شرح رسالة يعقوب | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة يعقوب
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الأول
التحية ع ١
١ «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يُهْدِي ٱلسَّلاَمَ إِلَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً ٱلَّذِينَ فِي ٱلشَّتَاتِ».
أعمال ١٢: ٢ و١٧ وتيطس ١: ١ ورومية ١: ١ و٢بطرس ١: ١ ويهوذا ١ وأعمال ١٥: ٢٣ ولوقا ٢٢: ٣٠ وأعمال ٢٦: ٧ و١بطرس ١: ١ وتيطس ٣: ٢ وعبرانيين ١٣: ١٤
يَعْقُوبُ انظر «في الكاتب» من مقدمة هذه الرسالة.
عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بالمحبة والطاعة وكذا دعا بولس نفسه (رومية ١: ١) وبطرس (٢بطرس ١: ١) ويهوذا (يهوذا ١) ولم يدع نفسه رسولاً ولا «أخا الرب» لأنه اكتفى من الكرامة بأن يكون «عبد الله» وهذا أسمى من نسبته الجسدية إلى المسيح ومن مقامه في الكنيسة.
إِلَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً أي بقايا هذه الأسباط وهم نسل أبناء يعقوب الاثني عشر (خروج ٣: ١٦). وكان أولئك الأسباط أهل المملكة اليهودية وكانوا مملكة واحدة نحو ١٢٢ سنة ثم صاروا مملكتين جنوبية وهي مملكة يهوذا وكانت قصبتها أورشليم وشمالية وهي مملكة الأسباط العشرة وعُرفت بمملكة إسرائيل وكانت قصبتها السامرة (١ملوك ١١: ٣٥). إن يعقوب مع توجيهه رسالته إلى أولئك الأسباط لم يقصد سوى المؤمنين منهم كما يتضح من الآية الأولى من الأصحاح الثاني ودعاهم «بالاثني عشر» بالنظر إلى أصلهم (انظر أعمال ٢٦: ٨ وتفسير ذلك) وكما يتضح أيضاً من أنه لم يأتِ في هذه الرسالة بشيء من الأدلة على أن يسوع هو المسيح ووجوب الإيمان به. وكون هذه الرسالة وجهت أولاً إلى متنصري اليهود لا يمنع أن الروح القدس قصد بها أيضاً نفع مؤمني الأمم.
ٱلَّذِينَ فِي ٱلشَّتَاتِ سكنوا أولاً في اليهودية ثم تشتتوا في الجهات فبعضهم أجبروا على ذلك لأنه سباهم الذين انتصروا عليهم وبعضهم اختاروا ذلك رغبة في النجاة من الظلم أو في الربح من التجارة. وأكثر الذين رجعوا إلى اليهودية بعد سبي بابل كانوا من سبطي يهوذا وبنيامين وبقي الجزء الأكبر من الاثني عشر سبطاً في بلاد السبي. وكان أولئك الأسباط في عصر المسيح ثلاثة أقسام كبيرة في بابل وسورية ومصر. ولم يبق بعد سبي بابل التمييز بين سبط وآخر كما كان قبله. والمرجّح أنه وقت كتابة هذه الرسالة لم يعرف معظم الأسباط العشرة نسبتهم السبطية. وكان ألوف منهم قبل خراب أورشليم متشتتين في أوربا كتشتتهم في أسيا. ودعاهم «بالشتات» لأنهم تشتتوا بين الأمم على مقتضى النبوءات (تثنية ٢٨: ٢٥ وإرميا ٣٤: ١٧ وغير مواضع) وكانوا يُعرفون في عصر المسيح «بالشتات» كما يتبين من (يوحنا ٧: ٣٥) وكتب بطرس رسالتيه إلى شتات أسيا الصغرى.
وجوب الصبر ع ٢ إلى ٤
٢ «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ».
متّى ٥: ١٢ ع ١٢ وص ٥: ١١ و١بطرس ١: ٦
اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي دعاهم إخوة لإيمانهم بالمسيح كما يتضح من (ص ٢: ١). ومعنى العبارة أيها الإخوة احسبوا الوقوع في التجارب علّة للفرح ولا تحسبوه علّة للحزن والأسف ولا تدعوه لعنة لأنه بركة. وقال «كل فرح» لأنه شرع في التكلم على كل أنواع المصائب فأراد أنهم يفرحون في كل من تلك الأنواع بالنظر إلى النتائج المبهجة. واستطاعة المؤمنين على الفرح في أثناء النوازل يتضح من (أعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣).
حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ أراد بها الاضطهادات والأمراض والخسائر المادية والفقر وما شاكل ذلك. وكان المؤمنون الذين كتب إليهم يعقوب عرضة لمشاق خاصة بالنظر إلى بغض اليهود غير المؤمنين والرومانيين الوثنيين لهم واضطهاد الفريقين إياهم. ولم يرد شيئاً من جواذب الإثم التي نطلب النجاة منها بقولنا في الصلاة الربانية «لا تدخلنا في تجربة» كما يتضح من (ع ١٣ و١٤). وسُمّيت تلك النوازل «بالتجارب» هنا وفي (١بطرس ١: ٦) لأنها تمتحن إيمان الإنسان المدّعي أنه مسيحي وتبرهن ثبوته في المسيح أو ارتداده عنه. ومثلها كان امتحان الله لإبراهيم (تكوين ٢٢: ١) وشوكة الجسد التي أُصيب بها بولس (٢كورنثوس ١٢: ٧) ومنها المشقات التي طلب بولس من تيموثاوس أن يحتملها كجندي صالح ليسوع المسيح لكي يكون قوياً وشجاعاً حتى يستطيع أن يجاهد جهاد الإيمان الحسن (٢تيموثاوس ٢: ٣). وللمؤمن وعد بالمعونة الإلهية على احتمال تلك التجارب وهو قول الرسول إن «ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (١كورنثوس ١٠: ١٣).
٣ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً».
١بطرس ١: ٧ وعبرانيين ٦: ١٢ ولوقا ١٢: ١٩
عَالِمِينَ بالاختبار أو بشهادة غيركم.
ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ بتلك التجارب.
يُنْشِئُ صَبْراً أي سجيّة صبرٍ وهي إحدى الثمار المباركة من احتمال المشقات الكثيرة الطويلة المدة. واعتبر يعقوب فضيلة الصبر تساوي كل ما يُنفق على نيلها. وحث المؤمنين عليها أيضاً في (ص ٥: ٧ – ١١). وقوله هنا موافق لقول بطرس في كلامه على التجارب المتنوعة «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ» (١بطرس ١: ٧). وقول بولس في رسالته إلى كنيسة رومية «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً» (رومية ٥: ٣). وليس المراد أن المشقات نفسها تنشئ الصبر بل أن روح الله يجعلها وسيلة إليه إجابة للصلاة.
٤ «وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ».
ص ٣: ٢ ومتّى ٥: ٤٨ وكولوسي ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٥: ٢٣
فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ أي يجب على المؤمن أن يسعى في تربية الفضائل المقترنة بالصبر وهي التي تكلم عليها بولس بقوله «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً، وَٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً الخ» (رومية ٥: ٣ – ٥) وبطرس في (١بطرس ١: ٧). والذي يمنع الصبر من عمله التام هو التذمر على الله في التجارب وعصيان مشيئته في الامتحان. وهذا كقول المسيح «بصبركم اقتنوا أنفسكم» (لوقا ٢١: ١٩).
لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ الخ أي لتحصلوا على كل المنفعة التي قصد الله أن تكون نتائج المصائب إذا احتُملت بالصبر. وحال الكمال هذه وصفها بولس «بالحياة المستترة مع المسيح في الله» (رومية ١٢). وليست تلك الحال حال القداسة التامة في السماء حين يقف المختارون أمامه بلا عيب ولا دنس (٢بطرس ٣: ١٤ ورؤيا ١٣: ٥) لكن بعض القداسة التي قصد الله أن يحصل عليها المؤمنون في هذا العالم باحتمالهم النوازل بالصبر. وهذا ما طلبه بولس لأهل كنيسة تسالونيكي بقوله «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ» (١تسالونيكي ٥: ٢٣). والذي يصنع ذلك للمؤمنين هو الله على وفق قول المسيح «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يوحنا ١٥: ٢).
الصلاة لنيل الحكمة ع ٥ إلى ٨
٥ «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ».
ص ٣: ١٧ و١ملوك ٣: ٩ و١١ و١٢ وأمثال ٢: ٣ – ٦ ومتّى ٧: ٧
إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ في هذا إشارة إلى أن المؤمنين يجدون بالاختبار أنهم لم ينالوا ولا ينالون وهم على الأرض حال الكمال وعدم النقص في شيء. وعلاقته بما سبق أن المسيحي في أثناء الضيق يرتاب في ما يجب أن يفتكر فيه وما يجب أن يعمله. و «الحكمة» المذكورة هنا هي الحكمة السماوية التي يميّز الإنسان بها مستقبله ويكون «حكيماً في آخرته» (أمثال ١٩: ٢٠) لا معرفة أسرار الله. ووصفها يعقوب بقوله «وَأَمَّا ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَٱلرِّيَاءِ» (ص ٣: ١٧).
فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ هذا شرط نيلها على العالِم والجاهل من كل مَن يشعر باحتياجه إلى حكمة أسمى من حكمته بها يعرف الله المعرفة التي هي «حياة أبدية» لصاحبها (يوحنا ١٧: ٣). وتؤهله للقيام بكل ما يجب عليه. وطلب سليمان إلى الله هذه الحكمة فنالها (٢أيام ١: ١٠). وطلبها من الله هو الشرط الوحيد لنيلها لا ذبيحة ثمينة ولا نذور خدمة. ويجب أن تُطلب بخالص النية بغية أن تُستعمل لتمجيد الله وخدمته. وفي ذلك قال يوحنا الرسول «هٰذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا ٱلطِّلْبَاتِ ٱلَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ» (١يوحنا ٥: ١٤ و١٥). وقال المسيح «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متّى ٧: ٧).
ٱلَّذِي يُعْطِي العطاء بسخاء هي صفة يمتاز بها الله عن كل خليقته وهو يُسر بالعطاء وقدرته على العطاء غير محدودة. ولم يقل الرسول ماذا يُعطي لأن عطاياه لا تُحصر وتشتمل على كل ما يفتقر الإنسان إليه وما يليق بالله أن يعطيه.
ٱلْجَمِيعَ أي كل الطالبين. والقصد من ذلك بيان أنه مستعد لأن يعطي الجميع. ولعل يعقوب قصد أن يبيّن إن عطايا الله غير مقصورة على اليهود حسب زعمهم لأنهم شعب الله المختار فإنه مستعد أن يعطي كل محتاج يطلب بركاته من كل أمة.
بِسَخَاءٍ لا بشح ولا بمحاباة.
وَلاَ يُعَيِّرُ الطالب بدعوى أنه لا يستحق عطاياه أو بتذكره خطاياه وعدم شكره له على المواهب السابقة ولا بتكرار طلبه أو عظمة المطلوب. وحكم يعقوب بنفع الصلاة مبني على ما في (متّى ٧: ٧ – ١٢).
٦ «وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ، لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ».
متّى ٢١: ٢١ ومرقس ١١: ٢٣ وأعمال ١٠: ٢٠ وأفسس ٤: ١٤ ومتّى ١٤: ٢٨ و٣١
وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ أي واثقاً بأن الله قادر أن يعطيه ما يطلبه وأنه تعالى يريد ذلك ومستعد له. وقول يعقوب بلزوم الإيمان ينافي توهم البعض أن يعقوب لم يعتبر الإيمان الاعتبار الواجب لتصريحه هنا بأن الصلاة بدون إيمان باطلة ولقوله أثر قوله ليطلب من الله الذي هو مصدر كل بركة «ليطلب بإيمان» ولبيانه في آخر هذه الرسالة قوة صلاة الإيمان (ص ٥: ١٥).
غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ في أن الله يسمع صلواته. «والريب» هو التردد بين الإيجاب والنفي فيجب أن يكون متيقن الإجابة. وقوله هنا يذكرنا قول المسيح لتلاميذه وهم يعجبون من يبس التينة سريعاً «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ، فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ ٱلتِّينَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ: ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ فَيَكُونُ. وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي ٱلصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ» (متّى ٢١: ٢١ و٢٢). فإن قيل كيف يقدر المؤمن أن يحصل على الثقة التامة قلنا ذلك عطية الله فكل من حصل على شيء من تلك الهبة فعليه أن يستعملها بالمحبة والغيرة وإلا ضعفت. ويجب على المجرب في أوقات التجربة أن يرفع «تُرْسَ ٱلإِيمَانِ، ٱلَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ» (أفسس ٦: ١٦). وأن يتأمل في صفات الله ومواعيده التي تقوي الإيمان به وبإجابته الصلاة وفي محبته تعالى وعدم تغيره وأمانته في وعده. وأن يقاوم كل المقاومة الأفكار المولدة للشك. ومثل الإيمان بلا ارتياب في (رومية ٤: ٢٠ انظر أيضاً مرقس ١١: ٢٤).
لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُه هذا بيان لأضرار الشك بالنفس والقلق والخوف وهو يضعف قدرة النفس على فعل الخير ويمنع من عمل الله فيها. ومثل ذلك كانت حال التلاميذ وهم في السفينة على بحر الجليل (مرقس ٦: ٤٧ – ٥٠) وبعد موت المسيح وقبل قيامته (لوقا ٢٤: ١٧ و٢٥) ونبأ خلاصهم من حال الاضطراب ومصيرهم إلى حال الهدوء والأمن في (متّى ١٤: ٣٢ و٣٣ ويوحنا ٢٠: ٢٠) وتشبيه الكاتب هنا يبين حال المرتاب أنه يرتفع بالرجاء تارة ويغرق باليأس أخرى ويكون تارة في أوج المسرة وأخرى في حضيض الحزن.
٧ «فَلاَ يَظُنَّ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ».
هذه الآية تحذير من الشك وبيان أنه يجب على نفس الطالب أن تكون راسخة في الإيمان وإلا فصلواته باطلة وهذا كقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين «بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللّٰهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ» (عبرانيين ١١: ٦). والله يرى قلوبنا ونحن نصلي فإن رأى فينا عدم إيمان بوجوده وصفاته ومواعيده ومحبته واستعداده للإجابة أو الشك في ذلك لاق به أن لا يلتفت إلى صلواتنا. إن الله يمنح بعض البركات بلا طلب كالحياة والقوت والكسوة ولكنه جعل شرط نيل البركات الروحية طلبها بالإيمان. و «الرب» في هذه الآية الله المثلث الأقانيم الذي أعلن نفسه بيسوع المسيح لا الآب وحده ولا الابن وحده.
٨ «رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ».
ص ٤: ٨ و٢بطرس ٢: ١٤
رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها بيان حال قلب المرتاب التي تمنعه من الاقتراب إليه تعالى بطريق مقبولة ونيل الحكمة السماوية «وذو الرأيين» هو الذي يثق من وجه بالله وبوجوب خدمته ويشك من وجه آخر فيه ويميل أن يأخذ العالم نصيباً له فقلبه منقسم بين الله والعالم والسماء والأرض فتارة يميل إلى الثقة بالله واستفراغ المجهود في إرضائه وتفضيله على سواه وتارة يميل إلى التمسك بلذّات هذا العالم وغناه وشرفه وتفضيله رضى الإنسان على رضى الله. وهذا القول كقول المسيح «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ… لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (متّى ٦: ٢٤).
مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ أي غير ثابت في مبادئه وغاياته وإيمانه وصلواته وهذا علّة أنه لا ينال شيئاً من عند الرب. فالمتقلقل في إيمانه لا يعتمد على سيرته والذي لا يثق بالله لا يستحق أن يثق الناس به. والذي ينقسم قلبه بين الله والعالم لا ينفع نفسه ولا إخوته البشر ولا يرضي الله.
حث على التواضع ع ٩ إلى ١١
٩ «وَلْيَفْتَخِرِ ٱلأَخُ ٱلْمُتَّضِعُ بِٱرْتِفَاعِهِ».
لوقا ١٤: ١١
العلاقة بين هذه الآية والسابقة لها غير واضحة ولعلها أنه حذّرنا في السابقة من الشك في الصلاة وانقسام القلب بين الله والعالم. والذي يجعلنا عرضة للشك في عناية الله هو التغييرات التي تطرأ علينا ونحن على الأرض فإذاً يجب على المسيحي أن يعتبر كل تغير من فقر إلى غنى أو من غنى إلى فقر ناشئ عن مشيئة الله وأن يكون مستعداً لقبول تلك التغيُّرات باعتبار أنها بقضائه ويسلم أموره إلى إرشاده تعالى واثقاً به مطيعاً له أو لعلها قصده بيان أن التغيُّرات التي تحدث هنا هي من الوسائل التي يتخذها الله امتحاناً للمؤمنين ليرى هل يثقون به ويتكلون عليه في الارتفاع والاتضاع.
وَلْيَفْتَخِرِ المراد «بالافتخار» هنا السرور كما في قول بولس «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غلاطية ٦: ١٤).
ٱلأَخُ ٱلْمُتَّضِعُ بِٱرْتِفَاعِهِ أي المؤمن الذي كان متضيقاً بالفقر والعَوز ثم استغنى. وعلّة وجوب أن يفرح بتغيّر حاله من الفقر إلى الغنى أن الله بذلك يمتحن خلوص تقواه وإيمانه لا تخلّصه من الفاقة ولا تمكنه من الإحسان إلى غيره. وهذا التغيُّر مما يعرض الإنسان للكبرياء ومحبة أباطيل هذه الدنيا ولذّاتها ونسيان الله فيحق له أن يفرح إذا بقي متواضعاً مفضلاً كنزه في السماء على كنزه في الأرض. وإذا استمر على أن يقول الله نصيبي وعليه توكلي أبان أن إيمانه ثابت وتحقق أنه مسيحي حقاً.
١٠ «وَأَمَّا ٱلْغَنِيُّ فَبِٱتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ ٱلْعُشْبِ يَزُولُ».
١بطرس ١: ٢٤ و١كورنثوس ٧: ٣١
وَأَمَّا ٱلْغَنِيُّ فَبِٱتِّضَاعِهِ أي بانحطاطه من الغنى إلى الفقر. ففرح الغني باتضاعه عسر لا كفرح الفقير بارتفاعه فإنه من مقتضيات الطبع لكن يجب عليه أن يجد فيه علة للفرح لأنه فرصة لبيان أن قلبه غير متعلق بغناه الأرضي وأنه مستعد أن يخدم الله في أيام فقره إذا شاء كما خدمه في أيام غناه. إن بعض الفضائل لا يستطيع الغني أن يختبره ويمارسه في حال الثروة والرغد ولكنه يتمكن من ذلك في حال الفقر والضيق. وكثيراً ما شهد المسيحيون بأنهم عرفوا من نفع مواعيد الله ونعمة المسيح وهم على فراش الأمراض ما لم يعرفوه في سني الصحة الكثيرة. فإن اعتبر فقره من تأديب الله له حق له أن يتخذه علّة للسرور إذ يتحقق بذلك أنه ابن الله (عبرانيين ١٢: ٧). وإن كان فقره ناشئاً عن كونه خادماً للمسيح حق له أن يفرح به لأن المسيح قال «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُمْ» (متّى ٥: ١٢).
لأَنَّهُ كَزَهْرِ ٱلْعُشْبِ يَزُولُ هذا يصدق على كل الناس لكن قليلين من يذكرونه ويجرون بمقتضاه فيجب على المؤمن أن يفرح بأن تغيّر حاله يذكره إياه وينبهه على وجوب الاستعداد للعالم الأخير الذي ليس فيه من تغير ولا من زوال. والتشبيه الذي أتاه يعقوب هنا كالتشبيه الذي أتاه المسيح في (متّى ٦: ٣٠ انظر أيضاً أيوب ١٤: ٢ ومزمور ١٠٣: ١٥).
١١ «لأَنَّ ٱلشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِٱلْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ ٱلْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هٰكَذَا يَذْبُلُ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ».
هذا يوافق قول إشعياء النبي «صَوْتُ قَائِل: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلزَّهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ» (إشعياء ٤٠: ٦ و٧). وهذا مما نشاهده دائماً من تأثير حرّ الشمس وقوة الريح الشرقية على تيبيس العشب وإزالة نضارته وجماله.
هٰكَذَا يَذْبُلُ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ فيزول هو وكل أعماله ومقاصده التي يسعى وراءها فإن الموت يخطف الإنسان ويجرده من كل بهائه ومجده العالمي ورجائه العظمة فيعلّم الله الغني بتغييره حاله بقصر حياته وضعف قبضه ماله وأنه وكل ماله كالزهر الوقتي في سرعة الزوال.
غبطة من يثبت في التجارب والمصائب ع ١٢ إلى ١٨
١٢ «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ».
متّى ٢٠: ١٢ وإشعياء ٤٠: ٧ ومزمور ١٠٢: ٤ و١١
هذا يثبت ما في الآية الثانية ويزيد عليه لأنه يغبط هنالك الذين يقعون في التجربة وهنا الذي يحتمل التجربة. فالمؤمن الذي يُمتحن بالتجربة ويغلبها ينال بركة أعظم من كنوز الأغنياء وأبقى منها. فالتطويبات التي نسبها المسيح إلى المساكين بالروح والحزانى والودعاء والجياع والعطاش إلى البر والرحماء والأنقياء القلب وصانعي السلام والمطرودين من أجل البر والمضطهدين (متّى ٥: ٣ – ١١) نُسبت هنا إلى الذين يحتملون التجربة ولا سيما المطرودين والمضطهدين.
ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ بصبر وخضوع لإرادة الله.
إِذَا تَزَكَّى إي أبان تزكيته باحتماله التجربة كما فعل الرسل والشهداء الذين بقوا أمناء للمسيح في أثناء الاضطهادات الشديدة.
يَنَالُ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ هذا يثبت غبطته. والإكليل المذكور هو علامة الانتصار والشرف وهو الحياة الأبدية المجيدة فلم يكن مثل الأكاليل التي كان يتكلل بها المنتصرون في الملاعب اليونانية فتلك لم يكن لها اعتبار عند اليهود. إن التجارب الأرضية التي يحتملها المؤمنون تصير أزهاراً لأكاليلهم السماوية.
ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ (انظر ٢تيموثاوس ٤: ٨ و١بطرس ٥: ٤ ورؤيا ٢: ١٠ و٣: ١١ و٤: ٤).
لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ المحبة لله هي العلامة التي يمتاز بها الأبرار لأنه ليس كل الناس يحبونه المحبة الواجبة (رومية ١: ٣٠). ومحبة المؤمن للمسيح تقدره على احتمال الآلام من أجله بصبر وثبات.
١٣ «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً».
تكوين ٢٢: ١
إِذَا جُرِّبَ على ارتكاب الخطيئة. المراد في ما ذُكر في الآية الثانية وما بعدها إلى هذه الآية من التجارب المصائب والمشقات الخارجية الحاملة على الحزن والتجارب المفهومة هنا هي الداخلية الحاملة على ارتكاب الآثام. ويمكن أن تصير التجارب الخارجية داخلية إذا جذبت المجرّب إلى التذمُّر على الله وقضائه والكفر به وبعنايته أو حملته على إتيان المحظورات.
إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ نهى يعقوب عن هذا القول لأن قائله يلوم الله على جعله إياه في أحوال تحمله على الإثم وهو عاجز عن الانتصار عليها أو على أنه خلق طبيعته مائلة إلى الخطيئة وعلى أن أخلاقه جعلته يخالف ضميره والشريعة الإلهية.
لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ فانسب شرّك إلى غير الله لأن ليس في طبيعته تعالى ما يقبل التجربة فلا يمكنها أن تمسه ولم يُختبر بها. فليس فيه من ميل إلى الإثم كالإنسان ولا نقص في القوة أو المال أو السعادة حتى يكون عرضة للتجربة بغية الزيادة من قدرة أو ثروة أو غبطة.
وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً أي لا يضع أمام الإنسان شيئاً يحمله على ارتكاب الإثم. وهذا القول الصريح ينفي كل شكوى الناس من أن الله يجربهم بناء على أنه لم يمنع الخطيئة من أن تدخل العالم. وعلى أن قضاءه السابق بكل ما يحدث يستلزم أنه قضى بالخطيئة. وأنه هو علتها وأنه خلق الإنسان ذا طبيعة قابلة التجربة ولا قدرة لها على مقاومة ما حوله من الجواذب إلى الخطيئة. لا ريب في أن وجود الخطيئة بين خلائق الله سر عميق وأن العقل البشري عاجز عن دفع كل الاعتراضات في هذا الأمر لكن الواضح هنا أن الله نفى عن نفسه كل مسؤولية وأن ليس منه شيء من الخطيئة والحاملات عليها.
١٤ «وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا ٱنْجَذَبَ وَٱنْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ».
هذه الآية بيان أن الإنسان نفسه هو مصدر التجربة وعلّة الخطيئة. نعم إن الله يرسل النوازل أو يسمح بحلولها على شعبه لكنه يرسلها خالصة من بواعث الإثم ولا تكون علّة صدمة للناس لولا شهوات قلوبهم أو أميالهم فإنها هي التي تجعل الإنسان يتخذها وسيلة إلى الإثم مع أن الله قصد بها امتحانه وتقويته على خدمة أسمى من الخدمة الأرضية. إن اتهام الله تعالى بأنه يجرب للخطيئة كتجديف الفريسيين الذي قال المسيح أنه يستلزم أن ملكوت الله منقسم على نفسه (متّى ١٢: ٢٢ – ٣٧) إن الله لا يجرب الإنسان على ارتكابها فعلّة كل خطيئة يرتكبها هي شهواته. فإن لم يفتح الإنسان قلعة قلبه لدخول التجربة حاصره الشيطان عبثاً.
إِذَا ٱنْجَذَبَ وَٱنْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ نسب إلى الشهوة قوة الخداع علاوة على قوة الجذب لأنها تجعل الإنسان الذي يدخل فيها يعتقد أن طرقها طرق لذة وأمانة لا إنها تؤدي إلى هلاك النفس والجسد (انظر قول الحكيم في المرأة الغريبة أمثال ٥: ٣ – ٥ و٧: ١٠ – ٢٧). أو تخدعه بأن تحمله على توهم أنه يستطيع أن ينجي نفسه من سلطتها متى أراد لكنه يكون كطير في شبكة فلا يستطيع شيئاً من ذلك (جامعة ٩: ١٢).
١٥ «ثُمَّ ٱلشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً».
أيوب ١٥: ٢٥ ومزمور ٧: ١٤ وإشعياء ٥٩: ٤ ورومية ٥: ١٢ و٦: ١٣
في هذه الآية دركات هبوط الخاطئ إلى هلاكه.
ثُمَّ ٱلشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ القول هنا كالقول في سفر أيوب «حَبِلَ شَقَاوَةً وَوَلَدَ إِثْماً، وَبَطْنُهُ أَنْشَأَ غِشّاً» (أيوب ١٥: ٣٥). إن الشهوة الطبيعية التي تخلو من الصفات الأدبية تصير تجربة للخطيئة متى وُجهت إلى محظور كما كان من أمر حواء لأنها نظرت إلى الثمرة المنهي عنها واشتهتها ثم تناولتها. إن رغبة الإنسان في السعادة وقابليته الأكل والشرب وطلبه الكسوة ليست بإثم لكنها يمكن أن تصير إثماً إذا حملته على اتخاذ الوسائل المحرمة إلى إدراكها من تعدّي حقوق غيره من الناس ومخالفة شريعة الله. فالطبيعة التي ورثناها من الوالدين الأولين بعد سقوطهما تحملنا على أن نشتهي المحرمات وأن نعمل أعمالاً محرمة. فلا حق بعد هذا لأحد أن يتهم الله بأنه هو علّة وجود الخطيئة ونحن نرى أن في طبيعة الإنسان عللاً كافية لإنشائها.
تَلِدُ خَطِيَّةً انزل يعقوب الشهوة الرديئة منزلة الزانية وتسليم الإرادة إلى الشهوة منزلة الاقتران المحرّم ونتيجة ذلك الاقتران هي الخطيئة. ونوع الخطيئة يختلف باختلاف الشهوة.
وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً أي إذا بلغت غايتها تُنتج الخ. فالخطيئة الواحدة وسيلة إلى ارتكاب كثير من الخطايا وفساد الإنسان كله كجرثومة الوبإ تنمو وتنتشر في كل أعضاء الجسد فتميتها فإذا الشهوة الرديئة أم الخطيئة ومولود الخطيئة الموت. والموت هنا موت زمني روحي أبدي. وكلام يعقوب هنا يشبه كلام بولس في (رومية ٦: ٢٠ – ٢٣) وهو يبين عموم نتيجة الخطيئة لولا العلاج الذي أعده الله بكفارة يسوع المسيح وتجديد الروح القدس لقلب الإنسان. وخلاصة كل ما ذُكر أن التجربة للإثم ليست من الله وإن كان الامتحان منه. وإن أصل الخطيئة الشهوة وإن الخطيئة أصل الموت بكل أنواعه ودرجاته.
١٦ «لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ».
١كورنثوس ٦: ٩ ع ١٩ وص ٢: ٥ و١: ٢ و١٤ و٤: ١ و١٠ و٥: ١٢ و١٩ وص ٤: ١١ وأعمال ١: ١٥
برهن يعقوب بطريق السلب في ما سبق أن الله لا يجرّب الإنسان وأخذ هنا يبرهن ذلك في هذه الآية والاثنتين بعدها بطريق الإيجاب وهو بيان أن الله مصدر كل صلاح فكل ما يعمله للخير.
لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي يتبين من هذا الإنذار والخطاب أن الرسول اعتبر أن ما سيكون هو أمر ذو شأن وأن الإخوة في خطر الضلال مع سائر الناس وهو أن ينسبوا إلى الله ما هو بعيد من طبيعته أي أن التجربة للإثم منه وأنه هو مصدر الخطيئة وكل شرور العالم الناشئة عنها.
١٧ «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ، ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ».
ص ٣: ١٥ و١٧ ويوحنا ٣: ٣ ومزمور ١٣٦: ٧ و١يوحنا ١: ٥ وملاخي ٣: ٦
كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ في هذا البيان مصدر العطية وإن جوهرها كجوهر مصدرها. ويعسر علينا التمييز بين «العطية الصالحة» و «الموهبة التامة» ولعله أشار بكونها «صالحة» إلى حقيقتها ونتيجتها وبكونها «تامة» إلى مقدارها وإلى كونها بلا نقص. ومن الواضح أن كل البركات الروحية تأتي من الله وإن أعمال الناس الصالحة ناشئة عن حث الله للناس عليها وتمكينه إياهم من عملها. وهو هنا نص على أنه تعالى هو واهب كل خير أرضي من صحة وقوة ومال حتى أن مصائب الناس لم يرسلها عليهم إلا بغية نفعهم لأنهم إذا احتملوا الامتحان بها أتتهم بأثمار بر للسلام بدليل قوله «كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين ١٢: ١١) إن ينبوع كل خير أرضي من السماء ولكن قنوات البركات الروحية التي فيها تصل إلينا هي الأسفار الإلهية والتأمل فيها وأسرار الكنيسة والصلوات والبركات الزمنية يهبها الله لنا إجابة للصلاة المقترنة بالاجتهاد والاقتصاد والتدبير التي هي من جملة مواهبه تعالى. وهو يهب الخلاص لجميع الذين يطلبونه بالمسيح فيهب الفرح والتعزية والسلام للذين يحبونه ويطيعونه وأما الغنى والشرف فيعطيه القليلين من بنيه ولكنه يعطي الجميع ابنه يسوع المسيح ورجاء السماء.
نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ المراد «بالأنوار» هنا الأجرام السماوية ودُعي الله إياها لأنه خالقها. ولا شيء في المخلوقات أطهر من النور وأكثر نفعاً منه. وكون الله مصدره يمنع من أن يكون مصدر الشر بدليل قول يوحنا الرسول «إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ» (١يوحنا ١: ٥) إنه تعالى فوق كونه مصدر النور المادي (أي نور الشمس والقمر والنجوم التي تضيء في السماء) هو مصدر نور العقل والضمير الذي يضيء في نفس الإنسان. ويضيء من شريعته ونور النبوءة التي هي «كسراج منير في موضع مظلم» ونور الإنجيل الذي يضيء في كل العالم. والنور الذي أشرق بواسطة الرسل والشهداء والذين اعترفوا بالمسيح بين كل الأمم. ونور الروح القدس الذي أشرق في قلوبنا ونور المدينة السماوية وهو أبو يسوع المسيح الذي هو «نور العالم».
ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ إنه لا يعتري الله التغيّر الذي نشاهده في مقادير أنوار الأجرام السماوية ويظهر في شروقها وغروبها كل يوم وتغيره بتغير الفصول. فالشمس لا تشرق إلا في كل موضع من الأرض في وقت واحد ولا تكون أشعتها وحرارتها متساوية في الأماكن بل يختلفان باختلاف العروض والفصول وغير ذلك والله منزه عن أمثال ذلك. والمرجّح أنه أشار بقوله «ظل دوران» إلى ما يعتري القمر من تغير وجهه وخسوفه. فما كان عليه الله منذ ألوف وربوات لا تحصى من السنين لا يزال عليه الآن ويبقى ذلك إلى ما لا يحصى من ربوات سني الأبدية. فلن يتغير في الحكمة والمحبة والقوة. فمهما اعترانا من تغير من فقر وغنى ومرض وصحة وانتقلنا من مواضعنا إلى أقاصي الأرض لم نزل ساكنين في ستر العلي وفي ظل القدير نبيت. «تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» (٢بطرس ٣: ١٠) و «وَتَلْتَفُّ ٱلسَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ» (إشعياء ٣٤: ٤) «وتُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٢٤: ٢٩) والله لا يزال يقول «أَنَا ٱلرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ» (ملاخي ٣: ٦).
١٨ «شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ».
يوحنا ١: ١٣ وع ١٥ و١بطرس ١: ٣ و٢٣ و٢كورنثوس ٦: ٧ وأفسس ١: ١٣ و٢تيموثاوس ٢: ١٥ وإرميا ٢: ٣ ورؤيا ١٤: ٤
شَاءَ فَوَلَدَنَا في هذا أقوى برهان على أن الله صالح وأنه مصدر الصلاح لأنه مصدر تجديد الإنسان. وهذا التجديد يُعرف «بالولادة الجديدة» أيضاً «والولادة من فوق» (يوحنا ٣: ٣ و٦) و «بالخليقة الجديدة» (٢كورنثوس ٥: ١٧). وقال «شاء فولدنا» لبيان أنه لا قوة خارجية أوجبت عليه ذلك بل أن الأمر كله من جودته ونعمته. والضمير البارز في «ولدنا» للمسيحيين والله ولدهم ثانية بروحه القدوس. وهذا الولادة روحية كما يتبين من قول يوحنا في المتجددين «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ١: ١٣) ومن قول بطرس «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (١بطرس ١: ٢٣).
بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ أي الإنجيل الموحى به بالروح القدس فإنه هو الحق بدليل قول المسيح «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧) وقول بطرس «مَوْلُودِينَ… بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). وتُسمى «كلمة الحق» أيضاً «بإنجيل الخلاص» ( أفسس ١: ١٣). ولنا أن نفهم «بكلمة الحق» يسوع المسيح نفسه لأنه كلمة الله الأزلي الذي تأنس لكي نقدر به أن نصير أبناء الله ولا يتغير المعنى لأن الإنجيل إنجيل المسيح نفسه لأنه كلمة الله الأزلي الذي تأنس لكي نقدر به أن نصير أبناء الله ولا يتغير المعنى لأن الإنجيل إنجيل المسيح وهو الذي يجعل ذلك الإنجيل واسطة الحياة الجديدة بروحه القدوس.
لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ إن باكورة الناس والبهائم والأثمار توقف لله بمقتضى شريعته ولذلك امتازت على غيرها بالقداسة والإكرام (لاويين ٢٣: ١٠ وعدد ١٨: ١٢ وتثنية ٢٦: ٢). وكانت باكورة الحصاد تُحسب عربون الحصاد كله. وعلى هذا اعتبر يعقوب الذين صاروا أبناء لله بالولادة الجديدة ممتازين على سائر خليقته بالإكرام كباكورة سائر الأشياء. واعتبر المسيحيين الأولين الذين خاطبهم عربون الكثيرين الذين سوف يؤمنون من اليهود والأمم في كل الأرض لمجده تعالى. فإن كان قد دعاهم باكورة بالنظر إلى السمو والشرف أو بأنه اعتبر فداءهم باكورة حصاد روحي عظيم في المستقبل فالنتيجة واحدة وهي أن تحديدهم دليل قاطع على إحسان الله وصلاحه. قال بولس الرسول كل الخليقة تتوقع استعلان أبناء الله (رومية ٨: ١٩ و٢١) فيكون فداء المسيحيين الأولين باكورة فداء عظيم مجيد يعم كل الخليقة.
وجوب الطاعة والحلم ومعرفة النفس والتديّن وعلامات الديانة الطاهرة ع ١٩ إلى ٢٧
١٩ «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي ٱلاسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي ٱلتَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ».
١يوحنا ٢: ٢١ وأمثال ١٠: ١٩ و١٧: ٢٧ و١٦: ٣٢
إِذاً أي بناء على كون الله مصدر كل صلاح وأنه لا يجرب أحداً للإثم وأنه أكرمنا بأن جعلنا بنعمته باكورة من خلائقه وجب أن نصغي إلى قوله تعالى ونُخضع شهواتنا الرديّة ونطيع الله في كل شيء.
لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي ٱلاسْتِمَاعِ أي راغباً في سمع كلمة الحق وصوت المتكلم بها وبروحه في قلوبنا وأصوات مبشريه بغية السير بمقتضى تلك الكلمة (كما يتضح من ع ٢٢) لا بغية أن يكون معلماً لها أو مجادلاً ومخاصماً كما يظهر من باقي الآية.
مُبْطِئاً فِي ٱلتَّكَلُّمِ أي غير راغب في التكلم كمعلم كما يظهر من قوله «لا تكونوا معلمين كثيرين» (ص ٣). ولعل مراده مراد سليمان بقوله «كَثْرَةُ ٱلْكَلاَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْصِيَةٍ، أَمَّا ٱلضَّابِطُ شَفَتَيْهِ فَعَاقِلٌ» (أمثال ١٠: ١٩) وهو تحذير من الابتداء أي التكلم قبل التأمل والإكثار من الكلام الذي لا يبني وهو بمعنى قول بولس «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ» (كولوسي ٤: ٦).
مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ كقول الحكيم «اَلْبَطِيءُ ٱلْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ ٱلْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال ١٦: ٣٢). وقول يعقوب نفسه «نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ» (ص ٣: ٥) فإن الغضب يتوقد كالنار. وفي هذه نهي عن الغضب على المعتدين علينا والذين لا يوافقونا في العقائد والفرائض الدينية. فإن هذا الغضب يحمل على الخصومات والتحزب والانشقاق. والقرينة تدل على أن ذلك الغضب ناشئ عن الخلاف الديني.
٢٠ «لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ ٱللّٰهِ».
متّى ٥: ٢٢ وأفسس ٤: ٢٦
في هذه الآية علّة أنه يجب على المسيحي أن يكون «مبطئاً في التكلم مبطئاً في الغضب» وهو غيور لله ودينه لأن الغيرة الدينية تحمل الإنسان على الجدال ومقاومة آراء غيره فلا ينتج منهما البر الذي يسر الله به وهو ثمر الروح القدس فينا. ونستنتج من هذا الإنذار أن المسيحيين الأولين مالوا إلى الخصومات العنيفة في الأمور الدينية إما بين أنفسهم وإما بين جيرانهم من اليهود والأمم وظنوا أن ذلك يبيّن غيرتهم للمسيح ويؤول إلى التقدم الحقيقي مع أن الأمر غير ذلك وأنه لا ينشأ منه سوى الغضب بلا نفع للدين الحق.
٢١ «لِذٰلِكَ ٱطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ».
أفسس ٤: ٢٢ و١بطرس ٢: ١ و١: ٢٢ وأفسس ١: ١٣
لِذٰلِكَ لما سبق في (ع ١٩ و٢٠).
ٱطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ أي كل خطيئة ناشئة عن شهوات جسدية. ودُعيت «نجاسة» لكونها مكروهة بذاتها فيجب طرحها لأنها تمنع كل نفع من استماع الكلمة الإلهية المغروسة كالشوك الذي ذُكر في مثَل الزارع أنه خنق الكلمة وجعلها بلا ثمر (متّى ١٣: ٢٢).
وَكَثْرَةَ شَرٍّ أي الأخلاق الرديئة كالخبث والحقد والحسد وسائر ما يحمل من قامت به على بغض الناس. ولعل الرسول أشار «بالنجاسة» إلى الخطايا الناشئة عن الشهوة الجسدية وأشار «بالشر» إلى الخطايا القلبية وأضاف «الكثرة» إليها ليدل على كرهه إياها وليبيّن أن من شأنها أن تنتشر وتفيض وحذّر منها لأنها تمنع من استماع كلمة الحق.
فَٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ لأن الكبرياء والنجاسة والبغض والشر على اختلاف أنواعه تمنع من قبول الكلمة. والحلم والوداعة واللين تفتح ذهن الإنسان وقلبه للترحيب بالإنجيل والاستفادة منه (انظر متّى ١٨: ٢ و٣ وتفسير ذلك). وتعبيره عن الإنجيل «بالكلمة المغروسة» على وفق تعبير بطرس عنه بقوله «كَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). ومعنى ذلك أن تأثير الإنجيل في طبيعتنا الفاسدة الملتوية هو تغييره تلك الطبيعة حتى لا تأتي بأثمار البر. ولنا أن نفهم من «الكلمة المغروسة» المسيح فينا (غلاطية ٤: ١٩).
ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ أي إن الكلمة المغروسة في قلب الخاطئ قوة في يد الله أن تخلص النفس من الموت. ومن خواصها هذه النتيجة. فهذا مناسب لقول بولس في إنجيل المسيح أنه «قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية ١: ١٦). وقوله «كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ١٨ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ٣: ١٥). ونسب الى الإنجيل مثل هذه القوة في مخاطبته أساقفة أفسس بقوله «ٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٠: ٣٢). وأشار بقوله «المغروسة» إلى أنه ليس في قلب الإنسان شيء من المبادئ الطبيعية التي تُنشى من تلقاء نفسه القداسة وتؤدي إلى الخلاص. فكل ما يؤثر في القلب للخلاص إنما يأتي من خارجه وتغرسه اليد الإلهية.
٢٢ «وَلٰكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِٱلْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ».
ع ٢٢ – ٢٥ ومتّى ٧: ٢٤ – ٢٧ ولوقا ٦: ٤٦ – ٤٩ ورومية ٢: ١٣ وص ٢: ١٤ – ٢٠
هذا إيضاح لقوله «ليكن كل إنسان مسرعاً في الاستماع» وتكميل له.
عَامِلِينَ بِٱلْكَلِمَةِ على تمام معناها وكل مطاليبها بمقتضى قول المسيح «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٧: ٢١). وقوله «طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لوقا ١١: ٢٨). وقوله «إِنْ عَلِمْتُمْ هٰذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ» (يوحنا ١٣: ١٧).
لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ هذا كقول بولس «لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، بَلِ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ» (رومية ٢: ١٣). فانظر مثِل المسيح في البيت الذي بُني على الرمل (متّى ٧: ٢٦ و٢٧). وليس المقصود هنا الاستخفاف بالسمع لكن بيان عدم نفعه إذا انفك عن العمل.
خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ بتوهمكم أن مجرد سمع الكلمة بالأذن الظاهرة ينفعكم.
٢٣ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ».
١كورنثوس ١٣: ١٢
شبّه هنا استماع الكلمة بياناً لعدم نفعه منفصلاً عن العمل بأمر عادي يأتيه الإنسان كل يوم وتأثيره زهيد قصير جداً.
سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً هذان وصفان لإنسان واحد.
يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ أي صورته التي وُلد عليها. كانت المرآة يوم كتبت هذه الرسالة تؤخذ من صقيل المعادن.
٢٤ «فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ».
مَضَى أي ذهب من أمام المرآة.
وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ أي نسي صورته. ذكر يعقوب ما يحدث غالباً وعلّة ذلك عدم التأمل الكامل فإنه حين ينظر في المرآة يعرف أن الصورة صورته ثم تذهب من خياله وذاكرته. ومقصوده من هذه التشبيه بيان سرعة زوال التأثير الناشئ من كلمة الله في الإنسان من جهة معرفته نفسه وواجباته فإنه حين يسمع كلمة الله يعرف أنها حق وأن شهادتها عليه صادقة فهي لنفسه بمنزلة المرآة لوجهه. فإن اكتفى بمجرد استماعها لم يكن لها من تأثير ثابت فيه من جهة معرفته نفسه وإصلاحها كما لم يكن من تأثير ثابت في خياله من نظره وجهه في المرآة الحقيقية.
٢٥ «وَلٰكِنْ مَنِ ٱطَّلَعَ عَلَى ٱلنَّامُوسِ ٱلْكَامِلِ نَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً بَلْ عَامِلاً بِٱلْكَلِمَةِ، فَهٰذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ».
ص ٢: ١٢ ويوحنا ٣: ١٧ وغلاطية ٢: ٤ ويوحنا ٨: ٣٢ ورومية ٨: ٢ وغلاطية ٦: ٢ و١بطرس ٢: ١٦
في هذه الآية وصف لمطالع الكلمة الإلهية بالتواضع والحرص والرغبة في معرفة إرادة كاتبها والعمل بموجبها.
مَنِ ٱطَّلَعَ لم يزل يعتبر الإنجيل مثل مرآة ينعم الناظر فيها النظر خلافاً لمن ينظر وجهه لمحة ويمضي. فالاطلاع هنا كالاطلاع في قول بطرس «تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا» (١بطرس ١: ١٢). ومثل نظر يوحنا في القبر الذي قام المسيح منه إذ قيل فيه أنه «دَخَلَ وَرَأَى فَآمَنَ» (يوحنا ٢٠: ٨).
ٱلنَّامُوسِ ٱلْكَامِلِ وصفه «بالكمال» لأنه يبيّن كمال التبيين كل ما يجب على الإنسان أن يفعله فالإنجيل للمسيحي ناموس كل حياته.
نَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ لأن المؤمن بمقتضى ولادته الجديدة يطيع الله مختاراً مسروراً لا كما يطيع العبد سيده مضطراً خائفاً. فالحرية صفة للمطلع الطائع الناموس لا للناموس نفسه.
ثَبَتَ أي في الطاعة بخلاف ما قيل آنفاً أنه «نظر ومضى ونسي» فهو يحفط ما عرفه في قلبه فيحمله على العمل.
صَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً كالذين «نظر وجه خلقته» (ع ٢٤).
بَلْ عَامِلاً بِٱلْكَلِمَةِ فالعمل هو الذي يمتاز به فهو ينظر في ذلك الناموس نقائصه فيصلح نفسه ويرى ما يجب عليه ويقوم به. والمراد بقوله «عاملاً بالكلمة» أنه قائم بما أوجبه الإنجيل عليه.
فَهٰذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ أي إن الله يثيبه على مداومته الطاعة ويقول له الله كما قال الملك للذين عن يمينه «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متّى ٢٥: ٣٤). وهو كقول المسيح «طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لوقا ١١: ٢٨) فتكون سعادته كسعادة الذي وُصف في مثل البيت المبني على الصخر (متّى ٧: ٢٤ و٢٥).
٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هٰذَا بَاطِلَةٌ».
ص ٣: ٢ – ١٢ ومزمور ٢٩: ١ و١٤١: ١
مما جاء في هذا الأصحاح من الآية التاسعة عشرة إلى هذه الآية إيضاح لقوله مسرعاً في الاستماع (ع ١٩). وما يأتي في (ع ٢٦ و٢٧) إيضاح لقوله «مبطئاً في التكلم» (ع ١٩).
إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ أي ممن يقومون بمظاهر الدين.
يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ أي يحسب أنه تقي ويعبد الله عبادة مقبولة.
وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ اعتقد يعقوب أن أول علامات تقوى الإنسان وكونه صاحب الدين الحق صون لسانه عن الشر. وهذا كقول المسيح «بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ» (متّى ١٢: ٣٧). فالذي لا يلجم لسانه يكذب به ويحلف ويجدّف ولا يمتنع عن الخصومة والغضب وهذا أكثر ما أراده هنا.
يَخْدَعُ قَلْبَهُ متوهماً أن ما يقوم به من مظاهر الدين يكفيه لكي ينال رضى الله وهذا باطل والحق خلافه.
فَدِيَانَةُ هٰذَا بَاطِلَةٌ أي عبادته الدينية باطلة لأنها لا تحتمل امتحان الديّان العظيم ولا ترضيه.
٢٧ «اَلدِّيَانَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ عِنْدَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ هِيَ هٰذِهِ: ٱفْتِقَادُ ٱلْيَتَامَى وَٱلأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ ٱلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ ٱلْعَالَمِ».
رومية ٢: ١٣ وغلاطية ٣: ١١ ومتّى ٢٥: ٣٦ وتثنية ١٤: ٢٩ وأيوب ٣١: ١٦ و١٧ و٢١ ومزمور ١٤٦: ٩ وإشعياء ١: ١٧ و٢٣ ص ٤: ٤ وتيطس ٢: ١٣ و٢بطرس ١: ٤ و٢: ٢٠ وأفسس ٢: ٢ ومتّى ١٢: ٣٢ و١يوحنا ٢: ١٥ – ١٧
إن اَلدِّيَانَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ أي العبادة الدينية الحقة الخالصة من الرياء والغش.
عِنْدَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ أي في نظر الله الذي هو الآب (انظر رومية ٢: ١٣ وغلاطية ٣: ١١). وصف «الدين الحق» سلباً في (ع ٢٦) ووصفه إيجاباً في ما يأتي. وفي هذا أمران جوهريان وهما الإحسان إلى الفقراء وطهارة القلب وحكم بأنه حينما يكون ذانك الأمران فهنالك يكون الدين الحق.
ٱفْتِقَادُ ٱلْيَتَامَى وَٱلأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ عبّر بالإحسان إليهم عن كل اعتناء بالمحتاجين. والمراد «بالافتقاد» زيارتهم للاعتناء بهم والمساعدة لهم. وقدم اليتامى على الأرامل بياناً لأن اليتامى أشد حاجة من الأرامل وكون مساعدة اليتامى والأرامل مقبولة ومرضية عند الله يؤكدها قوله تعالى «أَبُو ٱلْيَتَامَى وَقَاضِي ٱلأَرَامِلِ اَللّٰهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ» (مزمور ٦٨: ٥ انظر أيضاً تثنية ١٠: ١٨ و١٤: ٢٩ ومزمور ١: ١٤ و٨٢: ٣ وإشعياء ١: ١٧ وإرميا ٧: ٦ و٤٩: ١١). فساغ ليعقوب أن يحسب الاعتناء باليتامى والأرامل علامة التقوى الحقيقية لأن ذلك الاعتناء تكميل الناموس الملكي وهو قول المسيح «تحب قريبك كنفسك».
وَحِفْظُ ٱلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ ٱلْعَالَمِ قصد بذلك طهارة القلب والسيرة. وأراد «بالعالم» كل ما يحمل على ارتكاب الخطيئة لأنه اعتبر العالم هنا منفصلاً عن الله وأنه «وُضع في الشرير» (١يوحنا ٥: ١٠). فالعالم على هذا علّة تدنيس المسيحي لأن المسيحي فصل نفسه عن العالم وإن بقي فيه فاحتاج إلى أن يحترس من أن يتدنس به (١تيموثاوس ٦: ١٤) وقوله هنا على وفق قول المسيح «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متّى ٥: ٨). نعم إن حفظ المسيحيين من دنس العالم هو من أعمال الله (يوحنا ١٧: ١٥) لكن ذلك لا يمنع من أن يكون من أعمال الإنسان أيضاً بدليل قول الرسول لتيموثاوس «احفظ نفسك طاهراً» (١تيموثاوس ٥: ٢٢). ومعنى ما هنا كمعنى قوله «لاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية ١٢: ٢ انظر أيضاً ١صموئيل ١٥: ٢٢ و١يوحنا ٢: ١٥ – ١٧). والذين أتوا بخلاف ما ذُكر هنا هم الفريسيون فإنهم ادّعوا الطهارة الزائدة حتى أنهم أبوا أن يدخلوا دار بيلاطس وقت العيد لئلا يتدنسوا مع أنهم كانوا حيئنذ يطلبون محاكمة بريء وقتله (يوحنا ١٨: ٢٨).
السابق |
التالي |