شرح رسالة يعقوب | 05 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة يعقوب
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ
توبيح الأغنياء وإنذارهم على ظلمهم (ع ١ – ٦) وجوب أن يصبر المؤمنون على المظالم ومثل الفلاح الذي يتوقع الغلة ومثل الأنبياء ولا سيما أيوب والرب يسوع نفسه (ع ٧ – ١١). ووجوب الامتناع عن القسم (ع ١٢). كيف يجب التصرف في الحزن والأفراح والمرض ووجوب أن يعترف بعضنا لبعض بالزلات وبيان قوة الصلاة من نبإ إيليا (ع ١٣ – ١٨). وجوب رد الضال عن ضلاله (ع ١٩ و٢٠).
توبيح الأغنياء وإنذارهم ع ١ إلى ٦
١ «هَلُمَّ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ، ٱبْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ ٱلْقَادِمَةِ».
ص ٤: ١٣ ولوقا ٦: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ وإشعياء ١٣: ٦ و١٥: ٣ وحزقيال ٣٠: ٢
كان يجب أن يكون الفصل الذي أوله هذه الآية جزءاً من الأصحاح الرابع لأنه متعلق به.
هَلُمَّ (انظر تفسير ص ٤: ١٣).
أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ الذين منهم محبو الغنى والظالمون والبخلاء. إن الكتاب المقدس لا يحرّم اقتناء الثروة بل يحرّم فرط الرغبة في تحصيلها وتفضيل الغنى العالمي على الغنى الروحي واتخاذ ما حُرم من الوسائل لتحصيله وخزنه للافتخار وحب الذات وإنفاقه على الغايات النفسية بدلاً من إنفاقه على الفقراء والمحتاجين وبذله في سبيل المسيح وإنجيله.
ٱبْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ ٱلْقَادِمَةِ وفي هذا نبوءة تحقق قرب نزول النوازل بهم على خطاياهم في طريق تحصيلهم الغنى وسوء الإنفاق وضيق القلوب وحزنها الشديد من ذلك وهذا كقول إشعياء النبي «وَلْوِلُوا لأَنَّ يَوْمَ ٱلرَّبِّ قَرِيبٌ، قَادِمٌ كَخَرَابٍ مِنَ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. لِذٰلِكَ تَرْتَخِي كُلُّ ٱلأَيَادِي، وَيَذُوبُ كُلُّ قَلْبِ إِنْسَانٍ» (إشعياء ١٣: ٦ و٧). ذهب بعض المفسرين إلى أن يعقوب أشار هنا إلى الضيقات التي ستأتي عليهم في وقت خراب أورشليم ولكن تلك الضيقات كانت تقع على الفقراء والأغنياء سواء. والمرجّح أنه أشار إلى انتقام الله منهم يوم مجيء المسيح ثانية ليدين العالمين. وليس في هذا الكلام من دعوة للخطأة إلى التوبة ولا وعد بالمغفرة للتائبين لكننا نرى في كل الكتاب المقدس أن غاية الله من الإنذار بالسخط والنقمة رد الخطأة إلى الله بالتوبة وطلب نعمته وغفرانه.
٢ «غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ».
أيوب ١٣: ٢٨ ومتّى ٦: ١٩ وإشعياء ٥٠: ٩
غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ أي ما جمعتم من مواد الثروة بلا حق وخزنتموه أفسده الصدأ وغيره وعبّر عن المستقبل بالماضي لتحقيق وقوعه.
وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ لم يكن في ذلك الزمان مصارف كما في عصرنا يوضع فيها المال فيُحفظ لكنهم كانوا يخبأون النقود في المخابئ فتصدأ أو تُسرق (إشعياء ٤٥: ٣) والثياب الفاخرة في الصناديق وما أشبهها فيأكلها العث (أيوب ١٣: ٢٨ وإشعياء ٥١: ٨ ومتّى ٦: ١٩ و٢٠).
٣ «ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ».
ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا يمكن أن يفقد كل من الذهب والفضة لونه ولمعانه في الكنز مدة طويلة لكنهما كانا مخلوطين بما يصدأ كالنحاس كما يحدث كثيراً. ولعل يعقوب نسب إليهما ما هو من خواص غيرهما من المتطرّقات إيماء إلى عدم بقائهما لأربابهما.
وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ إن الله أعطى الناس الذهب والفضة لكي ينفقوهما في سبيل الخير كما أمر فوجود علامات الفساد عليهما دليل على عدم استعمالهما الغاية التي قصدها الله فيشهد صدأهما عليهم بالكسل والخيانة كما حكم المسيح على «ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْكَسْلاَنُ» الذي «حَفَرَ فِي ٱلأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ» (متّى ٢٥: ١٨ و٢٦).
وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ أي يكون رمزاً إلى نار دينونة الله لهم. وفي هذا تصريح أن المال الذي هو أجرة شهادة الزور والرشوة التي يأخذها القضاة الظالمون وما يربحه الناس بالكذب والغش والمقامرة وبيع المسكرات والسرقة والظلم والفجور يحرق أيدي الناس ويعذب نفوسهم.
قَدْ كَنَزْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أي الأيام التي قبل مجيء الرب للدينونة (٢تيموثاوس ٣: ١) وهي الأيام التي منحها الله للتوبة وخلاص النفس فقال إنهم شغلوها بجمع المال الفاني الذي لم ينتفعوا به. اعتبر يعقوب هذه الأيام كالزمان الذي فيه «كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ» (١بطرس ٣: ٢٠ وتكوين ٦: ٣). وكالأيام التي توقع الله فيها أن يكون «ذَنْبَ ٱلأَمُورِيِّينَ قد كمل» ليهلكهم (تكوين ١٥: ١٦). وكان يعقوب يعتقد أن مجيء الرب قريب كما أراد المسيح أن يعتقده تلاميذه في كل عصر لكي يكونوا مستعدين ومتوقعين مجيئه ومصابيحهم موقدة (لوقا ١٢: ٣٥).
٤ «هُوَذَا أُجْرَةُ ٱلْفَعَلَةِ ٱلَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ ٱلْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ ٱلْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذُنَيْ رَبِّ ٱلْجُنُودِ».
لاويين ١٩: ١٣ وأيوب ٢٤: ١٠ وإرميا ٢٢: ١٣ وملاخي ٣: ٥ وتثنية ٢٤: ١٥ وأيوب ٣١: ٣٨ وخروج ٢: ٢٣ ورومية ٩: ٢٩
هُوَذَا أُجْرَةُ ٱلْفَعَلَةِ ٱلَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ ٱلْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ وصف في هذه الآية أحد أنواع الظلم الذي ارتكبه الأغنياء لتحصيل الغنى وهو بخس أجرة الفاعل خلافاً لما أمر به الله في شريعة موسى بدليل قوله «لاَ تَبِتْ أُجْرَةُ أَجِيرٍ عِنْدَكَ إِلَى ٱلْغَدِ» (لاويين ١٩: ١٣). وقوله «لاَ تَظْلِمْ أَجِيراً مِسْكِيناً وَفَقِيراً مِنْ إِخْوَتِكَ أَوْ مِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلَّذِينَ فِي أَرْضِكَ فِي أَبْوَابِكَ. فِي يَوْمِهِ تُعْطِيهِ أُجْرَتَهُ، وَلاَ تَغْرُبْ عَلَيْهَا ٱلشَّمْسُ، لأَنَّهُ فَقِيرٌ وَإِلَيْهَا حَامِلٌ نَفْسَهُ، لِئَلاَّ يَصْرُخَ عَلَيْكَ إِلَى ٱلرَّبِّ فَتَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيَّةٌ» (تثنية ٢٤: ١٤ و١٥ أنظر أيضاً إرميا ٢٢: ١٣ وملاخي ٣: ٥).
تَصْرُخُ تصوّر يعقوب أجرة الفعلة المبخوسة المخزونة في خزائنهم تصرخ كدم هابيل يصرخ إلى الله للانتقام من قاتله (تكوين ٤: ١٠) وكالحجر الصارخ من الحائط المذكور في نبوءة حبقوق (حبقوق ٢: ١١).
وَصِيَاحُ ٱلْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذُنَيْ رَبِّ ٱلْجُنُودِ حسب صياح المظلومين مقترناً بصياح الفعلة المبخوسي الأجرة بغية العدل وتحصيل الحقوق وإجابة طلباتهم. ودعا الله هنا «رب الجنود» اقتداء بالنبي ملاخي فإنه دعاه كذلك ثلاثاً وعشرين مرة ووصفه بأنه جالس على كرسي الدينونة ليسمع دعوات الأبرار المظلومين ويعاقب الظالمين (ملاخي ٣: ٥). وذهب بعضهم إلى أن أيوب دعا الله «رب الجنود» تعزية للفقراء الذين خافوا من أنه لا معين لهم (مزمور ٧٢: ١٢).
٥ «قَدْ تَرَفَّهْتُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَتَنَعَّمْتُمْ وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ ٱلذَّبْحِ».
لوقا ١٦: ١٩ و٢بطرس ٢: ١٢ وخروج ١٦: ٤٩ و١تيموثاوس ٥: ٦ وإرميا ١٢: ٣ و٢٥: ٣٤
في هذه الآية والتي تليها وبّخ يعقوب الأغنياء الأشرار على خطيئتين فوق بخس الأجرة وهما الترفه وقتل الأبرار.
تَرَفَّهْتُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ تصوّر يعقوب إن رب الجنود يدين الأغنياء أمام عرشه على الخطايا التي يرتكبونها على الأرض ويخطئهم على رفاهة عيشهم عليها وفرط إسرافهم فكانوا كالمذكورين في سفر نحميا (نحميا ٩: ٢٥) ونبوءة حزقيال (حزقيال ١٦: ٤٩) ونبوءة عاموس (عاموس ٦: ٤ – ٦) والمذكور في بشارة لوقا (لوقا ١٦: ١٠) وكان ترفههم أعظم شر بالنظر إلى مشقات الفعلة الذين تعبوا في تحصيل ذلك المال الذي أُمسك عنهم وأُنفق على الفجور.
وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ ٱلذَّبْحِ أي سمّنتم أبدانكم كما تُسمن الثيران والخراف ليوم الوليمة فإنهم كذلك أعدوا نفوسهم ليوم الدينونة اختياراً بانهماكهم في اللذات وهذا مثل ما في (إرميا ٢٤: ٣٤ ورؤيا ١٩: ١٧ و١٨).
٦ «حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ. لاَ يُقَاوِمُكُمْ!».
عبرانيين ١٠: ٣٨ و١بطرس ٤: ١٨ وص ٤: ٢
حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ هذه الخطيئة الثالثة من الخطايا التي وبخ يعقوب هؤلاء الأغنياء عليها. وذهب بعضهم أن المراد «بالبار» هنا يسوع المسيح الذي أنكره اليهود وقتلوه كما جاء في (أعمال ٣: ١٤ و٧: ٥٢) وإن معنى يعقوب هنا أن جرم قتل المسيح عليهم لأنهم من أمة اليهود الذين قالوا «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» (متّى ٢٧: ٢٥). وقد ملأوا مكيال آبائهم بأعمال كأعمالهم (متّى ٢٣: ٣٢). لكن لا قرينة هنا تدل على هذا المعنى وينفيه قوله «لا يقاومكم» فإن هذا يصدق على ما في الحال لا على ما في الماضي فالأرجح أن المراد «بالبار» جنس الأبرار الذين أماتوهم بظلمهم وخداعهم وتهمهم الباطلة وإن معاملتهم لشعب المسيح كانت كمعاملة اليهود للمسيح.
لاَ يُقَاوِمُكُمْ أشار بهذا إلى صبر الأتقياء الأبرار وحلمهم بأنهم لم يقاوموا مضطهديهم بل تركوا أمورهم لله.
وجوب الصبر على المؤمنين ع ٧ إلى ١١
٧ «فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ. هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ».
ص ٤: ١١ وع ٩ و١٠ ويوحنا ٢١: ٢٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ وغلاطية ٦: ٩ وتثنية ١١: ١٤ وإرميا ٥: ٢٤ ويوئيل ٢: ٢٣
عدل الرسول هنا عن توبيخ اليهود الأغنياء الظالمين وأخذ يخاطب إخوته المظلومين ويحثّهم على احتمال الجور بلا تذمّر.
فَتَأَنَّوْا… إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّيحتمل «مجيء الرب» هنا ثلاثة معان الأول إتيانه إليهم عند الموت ليأخذ نفوسهم. الثاني إتيانه ليهدم أورشليم ويبطل كون اليهود أمة. الثالث إتيانه ليدين العالم ويدخل شعبه دار المجد. والمعاني الثلاثة حسنة هنا ولا نعلم الذي قصده الرسول منها ولكن الأخير هو المرجح لأن يوم انتقام الله من الظالم هو يوم راحة وسلام للمظلومين. وأراد يعقوب في هذا الموضع بعض أمثلة الصبر ليرغبهم في أن يحتملوا امتحانهم إلى نهايته وإلى بداءة إثابة الله لهم.
هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ إذ ليس في طاقته بعد إلقاء البذار أن يعجّل وقت الحصاد فلم يبق له إذ ذاك إلا أن ينتظر أن الله يرسل المطر وينشر حرارة الشمس لينبت الزرع ويُدرك.
مُتَأَنِّياً معتصماً بالصبر مدة كل الأشهر بين البذر والحصاد فلا ينفذ صبره.
ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ كما ذكر في (تثنية ١١: ١٦ وأيوب ٢٩: ٢٣ وإرميا ٥: ٢٤). فوقف المطر المبكر ما بين منتصف تشرين الأول ونهاية تشرين الثاني وذلك وقت الفلاحة والبذر. والمتأخر ما بين أول آذار ومنتصف نيسان وأوله المعروف بالوسمي وهو وقت امتلاء السنابل ونضجها.
٨ «فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ».
لوقا ٢١: ١٩ و١تسالونيكي ١٣: ٣ ورومية ١٣: ١١ و١٢ و١بطرس ٤: ٧
فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ أي تمثلوا بالفلاّح في الصبر والانتظار فتوقعوا النجاة من المشقات في وقتها كما يتوقع الفلاّح الحصاد في وقته.
وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ أي ليكن إيمانكم قوياً ورجاؤكم وطيداً فلا تكلوا ولا تضجروا.
لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ ذكر قرب مجيء الرب علّة ثانية للصبر والرجاء. ونقول هنا كما قلنا في الآية السابعة إننا لا نقدر أن نحكم بما قصده من هذا المجيء أليَدين هو أم ليقبل نفس المؤمن عند موته أم ليهدم المملكة اليهودية ومدينة أورشليم. إن يعقوب كتب هذه الرسالة قبل خراب أورشليم بنحو عشر سنين وأنباء المسيح بذلك الخراب (متّى ص ٢٤) جعل كل المسيحيين ينتظرونه. ويحتمل أنه ظهرت يومئذ بعض علامات قربه. وأراد المسيح أن يكون شعبه كله متوقعاً مجيئه بالمجد ويستعدوا له. والموت قريب من كل إنسان فيصح قول الرسول بكل معانيه. وهذا موافق لقول بولس «الرب قريب» (فيلبي ٤: ٥) وقول بطرس «إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ» (١بطرس ٤: ٧).
٩ «لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لِئَلاَّ تُدَانُوا. هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ».
ص ٤: ١١ و١٢ و١كورنثوس ٤: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٥ و١بطرس ٤: ٥ ومتّى ٢٤: ٣٣ ومرقس ١٩: ٢٣
لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ الأنين ينتج من مرض وألم وضجر وجزع فالذين احتملوا المشقات زمناً طويلاً عرضة لأن يكونوا سريعي الغضب ولأن يتذمروا من أنفسهم ومن أصدقائهم فيخطئوهم ويحسدوا المستريحين منهم. فأنذرهم من أن يسلموا للتجربة فيسأموا من أهل مودتهم.
لِئَلاَّ تُدَانُوا من المسيح الذي هو يحامي عن كل من عيب بلا حق وشُكيَ ظلماً. وهذا مثل قول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متّى ٧: ١).
هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ الديّان هو المسيح ومعنى العبارة كمعنى قوله «لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (ع ٨). وهو مثل قول المسيح «أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ» (متّى ٢٤: ٣٣). وعلة احتمال شكايات الإخوة بالصبر والكف عن دينونتهم علة احتمال اضطهادات الأشرار وهي قرب مجي الديّان العادل الذي سمع ويسمع كل ما قيل عليهم باطلاً ويرى كل ما أُسيء به إليهم وينصفهم.
١٠ «خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاحْتِمَالِ ٱلْمَشَقَّاتِ وَٱلأَنَاةِ: ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
متّى ٥: ١٢
خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً… ٱلأَنْبِيَاءَ إن علة الصبر على احتمال الضيقات مثل الذين سبقوا إلى السماء محتملين مشاق الطرق فكون أولئك الأنبياء قد اضطّهدوا علّة توقع أن يُضطهد غيرهم من الأبرار وعلّة أن يصبروا على النوازل. إن رجال الله الملهمين قد أصيبوا بمصائب عظيمة فوجب أن لا يتعجب غيرهم من الأتقياء في كل عصر إذا دعاهم الله إلى احتمال المشقات وإن الله قد عضدهم وعزاهم حتى استطاعوا الثبات فعلى غيرهم أن يتوقعوا منه المساعدة والتعزية لكي يثبتوا. إن مُثُل القديسين في عهد الإنجيل كمُثُل أنبياء العهد القديم فإن المحدثين أظهروا ما أظهره القدماء من الإيمان والثبات وهم مُثل لكل من بعدهم.
١١ «هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ ٱلصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ كَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ».
متّى ٥: ١٠ و١بطرس ٣: ١٤ وأيوب ١: ٢١ و٢: ١٠ و٤٢: ١٠ و١٢ وخروج ٣٤: ٦ ومزمور ١٠٣: ٨
هَا نَحْنُ المؤمنين المتعلمين بروح الله. أشار بهذا إلى نفسه وكل من يحكم بالصواب.
نُطَوِّبُ ٱلصَّابِرِينَ أي الذين يحتملون الامتحان إلى النهاية بإيمان وصبر. وهذا موافق لقول المسيح «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ الخ» (متّى ٥: ١٠ – ١٢).
قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ ونبأه مفصّل في السفر المنسوب إليه ومثل به لامتيازه بالمصائب والصبر (أيوب ١: ٢١).
وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ أي ما قصده الرب من ابتلاء أيوب وحسن العاقبة التي هي مدح الله إياه على صبره وإثابته في هذا العالم بضعفي ما خسره. فالمقصود من سفر أيوب بيان أن الله رفيق المصابين وصديقهم ومثيب الصبور لا مجرد تقديم أيوب مثالاً لأهل البلاء.
لأَنَّ ٱلرَّبَّ كَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ لأنه شفق على أيوب يوم البلّية وسرّ بإثابته في نهاية امتحانه. وقصد الله أن شعبه يتعزى في ضيقاته بمثال ما كان لأيوب من رحمته ورأفته وأن ينتظر مثله «عاقبة الرب».
وجوب اجتناب القسَم ع ١٢
١٢ «وَلٰكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ يَا إِخْوَتِي لاَ تَحْلِفُوا لاَ بِٱلسَّمَاءِ وَلاَ بِٱلأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ، لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ».
متّى ٥: ٣٤ الخ وص ١: ١٦
قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ… لاَ تَحْلِفُوا نظر يعقوب في أحوال الذين كتب إليهم علّة خاصة لهذا النهي. اعتاد يهود ذلك العصر الإكثار من الحلف في الأمور الزهيدة وكانوا يحلفون بالمخلوقات ويستخفون بالحنث مع أنهم لم يحلفوا باسم الله الأعظم وهو «يهوه» والمرجّح أن يعقوب رأى المتنصرين منهم لم يقلعوا عن تلك العادة لتعودهم إياها منذ الصغر وكانوا يضجرون من المشقات فكانوا عرضة لأن يشفوا غيظهم بالحلف فنهاهم الرسول عنه لأنه مناف لخُلق الحلم الذي كان عليهم أن يتخلقوا به.
لاَ بِٱلسَّمَاءِ وَلاَ بِٱلأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ هذا كقول المسيح «لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ، وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ… وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ» (متّى ٥: ٣٤ – ٣٦). فيظهر إن كلام يعقوب مانع من كل قسم لكن يجب أن نذكر أنه لم ينه عن الحلف باسم الله عند الاقتضاء فإن الله أمر به في كتابه بدليل قوله «ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ، وَبِٱسْمِهِ تَحْلِفُ» (تثنية ٦: ١٣). وقول الرسول «فَإِنَّ ٱلنَّاسَ يُقْسِمُونَ بِٱلأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ ٱلتَّثْبِيتِ هِيَ ٱلْقَسَمُ. فَلِذٰلِكَ إِذْ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيراً لِوَرَثَةِ ٱلْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ» (عبرانيين ٦: ١٦ و١٧). ويسوع نفسه حين استحلفوه لكي يشهد بأنه هو المسيح أجابهم إلى ذلك (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٤). وبولس حلف إثباتاً لما قاله (٢كورنثوس ١: ٣٣). فإذاً يجوز للمسيحي أن يحلف بالله في الأمور ذات الشأن مع كل وقار قدام القضاة. فما نُهي عنه هنا هو الحَلف لغير داع وبلا وقار في الأمور الزهيدة والمحادثات العادية (انظر تفسير متّى ٥: ٣٣ و٣٤).
لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ هذا كقول المسيح في (متّى ٥: ٣٧) والمعنى وجوب الاكتفاء بقولنا نعم أو لا حسب مقتضى الحال بدون قسم بالله أو بشيء من مخلوقاته.
لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ كالدينونة المذكورة في الوصية الثالثة وهو قوله تعالى «لاَ تَنْطِقْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ ٱلرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِٱسْمِهِ بَاطِلاً» (خروج ٢٠: ٧).
كيف يجب التصرف في الحزن وفي الفرح وفي المرض ع ١٣ إلى ١٦
١٣ «أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ».
ع ١٠ ومزمور ٥٠: ١٥ وكولوسي ٣: ١٦ و١كورنثوس ١٤: ١٥
أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ كالاضطهاد وخسارة العافية والمال والأصدقاء والألم والخيبة وأمثال ذلك.
فَلْيُصَلِّ إن الصلاة في مثل تلك الأحوال غريزية وذلك دليل على أنها مرضية لله. فيجب أن نصلي لأن الله قادر أن يزيل كل أسباب الكدر ويجعلها وسائل بركة (انظر ٢أيام ٢٣: ١٢ ومزمور ٣٤: ٤ و١٠٧: ٦ و١٣ و٢٨).
أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ أي أسعيد أو خال من المحزنات.
فَلْيُرَتِّلْ أي فليظهر سروره بالترنّم لله وحده أو مع الجمهور (١كورنثوس ١٤: ١٥ وأفسس ٥: ١٩ و٢٠). على المسيحيين أن لا يبتعدوا عن عرش الله في شدة أو رخاء وأن يحدقوا به بالصلوات في الضرّاء وبترانيم الحمد في السرّاء.
١٤ «أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
أعمال ١١: ٣٠ ومرقس ٦: ٣ و١٦: ١٨
أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ ذكر البلايا على وجه العموم في (ع ١٣) وذكر هنا واحدة منها وبيّن كيف يجب أن يُتصرف في أثنائها.
فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ أي الكنيسة التي هو عضو منها وأراد «بشيوخ الكنيسة» رؤساءها الدينيين لا المتقدمين في السن.
فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ ملتمسين شفاء جسده كما تدل القرينة.
وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ اعتاد أهل الشرق أن يعالجوا المرض بزيت الزيتون كما صنع السامري الصالح فإنه سكب الزيت على جراح الإنسان الذي نزل من أورشليم إلى إريحا ووقع بين اللصوص فجرحوه (لوقا ١٠: ٣٤) وكان يُستعمل قديماً إشارة إلى فعل الروح القدس فإنهم كانوا يمسحون به الكهنة والملوك يوم رسمهم (لاويين ٨: ١٢ و١صموئيل ١٠: ١ ومزمور ٨٩: ٢٠ وزكريا ٤: ١٤).
بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أي بسلطان الرب. واستعمل تلاميذ المسيح ذلك في المعمودية وصنع المعجزات (أعمال ٢: ٣٨ و٣: ٦ و٤: ١٠ و١٠: ٤٨ و١٦: ١٨ و١٩: ٥ و١٣). و «الدهن بالزيت» هنا كان بأيدي «شيوخ الكنيسة وباسم الرب» فوجب أن نفهم من ذلك أن الزيت اتُخذ يومئذ إشارة إلى فعل الروح القدس ونعمته في شفاء المريض كما فعل الاثنا عشر بدليل قول البشير «وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ» (مرقس ٦: ١٣). ولعلهم استعملوا الزيت كما استعمل المسيح الطين بأن طلى به عيني الأعمى يوم أبرأه دلالة على أنه هو الذي أنشأ البرء (يوحنا ٩: ٦) لكنهم قصدوا الإشارة إلى فعل الروح الشافي فإذاً كان ذلك الدهن رمزاً لأنه كان مقترناً بصلاة الإيمان. وكانت موهبة شفاء الأمراض إحدى مواهب الروح الخارقة العادة التي أُعطيتها الكنيسة في عصر الرسل بدليل قول الرسول «فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِٱلرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ… وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ. وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ» (١كورنثوس ١٢: ٨ و٩). والمرجّح أن الروح القدس كان يعطي علامات يُعرف بها الرسل وغيرهم ممن كانوا يصنعون المعجزات متى يريد أن يصنع المعجزة ومن هو الذي يريد أن يشفيه لأنه لم يُشف كل المرضى الذين صلوا عليهم وإلا لم يمت بالمرض أحد من المؤمنين وما ترك بولس تروفيموس مريضاً في ميليتس (٢تيموثاوس ٤: ٢٠) بل دهنه بزيت وشفاه.
إن موهبة الشفاء ارتفعت من الكنيسة حين رُفعت سائر المواهب الخارقة العادة بعد إتمام غايتها في تأسيس الكنيسة فلم يبق من داع للدهن بالزيت على الوجه المذكور. ولا حاجة إلى أن نبين هنا المباينة العظمى بين ما ذُكر هنا «وسر المسحة» المعروف عند بعض الفرق المسيحية ومن ذلك أنهم لا يدهنون المريض إلّا وهو على وشك الموت واليأس من الشفاء فإنهم بعد أن يعترف بخطاياه ويتناول العشاء الربي يدهنون بعض أجزاء بدنه لكي يحصل بذلك على المغفرة والخلاص. ولكن الدهن الذي ذكره يعقوب كان يستعمل للشفاء من المرض لا إعداداً للموت وكان لنفع الجسد لا لنفع الروح. وكان علامة معجزة منتظر أن تنشأ بقوة الروح القدس خاصة ولم يكن لتحصيل المغفرة التي يجب أن تُطلب لكل نفس تحضر أمام الديان. نعم إن أيام المعجزات مضت ولا دليل اليوم على أن الأمراض العادية نتائج خطايا خاصة ولكن يليق أنه إن مرض أحد أن يسأل الله الشفاء وإن سأل القسوس والإخوة أن يشاركوه في الصلاة لله لكي يبارك الوسائل المستعملة لعلاجه ويشفيه ويجعل مرض جسده وسيلة إلى نفع نفسه كما نفع الملك حزقيال ونال الشفاء من يد الرب (٢ملوك ٢٠: ١ – ٦).
١٥ «وَصَلاَةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهُ».
ص ١: ٦ و١كورنثوس ١: ٢١ ويوحنا ٥: ٣٩ و٢كورنثوس ٤: ١٤
وَصَلاَةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ من مرضه الجسدي. أي الصلاة التي تُقدم بالإيمان من الذين يثقون بقوة الله ومحبته. والمرجح أن الإيمان المذكور هنا هو الذي منحه الروح القدس للرسل وغيرهم من المؤمنين ليقدرهم على عمل المعجزات في تأسيس الكنيسة. وهذا الإيمان هو الإيمان الذي قال المسيح فيه لتلاميذه «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ، فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ ٱلتِّينَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ: ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ فَيَكُونُ» (متّى ٢١: ٢١). والظاهر أنه يجب أن يكون ذلك الإيمان في المصلِّي والمصلَّى عليه معاً بدليل قول لوقا في المقعد الذي كان في لسترة «فَشَخَصَ إِلَيْهِ، (بولس) وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ… فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي» (أعمال ١٤: ٩ و١٠). فيجب أن نذكر أن يعقوب نسب الشفاء إلى صلاة الإيمان لا إلى الدهن بالزيت.
وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ أي إن الرب يسوع المسيح يقيمه من حال المرض كما اعتاد أن يقيم المرضى يوم كان منظوراً على الأرض (مرقس ٥: ٤٢ و٩: ٢٧ ولوقا ٤: ٣٩).
وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهُ أي ارتكب خطيئة كانت علّة مرضه. ويظهر من الإنجيل إن الله كان يرسل في ذلك العصر أمراضاً دلالة على غضبه وعقاباً على بعض الخطايا ودليل ذلك ما كتبه بولس في شأن أعضاء كنيسة كورنثوس الذين أهانوا العشاء الربي بسوء تصرفهم ومنه قوله «مِنْ أَجْلِ هٰذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ» (١كورنثوس ١١: ٣٠ انظر يوحنا ٥: ١٤). وشفاء المريض الذي مرضه نشأ عن خطيئته دليل على أن الله قد غفر له كما يظهر من (متّى ٩: ٢).
١٦ «اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِٱلزَّلاَّتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا. طِلْبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا».
متّى ٣: ٦ ومرقس ١: ٥ وعبرانيين ١٢: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٤ وتكوين ١٨: ٢٣ – ٣٢ يوحنا ٩: ٣١
اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِٱلزَّلاَّتِ لم يأمر يعقوب بالاعتراف لرؤساء الدين وطلب الغفران منهم بل أمر المؤمنين جميعاً قسوساً وغيرهم بأن يعترف كل لصاحبه بزلاته. وصرّح بقصده ذلك الاعتراف بقوله «لكي تشفوا» من الأمراض الناشئة عن تلك الزلات. والمرجّح أن ما قصده يعقوب بالاعتراف هو الإقرار جهاراً أمام أعضاء الكنيسة بالخطايا الخاصة التي جلبت عليه المرض (انظر تفسير ١كورنثوس ١١: ٣٠).
وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا أي ليطلب الإخوة جميعاً مغفرة الله للخطيئة التي كانت علّة المرض. وجوب الاعتراف بالخطيئة جهاراً لنيل مغفرة الله بُيّن في (لاويين ٥: ٥ و١٦: ٢١ و١ملوك ٨: ٣٣ ونحميا ١: ٦ و٩: ٢ و٣ ودانيال ٩: ٢٠ ومتّى ٣: ٦ ويوحنا ١: ٩).
إن الاعتراف بالخطيئة للمخطإ إليه وطلب المغفرة منه واجب أبداً وهو أجدر بالمريض فإن راحة باله التي تنشأ من المصالحة للمعتدى عليه من وسائل الشفاء علاوة على كونه مرضياً لله. ولا يليق بالمسيحي أن يفارق هذا العالم وضميره يبكته على أنه تعدّى حقوق أخيه ولم يتخذ كل الوسائل إلى المصالحة له. ولا قانون لإزالة الأحقاد والخلاف بين الإخوة مثل قول الرسول «لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ» (أفسس ٤: ٢٦).
إنه كثيراً ما كانت إصابة الإنسان بالمرض وسيلة إلى نفع نفسه بأن حملته على أن يتضع أمام الله ويعترف بخطاياه وعدم وفائه بعهوده لله وبفرط محبته للعالم. وعلى هذا قول داود «قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ» وقوله أيضاً «خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ» (مزمور ١١٩: ٦٧ و٧١).
وغني عن البيان كون المباينة عظيمة بين تعليم يعقوب هنا وتعليم الكنائس التقليدية وهو وجوب الاعتراف السري بكل الخطايا الفكرية والقولية والفعلية لإنسان وطلب المغفرة منه وإن ذلك ضروري لنيله المغفرة من الله وإن لذلك الإنسان سلطاناً على مغفرة الخطايا التي يُعترف له بها. أُمر المسيحي آنفاً أن يصلي من أجل نفسه (ع ١٣) وأن يطلب صلاة عمدة الكنيسة (ع ١٤) وفي هذه الآية بأن يطلب صلوات الإخوة عامة. ووجوب صلاة الإخوة الخاصة ونفعها ظاهران من هذه الآية وهي بركة عظيمة لمن يحصلون عليها وخسارة عظيمة للذين يهملونها وفي طاقتهم أن يفوزوا بها.
طِلْبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا المراد «بالبار» هنا المسيحي المُخلِص وعبّر عنه قبلاً بالذين «يري إيمانه بأعماله» (ص ٢: ٢٤). والمراد «بالطلبة» الصلاة بحرارة وشوق واستمرار. ومعنى قوله «تقتدر كثيراً في فعلها» إنها تأتي بالبركة المطلوبة من الله لا محالة كما كانت في أمر يعقوب وهو يطلب النجاة من أخيه عيسو (تكوين ٣٢: ٢٨) فهذه الآية تثبت قول بعضهم «الصلاة تحرّك اليد التي تحرك العالمين» على أن الصلاة ليس لها قوة في نفسها إنما الله قضى بنعمته أن تكون قناة لبركاته. وتاريخ الكنيسة والعالم واختبار الأفراد يثبت أن الله يسمع الدعاء. وكما أن الإيمان أول الفضائل كذلك الصلاة أول الواجبات. وقال إنها «تقتدر كثيراً في فعلها» ولم يضع حداً لهذا الفعل فعلينا أن نتعلم مقدار فعلها باختيارنا فمتى شعر المؤمن باحتياجه إلى بركة وطلبها من الله فالله الذي أنشأ الشعور بالاحتياج وحثّ على الصلاة هو يُعد الوسائل التي كلها في يده إلى إصابة المطلوب.
قوة الصلاة وفعلها ع ١٧ و١٨
١٧ «كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ ٱلآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى ٱلأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ».
أعمال ١٤: ١٥ و١ملوك ١٧: ١ و١٨: ١ ولوقا ٤: ٢٥
أثبت يعقوب ما قاله في فاعلية الصلاة بمثال إيليا الذي كان من أنبياء إسرائيل قبل مجيء المسيح بنحو ٩١٠ سنين في أيام آخاب الملك.
كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ ٱلآلاَمِ مِثْلَنَا وصف إيليا بذلك دفعاً للظن أن فاعلية صلاته نتجت عن كونه نبياً ممتازاً على سائر الناس بسمو مقامه وفرط قداسته ولهذا ذكر أنه عرضة للتجارب والانفعالات كسائر الناس فيحق لغيره أن يتوقع أن الله يجيب طلبته وإن كان جاهلاً ضعيفاً مذنباً.
صَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ أي كانت غاية صلاته هذه إمساك الله المطر (١ملوك ١٧: ١). ولم يطلب ذلك انتقاماً لنفسه بل عقاباً للشعب على خطاياه بتركه عبادة الله وتمسكه بعبادة البعل إله الصيدونيين وكان من ذلك جوع شديد في فلسطين أو مملكة آخاب.
ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ كما قال المسيح في (لوقا ٤: ٢٥). وجاء في سفر الملوك ما نصه «كَانَ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا فِي ٱلسَّنَةِ ٱلثَّالِثَةِ… فَأُعْطِيَ مَطَراً عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (١ملوك ١٨: ١). وعلّة هذا الاختلاف بحسب الظاهر إما التقريب بذكر ثلاث سنين بقطع النظر عن الكسر وإما كون الكلام في مدة الجوع لأنه أقل من أيام الجدب بالطبع لبقية غلة السنة الماضية (انظر تفسير لوقا ٤: ٢٥) أو إن مدة ثلاث سنين تعني ثلاثة أشتية بلا مطر. ومدة ثلاث سنين وستة أشهر تعني ثلاثة أشتية مع الصيف الذي ليس فيه مطر طبعاً.
١٨ «ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ ٱلسَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَرَهَا».
١ملوك ١٨: ٤٢ و٤٥
ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً لم تذكر هذه الصلاة صراحة في سفر الملوك لكن فيه تلميحاً إليها (١ملوك ١٨: ٤٢).
فَأَعْطَتِ ٱلسَّمَاءُ مَطَراً (١ملوك ١٨: ٤٥).
وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَرَهَا على سنن العادة وناموس الطبيعة (تكوين ٨: ٢٢).
رد الضال عن ضلاله والبركة الناشئة عن ذلك ع ١٩ و٢٠
١٩ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ».
متّى ١٨: ١٥ وغلاطية ٦: ١ وص ٣: ١٤
سبق الكلام على وجوب اعتراف كل من المؤمنين لغيره وصلاة كل من الإخوة من أجل الآخر وزاد هنا وجوب أن ينصح الأخ أخاه ويجتهد في إرشاده إذا ضلّ ونصحه ليهتدي وإصلاح نفسه إذا خطئ.
إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ أشار المسيح إلى خطر الضلال الذي يعرّض المسيحيون له بقوله «ٱنْظُرُوا، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ» (متّى ٢٤: ٤). وقصد بمن ضلّ الذي اعترف بإيمانه بالمسيح وإنجيله ثم أطغاه الشيطان أو بعض المعلمين المفسدين أو فساد قلبه حتى عدل عن مسالك الحق كما هي معلنة في الإنجيل قولاً أو فعلاً.
فَرَدَّهُ أَحَدٌ إلى سبيل الحق والبرّ بنصحه وإنذاره وصلواته.
٢٠ «فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ ٱلْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا».
رومية ١١: ١٤ و١كورنثوس ١: ٢١ وص ١: ٢١ و١بطرس ٤: ٨
فَلْيَعْلَمْ أي يتيقن قال هذا يعقوب تعزية للمرشد على عمله الصالح وتنشيطاً له.
أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ أي من كان وسيلة في يد الله إلى ذلك.
يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ ٱلْمَوْتِ أي نفس الخاطئ. وهذا الكلام يستلزم أن كل خاطئ يستمر على الخطاء يهلك لا محالة أي يموت موتاً أبدياً لأن النفس لا تموت إلا هذا الموت إذ لا تقبل سواه وأن نعمة الله تجعل أتعاب المجتهد في رد الخاطئ وسيلة إلى توبة الخطأة وخلاصهم وإن تلك الخدمة تسر الله كثيراً لأن الإنسان يكون بها عاملاً مع الله في أعظم أعماله (٢كورنثوس ٦: ١).
وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا عُبّر عن مغفرة الخطايا بسترها في (نحميا ٤: ٥ ومزمور ٣٢: ١ وأمثال ١٠: ١٢ و١بطرس ٤: ٨). والخطايا التي يسترها هي خطايا ذلك الضال الذي يرجع إلى الله وإلى حظيرة الخلاص بالتوبة والإيمان. نعم إن الرسول لم يقل خطايا مَن تُستر ولكن لو حسبنا أنه أراد أن خطايا المجتهد في رد الضلال تُستر باجتهاده كان ذلك مخالفاً لتعليم الإنجيل إن الإنسان يتبرّر بكفّارة المسيح وتُغفر كل خطاياه بإيمانه به. وكون تلك الخطايا التي سُترت خطايا المرتشد لا يمنع من أن يكون ارتشاده علّة أعظم فرح لمرشده وعلة ثواب عظيم من الله بدليل قوله تعالى «ٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).
السابق |