بطرس الثانية

الرسالة بطرس الثانية | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح رسالة بطرس الثانية 

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

أنبأ الرسول في هذا الأصحاح بقيام أنبياء كذبة بينهم كما كان أنبياء كذبة بين اليهود وإنهم يخدعون كثيرين ويضلونهم ويهلكون أخيراً. وذكر فوق الإنباء بمجيئهم بعض صفاتهم منها أنهم ينكرون الرب الذي فداهم (ع ١). وأنهم يكونون محبين للمال ولطمعهم في العالميات يجتهدون في أن يحوّلوا الناس عن الإيمان ويجعلوهم أتباعاً لهم (ع ٢ و٣). وأنهم يكونون فاسقين فاسدي السيرة ويعلّمون أن دين المسيح يبيح لهم أن يعيشوا بمقتضى شهواتهم الجسدية (ع ٤ – ١٠) وبذلك يختلفون عن الملائكة كل الاختلاف ويشبهون البهائم وأنهم سوف يهلكون مثلها (ع ١١ و١٢). وأنهم يهينون أنفسهم والكنيسة التي ينتسبون إليها (ع ١٣ و١٤) وأنهم مثل بلعام الذي استأجره بالاق ليلعن إسرائيل وأنهم فاسدون ومفسدون ويدّعون الحرية وهم عبيد شهواتهم (ع ١٥ – ١٩). وأنهم ارتدوا عن الإيمان الذي اعتقدوه أولاً فكان خيراً لهم لو بقوا في الحال الأصلية ولم يدّعوا أنهم مسيحيون (ع ٢٠ – ٢٩).

وفي هذا الأصحاح شبه قوي لما في رسالة يهوذا نعلم من السابق أبطرس أم يهوذا.

الإنباء بقيام أنبياء كذبة وذكر بعض صفاتهم ع ١ إلى ٣

١ «وَلٰكِنْ كَانَ أَيْضاً فِي ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ. وَإِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ، يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكاً سَرِيعاً».

تثنية ١٣: ١ الخ وإرميا ٦: ١٣ ١وتيموثاوس ٤: ١ ومتّى ٧: ١٥ و٢كورنثوس ١١: ١٣ وغلاطية ٢: ٤ ويهوذا ٤ و١كورنثوس ١١: ١٩ وغلاطية ٥: ٢٠ ورؤيا ٦: ١٠ و١كورنثوس ٦: ٢٠

وَلٰكِنْ أي بخلاف الأنبياء القديسين المذكورين في (ص ١) الذين يجب الانتباه لكلامهم.

كَانَ أَيْضاً فِي ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ المراد «بالشعب» هنا الإسرائيليون شعب الله المختار فاعتبر بطرس كنيسة المسيح بمنزلة الإسرائيليين قديماً وإن ما حدث لهم صورة ما يحدث للكنيسة الجديدة. والمراد «بالأنبياء الكذبة» الذين ادعوا كذباً أنهم أنبياء وهم ليسوا كذلك (إرميا ١٤: ١٤ و٢٣: ٢٥). وأنبأ بهم موسى (تثنية ١٣: ١ – ٥).

كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ كما تنبأ المسيح بقيامهم في الكنيسة بقوله «اِحْتَرِزُوا مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ، وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ» (متّى ٧: ١٥ و٢٤: ٢٤). قال بولس لمشائخ كنيسة أفسس «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ» (أعمال ٢٠: ٣٠).

ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ قوله «يدسون» يدل على خداعهم وخيانتهم في التعليم فإنهم ادّعوا خلاف ما هم عليه حقيقة وعلّموا الباطل وهم يتظاهرون بأنهم يعلّمون الحق.

بِدَعَ هَلاَكٍ آراء دينية تسلب راحة الكنيسة وسلامها وتهلك النفوس (فيلبي ٣: ١٩ ويهوذا ع ٤).

يُنْكِرُونَ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ وذلك شر الآثام لأنهم أساءوا إلى المحسن إليهم وكان يجب أن يعترفوا به حتى الموت. فلو أنكروا لاهوت المسيح علانية ورفضوا دعواه لم يكن يخشى أن يسمع الناس كلامهم لكنهم بواسطة دسائسهم جعلوا الناس في ريب من أمر المسيح فقبلوا ما هو مناف لحق المسيح. قال الإنجيل «إن المسيح اقتنانا بدمه» (أعمال ٢٠: ١٨). «وإننا قد اشُترينا بثمن» (١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣ ورؤيا ٥: ٩). ولم يبيّن ما هي البدع التي دسوها لكن القرينة تدلّ على أنهم نفوا حقيقة الفداء الذي أنشأه المسيح بموته على الصليب وقيمة ذبيحته الكفارية عن خطايانا. ولعل بطرس حين كتب هذا ذكر بفرط الحزن إنكاره المسيح ثلاث مرات وما نشأ عن ذلك من بكائه المرّ.

يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكاً سَرِيعاً هذا الهلاك روحي ويحتمل أنه يكون جسدياً فتكون الأنفس بمعنى الذوات لأنهم علّموا شر الضلالات فاستحقوا شر العقاب. وقوله «سريعاً» على أن هلاكهم يكون غير منتظر وأنه هائل كما يكون في مجيء المسيح (١تسالونيكي ٥: ٣).

٢ «وَسَيَتْبَعُ كَثِيرُونَ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٱلَّذِينَ بِسَبَبِهِمْ يُجَدَّفُ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ».

تكوين ١٩: ٥ الخ ويهوذا ٤ وع ٢ و٧ و١٨ ورومية ٢: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ١ وأعمال ١٦: ١٧ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤

وَسَيَتْبَعُ كَثِيرُونَ تَهْلُكَاتِهِمْ أو «دعارتهم» كما في بعض النسخ (انظر حاشية العهد الجديد ذي الشواهد) ويدل على أن سوء تعليمهم كان مقترناً بسوء سيرتهم كما هو الغالب ويقوّي ذلك ما في (ع ١٨ و١٩). والاختبار يشهد بصحة ما قيل هنا فإن الضلال يعدي. فكثيرون يتبعون الضالين مهما كان تعليمهم غريباً جهلياً.

بِسَبَبِهِمْ يُجَدَّفُ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ يدّعون أنهم متمسكون بحق الإنجيل ولكن سيرتهم الملتوية عثرة لغيرهم وعلة إهانة للمسيح ودينه. فكما أن أعمال تلاميذ المسيح الصالحة تكون سبب تمجيد أبيهم الذي في السماوات (متّى ٥: ١٦) وتبكم أعداء الإنجيل فهكذا سوء سيرة الذين يدّعون أنهم مسيحيون يعرّضهم للخجل والإنجيل للإهانة.

٣ «وَهُمْ فِي ٱلطَّمَعِ يَتَّجِرُونَ بِكُمْ بِأَقْوَالٍ مُصَنَّعَةٍ، ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لاَ تَتَوَانَى وَهَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ».

ع ١٤ و١تيموثاوس ٦: ٥ يهوذا ١٦ و٢كورنثوس ٢: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ٥ ورومية ١٦: ١٨ وص ١: ١٦ وتثنية ٣٢: ٣٥

أبان في هذه الآية غاية أولئك المعلمين المضلّين وهي الربح الدنيوي فإنهم تاجروا بنفوس الناس كما يتاجر التجار بالبضائع. ووسائل كسب الناس للضلال والشيطان والموت هي أقوال «مصنعة». والمرجّح أن موضوع تلك الأقوال وعدهم الحرّية بالمسيح لكي يفعلوا بمقتضى شهواتهم فهم مثل الذين قال بولس فيهم «َبِٱلْكَلاَمِ ٱلطَّيِّبِ وَٱلأَقْوَالِ ٱلْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ ٱلسُّلَمَاءِ» (رومية ١٦: ١٨ انظر ص ١: ١٦ و١تيموثاوس ٦: ٥ وتيطس ١١: ١ ويهوذا ع ١١ و١٦).

ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لاَ تَتَوَانَى اعتقد بطرس إن الله الديّان العادل حكم منذ زمن قديم بأنهم مذنبون وبالعقاب الذي استحقوه وإن ذلك العقاب على وشك أن يقع عليهم على أن الله قد حكم بعقاب جميع الخطأة منذ بدء الخطيئة.

وَهَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ اعتبر بطرس إن الهلاك يُرسل من الله ليجري نقمته وأن هذا المُرسل مستيقظ نشيط مستعد لأن يقبض عليهم ويجري الحكم الذي قضى الله به منذ القديم.

إثبات كلام الرسول من تاريخ الكتاب المقدس ع ٤ إلى ٩

٤ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ قَدْ أَخْطَأُوا، بَلْ فِي سَلاَسِلِ ٱلظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَسَلَّمَهُمْ مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ».

تكوين ٦ ويهوذا ٦ ورؤيا ٢٠: ١

أخذ بطرس في هذه الآية في ذكر ثلاث حوادث تاريخية تأكيداً لعقاب المعلمين الكاذبين.

لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ مع أنهم من أسمى رتب الخلائق لم يمنع الله إجراء حكمه عليهم إذ أخطأوا فبالأولى أنه يعاقب أثمة الناس. قال يهوذا في ذلك «وَٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلاَمِ» (يهوذا ٦). وخطيئتهم علّة أن الله لم يشفق عليهم أي يعفُ عن قصاصهم. ولم يذكر بطرس ماذا كانت خطيئتهم وكلام يهوذا يشير إلى أن خطيئتهم كانت عدم اكتفائهم برئاستهم. وظن بعضهم أن أبناء الله الذين أخذوا بنات الناس هم الملائكة الذين سقطوا (تكوين ٦: ٢). ولكن الأرجح أن هؤلاء هم أبناء شيت والقول بأنهم ملائكة من الخرافات اليهودية التي لا أساس لها في كتاب الله.

بَلْ فِي سَلاَسِلِ ٱلظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ لعل قوله «طرحهم الخ» من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه ولعله أراد «بسلاسل الظلام» شقاء حالهم وعجزهم عن النجاة منه. وأما ما قيل في (لوقا ٨: ٣١ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ٢٠: ٧) وكون إبليس «رئيس سلطان الهواء» (أفسس ٢: ٢) و «إله هذا الدهر» (٢كورنثوس ٤: ٤) وأمثال ذلك مما يشير إلى حريته وقوته على تجربة الناس فيدل على أن «سلاسل الظلام» ما يكفي منعه من الرجوع إلى مسكنه النوراني الأول ولكنها لا تمنعه من الجولان بين الناس ليسبي الذين يسلّمون لإرادته وكل ذلك استعداد لعقابهم أخيراً (رؤيا ٢٠: ١٠) وأشار الشياطين إلى ذلك بقولهم للمسيح «جِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا» (متّى ٨: ٢٩).

مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ في اليوم الأخير (رؤيا ٢٠: ١٠ ومتّى ٢٥: ٤١).

٥ «وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ، بَلْ إِنَّمَا حَفِظَ نُوحاً ثَامِناً كَارِزاً لِلْبِرِّ إِذْ جَلَبَ طُوفَاناً عَلَى عَالَمِ ٱلْفُجَّارِ».

ص ٣: ٦ وحزقيال ٢٦: ٢ و١بطرس ٣: ٢٠ وص ٣: ٦

في هذه الآية دليل ثانٍ من تاريخ الوحي القديم على أن الله يعاقب المعلمين الكاذبين.

وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ أي على سكان الأرض الأشرار قبل الطوفان (تكوين ٦: ١ – ٧). ونقمة الله يومئذ برهان على أنه يجري نقمته اليوم وأنه يستحيل أن تكون الخطيئة بلا عقاب.

بَلْ إِنَّمَا حَفِظَ نُوحاً ثَامِناً كما أنبأ في رسالته الأولى (١بطرس ٣: ٢٠). وكون نوح واحداً من الثمانية الذين خلصوا برهان على عظمة ذلك العقاب وأن كثرة الأشرار تكون علّة لنجاحهم وأن قلّة الأتقياء لا تكون علّة لهلاكهم.

كَارِزاً لِلْبِرِّ أي للتقوى لا البرّ الذي بالإيمان فإنه وبّخ الناس على شرورهم وحثهم على التوبة (تكوين ٦: ٩ وعبرانيين ١١: ٧ و١بطرس ٣: ٢٠).

إِذْ جَلَبَ طُوفَاناً عَلَى عَالَمِ ٱلْفُجَّارِ نسب بطرس إلى الله ما هو نتيجة آثام الناس كما فعل موسى (تكوين ٦: ١٣). ونتيجة ذلك أن العقاب لا ينفك عن الخطيئة كما أن ظل الإنسان لا يفارقه.

٦ «وَإِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِٱلانْقِلاَبِ، وَاضِعاً عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا».

تكوين ١٩: ٢٤ ويهوذا ٧ ومتّى ١٠: ١٥ و١١: ٢٣ ورومية ٩: ٢٩ وإشعياء ١: ٩ ويهوذا ١٥

إِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ كما ذُكر في (تكوين ١٩: ٢٤ و٢٥). وهذا البرهان الثالث على أن الله يعاقب الأشرار. وإحراقه المدينتين حتى صارتا رماداً يدل على هلاكهما الكامل.

حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِٱلانْقِلاَبِ كالإنسان المحكوم عليه بالموت. وهذا دليل على أنه غضب على سكانهما لآثامهم (انظر تكوين ١٩: ٢٩).

وَاضِعاً عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا أي جاعلاً مثالاً للعقاب الذي يجب على الناس أن يتوقعوه على خطاياهم في كل زمان ومكان. وقصد الله أن يكون عقاب بعض الناس عبرة للآخرين.

٧ « وَأَنْقَذَ لُوطاً ٱلْبَارَّ مَغْلُوباً مِنْ سِيرَةِ ٱلأَرْدِيَاءِ فِي ٱلدَّعَارَةِ».

تكوين ١٩: ١٦ و٢٩ وص ٣: ١٧

وَأَنْقَذَ لُوطاً ٱلْبَارَّ (تكوين ١٩: ١٦). والبرهان على أنه بارٌّ عدم تدنّسه بالفساد الذي كان حوله وإرسال الله ملاكين لإنقاذه وإنقاذ أهل بيته وتصديقه قول الملاكين وإطاعته لهما وقبول الله طلبته من أجل صوغر (تكوين ١٩: ٢١). فإنقاذ الله لوطاً برهان على أنه يميّز بين الأخيار والأشرار ويخلّص أولئك ويهلك هؤلاء. ودُعي باراً لأنه لم يشارك الذين حوله في شرورهم. ولا دليل على أن لوطاً استطاع بوعظه أن يجعل أحداً مثله في البرّ.

٨ «إِذْ كَانَ ٱلْبَارُّ بِٱلنَّظَرِ وَٱلسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْماً نَفْسَهُ ٱلْبَارَّةَ بِٱلأَفْعَالِ ٱلأَثِيمَةِ».

عبرانيين ١١: ٤

يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْماً نَفْسَهُ ٱلْبَارَّةَ بِٱلأَفْعَالِ ٱلأَثِيمَةِ استنتج ذلك بطرس مما عرفه بالوحي من صفات لوط. وأشار بعذاب النفس إلى تألمها من الحزن على الخطأة لمشاهدته أعمالهم وأقوالهم الشريرة. وكانت مشاهدته إياها ثقيلة عليه. وذكر يهوذا هلاك الأشرار ولم يذكر نجاة البارّ. وانقلاب سدوم وعمورة بالنار مثال إجراء الله نقمته كإهلاك العالم القديم بالماء وأعظم من ذلك لأنه هلاك تامّ لا ردّ فيه إلى الحال الأولى.

٩ «يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ ٱلأَتْقِيَاءَ مِنَ ٱلتَّجْرِبَةِ وَيَحْفَظَ ٱلأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ مُعَاقَبِينَ».

١كورنثوس ١٠: ١٣ ورؤيا ٣: ١٠ ومتّى ١٠: ١٥ ويهوذا ٦

في هذه الآية النتيجة التي قصدها الله في الأمثلة السابقة (ع ٤ – ٨).

يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ ٱلأَتْقِيَاءَ هذا العلم يستلزم القوة على إجراء الإنقاذ. والمراد «بالأتقياء» هنا الناس الذين مثل نوح ولوط.

مِنَ ٱلتَّجْرِبَةِ أي الضيقات والمصائب والاضطهادات كما في (١بطرس ١: ٦ و٤: ١٢ ويعقوب ١: ٢). ولله وسائل لإنقاذ أتقيائه لا نعلمها فأحياناً ينقذهم بأن يرسل إليهم ملاكاً كما أرسله إلى لوط ودانيال وبطرس وأحياناً بالمعجزات وأحياناً بإماتة المضطهِد (أعمال ص ١٢) وأوقاتاً بإقامة أصدقاء ينقذونهم من الخطر أو بنقلهم إلى السماء. ومثل هذا كثير في الكتاب المقدس كما في تاريخ إبراهيم ويعقوب ويوسف وداود والثلاثة الفتية في بابل.

وَيَحْفَظَ ٱلأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ مُعَاقَبِينَ كما سيفعل في أمر الأبالسة في اليوم الأخير (رؤيا ٢٠: ١٠).

تشبيه بطرس المعلمين الكذبة بالملائكة الذين سقطوا أو بالبهائم ع ١٠ إلى ١٦

١٠ «وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ ٱلْجَسَدِ فِي شَهْوَةِ ٱلنَّجَاسَةِ، وَيَسْتَهِينُونَ بِٱلسِّيَادَةِ. جَسُورُونَ، مُعْجِبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَرْتَعِبُونَ أَنْ يَفْتَرُوا عَلَى ذَوِي ٱلأَمْجَادِ».

ص ٣: ٣ ويهوذا ١٦ و١٨ و٨ وخروج ٢٢: ٢٨ وتيطس ١: ٧

وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ ٱلْجَسَدِ كسكان سدوم وعمورة (تكوين ١٩: ٥). وكالفاسقين عامة الذين منهم المعلمون الكاذبون.

فِي شَهْوَةِ ٱلنَّجَاسَةِ أي الشهوة التي تنجّس الجسد والنفس (١تسالونيكي ٤: ٥ وأفسس ٤: ١٨ و١٩).

وَيَسْتَهِينُونَ بِٱلسِّيَادَةِ أي ينكرون الرب الذي اشتراهم (ع ١). إنهم فوق كونهم طمعين (ع ٣) استهانوا بالسيادة وكانوا خبثاء فاسقين أيضاً كما في هذه الآية. والسيادة هنا تشمل السيادة الروحية والسيادة الجسدية والمراد الأكثر هنا السيادة الجسدية من رئاسة الولاة والكنيسة. ولنا من الآية التالية أنهم استخفوا بكل رئاسة لله وللملائكة وللكنيسة وللملوك.

١١ «حَيْثُ مَلاَئِكَةٌ، وَهُمْ أَعْظَمُ قُوَّةً وَقُدْرَةً لاَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِمْ لَدَى ٱلرَّبِّ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ».

يهوذا ٦

حَيْثُ مَلاَئِكَةٌ، وَهُمْ أَعْظَمُ قُوَّةً وَقُدْرَةً من المعلمين الكاذبين.

لاَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِمْ لَدَى ٱلرَّبِّ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ أي أنهم لا يفترون على ذوي الرئاسة أي الشياطين الذين كانوا أبناء الله قديماً واعتبروا ملائكة بالنظر إلى ما كانوا عليه قبل السقوط. والكلمة اليونانية التي تُرجمت هنا «بالافتراء» تُرجمت في غير هذا الموضع بالتجديف (أعمال ٦: ١١ و١تيموثاوس ١: ١٣ و٢تيموثاوس ٣: ٢). ولا نعلم على أي شيء بنى بطرس كلامه هنا أعلى مخاصمة ميخائيل للشيطان على جسد موسى (يهوذا ٩) أم على ما حدث بين يهوشع الكاهن والملاك والشيطان (زكريا ٣: ٢) أم على شيء ذُكر في الكتب اليهودية غير القانونية.

١٢ «أَمَّا هٰؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ، مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَٱلْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِمْ».

إرميا ١٢: ٣ ويهوذا ١٠ وكولوسي ٢: ٢٢

أَمَّا هٰؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ وصفهم بهذا إظهاراً لجهلهم وتشويشهم. ودليل كونهم كالبهائم بقية الآية. وهم يشبهون البهائم في صفاتهم وفي آخرتهم فإنهم لم ينفعوا الناس شيئاً فحياتهم عبث كالبهائم التي تُصاد وتُقتل.

يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ كان يجب أن يكون جهلهم علّة سكوتهم لكنهم جعلوه علّة افترائهم فحكموا على أنفسهم بأنهم بهائم.

فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِم أي إن الفواحش التي أتوها تنشئ لهم فساداً جسدياً يكون علّة هلاكهم فيجلبون دينونتهم على رؤوسهم بمثابرتهم على خطاياهم حتى يبلغوا نهايتها وهي الموت الزمني والموت الأبدي.

١٣ «آخِذِينَ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ. ٱلَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً. أَدْنَاسٌ وَعُيُوبٌ، يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ».

رومية ١٣: ١٣ ويهوذا ١٢ و١كورنثوس ١١: ٢٠ و٢١ و١تسالونيكي ٥: ٧

آخِذِينَ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ هذا تفسير العبارة السابقة وهو على وفق شريعة الله الأبدية وهي أن «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً» (غلاطية ٦: ٧ و٨ انظر أيضاً رؤيا ٢٢: ١١).

ٱلَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً أي أنهم يسرّون بلذات يوم واحد إلى حد يحسبونها عنده نصيباً لهم يبذلون في سبيله اللذّات الحقيقية الدائمة كلذات الذين على يمين الرب (مزمور ١٦: ١١) وكانوا في ذلك يشبهون عيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته (عبرانيين ١٢: ١٦). والأبيكوريين الذين قالوا «َلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ» فكأنهم قالوا هات اللذة اليوم ودع الغد لشأنه (١كورنثوس ١٥: ٣٢). أو إن المعنى شغلوا النهار علاوة على الليل بالولائم خلافاً للمولمين عادة فإن بطرس بناء على عادة اتخاذ الولائم ليلاً برهن أن الرسل ليسوا بسكارى وذلك قوله ما معناه «لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ. وَٱلَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِٱللَّيْلِ يَسْكَرُونَ» (أعمال ٢: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ٧).

أَدْنَاسٌ اي نجسون فإذا وجدوا في محل نجسوه وكانوا عاراً عليه.

عُيُوبٌ أي هم علّة خزي وخجل لرفقائهم أو ممن يجب أن يُستحيا من مرافقتهم.

يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ الخ أي يترفهون باللذّات التي حصلوا عليها بالغش والخداع أو أنهم يدخلون الولائم الحبية التي يأتيها المؤمنون بالرياء والخداع ويتوصلون بها إلى اللذّات البدنية. ولعلهم جعلوا العشاء الربي وليمة جسدية كما فعلت كنيسة كورنثوس جهلاً وبقيت على ذلك وقتاً قصيراً (١كورنثوس ١١: ٢٠ – ٢٢).

١٤ «لَـهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقاً لاَ تَكُفُّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، خَادِعُونَ ٱلنُّفُوسَ غَيْرَ ٱلثَّابِتَةِ. لَهُمْ قَلْبٌ مُتَدَرِّبٌ فِي ٱلطَّمَعِ. أَوْلاَدُ ٱللَّعْنَةِ».

يعقوب ١: ٨ وص ٣: ١٦ وأفسس ٢: ٣

لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقاً فيظهرون بعيونهم ما في قلوبهم من الأفكار الرديئة واشتياقهم إلى اللذّات المحرمة أو إنهم يتوقعون دائماً فرصة لاغتنام اللذّات الجسدية المحظورة.

لاَ تَكُفُّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ خلافاً لأمر المسيح في قوله «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ» (متّى ٥: ٢٩) فإنهم يشتهون كل ما ينظرونه.

خَادِعُونَ ٱلنُّفُوسَ غَيْرَ ٱلثَّابِتَةِ (ع ١٨ و٢تيموثاوس ٣: ٦ ويعقوب ١: ١٤). فإنهم كانوا يجتهدون في تلك الولائم أن يصيدوا الناس للشر.

لَهُمْ قَلْبٌ مُتَدَرِّبٌ فِي ٱلطَّمَعِ (١كورنثوس ٥: ١١ وأفسس ٥: ٣ و٥). فزادوا حب المال على الترفه والدعارة.

أَوْلاَدُ ٱللَّعْنَةِ أي أنهم ممن توجب عليهم صفاتهم وأعمالهم اللعنة أو أنهم الذين أعلن الله أنهم ملعونون وعرضة للهلاك (٢تسالونيكي ٢: ٣) أو أنهم لا ينفكون يلعنون غيرهم.

١٥ «قَدْ تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ».

أعمال ١٣: ١٠ وعدد ٢٢: ٥ و٧ وتثنية ٢٣: ٤ ويهوذا ١١ ونحميا ١٣: ٢ ورؤيا ٢: ١٤

قَدْ تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ قال بولس لعليم الساحر «أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللّٰهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ» (أعمال ١٣: ١٠). والطريق المستقيم «طريق الحق» (ع ٢ ومتّى ٢١: ٣٢). و «طريق البر» (ع ٢١ وأمثال ١٦: ٣١) و «طريق الرب» (تكوين ١٨: ١٩) و «طريق السلام» (إشعياء ٥٩: ٨) و «طريق الحكمة» (أمثال ٤: ١١) و «طريق الحياة» (أمثال ١٠: ١٧) و «طريق الخلاص» (أعمال ١٦: ١٧). فهؤلاء كانوا أولاً مسيحيين ثم ارتدوا.

فَضَلُّوا في برّية الضلال ومسالك الخطيئة والموت (يوحنا ٧: ١٢ و٢تيموثاوس ٣: ١٣).

تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ (عدد ص ٢٢) قال إن المعلمين الكاذبين أشبهوا بلعام لأنهم قاوموا إرادة الله وطلبوا مشيئة أنفسهم وادعوا أنهم عبيد الله ولم يُخلِصوا العبودية له وجعلوا خدمتهم لله وسيلة للربح القبيح. وكان لهم «قلب متدرب في الطمع» و «خدعوا النفوس غير الثابتة» وأغروا الناس بارتكاب الخطيئة التي بها أغرى بلعام الإسرائيليين وهي الفسق (عدد ٣١: ١٦). ودعاه بطرس هنا «بن بصور» ودعاه موسى «بن بعور» ولعل هذا الفرق ناشئ عن فرق اللفظ في العبرانية والسريانية أو اليونانية. وقال يهوذا إن هؤلاء المعلمين يشبهون قايين وقورح (يهوذا ١١).

ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ وهي المال الذي أتاه به شيوخ المؤابيين والمديانيين من بالاق ليجعلوا بلعام يلعن إسرائيل (عدد ٢٢: ٧). والمال الذي وعده بالاق به فوق ذلك (عدد ٢٢: ١٧). وقصة بلعام من أولها إلى آخرها تُري أنه علم أن مشيئة الله خلاف طلب بالاق وإنه اشتهى مال بالاق وشاء أن يفعل بمقتضى طلبه ولم يمنعه من ذلك إلا خوف الله وقدرته.

١٦ «وَلٰكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى تَوْبِيخِ تَعَدِّيهِ، إِذْ مَنَعَ حَمَاقَةَ ٱلنَّبِيِّ حِمَارٌ أَعْجَمُ نَاطِقاً بِصَوْتِ إِنْسَانٍ».

عدد ٢٢: ٢١ و٢٣ و٢٨ و٣٠

لٰكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى تَوْبِيخِ تَعَدِّيهِ كان تعدّيه استمراره على أمل إمكانه أن يلعن إسرائيل ويكسب مال بالاق مع أنه علم أن الله أراد أنه يبارك إسرائيل ورخّص له أن يذهب إلى بالاق على شرط أن يباركهم. وطريق توبيخه في العبارة التالية.

إِذْ مَنَعَ حَمَاقَةَ ٱلنَّبِيِّ حِمَارٌ أَعْجَمُ إن بلعام كان نبياً فوجب أن يكون أحكم من سائر الناس لكنه افتقر إلى إرشاد حمار ليمنعه من إهلاكه نفسه. وأشار بطرس بهذه العبارة إلى حماقة بلعام المذكورة في سفر العدد (عدد ٢٢: ٣٣) ونبأها أن الحمار منعه من التقدّم إلى المكان الذي كان فيه ملاك الرب على وشك أن يضربه بالسيف.

نَاطِقاً بِصَوْتِ إِنْسَانٍ ما أتاه الحمار نجّى بلعام من نتيجة حماقته كما قال الملاك ولكنّ الله أعطى الحمار قوة النطق ليُظهر لبلعام جهله وجوره بضربه الحمار.

تشبيه بطرس المعلمين الكاذبين بأمور أخرى ع ١٧ إلى ٢٢

١٧ «هٰؤُلاَءِ هُمْ آبَارٌ بِلاَ مَاءٍ، غُيُومٌ يَسُوقُهَا ٱلنَّوْءُ. ٱلَّذِينَ قَدْ حُفِظَ لَهُمْ قَتَامُ ٱلظَّلاَمِ إِلَى ٱلأَبَدِ».

يهوذا ١٢ و١٣

هٰؤُلاَءِ هُمْ آبَارٌ بِلاَ مَاءٍ شبههم يهوذا بغيوم بلا ماء. والمسافرون في البادية يقصدون الآبار على أمل أنهم يجدون فيها ماء ينتعشون به ويخلصون من الموت عطشاً لكنهم قد يخيبون وقد يخسرون حياتهم خطاء. كذا من يقصدون المعلمين الكاذبين بغية الانتفاع بهم فيخيبون. وهذا يفيد معنى ما في (أيوب ٦: ١٥ – ٢٠ وإرميا ٢: ١٣ و١٤: ٣).

غُيُومٌ يَسُوقُهَا ٱلنَّوْءُ وهذه الغيوم تنبئ بالمطر وإنعاش البشر والنبات ولكنها رقيقة غير ممطرة تزول دون أن تنفع شيئاً فكذلك أولئك المعلمون فإنهم يعدُون ولا يفون. فهم كالغيوم يتظاهرون بفضائل ليست لهم.

ٱلَّذِينَ قَدْ حُفِظَ لَهُمْ قَتَامُ ٱلظَّلاَمِ إِلَى ٱلأَبَدِ الأرجح أن هذا ليس إلا وصفاً للمعلمين الكاذبين وعقابهم من الله. وهو إنباء بالخطر منهم على الكنيسة فضلاً عن إهلاكهم أنفسهم. وقوله فيهم «حفظ لهم» كقوله في الملائكة الذين سقطوا (ع ٥ و١بطرس ١: ٤).

١٨ «لأَنَّهُمْ إِذْ يَنْطِقُونَ بِعَظَائِمِ ٱلْبُطْلِ، يَخْدَعُونَ بِشَهَوَاتِ ٱلْجَسَدِ فِي ٱلدَّعَارَةِ مَنْ هَرَبَ قَلِيلاً مِنَ ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي ٱلضَّلاَلِ».

يهوذا ١٦ وأفسس ٤: ١٧ ع ٢٠ وص ١: ٤

إِذْ يَنْطِقُونَ بِعَظَائِمِ ٱلْبُطْلِ هذا مبني على ما سبق من تشبيههم «بآبار بلا ماء وغيوم بلا مطر» فيدّعون المعرفة الفائقة والحكمة العظيمة وإن تعليمهم ذو شأن.

يَخْدَعُونَ بِشَهَوَاتِ ٱلْجَسَدِ هذا بيان ما يخدعون به الناس ليحملوهم على ارتكاب اللذّات المحظورة فيجعلون التمتّع بالشهوات الجسدية وسيلة لجذبهم إلى شبكتهم للهلاك فعلّموا أنه يحلّ لهم أن يفعلوا ما يشتهون من كل شيء.

فِي ٱلدَّعَارَةِ قال هذا إيضاحاً لمعناه في العبارة السابقة.

مَنْ هَرَبَ قَلِيلاً مِنَ ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي ٱلضَّلاَلِ أي نجوا من ضلال عبادة الأوثان ووقعوا في ضلال شرّ منه أتى به الذين ادّعوا أنهم معلمون مسيحيون فخدعوهم بشهوات الجسد.

١٩ «وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ. لأَنَّ مَا ٱنْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضاً!».

رومية ٦: ١٦ ويوحنا ٨: ٣٤

وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ أي وعدوا غيرهم بما لم يستطيعوا أن يحصّلوه لأنفسهم. فعلّموهم أنه يُباح لهم في الدين المسيحي ما حرّمه الناس وهم تحت رق الفساد فأي حرية يقدرون أن يعلّموهم إياها. فعلّموهم إن التبرير بالإيمان وإن ذلك يحررهم من حفظ الناموس فيجوز للمؤمنين بالمسيح أن يعيشوا كما شاؤوا. وعلّموهم أيضاً أنهم ماتوا للناموس باعتبار كونه واسطة التبرير واستنتجوا من ذلك أنه بطل أن يكون قانون سيرتهم. فقول بطرس الرسول كقول بولس الرسول لأهل غلاطية «فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ» (غلاطية ٥: ١٣). ولعلهم اعتبروا إن الوصايا التي نشرها المجمع االأول في أورشليم مختصة بالأمم فقط وإن المؤمنين الإسرائيليين معفون من حفظها وهي «أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ، وَٱلزِّنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ» (أعمال ١٥: ٢٠). قال يسوع «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ» (يوحنا ٨: ٣٤).

لأَنَّ مَا ٱنْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضاً (انظر تفسير رومية ٦: ١٦ – ٢٠ و٢كورنثوس ٣: ١٧). قال ذلك بطرس ليُثبت قوله أنهم عبيد الفساد.

٢٠ «لأَنَّهُ إِذَا كَانُوا بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ».

ص ١: ٢ و١١ و٣: ١٨ و٢تيموثاوس ٢: ٤ ومتّى ١٢: ٤٥ ولوقا ١١: ٢٦

بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ أي من نجاسات الديانة الوثنية فهو لم يزل يتكلم في المعلمين الكاذبين «عبيد الفساد» وهم ادّعوا أنهم انفصلوا عن نجاسات العالم وعن كل ما يتعلق بها حين آمنوا بالمسيح.

يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا أي في الشهوات الجسدية التي هي شبكة النفوس يصادون بها ويهلكون.

فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ هذا على وفق قول المسيح في المرتدين عنه (متّى ١٢: ٤٥). وصحة هذا القول واضحة لأنه لا يقدرون أن يتخذوا جهلهم عذراً لأعمالهم. والمعرفة المذكورة هنا ليست المعرفة للخلاص بل هي ما ذُكر في (ص ١: ٢ و٤ و٨). فإذاً لا شيء هنا ينافي ثبوت المؤمنين. والخلاصة إن دينونة الوثني الذي يهلك في خطيئته وعمايته أخف من دينونة الذي سمع الإنجيل وادّعى أنه قبله وإنه يسير بمقتضاه ثم رجع إلى ممارسة الفواحش التي ادعى أنه اعتزلها. فقابل الرسول هنا الشرير في حالين الحال الأولى يوم كان جاهلاً فأخطأ فهذه قابلها بحاله الثانية وهو يرتكب الخطيئة نفسها بعد ما استنار بالإنجيل ويعرف ما تطلبه منه ديانته من طهارة القلب والسيرة وادّعى أنه قام بذلك.

٢١ «لأَنَّهُ كَانَ خَيْراً لَـهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلْبِرِّ، مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ ٱلْمُسَلَّمَةِ لَـهُمْ».

مزمور ١٨: ٢٤ وعبرانيين ٦: ٤ الخ و١: ٣٦ ويعقوب ٤: ١٧ وص ٣: ٢ وغلاطية ٦: ٢ و١تيموثاوس ٦: ١٤ ويهوذا ٣

في هذه الآية علّة ما قيل في الآية التي قبلها.

كَانَ خَيْراً لَـهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلْبِرِّ «طريق البر» هو «طريق الحق» المذكور في الآية الثانية علّم فيه المسيح ورسله. ودعاه الرسول «طريق البر» ليظهر فظاعة شرّهم في العدول عنه.

مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا مطاليبه وثواب الذين يسيرون فيه وعقاب الذين مالوا عنه.

يَرْتَدُّونَ عَنِ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ ٱلْمُسَلَّمَةِ لَـهُمْ أي شريعة الإنجيل الأدبية المقدسة وسماها يهوذا «الإيمان المسلّم مرة للقديسين» وليس المراد بها وصية المسيح الجديدة (يوحنا ١٣: ٣٤) ولا تفسيرها في الوعظ على الجبل (متّى ص ٥ و٦ و٧).

٢٢ «قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ».

أمثال ٢٦: ١١

أوضح الرسول قوله في المعلمين الكاذبين بمثلين يبينان فظاعة رجوعهم إلى حالهم الأولى. ولم يتبيّن أَ مّما تداولته ألسنة الناس مأخوذ هذان المثلان أم من الكتاب المقدس.

قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ في سفر الأمثال ما يشبه هذا المثل قليلاً وهو قوله «كَمَا يَعُودُ ٱلْكَلْبُ إِلَى قَيْئِهِ هٰكَذَا ٱلْجَاهِلُ يُعِيدُ حَمَاقَتَهُ» (أمثال ٢٦: ١١).

وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ «المراغة» المتمرّغ أي مكان التمرغ و «الحمأة» الطين الأسود المنتن. وقوله هذا يشبه قول المسيح بعض المشابهة «لاَ تُعْطُوا ٱلْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ ٱلْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ» (متّى ٧: ٦). وبهذين المثلين يظهر أنه لم ينشأ تغيّر حقيقي في طبيعتهم أو تتجدّد قلوبهم بدخولهم في عضوية الكنيسة فلم يكن منهم سوى إصلاح السيرة الخارجية وقتياً وإن طبيعتهم الحقيقية ظهرت بعد حين على رغم كل اعترافهم وتغيّرهم الظاهر. وهذا لا يحسب سقوطاً من النعمة بل يُعد برهاناً على أن التغيُّر الخارجي دون النعمة في القلب لا يأتي بالسيرة المقدسة ويستحيل أن يؤهل الإنسان للسماء.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى