صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ هذا من العبارات التي لا يجوز أن يشك أحد في صحتها وكانت جارية في الكنيسة الأولى مجرى المثل. ذكرها الرسول كثيراً في رسائله الراعوية (انظر تفسير ص ١: ١٥) والمعنى أن ما يأتي حق.
إِنِ ٱبْتَغَى أَحَدٌ ٱلأُسْقُفِيَّةَ ذكر الأسقف في (أعمال ٢٠: ٢٨ وفيلبي ١: ١ و١تيموثاوس ٣: ٢ وتيطس ١: ٧ و١بطرس ٢: ٢٥) والمراد به الناظر أو الرقيب ويُطلق في الإنجيل على المعتني بالكنيسة بقطع النظر عن مقامه فيها. ويُسمى بالشيخ وبالقسيس أيضاً (قابل ما قيل هنا بما في في تيموثاوس ١: ٥ – ٧). فالثلاثة في الأسماء واحد في الذات فالذين سموا «أساقفة» في (أعمال ٢٠: ١٧). سموا شيوخاً في (أعمال ٢٠: ٢٨). وتبين من كلام لوقا عند خطاب بولس لخدم كنيسة أفسس في ميليتس أنه لم يكن فيهم أسقف واحد فقط بدليل قوله «وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَٱسْتَدْعَى قُسُوسَ ٱلْكَنِيسَةِ» (أعمال ٢٠: ٢٨). وكانت حال كنيسة فيلبي في ذلك كحال كنيسة أفسس (فيلبي ١: ١). واتخذت الكنيسة المسيحية لفظة «شيخ» من المجمع اليهودي الذي كان فيه الشيوخ منذ قرون قبلما نشأت الكنيسة المسيحية. وسموا بذلك في المجمع والكنيسة لأنهم كانوا متقدمين على غيرهم في السن والاختبار ثم أُطلق هذا الاسم على أصحاب الرتبة بقطع النظر عن السن. فان كل رعاة الكنائس وقسوسها في أيام الكنيسة الأولى يُسمون «شيوخاً» و «أساقفة» وكانوا سواء في المقام والسلطة فهؤلاء مع الرسل (مدة حياتهم) لم يكن غيرهم رئيساً للكنيسة سوى الرأس غير المنظور.
فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحاً هذا لا يصدق على كل عمل يشتهيه الناس ويمارسونه. فهذا العمل المذكور هنا صالح لأن الإنسان يستطيع بممارسته أن يمجّد الله ويفيد إخوته البشر لكن ليس جميع الذين يشتهون ذلك العمل أهلاً له بل أهله الذين دعاهم الروح القدس ومن دعاهم هذا الروح إلى ذلك العمل يؤهلهم له. لم يتكلم الرسول هنا على مواهب الروح القدس السامية التي تؤهل الإنسان للأسقفية وقصر كلامه في خطاب تيموثاوس على وصف بعض الصفات الضرورية للأسقف حتى لا يسمح لأحد أن يمارس ذلك العمل ما لم تكن له تلك الصفات.
٢ «فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ٱلأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ ٱمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، صَاحِياً، عَاقِلاً، مُحْتَشِماً، مُضِيفاً لِلْغُرَبَاءِ، صَالِحاً لِلتَّعْلِيمِ».
تيطس ١: ٦ الخ ص ٥: ٩ و٢تيموثاوس ٢: ٢٤
بِلاَ لَوْمٍ بلا ما يجلب عليه اللوم من أعماله. فيجب أن تكون سيرته في الماضي والحال طاهرة مستقيمة مشكورة لئلا يضر صيت الكنيسة ويعجز عن إفادتها. وقيل مثل ذلك في (تيطس ١: ٦). فإذاً لا يكفي أن يكون طالب الأسقفية عالماً فصيحاً بل يجب أن يكون باراً في تصرفه بين الناس وأن لا يكون من المجرمين في الجسديات أو الروحيات.
بَعْلَ ٱمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أي ليس له سوى امرأة واحدة في وقت واحد. فإن بعض اليهود في عصر بولس كانوا متعددي الزوجات وكان الرومانيون واليونانيون لا يبالون في عصر بولس بأمر العفاف ولا يكرمون الزواج وكان الطلاق شائعاً بين اليهود والأمم لأسباب زهيدة (متّى ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ٣ – ٩) ونظراً لقلة اعتبار العفاف في المملكة الرومانية والترتيب الذي عيّنه الله في الزواج صرّح بولس بأن الذي يريد الأسقفية في الكنيسة المسيحية يجب أن يكون مثالاً في حياته البيتية متزوجاً امرأة واحدة أميناً لها.
إن ما ذُكر لا يستلزم وجوب أن يكون الأسقف متزوجاً بل فيه ترجيح أن يكون متزوجاً لأنه تكلم على أولاده في (ع ٤). فالذين يمنعون زيجة خدم الدين يخالفون قول الرسول هنا وقوله في (عبرانيين ١٣: ٤) وحكم الله الأصلي بقوله «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ» (تكوين ٢: ١٨).
ليس في ما قاله الرسول هنا ما يمنع من زيجة الأسقف ثانية بعد موت زوجته لأن ليس في الكتاب من دليل على تحريم ذلك بل فيه تصريح بجوازه بدليل قوله «ٱلْمَرْأَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ مَا دَامَ رَجُلُهَا حَيّاً. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ رَجُلُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ لِكَيْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ تُرِيدُ، فِي ٱلرَّبِّ فَقَطْ» (١كورنثوس ٧: ٣٩) وما يسوغ للمؤمنة يسوغ للمؤمن وما يسوغ لأحد المسيحيين يسوغ للقسيس.
وغني عن البرهان أن الآية تستلزم نهي الشيخ عن اتّباع عوائد اليهود والأمم في ذلك العصر من أن يتزوج المرء امرأة ويطلقها مراراً حتى يكون زوج ثلاث نساء أو أربع مطلقات لا يزلن في قيد الحياة. فالشريعة الإلهية تحكم أن كل امرأة مطلقة لعلة غير علة الزناء لا تزال امرأة المطلق فالذي يأتي خلاف ذلك لا يصلح أن يكون أسقفاً. «بعل امرأة واحدة» هو أن تلك المرأة هي الكنيسة ولا يحق له أن يأخذ غيرها ولكن هذا خال من البرهان ومناف للنص والواقع.
صَاحِياً أي منتبهاً لحاجات الكنيسة غير غافل ولا سكّير.
عَاقِلاً أي هادئاً حليماً.
مُحْتَشِماً أي معتزلاً كل ما يستحيا منه حاملاً للناس على إكرامه متصرفاً تصرّفاً يليق بمقامه في الكنيسة.
مُضِيفاً لِلْغُرَبَاءِ كان المؤمنون في عصر الكنيسة الأولى يجولون كثيراً من مكان إلى آخر يجول بعضهم اختياراً للتبشير بالإنجيل وبعضهم اضطراراً إما لسبب الاضطهاد في أوطانهم أو لنفي أرباب الحكومة إيّاهم فكان هؤلاء يذهبون طبعاً إلى بيوت أمثالهم في الإيمان فكان يليق بالأسقف خصوصاً أن يكون مثالاً لغيره من أعضاء الكنيسة في إضافة مثل أولئك الغرباء وينفق عليهم غير متوقع العوض. ومثل هذا القول قوله لمؤمني رومية «مُشْتَرِكِينَ فِي ٱحْتِيَاجَاتِ ٱلْقِدِّيسِينَ، عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ ٱلْغُرَبَاءِ» (رومية ١٢: ١٣). وقوله في رسالة العبرانيين «لاَ تَنْسَوْا إِضَافَةَ ٱلْغُرَبَاءِ، لأَنْ بِهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلاَئِكَةً وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ» (عبرانيين ١٣: ٢).
صَالِحاً لِلتَّعْلِيمِ أي عارفاً ما هو ضروري لتعليم حقائق الديانة المسيحية وقادراً على التعبير عما يعرفونه فإن غيرة الأسقف جيدة لكنها لا تكفي بلا عمل فيجب أن يكون الأسقف صالحاً للتعليم لكي يبني المؤمنين ويبكم المضلين.
٣ «غَيْرَ مُدْمِنِ ٱلْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ بِٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ، بَلْ حَلِيماً، غَيْرَ مُخَاصِمٍ، وَلاَ مُحِبٍّ لِلْمَالِ».
ع ٨ وتيطس ١: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ٢٤ و١بطرس ٥: ٢ وتيطس ١: ٦
بعض ما بيّنه الرسول في ما سبق من صفات الشيخ إيجاباً أخذ يبيّنه هنا سلباً.
غَيْرَ مُدْمِنِ ٱلْخَمْرِ أي غير مولع بالمسكرات فإن المسكرات كانت محظورة على كهنة اليهود مدة خدمته (لاويين ١٠: ٩) فكما لاق أن يُمنعوا منها لاق أن يُمنع منها قسوس المسيحيين لأن إدمانها يعجزه عن التصرّف بالحكمة في الأمور العالمية والأمور الإلهية وفي أموره.
وَلاَ ضَرَّابٍ إن مدمن الخمر عرضة لأن يضرب غيره ولعل مثل هذا جرى لغيظ في كنيسة أفسس كما جرى في كنيسة كورنثوس بدليل قول الرسول «لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ… إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ» (٢كورنثوس ١١: ٢٠) ولعل بعض القسوس أتوا ذلك لشدة غيرتهم الدينية كما فعل نحميا باليهود الذين تزوجوا الأجنبيات بدليل قوله «فَخَاصَمْتُهُمْ… وَضَرَبْتُ مِنْهُمْ أُنَاساً» (نحميا ١٣: ٢٥).
وَلاَ طَامِعٍ بِٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ في هذا إشارة إلى أن شدة الرغبة في جمع المال تقود إلى اتخاذ وسائط مذمومة بغية جمعه. إن الطمع يجعل صاحبه عرضة للحسد والخصام (ص ٦: ١٦ وعبرانيين ١٣: ٥). وقد حذّر المسيح تلاميذه منه بقوله «ٱنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ» (لوقا ١٢: ١٥). ووبخ الفريسيين عليه أمامهم تحذيراً لهم من التمثل بهم (لوقا ١٦: ١٤). نعم لشيخ الكنيسة حق أن يسأل أسباب المعاش وما يقوم بحاجات أهل بيته. ولكن إذا أظهر شدة رغبته في حشد المال خالف الإنجيل وعرّض نفسه للتجربة وأضاع نفعه لغيره.
بَلْ حَلِيماً الحلم صفة لائقة بالرئيس الروحي خصوصاً اقتداء بسيده.
غَيْرَ مُخَاصِمٍ أي غير محب للجدال وغير سريع الغضب.
وَلاَ مُحِبٍّ لِلْمَالِ أي غير بخيل وغير مجتهد في جمع المال لمجرد حبه إياه.
٤ « يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَناً، لَهُ أَوْلاَدٌ فِي ٱلْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ».
يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَناً تُعرف صفات الإنسان من أسلوب تدبيره لبيته فتصرّفه خارج البيت لا تُعرف منه حقيقة صفاته. والمراد «بالبيت» هنا الزوجة والأولاد والخدم. فيجب أن يكون راعي الكنيسة مثالاً لغيره في الاقتصاد والكرم والتقوى والغيرة لتمجيد الله.
لَهُ أَوْلاَدٌ فِي ٱلْخُضُوعِ عدّ الرسول كون الأسقف متزوجاً وله أولاد من الأمور التي لا بد منها وخص بالذكر من أمور تدبير البيت تربية الأولاد لأن الأولاد دون التربية الواجبة عار على البيت وضرر للأولاد ومثال رديء لغيره ولا سيما إذا كان صاحب البيت راعي كنيسة. إن أمر الله للولد بأن يُكرم أباه وأمه يستلزم وجوب من يتخذ الوالدون الوسائل المؤدية إلى أن يطيعهم الأولاد وأن يؤدبهم إذا اقتضت الحال. فعالي الكاهن جلب على نفسه وعلى بيته غضب الله لأنه لم يجبر أولاده على طاعتهم إياه (١صموئيل ٣: ١٣).
بِكُلِّ وَقَارٍ هذا من الصفات الواجب أن تكون للاسقف وهو أن يكون بالاحتشام اللائق باعتبار كونه رأس البيت ورئيس الكنيسة فيعتزل الخفة والمزاح الزائد إلى حد يكون عنده غير مستعد لتقديم الصلاة في وقت الحاجة أو قليل الاعتبار عند الناس ويضعف سلطانه على التوبيخ والتعليم في الأمور الدينية أخطأ بذلك.
٥ «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ ٱللّٰهِ؟».
اعتبر بولس عجز الإنسان عن «تدبير بيته حسناً» دليلاً على كونه عاجزاً عن سياسة الكنيسة لأن تدبير بيته الخاص أسهل من تدبير بيت الله لأنه أصغر وأقل أهلاً وسلطانه عليه أعظم من سلطانه على الكنيسة وهو يخالط أهل بيته أكثر مما يخالط أعضاء الكنيسة. فإذا خلا من الصفات التي تقدره على الصغير فكم بالأولى يخلو من الصفات التي تقدره على الكبير. وإذا أظهر القسوة والخشونة وقلة المحبة لأولاده حتى غفل عنهم وأتى المحاباة بينهم ظهر بذلك أنه غير أهل لسياسة أهل بيت الإيمان حتى يجعلهم إخوة وأخوات في المسيح وفي الحب والوفاق.
٦ «غَيْرَ حَدِيثِ ٱلإِيمَانِ لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ».
إشعياء ١٤: ١٣
غَيْرَ حَدِيثِ ٱلإِيمَانِ أي لا يليق أن يُقام حديث الإيمان أسقفاً قبل أن يمر عليه زمن يتحقق به إيمانه وقبل أن يحصل على المعرفة الواجبة بالاختبار وقبل أن يتحقق غيره حكمته وأمانته. وكان تيموثاوس حديث السن (ص ٤: ١٢) لكنه لم يكن حديث المعرفة للدين ولا حديث الخدمة في التبشير بالإنجيل.
لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ أي يُعرّض نفسه بكبريائه للسبب الذي سقط به الشيطان بدليل قول بطرس (٢بطرس ٢: ٤). فقول الرسول هنا يستلزم أن الشيطان شخص حقيقي لا شر ممثل وأنه سقط من حال القداسة التي كان فيها ودين وأنه قادر الآن على أن يكمن لغيره ويجربه وأن علة سقوطه كانت إعجابه بنفسه ونفي مذهب ماني الفارسي وهو أنه كان منذ الأزل مبدآن أحدهما الخير والآخر الشر أو مملكة النور ومملكة الظلمة وأنهما خصمان أزليان فإن الشيطان كان في أول أمره ملكاً ثم عصى الله وسقط ودين ولم يزل له سلطان يمارسه لتضليل من يقبلون إغراءه.
٧ «وَيَجِبُ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ وَفَخِّ إِبْلِيسَ».
أعمال ٢٢: ١٢ و١كورنثوس ٥: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ١٢ ص ٦: ٩ و٢تيموثاوس ٢: ٢٦
لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ أي من الأمم الذين هم خارج الكنيسة (لوقا ٥: ١٢ وكولوسي ٤: ٥) وأراد بهم جيرانه ومعارفه وأصدقاءه وسائر من يخالطهم في المعاملات وهم ليسوا من جماعة المؤمنين فيجب أن يكون الأسقف ممن يقدرون أن يشهدوا باستقامته وصدقه وطهارته قبل أن يتعيّن أسقفاً للكنيسة. ومثل هذه الشهادة كان لتيموثاوس من رفقائه قبل أن أخذه بولس معيناً له على التبشير (أعمال ١٦: ٢).
لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ إن كان ليس له صيت حسن قبل أن يُقام أسقفاً كان عرضة بعد إقامته أسقفاً للتّهم القبيحة وتصديق الناس إياها بسهولة. فحسن صيته قبل الأسقفية يكون له بعدها ترساً يرد به سهام التُهم والتغيير.
وَفَخِّ إِبْلِيسَ أي الفخ الذي يضعه إبليس في طريقه (٢تيموثاوس ٢: ٢٦). فإن تعييره على الخطايا السالفة يقوده إلى اليأس حين رفع الشكايات عليه أو يجعله عرضة لشدة الغيظ على المتهمين وفي الدفع عن نفسه. فنظراً إلى صعوبة دفع مثل تلك الشكايات التي يتخذها إبليس وسيلة إلى حمل الغير على التشكي منه والشكاية عليه نصح بولس أن لا يُقام مثل هذا أسقفاً وإن كان قد تاب واصطلح.
كلام في الشمامسة والشماسات ع ٨ إلى ١٣
٨ «كَذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ٱلشَّمَامِسَةُ ذَوِي وَقَارٍ، لاَ ذَوِي لِسَانَيْنِ، غَيْرَ مُولَعِينَ بِٱلْخَمْرِ ٱلْكَثِيرِ، وَلاَ طَامِعِينَ بِٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ».
أعمال ٦: ٣ ولاويين ١٠: ٩ وحزقيال ٤٤: ٢١ وع ٣
كَذٰلِكَ أي يجب أن يمتاز الشمامسة بالصفات التي يمتاز بها الأساقفة.
ٱلشَّمَامِسَةُ ذُكروا مع الأساقفة في (فيلبي ١: ١). وقد أُنشئت الخدمة الشماسية في الكنيسة لاقتضاء الحال الاعتناء بالفقراء (أعمال ٦: ٣ و٤). وكان عدد الشمامسة في كنيسة أورشليم سبعة اختارتهم الكنيسة ورسمهم الرسل بالصلاة ووضع الأيدي عليهم. ونستنتج من الصفات المطلوبة منهم ومن الإِشارة إلى عملهم في تاريخ الكنيسة أنهم كانوا مساعدين لشيوخ الكنيسة في تدبير أمورها الزمنية. وكان اثنان من أولئك الشمامسة مبشريين فضلاً عن كونهما شماسين وهما فيلبس واستفانوس. وكما علمنا بوجود الشمامسة في كنيسة أورشليم علمنا بوجودهم في كنيسة كورنثوس لكنهم دُعوا في كنيسة كورنثوس «أعواناً» (١كورنثوس ١٢: ٢٨). وفي كنيسة رومية وسموا فيها «أصحاب خدمة» (رومية ١٢: ٧). وفي كنيسة فيلبي (فيلبي ١: ١) وفي كنيسة أفسس (ص ٣: ٨ و١٣). وفي كنائس أسيا الصغرى وسموا فيها «خدماً» (١بطرس ٤: ١١) كما يستفاد من الأصل اليوناني.
ذَوِي وَقَارٍ كما يليق بوكلاء الكنيسة (ع ٤).
لاَ ذَوِي لِسَانَيْنِ أي ينبئون بعض من يزورونهم في الخدمة شيئاً ويخبرون غيرهم بضده ويَعِدون ولا يَفون.
غَيْرَ مُولَعِينَ بِٱلْخَمْرِ أي يجب أن يكونوا مثالاً في الصحو واعتزال الشهوات (ع ٣).
وَلاَ طَامِعِينَ بِٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ لأن ذلك ضروري للذين وكلت إليهم إحسانات الكنيسة ليوزعوها على الفقراء وإلا اشتهوا المال وأنفقوه على أنفسهم كما فعل يهوذا الاسخريوطي (يوحنا ١٢: ٦).
٩ « وَلَـهُمْ سِرُّ ٱلإِيمَانِ بِضَمِيرٍ طَاهِرٍ».
ص ١: ١٩
لَـهُمْ سِرُّ ٱلإِيمَانِ أي الحق الإلهي الذي كان مكتوماً عن الناس حتى أُعلن بالمسيح والروح القدس (رومية ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ٢: ٧ – ١٠). ودُعي هذا الحق «سر الإيمان» لأنه موضوع الإيمان ولا يدركه إلا المؤمن وهو هنا ما يتعلق بالفداء بدم المسيح.
بِضَمِيرٍ طَاهِرٍ فيستمر على ما آمن به لتصديق ضميره إياه ويُظهر إيمانه بالأعمال الصالحة.
١٠ «وَإِنَّمَا هٰؤُلاَءِ أَيْضاً لِيُخْتَبَرُوا أَوَّلاً، ثُمَّ يَتَشَمَّسُوا إِنْ كَانُوا بِلاَ لَوْمٍ».
لِيُخْتَبَرُوا أَوَّلاً كما أوجبه في انتخاب الأسقف بقوله «غير حديث الإيمان» (ع ٦) فيجب على مبتغي الشماسية أن يُظهر استقامته بطريق ما قبل أن يُعين شماساً على وفق قول الرسل لجمهور التلاميذ «ٱنْتَخِبُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ مِنْكُمْ، مَشْهُوداً لَـهُمْ» (أعمال ٦: ٣).
١١ «كَذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ٱلنِّسَاءُ ذَوَاتِ وَقَارٍ، غَيْرَ ثَالِبَاتٍ، صَاحِيَاتٍ، أَمِينَاتٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ».
تيطس ٢: ٣
ٱلنِّسَاءُ المرجح أن المراد «بالنساء» هنا الشماسات لا نساء الشمامسة لأنه لم يقل شيئاً في صفات زوجة الأسقف. وهؤلاء الشماسات إما أن يكنّ أرامل وإما طاعنات في السن ليكن أهلاً لخدمة الكنيسة بتوزيع مال الإحسان. وعبّر عنهم «بالنساء» إذ لا لفظة في اليونانية تفيد معنى شماسات. والصفات المطلوبة منهن مواجبة على كل مؤمنة ولا سيما اللواتي تعيّن لخدمة مخصوصة في الكنيسة. والمرجح أنه كانت من تلك الشماسات فيبي في كنيسة كنخريا (رومية ١٦: ١) وأفودية وسنتيخي في كنيسة فيلبي (فيلبي ٤: ٢) وطابيثا في كنيسة يافا (أعمال ٩: ٣٦ – ٤١).
ذَوَاتِ وَقَارٍ كما طُلب من الشمامسة. فيجب أن يكن وافرات الحشمة واللطف حتى يجعلن كل الناس يعتبرونهن.
غَيْرَ ثَالِبَاتٍ لأن لسان المرأة يمكنه أن يجرح أكثر من سيف الرجل فيجب أن لا يكنّ حاسدات ولا نمامات ولا خادعات.
صَاحِيَاتٍ منكرات أنفسهنّ ليكنّ مثلاً لغيرهنّ فيجعلنّ تعليمهنّ مؤثراً.
أَمِينَاتٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ لرجالهنّ وأولادهنّ والكنيسة والمسيح في الأمور الكبيرة والصغيرة والروحية والزمنية لدى الناس ولدى الله. ويجب على كل المؤمنات أن يكن أمينات ولا سيما اللواتي يوزعن الصدقات على البائسات والمرضى وينصحنَ ويعلمنَ الجاهلات.
١٢ «لِيَكُنِ ٱلشَّمَامِسَةُ كُلٌّ بَعْلَ ٱمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، مُدَبِّرِينَ أَوْلاَدَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ حَسَناً».
عاد الرسول هنا إلى الكلام في الشمامسة وما قيل في هذه الآية في شأنهم قيل في الأساقفة في الآية الثانية.
بَعْلَ ٱمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ (انظر تفسير ع ٢).
مُدَبِّرِينَ أَوْلاَدَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ حَسَناً (انظر تفسير ع ٤ و٥) فممارستهم الفضائل البيتية دليل على أهليتهم لخدمة بيت الله. واعتناؤهم بأولادهم أفضل استعداد للاعتناء بالفقراء والمرضى والمصابين.
١٣ «لأَنَّ ٱلَّذِينَ تَشَمَّسُوا حَسَناً يَقْتَنُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَرَجَةً حَسَنَةً وَثِقَةً كَثِيرَةً فِي ٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
متّى ٢٥: ٢١
ذكر الرسول في هذه الآية حسن الجزاء الذي يجازي به الله الشماس الأمين السالك بمقتضى ما ذُكر من القوانين.
يَقْتَنُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَرَجَةً حَسَنَةً في يوم الله العظيم فهم ينفعون أٰنفسهم فضلاً عن نفعهم للكنيسة لأنهم ينالون رضى الله وثوابه. وأشار السيد إلى مثل هذا بقوله «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلأَمِينُ» (متّى ٢٥: ٢١).
وَثِقَةً كَثِيرَةً فِي ٱلإِيمَانِ أي يتحققون أن المسيح اعترف بأنهم له وأن الله قبلهم وأنهم نالوا نعمة تمكنهم من الإيمان بالمسيح وخدمته على الأرض وتوقع أن يتمجدوا معه في السماء.
بيان أهمية مضمون ما سلف ع ١٤ إلى ١٦
١٤ «هٰذَا أَكْتُبُهُ إِلَيْكَ رَاجِياً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَنْ قَرِيبٍ».
هٰذَا أي ما سبق.
رَاجِياً الخ يتبين من هذا أن الرسول اعتبر أن عمل تيموثاوس في أفسس وقتي لأنه توقع الرجوع إليها بعد قليل ليقوم بالخدمة فيها بدلاً منه أو ليزيده تعليماً لواجبات جديدة لكنه رأى من الضروري أن يكتب حينئذ بالاختصار.
١٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، عَمُودُ ٱلْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ».
أفسس ٢: ٢١ و٢٢ و٢تيموثاوس ٢: ٢٠
إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ اعتبر الرسول مدة غيبته غير محققة لأن حياته كانت تحيط الأخطار بها دائماً ولأن أموراً كثيرة ربما ألجأته إلى الذهاب إلى مكان آخر لخدمة الرب.
فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ يظهر من هذا أن الرسول رأى من أهم الأمور ما أوصى به في شأن الأساقفة والشمامسة الذين هم أهل للخدمة وصفاتهم.
فِي بَيْتِ ٱللّٰهِ أخذ الرسول ذلك الاسم عن العهد القديم واستُعمل أولاً في بيت إيل (تكوين ٢٨: ١٧ – ١٩). ثم استُعمل للهيكل في أورشليم ثم استُعمل لكل شعب الله الذين صاروا بيته بالعهد. ويُراد به هنا جماعة المؤمنين الذين يسكن الله بينهم وهم كنيسته الحقيقية العظيمة الروحية التي كان هيكل أورشليم على جبل صهيون رمزاً لها. ودُعيت الكنيسة المسيحية في الإنجيل «بيت الله» (١كورنثوس ٣: ٩ و١٦ و٢كورنثوس ٦: ١٦ وأفسس ٢: ٢٢ وعبرانيين ٣: ٢ و٥ و٦ و١بطرس ٤: ١٧). فالكنيسة «بيت الله» لأنه هو أسسها وبناها ويسكن فيها بروحه ويحفظها وهو يكملها بالواسطة التي يريدها والزمن الذي يختاره.
ٱلَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ في هذا تصريح بأن «بيت الله» هو الكنيسة أي جمهور المؤمنين لا مكان اجتماعاتهم وأنه تعالى لا يزال ساكناً بينهم الآن كما سكن قديماً بعلامات منظورة في الخيمة التي زالت والهيكل الذي خرب. وقال هذا ليجعل تيموثاوس يشعر بأهمية الأمور التي وُكلت إليه فإن تمجيد الله متوقف على أعماله الحسنة في الكنيسة فضلاً عن نفع الكنيسة. ودعا هنا رئيسها الذي يعمل هو نفسه في وسطها «بالإله الحي» تمييزاً له عن تمثال الإلاهة أرطاميس المشهورة الذي لا حياة فيه وكان يعبده ألوف في هيكلها الذي علا كل ما ارتفع من أبنية أفسس وكان أمام عيون أهلها وفاق بالجمال كل الأبنية على وجه الأرض. ومع أن تيموثاوس كان يخدم كنيسة أفسس وحدها كان أيضاً يخدم كنيسة المسيح الواحدة الجامعة التي كل كنيسة محلية جزء مها وكل مؤمن حجر حي فيها (١بطرس ٢: ٥).
عَمُودُ ٱلْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ هذان يؤلفان شيئاً واحداً «فالعمود» الجزء الأعلى و «القاعدة» الجزء الأسفل لجسم واحدٍ. وغيّر بولس هنا التمثيل الذي جرى عليه لأنه مثّل الكنيسة أولاً بجمهور كبير الله الحي ساكن في وسطه وسماه «بيت الله» ومثلها هنا بعمود متين على قاعدة راسخة مرتفع على مرأى من الناس والملائكة لبيان حق إنجيل الخلاص المعلن بالمسيح. فالأمر ذو الشأن في التمثيل الأول هو أن الله ساكن في وسط شعبه والأمر ذو الشأن في الثاني أمجاد الفداء المعلنة بواسطة الكنيسة كأنها عمود عظيم متين لا يتزعزع من كل هيجات الضلال وصدمات الأشرار.
وما قيل هنا في جمهور المؤمنين معاً قيل أيضاً في أفرادهم (غلاطية ٢: ٩ ورؤيا ٣: ١٢) وفي الرسل والأنبياء في (أفسس ٢: ٢٠ ورؤيا ٢١: ١٤).
ولعل الرسول أشار في كلامه إلى الضلالات التي كانت يومئذ تُعرض للخطر «الحق الذي سُلّم للقديسين» الذي كانت الكنيسة سنده. وتلك الضلالات هي ما أنبأ بولس بأنها على وشك أنت تُنشر في أفسس (ص ٤: ١).
وعلة كون الكنيسة «عمود الحق وقاعدته» إن الله عيّنها لصون الحق والشهادة له وأنها مبنية على المسيح الذي هو الحق (١كورنثوس ٣: ١١) فالحق لا يحتاج إلى عماد يسنده من كنيسة أو غيرها لكن الكنيسة وسيلة إلى إعلان الحق للعالم لكي يتحقق جماله وعظمته.
١٦ « وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ».
يوحنا ١: ١٤ و١يوحنا ١: ٢ متّى ٣: ١٦ ويوحنا ١: ٣٢ و٣٣ و١٥: ٢٦ و١٦: ٨ و٩ ورومية ١: ٤ و١بطرس ٣: ١٨ و١يوحنا ٥: ٦ الخ متّى ٢٨: ٢ ومرقس ١٦: ٥ ولوقا ٢: ١٣ و٢٤: ٤ ويوحنا ٢٠: ١٢ وأفسس ٣: ١٠ و١بطرس ١: ١٢ وأعمال ١٠: ٣٤ و١٣: ٤٦ و٤٨ ورومية ١٠: ١٨ وغلاطية ٢: ٨ وأفسس ٣: ٥ و٦ و٨ وكولوسي ١: ٢٧ و٢٨ وص ٢: ٧ وكولوسي ١: ٦ و٢٣ ولوقا ٢٤: ٥١ وأعمال ١: ٩ و١بطرس ٣: ٢٢
غاية الرسول في هذه الآية أن يبين لتيموثاوس عظمة الحق الذي الكنيسة عموده وقاعدته.
بِٱلإِجْمَاعِ أي باتفاق كل المؤمنين ونص شهادة الإنجيل كله.
عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى المراد «بالسر» هنا الحق الذي كان في العصور الخالية مكتوماً عن الناس ثم أُعلن له بالمسيح (يوحنا ١: ١ و١٤ ورومية ١٦: ٢٥ و٢٦ وكولوسي ١: ٢٦ و٢تيموثاوس ١: ١٠ وتيطس ٢: ١١ و٣: ٤) وهو النظام الإلهي لتبرير الخاطئ وخلاصه. وسُمي «سر التقوى» لأنه أساس التُقى وعلته في الإنسان ولأنه غاية الله في إعلان الخلاص بالمسيح. و «التقوى» عبارة عن حياة الله في الإنسان وهي تقوم بحلول المسيح في القلب على مقتضى قوله «أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧).
ذكر الرسول في ما بقي من هذه الآية ستة أمور أعلن بها «سر التقوى» بالمسيح الفادي ولم يصرّح بأن ذلك السر هو المسيح لكنه انتقل من الكلام في السر إلى الكلام في المسيح كأنهما شيء واحد.
ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ تجسد المسيح كان أول إعلان لذلك السر العظيم فذُكر أولاً لتقدمه على سائر أعمال الفداء بدليل قول الكتاب «ٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا» (يوحنا ١: ١٤). وقوله «إِنَّمَا أُظْهِرَتِ ٱلآنَ (النعمة) بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١تيموثاوس ١: ١٠). والمراد «بالجسد» هنا الطبيعة البشرية على وفق قول الرسول في المسيح «ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» (رومية ١: ٣). فارجع إلى التفسير هناك. وقوله «ظهر في الجسد» يستلزم أنه كان مع الآب منذ الأزل كقول البشير فيه «هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ٢).
ظن بعض المفسرين أنه يجب أن يُقرأ «الذي ظهر بالجسد» بدلاً من «الله ظهر بالجسد» وبُين ذلك في حاشية إنجيل الشواهد ولكن أكثر الدلائل على صحة ما ذُكر هنا. على أننا لسنا مفتقرين إلى هذه الآية لإثبات لاهوت المسيح إذ براهين ذلك كثيرة في الإنجيل (انظر تفسير متّى ١: ٢٣ ويوحنا ١: ١٤). وواضح لكل ذي عقل أن المسيح لو كان جسداً من أول أمره لم يكن معنىً لقوله «ظهر في الجسد».
تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ أي ثبتت دعواه الإلهية بقداسة سيرته في ما يزيد على ثلاث وثلاثين سنة وهو على الأرض وخلوه من كل خطيئة. وشهادة الروح القدس له وذلك بحلوله عليه جهاراً حين تعمّد (متّى ٣: ١٦) وبكل المعجزات التي فعلها الروح القدس به (متّى ١٢: ٢٨ ويوحنا ٣: ٣٤) وبقيامته (رومية ١: ٣ و٤) وصعوده إلى السماء وجلوسه على يمين الآب (أفسس ٣: ١٠ وعبرانيين ١: ٦ و١بطرس ١: ١٢).
إن الذين رأوه ماشياً في حقول الناصرة أو عاملاً في بيت يوسف لم يروا فرقاً بينه وبين غيره من الناس لكن الروح القدس أثبت كل ما ادّعاه من الطبيعة الإلهية بما ذُكر.
تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ على وفق شهادة الإنجيل بأنه ظهر للملائكة عند ميلاده (لوقا ٢: ٩ – ١٣) وبعد التجربة (متّى ٤: ١١) وفي جثسيماني (لوقا ٢: ٤٣) وعند قيامته (متّى ٢٨: ٢). ولعل الرسول أشار بذلك إلى ظهور «الكلمة» للملائكة حين صار جسداً فكانت تلك الرؤية حينئذ أول رؤيتهم الله لأنه «لم يره أحد قط» قبل التجسد. أو أشار إلى رؤيتهم إياه بمجده الحقيقي حين رجع إلى الجلوس على يمين أبيه بعد قيامته وصعوده (أفسس ٣: ١٠ وعبرانيين ١: ٦ و١بطرس ١: ١٢).
كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ ما ظهر للملائكة من مجد المسيح ظهر لكل الناس من اليهود وغيرهم بالكرازة به وكانت بداءة ذلك إرسال الإثني عشر رسولاً للتبشير في يهوذا وأورشليم وإرساله إياهم ثانية بعد قيامته بقوله «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥). وتم ذلك بما حدث يوم الخمسين وبما حدث في تاريخ الكنيسة منذ ذلك اليوم إلى الآن وبذلك تم قول الله في المسيح بلسان النبي «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْداً لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُوراً لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٩: ٦ انظر ايضاً رومية ١٦: ٢٦ وأفسس ٣: ٨٩).
أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ عنى «العالم» هنا كمعناه في (١يوحنا ٢: ١٥ و٥: ١٩) وهذا نتيجة ظهور الله في الجسد والكرازة به بين الأمم فلم يكن ذلك عبثاً وأنه وإن رفضه بعض من سمعوا آمن الآخر كما شهد الإنجيل في شأن تلاميذه (يوحنا ١٢: ١) وفي شأن بعض اليهود (يوحنا ١٠: ٤٢ وأعمال ص ٢) وبعض السامريين (أعمال ٨: ٥ و٦) والوثنيين (أعمال ١١: ١).
رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ أي أصعد إلى السماء ممجداً (لوقا ٢٤: ٤٠ و٥١ ويوحنا ١٧: ٥ وأعمال ١: ٩). وهذا نهاية ظهور للمسيح في ست درجات أولها على الأرض وآخرها في السماء وكلها تُعلن مجده. وما ذُكر في هذه الستة هو «عمود الحق وقاعدته» الذي بُنيت عليه كنيسة المسيح (ع ١٤) وعُيّن تيموثاوس خادماً له.
ذهب بعضهم أن ما في هذه الآية جزء من قاعدة إيمان الكنيسة الأولى أو ترنيمة مقدسة كانوا يترنمون ويعترفون بها في اجتماعاتهم العامة.
السابق |
التالي |