فيلبي

الرسالة إلى أهل فيلبي| 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى أهل فيلبي 

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

حث الرسول مؤمني فيلبي على الاتحاد والتواضع اقتداء بالمسيح (ع ١ – ١١). وعلى التقدم في الحياة الروحية لكي يكونوا أنواراً في العالم وتعزية وفرحاً للرسول نفسه (ع ١٢ – ١٨). وإنباؤه إياهم بأنه سيرسل تيموثاوس إليهم ومدحه له ورجوع أبفرودتس وذكر ما قام به من الخدمة له (ع ١٩ – ٣٠).

حثهم على الاتحاد والتواضع اقتداء بالمسيح ع ١ إلى ١١

١ «فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي ٱلْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي ٱلرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ».

٢كورنثوس ١٣: ١٤ كولوسي ٣: ١٢

ذكر في هذه الآية أربع علل لوجوب ما سيأمر به منها اثنتان من العلل الخارجية وهما الأولى والثالثة واثنتان من العلل الداخلية وهما الثانية والرابعة.

إِنْ «إن» هنا للقطع بوقوع الشرط لا للشك وهذا مبني على ما كانوا قد اختبروه فمفاد قوله «إن كان وعظ في المسيح» كمفاد قول الرسول «إن كان لأحد أذنان للسمع» (مرقس ٤: ٢٣). ومراد الرسول إن كنتم قد سمعتم وعظي باسم المسيح أو وعظ غيري به واختبرتم منفعته فاصغوا الآن إلى ما أقوله وأطيعوا. فإنهم كانوا قد سمعوا وعظه يوم دعاهم إلى الإيمان بالمسيح واقتفاء خطواته فالتمس منهم أن يتمموا فرحه بالإصغاء والطاعة.

إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ أشار هنا إلى التعزية التي ينالها المؤمنون من محبتهم الأخوية واتحادهم فإنهم بها تقووا وتشجعوا في التقوى والخدمة ومقاومتهم للشر واحتمالهم للضيقات والشدائد. وتظهر فائدة المحبة الأخوية والاتحاد من قول النبي «يَطْرُدُ وَاحِدٌ أَلْفاً، وَيَهْزِمُ ٱثْنَانِ رَبْوَةً» (تثنية ٣٢: ٣٠). ومن قول الجامعة «اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ» (جامعة ٤: ٩) وقوله «ٱلْخَيْطُ ٱلْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعاً» (جامعة ٤: ١٢). إن للناس تسلية في حب الوالدين للأولادة والرجال لنسائهم وحب بعض الإخوة والأخوات لبعض وحب الصديق للصديق لكن تلك التسلية ليست شيئاً بالنسبة إلى التسلية الناشئة عن محبة الله ومحبة المسيح ومحبة بعض المسيحيين لبعض. إن في المحبة تسلية للمحبوب إذا أخذ بينات المحبة ولكن التعزية العظمى في إظهار المحبة. وهذا نوع من سعادة الله المعطي بسخاء الذي اسمه محبة (١يوحا ٤: ٨).

شَرِكَةٌ مَا فِي ٱلرُّوحِ أي شركة روح الإنسان مع الروح القدس. جاء مثل هذا في (٢كورنثوس ١٣: ١٤) وفي البركة الرسولية التي ختم بها بولس أكثر رسائله. إن روح الله القدوس سكن كثيراً في المسيح ويسكن في كل المؤمنين به (١كورنثوس ١٢: ٤ و١٣). وسكنى الروح الواحد في كل المؤمنين ينشئ ضرورة الاتحاد في المحبة وفي الغاية وفي الأفراح. ويوجب عليهم أن يطيعوا أمر الرسول بأن يفتكروا فكراً واحداً.

أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ اعتبرت الأحشاء مركز الشفقة ورقة القلب التي تحمل على الرحمة فعلاً (انظر تفسير ص ١: ٨). ومراد الرسول بها هنا أن إصغاءهم إلى طلبه والطاعة له إظهار لرأفتهم وشفقتهم على الرسول على أحسن أسلوب بناء على كونه أباهم الروحي ونظراً إلى ضيقاته في سبيل المسيح وسبيل نفعهم وإن عدم الإصغاء إظهار للقسوة والغلظة وعلة حزن له.

٢ «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً».

يوحنا ٣: ٢٩ رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥ و١كورنثوس ١: ١٠ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وص ١: ٢٧ و٣: ١٦ و٤: ٢ و١بطرس ٣: ٨

فَتَمِّمُوا فَرَحِي ابتدأ فرحه حين آمنوا بالمسيح واستمر استمرارهم على إيمانهم وبإحسانهم إليه. وكان من مقتضيات إتمامه ما سيأتي الكلام عليه من الاتحاد والغيرة والتواضع. ومن البيّن من كلامه هنا أنه لم يكن بينهم ما يجب من الاتفاق وذلك منعه من السرور التام. على أن مقصده الأعظم لم يكن فرحه وإن ذكره أولاً إنما هو اتفاقهم.

حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً أوصاهم بهذا كما أوصى مؤمني رومية (رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥). ومؤمني كورنثوس (٢كورنثوس ١٣: ١١). والمراد مواساة بعض الإخوة لبعض. وهذا ما طلبه المسيح لتلاميذه قبل مفارقته إياهم بقوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١).

وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ يمكن أن يفتكر الناس فكراً واحداً في أن يبغض كل منهم الآخر ولكن الذي أراده الرسول هنا هو أن يشترك المؤمنون في المحبة وذلك أساس كونهم يفتكرون فكراً واحداً. ويهون على الناس ويسرهم أن يتفقوا في الفكر والعمل إذا وُجد الحب بينهم ولذلك حثهم الرسول على التقدم في المحبة التي هي أعظم الفضائل (١كورنثوس ١٣: ١٣). فمن لهم محبة لربهم لهم حب بعضهم لبعض وإلا فلا بدليل قول الحبيب «أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً» (١يوحنا ٤: ٢١).

بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ هذا أدل على الاتحاد من كونهم مفتكرين فكراً واحداً لأن لانفعالات القلب قوة على الإنسان أعظم من قوة أفكار عقله. وهذا من صفات المسيحيين الأولين بدليل قول لوقا «وَكَانَ لِجُمْهُورِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ» (أعمال ٣: ٣٢) فأراد أن يكون مؤمنو فيلبي مثل أولئك.

مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً يصعب التمييز بين هذه العبارة وقوله في أول الآية «تفتكروا فكراً واحداً» ولعله قصد في الأولى الاتفاق في الأمور الكبرى العامة وفي الثانية الاتفاق في الأمور الصغرى الخاصة. أو إنه أراد في الأولى أن يكون الاتحاد باطناً وفي الثانية أن يكون باطناً وظاهراً.

٣ «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

غلاطية ٥: ٢٦ وص ١: ١٥ و١٦ ويعقوب ٣: ١٤ رومية ١٢: ١٠ وأفسس ٥: ٢١ و١بطرس ٥: ٥

لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ أي غير عاملين شيئاً بتحزب الخ. فما قاله في الآية الأولى على سبيل الإيجاب قاله هنا على سبيل السلب. إن تعظم الإنسان بحزبه وتعظمه بنفسه مكروهان إلى الله وضاران للناس في الأمور السياسية والأمور الدينية وهما لا يليقان بالمسيحيين على نوع خاص. ولكن أكثر أعمال الناس ناشئ عن أحد هذين التعظمين أو عن كليهما. ويشهد تاريخ الكنيسة بفرط الضرر الذي نشأ عن الأحزاب فيها. ويشهد تاريخ كل بيت وقرية بما نشأ عن التعظم بالنفس من الأضرار بسلامهما وسعادتهما. لام بولس على التحزب في الكنيسة (١كورنثوس ١: ١٠ – ١٧) ولام عليه عموماً (١كورنثوس ١٣: ٤ و٥). وحذّر المسيح تلاميذه منه (مرقس ٩: ٣٦ ولوقا ٢٣: ٢٤ – ٢٧).

بِتَوَاضُعٍ أكثر ما نشأت هذه الفضيلة من مقابلة أنفسنا بالله وتأملنا في عظمته تعالى وحقارتنا وقداسته وخطيئتنا وغناه وافتقارنا إليه فتواضعنا أمامه وأمام الناس أيضاً. فمن شعر بافتقاره إلى الله في كل شيء لا يميل أن يفتخر على غيره من الناس أو يعظم نفسه بينهم.

حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ الخ إن الكبرياء تحمل الإنسان على أن يحسب نفسه أفضل من غيره وأن يطلب لنفسه أول مقام في الرتبة والسيادة. والتواضع يحمله على الاكتفاء بمنزلة دون منزلة غيره. وقوله هنا كقوله في الرسالة إلى رومية «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِٱلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية ١٢: ١٠) وقول بطرس «كُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ» (١بطرس ٥: ٥). ونتيجة حسبان الإنسان غيره أفضل منه هي أن ينتفي من العالم روح التحزب وطلب السيادة وحب الإطراء ويعين الإنسان على ذلك الحسبان نظره في عيوب نفسه وفساد قلبه وأفكاره الشريرة وشهواته فإنه يستطيع أن يتحقق ذلك في نفسه ولا يستطيع أن يتحققه في غيره وإنه إن عرف عيوب غيره فهو لا يعرف شدة المحن التي أدت به إليها. ومما يعينه عليه أيضاً أن يلتفت إلى فضائل غيره لا إلى رذائله وإلى ما يفضله غيره به من السجايا لا إلى ما ينقص عنه به. والذي يعمينا عن محاسن غيرنا أكثر من كل المعميات هو الحسد.

٤ «لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً».

١كورنثوس ١٠: ٢٤ و٣٣ و١٣: ٥

لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ ليس مراد الرسول بهذا أن لا ينظر الإنسان إلى ما هو لنفسه مطلقاً لأن ذلك النظر لا بد منه لحفظ حياته لكن المراد أنه لا يقتصر على النظر إليه. فمضمونه مضمون قوله تعالى «تحب قريبك كنفسك» فيجوز أن يحب الإنسان نفسه بما هو ضروري لحياته وأعماله فكأنه قال لا تؤثروا أنفسكم على غيركم ولا تدوسوا حقوق غيركم وتغفلوا عن حاجاتهم. ولا تسمحوا بأن أموركم وأمور أهل بيوتكم تشغل كل أفكاركم. وكل من يسأل سؤال قايين «أحارس أنا لأخي» فهو ممن يخطأون بمخالفتهم قول الرسول هنا فخير لنا أن نتبع قانونه وهو قوله «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ» (رومية ١٤: ٧). فانظر تفسيره.

بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً أي افعلوا ذلك علاوة على النظر إلى ما هو للنفس. فيجب علينا أن نطلب نفع كل من حولنا في الجسديات والروحيات وأن نحسن بالأولى إلى إخوتنا وأخواتنا بالمسيح. وأن نحثهم على التقدم في التقوى وعمل الصلاح وأن نعلم جهلاءهم ونرد ضاليهم إلى المسيح. فأبان الرسول الروح الذي طلبه منهم هنا حين قال ما معناه أنه يفضل أن يبقى معهم لمنفعتهم على ما اشتهاه من الحضور مع المسيح (ص ١: ٢٤). وهذا يوجب علينا أن نسأل عن الفقراء والمرضى والأرامل واليتامى وكل المصابين وأن نعين المحتاجين على قدر احتياجهم وأن نعمل كل ما نستطيع في سبيل خلاص غير المؤمنين أي أن ننبههم على خطرهم ونقودهم إلى المسيح. وهذا أعظم نفع يمكننا أن نأتيه. إن الطاعة لهذه الآية تجعل الأرض كالسماء في أقصر وقت.

ومن البيّن أن الآية لا تسمح للإنسان أن يتعرض لما لا يحق له من أمور غيره فإن ذلك ممنوع بما قيل في (٢تسالونيكي ٣: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣ و١بطرس ٤: ١٥). ولا أن نبحث عن أمر يريد صاحبه إخفاءه في متجره أو أهل بيته ونشيعه بين الناس (أمثال ١١: ١٣ و٢٦: ٢٠).

٥ «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هٰذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً».

متّى ١١: ٢٩ ويوحنا ١٣: ١٥ و١بطرس ٢: ٢١ و١يوحنا ٢: ٦

في هذه الآية وما يليها إلى نهاية الآية الحادية عشرة أثبت الرسول ما سبق من كلامه بذكر ما أتاه المسيح من التواضع والتنازل وإنكار النفس مثالاً للمؤمنين فكأنه قال تواضعوا كما تواضع المسيح لأن المسيح مع أنه أزلي ومساوٍ للآب في القدرة والمجد لم يرغب في أن يبقى متمسكاً بمظاهر لاهوته ومجده الإلهي وبيان مساواته للآب بل جرّد نفسه من أمجاد السماء وأخذ طبيعة العبد أي الإنسان بل أنه اتضع إلى أكثر من ذلك إذ أطاع حتى الموت. والموت الذي ماته لم يكن موتاً عادياً بل موت مصلوب من شر المذنبين وأدناهم فلذلك عظم ارتفاعه كعظمة اتضاعه.

فَلْيَكُنْ فِيكُمْ أي في أذهانكم ونواياكم.

هٰذَا ٱلْفِكْرُ الخ أي التواضع الذي هو كتواضع المسيح.

٦ «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ».

يوحنا ١: ١ و٢ و١٧: ٥ و٢كورنثوس ٤: ٤ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣ يوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٣

إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ قبل تجسده وإتيانه إلى العالم. إن اتضاعه ابتدأ منذ تجسده واستمر إلى دقيقة صعوده. ومعنى «صورة الله» هنا صفاته تعالى أو جوهره كما أن أخذه صورة العبد كان آخذاً لصفات الإنسان وجوهره لأن الله روح لا صورة جسدية له كما توهم الوثنيون بدليل قوله «ٱلَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ ٱلْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، ٱلَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (١تيموثاوس ٦: ١٦). وحاله يوم كان في صورة الله حاله التي وصفه فيها يوحنا الإنجيلي «بالكلمة» (يوحنا ١: ١ – ٥). وما قاله بولس هنا في شأن المسيح قبل تجسده يوافق ما قاله في (أفسس ١: ١٠ و٢٠ – ٢٣ وكولوسي ١: ١٥ – ١٩ و٢: ٩ – ١١ وعبرانيين ١: ٢ – ٤) وما قاله المسيح في شأن نفسه من جهة مجده الذي كان له قبل كون العالم (يوحنا ١٧: ٥). وكان الله يري موسى وشيوخ إسرائيل شيئاً من ذلك المجد (خروج ٢٤: ١٠ و١١).

لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أي لم يعد إظهار مساواته الطبيعية الأصلية لله كذلك. ومعنى «الخلسة» شيء يتمسك به الإنسان ويقبض عليه من كنز أو غنيمة ويخشى أن يخسره ويحب إظهاره والافتخار به أمام غيره. فالمسيح لم يعتبر بيان لاهوته كذلك بل آثر عليه إنشاء الفداء معتبراً ذلك أعظم السرور والمجد. وهذا ابتداء إنكاره لنفسه واستعداد لإخلائها. وإذ كان له كل قدرة اللاهوت باعتبار كونه ابن الله كان يمكنه أن يظهر مجده على الأرض كما توقع اليهود من مسيحهم لكنه فضل لخلاص البشر أن لا يعلن هذا المجد الذي له.

أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ أي بيان أن يكون كذلك وذلك أن يظهر ما له من الإكرام والوقار والمجد المختص بالطبيعة الإلهية. وإعلان كونه معادلاً لله ليس سوى إعلان ما كان عليه منذ الأزل. فكان له الحق في التمسك به والمعالنة به ولكنه سرّ بالعدول عنه وقتاً رغبة في عمل الفداء. وصار في ذلك مثالاً لنا لكي لا ننظر في ما هو لأنفسنا بل في ما هو للآخرين أيضاً.

٧ «لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ».

مزمور ٢٢: ٦ وإشعياء ٥٣: ٣ ودانيال ٩: ٢٦ ومرقس ٩: ١٢ ورومية ١٥: ٣ إشعياء ٤٢: ١ و٤٩: ٣ و٦ و٥٢: ١٣ و٥٣: ١١ وحزقيال ٣٤: ٢٣ و٢٤ وزكريا ٣: ٨ ومتّى ٢٠: ٢٨ ولوقا ٢٢: ٢٧ يوحنا ١: ١٤ ورومية ١: ٣ و٨: ٣ وغلاطية ٤: ٤ وعبرانيين ٢: ١٤ و١٧

لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ من صورة الله أي إنه ظهر للناس بدون علامات اللاهوت كأنه جرد نفسه من كل بينات عظمته ومجده وفعل ذلك اختياراً إذ أتى متجسداً ليخلص البشر. وليس المراد أن المسيح جرّد نفسه من الجوهر الإلهي لأنه يستحيل أن يخرج أحد من حقيقة نفسه خالقاً أو مخلوقاً. فإن ابن الله لما صار إنساناً لم يزل إلهاً فبقي لاهوته فيه وكان يظهر أحياناً بكلامه ومعجزاته. فمراد الرسول أن المسيح بدلاً من أن يظهر في صورة الله ظهر في صورة العبد لكي يعلمنا بذلك التواضع. والأمر ذو الشأن في هذا البيان أنه هو أخلى نفسه اختياراً لا أن غيره أخلاها على رغمه. نعم إنه أظهر أحياناً صفاته الإلهية لكنه أظهرها إثباتاً لإيمان تلاميذه ولم يفعل ذلك إلا نادراً فكأنه أخلى نفسه منها وتسربل بالصفات المختصة بالعبد. وخلاصة قوله «أخلى نفسه» إن لاهوت المسيح احتجب بناسوته حتى لم يره الناس إلا قليلاً مع أنه لم يفارقه قط.

آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ لم يرد الرسول بهذا بيان حقيقة تجسد المسيح بل بيان ما صار إليه من الاتضاع بتجسده وإخلاء نفسه. وأول ذلك الاتضاع أنه أخذ صورة عبد بدلاً من صورة الله. والمراد «بصورة العبد» كل ما يختص بالعبد من الأحوال بمقابلتها بأحوال من هو أسمى منه. فالمسيح اختار أن يظهر كعبد وأن يعمل أعمالاً تختص بالعبد بدليل قوله «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذٰلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ الخ» (يوحنا ١٣: ١٣ و١٤). وقوله «أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ» (لوقا ٢٢: ٢٧) وقوله «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨). ولم يقل الرسول لمن كان المسيح عبداً لأن غايته بيان فرط اتضاعه فلو قال عبد الله فاته ذلك البيان لأن أعظم الملائكة العلويين عبد لله.

صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ بواسطة تجسده. والمعنى أنه ظهر على الأرض إنساناً كسائر الناس عرضة لمثل عوارضهم كالجوع والعطش والألم والموت فهذا كقوله «ٱللّٰهُ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٨: ٣) وسُرّ المسيح أن يظهر كذلك لأنه آدم الثاني نائب الجنس البشري بدليل قوله «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ الخ» (عبرانيين ٢: ١٤ و١٥). وهذا علة أن تعسر على الناس أن يؤمنوا بأنه إله إذ لم يروا فيه غالباً سوى علامات ناسوته. وليس في قوله «شبه الناس» ما يُثبت وهم الدوستيين القائلين إن الجسد الذي ظهر فيه المسيح خيال لا جسد حقيقي وإن الذي صُلب ذلك الخيال لا الجسد.

٨ «وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ».

متّى ٢٦: ٣٩ و٤٢ ويوحنا ١٠: ١٨ وعبرانيين ٥: ٨ و١٢: ١

أبان الرسول اتضاع المسيح وإنكاره لنفسه بقوله «أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس» وزاد على ذلك برهاناً آخر على إنكاره للذات فقال:

إِذْ وُجِدَ حين كان على الأرض ممن شاهدوه.

فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ أي في منظره وتكلمه ولبسه وغير ذلك من أمور ناسوته التي ظهر بها حجاباً للاهوته فلم يكتف المسيح بمجرد ذلك من الاتضاع.

وَضَعَ نَفْسَهُ زيادة على ما سبق من اتضاعه بإخلائه نفسه وظهوره في هيئة إنسان فقط. فرضي أن يعامل كما يعامل أدنى الناس وشرهم لأنه مات موت العبد الأثيم وبذلك أظهر ما هو الغاية من إنكار النفس والاتضاع حتى امتاز بفرط اتضاعه. وهذا على وفق نبوءة إشعياء وهي قوله «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ… وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ… وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٢ و٣ و٥ و٦). وقول الرسول «تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ» (٢كورنثوس ٨: ٩).

وَأَطَاعَ إرادة الله لإجراء الفداء عن البشر الساقطين (رومية ٥: ١٩ وعبرانيين ٥: ٨ و١٠: ٧ و٩) ولزم من تلك الطاعة غاية الاتضاع.

حَتَّى ٱلْمَوْتَ ذلك غاية ما يمكن من الطاعة ولم يذكر هنا إن موت المسيح كان كفارة لأن موته كفارة لا يصح أن يكون مثالاً لنا ولكنه ذكره بياناً لكمال طاعته وإنكار النفس. وكانت تلك الطاعة مقترنة بكل حياته من أولها إلى آخرها بدليل قوله «نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا ٦: ٣٨) وقوله «هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (عبرانيين ١٠: ٩) وامتاز موته عن موت غيره من البشر بأمرين الأول إنه كان اختياراً والثاني إنه كان لخلاص البشر بحمله عنهم كل خطاياهم.

مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ ذكر هذا إشارة إلى ما كان فيه من العار وهو مثل قوله «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلاطية ٣: ١٣) انظر التفسير.

٩ «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ».

يوحنا ١٧: ١ و٢ و٥ وأعمال ٢: ٣٣ وعبرانيين ٢: ٩ أفسس ١: ٢٠ و٢١ وعبرانيين ١: ٤

في هذه الآية والآيتين اللتين يليانها بيان ارتفاع المسيح ترغيباً لقراء رسالته في أن يقتدوا بالمسيح في الاتضاع وإنكار النفس.

لِذٰلِكَ أي إثابة على ما أظهر من الطاعة والاتضاع مع كونه إلهاً. وهذا على وفق قوله «ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ ٱلْمَوْتِ» (عبرانيين ٢: ٩).

رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أي أن ابن الإنسان الذي رُفع على الصليب مهاناً رُفع إلى عرش السماء مكرماً. والذي رُفع إلى ذلك المجد هو المسيح بلاهوته وناسوته لأنه بناسوته صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب (أفسس ١: ٢٠). ومن أمور ارتفاعه أنه أزال الحجاب الذي حجب مجد لاهوته وهو على الأرض وهذا على وفق قوله في صلاته «مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٥). ومنها ما في قوله «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٨). وقول الرسول «أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٥). ومنها ما نتج عن إتمامه عمل الفداء لأنه تمجد بفداء شعبه. ومنها إن الله «َأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً» (يوحنا ٥: ٢٧) وعليه قوله «مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٢٦: ٦٤). وقول دانيال «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيال ٧: ١٣ و١٤ انظر أيضاً رومية ١٤: ٩).

ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ إذا كان المراد من هذا «الاسم» أحد أسماء الجلالة كان «الله» وهو في العبرانية «يهوه» واليهود احترموا هذا الاسم كل الاحترام ولم يجسروا أن يفوهوا به ولفظوا بدلاً منه «الاسم» أو «أدوناي» الذي معناه سيّد. وذهب بعضهم إلى أن المراد «بالاسم» يسوع الذي أنبأ به جبرائيل قبل ولادته (متّى ١: ٢١) وقال علماء اللغة العبرانية إن هذا الاسم مركب من اسم «يهوه» والمخلص ولهذا ذهبوا إلى أن «يسوع» هو الاسم المشار إليه هنا. ولعل الرسول لم يقصد اسماً مخصوصاً من أسماء المسيح بل أراد أن كل اسم سُمي به المسيح هو يفوق كل اسم آخر من أسماء الإكرام سواء كان اسم «ابن الله» أو «الكلمة» أو «المسيح» أو «عمانوئيل» أو «الفادي» أو الاسم الذي ذكره يوحنا الرسول بقوله «وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ… وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا ١٩: ١٢ و١٣ و١٦).

١٠ «لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْض».

إشعياء ٤٥: ٢٣ ومتّى ٢٨: ١٨ ورومية ١٤: ١١ ورؤيا ٥: ١٣

لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ هذا القول مقتبس من (إشعياء ٤٥: ٢٣) واقتبسه بولس قبلاً في الرسالة إلى رومية ونسبه إلى المسيح (رومية ١٠: ١١). والمراد «بجثو الركبة» في الكتاب المقدس تقديم العبادة (دانيال ٦: ١٠ ومرقس ١٥: ١٩ ورومية ٢: ٤ وأفسس ٤: ١١) لا مجرد علامة خارجية فيها. واتفق أكثر المفسرين على أن المراد «باسم المسيح» المسيح عينه وأن معنى العبارة أنه يُعبد ويُكرم ويُسبّح له ويُعظم كالله.

مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ الخ هذه العبارة اصطلاح يعبّر به عن كل المخلوقات من الأحياء والأموات فيشمل الملائكة بدليل قوله «مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ١: ٦). ونفوس المفديين الذين دخلوا المجد (رؤيا ٥: ٩ – ١٣). والمفديين الذين على الأرض وهم الذين سمعوا نبأ المسيح وآمنوا به. ولعله يشمل ما لا يعقل من المخلوقات إذ مثلها الرسول كالعقلاء جرياً على سنن المزمور ١٤٨ وكما فعل في (رومية ٨: ٢٢) فأشرار الناس والأبالسة يجبرون على الخضوع لسيادة المسيح والاعتراف بعظمته وذلك لا يستلزم إنهم يخلصون. وهذا على وفق قوله يوحنا «وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا ٥: ١٣).

١١ «وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ».

يوحنا ١٣: ١٣ وأعمال ٢: ٣٦ ورومية ١٤: ٩ و١كورنثوس ٨: ٦ و١٢: ٣

يَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ ما تظهره الركبة من العبادة بالجثو يظهره اللسان بالتكلم. والمراد أن كل ناطق يعترف بسلطان المسيح. واعتراف اللسان دليل على إيمان القلب. وقد سبق الكلام على وجوب الاعتراف بالمسيح في تفسير (رومية ١٠: ٩ و١٠).

أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ هذا موضوع الاعتراف أي أن المسيح رئيس ملكوت غير محدود ولا منته. وهذا مثل ما في (أعمال ٢: ٣١ وأفسس ١: ٢٣ و٤: ١٠ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ و٢٨) وهو يثبت أنه يجب أن يُعبد يسوع كما يُعبد الآب.

لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ أي أن الاعتراف بمجد المسيح يؤول إلى مجد الله الآب. وهذا الغاية العظمى من ذلك الاعتراف وهو كقول المسيح «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا ٥: ٢٣) وقول يوحنا «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨ انظر أيضاً يوحنا ١٤: ٩ و١٠). وقول المسيح إنه مجّد الآب بعمله على الأرض (يوحنا ١٧: ٤) وهو موافق لما في (١كورنثوس ١٥: ٢٤ – ٢٨).

حث الرسول مؤمني فيلبي على التقدم في الحياة الروحية ليكونوا أنواراً في العالم ولكي يسر هو بهم ويتعزى ع ١٢ إلى ١٨

١٢ «إِذاً يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ ٱلآنَ بِٱلأَوْلَى جِدّاً فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ».

ص ١: ٥ أفسس ٦: ١٣ أفسس ٦: ٥

إِذاً أي بناء على ما سبق من مثال المسيح المجيد من (ع ١ – ١١).

يَا أَحِبَّائِي هذا دليل على شدة اهتمام الرسول بهم.

كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ إن الذي أطاعوه هو الله وهو الذي أطاعه المسيح حتى الموت (ع ٨). فبنى رجاءه أن كلامه لا يكون بلا نفع على اختباره في الماضي إنهم سمعوا صوت الله بواسطته. ومما يستحق الاعتبار أن الرسالة إلى مؤمني فيلبي هي الوحيدة من رسائله في كونها خالية من التوبيخ صراحة.

لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ ٱلآنَ بِٱلأَوْلَى فكأنه قال لا تتكلوا على حضوري لتكونوا أمناء طائعين بل كونوا كذلك وأنا بعيد عنكم مسجوناً في رومية أو جائلاً للتبشير كما تكونون وأنا قريب منكم. فليحملكم على ذلك حبكم للمسيح وطاعتكم لروحه المخاطب لكم في قلوبكم. فالأولى أن تجتهدوا أكثر لأنفسكم لأني لست بينكم لأساعدكم.

تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ كان الرسول قد نهاهم عن أن يتكلوا على حضوره وأبان لهم هنا ما يجب أن يفعلوه لأنفسهم وحينئذ يحق لهم أن يتوقعوا معونة الله. وهذا يوافق قوله لمؤمني أفسس «ٱحْمِلُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا» (أفسس ٦: ١٣). فعبارته تتضمن أمرين الأول إن الله ابتدأ عملاً في قلوبهم غايته خلاصه. والثاني إنهم مسؤولون بتتميم ذلك العمل. فعلى الإنسان أن يعمل مع الله لخلاص نفسه أولاً ولخلاص غيره ثانياً. والله هو الأول والآخر في ذلك الأمر بدليل قوله «أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (ص ١: ٦) فعمل الإنسان ثانوي.

إن الله قادر على أن يخلص الناس بدون أعمالهم من التوبة والإيمان والطاعة وليس مفتقراً البتة إلى عملهم لكنه اختار أن يعمل الإنسان معه لنيل خلاص نفسه كما يعمل في تحصيل القوت والكسوة والمسكن لجسده ولمعرفة لعقله. وأشار إلى طريق تتميمهم لخلاصهم بقول «كما أطعتم» لأن المسيح أبان في إنجيله ما يجب على الإنسان أن يفعله في شأن خلاصه.

بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ وعلة ذلك عظمة الربح بتحصيل الخلاص وعظمة الخسارة بفواته وكثرة الموانع من نيله كفساد القلب وضعفنا في الروحيات وتجارب الشيطان والعالم الشرير وكون الخوف والرعدة يجعلهم أكثر اجتهاداً في طلب الخلاص وأكثر احتراساً من التجارب وأكثر مواظبة على الصلاة وعلى استعمال وسائط النعمة. أما الاتكال على النفس والجسارة فيحملان على الكسل الروحي والكبرياء والتعرض للسقوط كما أن اتكال بطرس على نفسه أدى به إلى إنكاره للمسيح.

١٣ «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ».

٢كورنثوس ٣: ٥ وعبرانيين ١٣: ٢١

لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ هذا متعلق بقوله تمموا في الآية السابقة والمعنى تمموا أنتم خلاصكم لأن الله هو العامل فيكم. وقد سبق أن الله هو البادئ في عمل الخلاص وهو الذي ينشئ في الإنسان أول ميل إلى طلب الخلاص ولولا تحقق الإنسان أن الله هو العامل فيه لم يكن له أدنى رجاء في طلبه لأن ليس له قوة على أن يستقل بخلاص نفسه كما أنه ليس له قوة على أن يطير في الهواء بلا واسطة. وأمر الخلاص كأمر الفلاحة فلو لم يُنزل الله المطر والندى ويرسل حرارة الشمس ويُنمِ الزرع ما كان للفلاح أن يرجو الحصاد. وما قد عمله الله لخلاص الإنسان مما لم يستطع الإنسان أن يعمله أيضاً فإنه أعد طريق الخلاص وأعلنه في الإنجيل وأرسل ابنه ليموت عن الخاطئ وأرسل روحه ليلين قلوب الناس ويفتحها ليقبلوا المسيح. فإعداد هذه الوسائط فوق قدرة الإنسان كما أن خلق العالم فوق قدرته والله أعدها كلها وهو مستعد فوق ذلك أن يفعل في الإنسان للخلاص بشفاعة المسيح له في السماء وبفعل الروح القدس له في قلبه.

أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا هذا بيان عمل الله بروحه القدوس في نفوس الناس (١كورنثوس ١٢: ٦ و١١) وهو نوعان عمله في إرادة الإنسان وعمله في عمله ولو عمل في الثاني دون الأول لكان ملكوته محدوداً لأنه بذلك يكون جزء من الإنسان (وهو الأهم فيه) خارجاً عن دائرة سلطانه. كثيراً ما نرى أن لأحد الناس سلطاناً على إرادة غيره ليقنعه ويرغّبه ويهيجه أو يسكّنه ويفرحه أو يحزنه ويأتي ذلك كله بدون أن يقسر حريته فبالأولى أن يكون لخالق النفس مثل ذلك السلطان. فإذاً لا شيء من عمل الله في خلاص الإنسان ينزع حرية الإنسان أو يرفع عنه المسؤولية وهذا موافق لقول الحكيم «قَلْبُ ٱلْمَلِكِ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (أمثال ٢١: ١).

إن أعظم الموانع لخلاص الإنسان إرادته التي تأبى الخضوع لإرادة الله كما قال المسيح لليهود «لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ» (يوحنا ٥: ٤٠). وقد علمنا هو أن نصلي قائلين «لتكن مشيئتك» (متّى ٦: ١٠).

مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ أي مسرة الله بخلاص الناس بدليل قول النبي «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال ٣٣: ١١) وقول الرسول «ٱلَّذِي يُرِيدُ (أي الله) أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١تيموثاوس ٢: ٤) وقوله «من أجل المسرة» متعلق بقوله «العامل».

إذا عمل اثنان أو أكثر عملاً واحداً فالاتفاق من ضروريات النجاح فلكي يتم خلاص الإنسان وجب بالضرورة أنه يعمل بمقتضى الشرط الذي قضى الله به وأعلنه في الإنجيل ووعد أن يكلله بالنجاح وهو أن الخلاص بالإيمان بالمسيح لا بأعمال البر ولا بوسطاء من المخلوقات.

١٤ «اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ».

١كورنثوس ١٠: ١٠ و١بطرس ٤: ٩ رومية ١٤: ١

اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ هذه النصيحة متعلقة بالنصائح التي في (ع ٣ – ٥) وما بينهما استطراد لتقديم المسيح مثالاً في التواضع والطاعة وإنكار الذات. وقوله «كل شيء» يتضمن احتمال الضيقات فوق القيام بالواجبات.

بِلاَ دَمْدَمَةٍ الدمدمة هنا في الأصل اليوناني الكلمة التي تُرجمت بالتذمر في (١كورنثوس ١٠: ١٠). ولم يبين الرسول أعلى الله هذه الدمدمة أم على الناس فالأرجح أنها عليهما. ومثال المسيح ينهانا عن الدمدمة وكذا مضمون تعليم الإنجيل. إن بني إسرائيل في البرية أغاظوا الله بتذمرهم فهلكوا (١كورنثوس ١٠: ١٠). فكانوا عبرة لنا لكي نحذر الضجر باطناً وإظهاره بالكلام. ومن سلم إرادته لإرادة الله لم يخب ولم يخز إذا قضى بخلاف ما أراد وتوقع. ومن اعتزل التذمر على الله اعتزل التذمر على الناس. وتنشأ الدمدمة غالباً عن الكبرياء وحب الذات والحسد.

وَلاَ مُجَادَلَةٍ جاء مثل هذا في قوله «فَأُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ ٱلرِّجَالُ فِي كُلِّ مَكَانٍ رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً، بِدُونِ غَضَبٍ وَلاَ جِدَالٍ» (١تيموثاوس ٢: ٨). وهذا ينهي عن الاعتراض على حكمة الله وجودته وعن تفنيد أقوال الناس ولومهم على أعمالهم بلا حق. ومن ذلك أشار الرسول إليه بقوله «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ؟ أَلَعَلَّ ٱلْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: َاذَا صَنَعْتَنِي هٰكَذَا» (رومية ٩: ٢٠). إن كثيرين يخطأون بقولهم لماذا ميز الله غيري عليّ في الغنى والمقام والجمال والصحة وكثرة النسل ولماذا ضربني بالمصائب ووقى غيري منها. وكثيراً ما أزعج المسيح الكهنة والفريسيين بمجادلاتهم بغية أن يرموه (متّى ٢٠: ١١ و لوقا ٥: ٣٠ ويوحنا ٦: ٤١ و٤٣ و٦١ و٧: ١٢ و١٣). وخطئ التلاميذ بمجادلة بعضهم لبعض (مرقس ٩: ٣٣ و٣٤). واشتهر فلاسفة اليونان في مكدونية بالجدال في الفلسفة والدين وشغلوا به كثيراً من الوقت فحذر بولس مسيحيي فيلبي من المجادلات الباطلة مثلهم. إن بعض الناس يميلون إلى تخطئة غيرهم والتشكي منهم فيعسر عليهم أن يخلصوا من ذلك الميل إذا استولى عليهم بالممارسة لكن يجب على المسيحي أن يقاوم ذلك الميل لأن من نتائجه سوء الخلق والقسوة واعتياد الأجوبة القاسية فينزع راحة البيت والسلام منه ويحمل على الانشقاق في الكنيسة ويشين الدين المسيحي. وإذ كان غاية الرسول بهذه الرسالة أن يزيد اتحاد أهل فيلبي حذّرهم من الدمدمة والمجادلة لأنهما مضادتان لذلك.

١٥ «لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَداً لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ».

متّى ٥: ٤٥ وأفسس ٥: ١ و١بطرس ٢: ١٢ تثنية ٣٢: ٥ متّى ٥: ١٤ و١٦ وأفسس ٥: ٨

لِكَيْ تَكُونُوا بنعمة الله واجتهادكم أو لتكونوا ظاهرين أمام الناس.

بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ أي خالين من كل ما يجعلكم ملومين أمام الله والناس لكي تكون سيرتكم كما يليق بالمسيحيين وتكونوا مخلصين طاهرين كما أمر المسيح تلاميذه بقوله «حُكَمَاءَ… وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى ١٠: ١٦). وكما قال الرسول «ٱمْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرٍّ» (١تسالونيكي ٥: ٢٢). وكقوله لأهل رومية «أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا حُكَمَاءَ لِلْخَيْرِ وَبُسَطَاءَ لِلشَّرِّ» (رومية ١٦: ١٩). فالعبارة تستلزم فوق النهي عن الإساءة إلى الناس الطهارة أمام الله كما طلب الرسول من أجل مؤمني تسالونيكي في قوله «يُثَبِّتَ قُلُوبَكُمْ بِلاَ لَوْمٍ فِي ٱلْقَدَاسَةِ، أَمَامَ ٱللّٰهِ» (١تسالونيكي ٣: ١٣).

أَوْلاَداً لِلّٰهِ اختار الله بني إسرائيل ليكونوا أولاداً له لكن شهد موسى عليهم بقوله «فَسَدُوا تِجَاهَهُ ٱلَّذِينَ هُمْ عَارٌ وَلَيْسُوا أَوْلاَدَهُ، جِيلٌ أَعْوَجُ مُلْتَوٍ» (تثنية ٣٢: ٥). ولعل الرسول ذكر كلام موسى حين كتب إلى الفيلبيين فحذرهم من أن يكونوا مثل أولئك الذين سُموا أولاد الله وهم ليسوا كذلك. وقد سبق الكلام على أولاد الله في تفسير (رومية ٨: ١٤).

بِلاَ عَيْبٍ هذا كقول بطرس «ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ» (٢بطرس ٣: ١٤). ومراده أن لا يتركوا سبيلاً إلى أن يوبخوا وأن يكونوا مقدسين ظاهراً وباطناً. وفي قوله «بلا عيب» تلميح إلى صفة الذبائح التي كانت تقدم لله (تثنية ١٧: ١) وكان من صفات المسيح المرموز إليه بتلك الذبائح إنه بلا عيب بدليل قول الرسول «ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين ٩: ١٤). وقول بطرس «ٱفْتُدِيتُمْ… بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وطُلب مثل هذا من كنيسة المسيح بدليل قوله «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ… بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أفسس ٥: ٢٧).

فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ هذا وصف لأهل العالم غير التائبين وغير المؤمنين وهو مثل ما في قول المسيح «أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، ٱلْمُلْتَوِي» (متّى ١٧: ١٧ ولوقا ٩: ٤١). وقول بطرس يوم الخمسين «ٱخْلُصُوا مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي» (أعمال ٢: ٤٠). وقصد «بالجيل الملتوي» المقاومين الذين اتهموا المسيحيين بالعقائد الباطلة والأعمال الشريرة خلافاً للواقع فاجتهدوا بذلك في أن يمنعوا تقدم الإنجيل. ومن أمثالهم وثنيوا فيلبي الذين جروا بولس وسيلا أمام ولاة المدينة فإنهم قالوا فيهما «هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا… وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا» (أعمال ١٦: ٢٠ و٢١). ومنهم يهود تسالونيكي فإنهم قالوا على المسيحيين «هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً. وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ» (أعمال ١٧: ٦ و٧).

تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ هذا وصف بما قصده الله للمسيحيين في الأرض وما يجب أن يكونوا دائماً بدليل قول المسيح لتلاميذه «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ… فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٤ و١٦).

إن المسيح هو نور العالم العظيم (يوحنا ٨: ١٨) فيضيء المسيحيون بنوره كما تضيء السيارات وأقمارها بنور الشمس فيجب أن يضيء عبيد المسيح بنوره لكي يجذبوا الناس إليه ليخلصوا أو يمجدوا الله (انظر تفسير أفسس ٥: ٨ و١٣).

١٦ «مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلاً وَلاَ تَعِبْتُ بَاطِلاً».

٢كورنثوس ١: ١٤ و١تسالونيكي ٢: ١٩ غلاطية ٢: ٢ و١تسالونيكي ٣: ٥

مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ إن المسيحيين أنوار في العالم ليس بإظهار حكمتهم وفطنتهم بل بإذاعة الإنجيل الذي هو كلمة الحياة فيفعلون ذلك بشفاههم وسيرتهم. فالذين يشهدون للإنجيل بسيرتهم وتعليمهم ينيرون مثل منارة وبذلك يماثلون ربهم الذي «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يوحنا ١: ٤). وسمي الإنجيل «كلمة الحياة» لأنه يشهد للمسيح الذي «هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا ٦: ٦٣ و١٧: ٣). وفي هاتين الآيتين بيان لما يجب أن يكون عليه كل مسيحي في حقيقة نفسه وهو أن يكون بلا لوم أمام الله وبلا عيب أمام الناس وبيان ما يجب أن يعمله وهو أن يكون نوراً للعالم وبيان أنه كيف يضيء وهو أن يتمسك بكلمة الحياة ويذيعها. وهذا غير مقصور على الرعاة والمبشرين بل واجب على كل فرد من المسيحيين كباراً وصغاراً رجالاً ونساء. فعلى كل واحد أن يضيء كنور في بيته ومعمله وأسفاره براً وبحراً وفي سائر أحواله. وما يزيد مسؤولية المسيحيين في هذا الأمر هو أنهم إن لم يضيئوا كأنوار في العالم ليقودوا الناس إلى المسيح بقوا هم في الظلمة وهلكوا لا محالة.

لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ قد أشار الرسول سابقاً إلى أن يوم المسيح (أي اليوم الذي يجلس فيه ديّاناً للعالمين) هو الوقت الذي تظهر فيه نتائج أتعابه الرسولية (١كورنثوس ٣: ١٢ و١٣ و٤: ٣ – ٥ و ٢كورنثوس ١: ١٤). وأبان أمر افتخاره هنا بقوله «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٦: ١٤). وهذا دليل على أن افتخاره هو سروره بانتصار المسيح بواسطته لا بالمجد الذي حصل هو عليه.

بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ الخ قال ذلك جرياً على عادته أن يحسب كل حياته جهداً كالجهاد الذي أتاه الأبطال في الألعاب اليونانية العظيمة من سباق وصراع ومضاربة (١كورنثوس ٩: ٢٤ – ٢٦ وغلاطية ٢: ٢ و٢تيموثاوس ٤: ٧) وغاية جهاده أن «يخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً» (١كورنثوس ٩: ٢٢). فتعبه العظيم الذي احتمل فيه شديد الآلام هو ما كان في مناداته بالإنجيل. والدليل على أنه تعب بالأمانة وبذل الجهد هو صحة إيمان الفيلبيين وحسن سيرتهم وهو الدليل الذي اعتمده.

١٧ لٰكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ».

٢تيموثاوس ٤: ٦ رومية ١٥: ١٦ و٢كورنثوس ٧: ٤ وكولوسي ١: ٢٤

ذكره أتعابه من أجل الفليبيين بمناداته بالإنجيل لكي يخلصوا حمله على ذكر ما احتمله من الآلام ولقيه من الأخطار علاوة على تلك الأتعاب وإنه سر بها بناء على كونها وسيلة إلى تقوية إيمانهم.

إِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ اعتبر سفك دمه لتقوية إيمان الفيلبيين بالمسيح كسكب الخمر أو الخمر والزيت اللذَين اعتاد سكبها اليهود على ذبائحهم قبل إحراقها على المذبح (خروج ٢٩: ٤٠ وعدد ١٥: ٤ و٥ و٢٨: ٧ و١٤) واعتاد مثل ذلك الوثنيون. واعتبر إيمان الفيلبيين وخدمتهم للمسيح ذبيحة لله كأنهم كهنة كما صار المسيحيون كلهم باتحادهم بالمسيح (١بطرس ٢: ٥ و٩ ورؤيا ١: ٦ و٥: ١٠). وهذا على وفق قوله لمؤمني رومية «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ… أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ» (رومية ١٢: ١). وقوله «قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ» (ص ٤: ١٨ انظر أيضاً عبرانيين ١٣: ١٥ و١٦). وكان بولس مستعداً أن يسكب دمه فوق تلك الذبيحة إذا اقتضت الحال لكي يجعلها أكثر طهارة روحية مقبولة كما انسكب الخمر والزيت على ذبائح البهائم. وهذا كقوله لمؤمني كورنثوس «أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ» (٢كورنثوس ١٢: ١٥).

«أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ» قال قبلاً أنه يحسب الموت ربحاً له وهذا إحدى الطرق التي بها يكون موته ربحاً إذ به يزيد إيمانهم وسروره معهم لأنه فضلاً عن فرحه بأن يكون مع المسيح يفرح أيضاً بأن يشاركهم في الذبيحة التي قدموها لربه وربهم.

١٨ «وَبِهٰذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضاً وَٱفْرَحُوا مَعِي».

رأى وجوب أن يقترن الفرح بالإيمان لأن الأول ثمر الثاني ومظهر حقيقته (ص ٤: ٤) ويغلب أن يكون السرور مبنياً على الحياة واللذة ولكنه بناه هنا على الألم والموت وهذا لا يمكن أن يكون إلا بتوقع ما يكون له ولهم في السماء من العواقب السارة التي تلي الآلام والموت والنتائج المبهجة التي تحصل عليها الكنيسة بشهادة الشهداء بصحة إيمانها.

وَبِهٰذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ الخ أي افرحوا أنتم بالأسباب نفسها التي أفرح بها أنا بانتظار الموت لا بموتي بل بالثواب الذي يعقب الآلام والموت ونجاح الإنجيل وتوطيد الإيمان بذلك وبكون فرح أحدنا فرح الكل. ومثال المسرة بالشركة في الأرزاء بالنظر إلى عواقبها المبهجة ما أتاه الجندي الجريح الذي جاء إلى أثينا ليبشر أهلها بانتصار اليونان على الفرس في واقعة مرثون فإنه دخل باب مجلس الأعيان وهتف «فرحنا افرحوا» ثم سقط ميتاً على العتبة. كذلك على المؤمنين أن يفرحوا بموتهم في سبيل الإنجيل نظراً لنفعه للكنيسة ولكونه بركة للعالم.

قصد الرسول أن يرسل إليهم تيموثاوس وأن يرجع أبفرودتس ع ١٩ إلى ٣٠

١٩ «عَلَى أَنِّي أَرْجُو فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ سَرِيعاً تِيمُوثَاوُسَ لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي إِذَا عَرَفْتُ أَحْوَالَكُمْ».

رومية ١٦: ٢١ و١تسالونيكي ٣: ٢

أَرْجُو فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ سَرِيعاً تِيمُوثَاوُسَ قرن بولس اسم تيموثاوس باسمه في التحية التي في أول الرسالة لكنه لم يكن له شركة في الرسالة فهي كلها لبولس كما يظهر من هذه الآية. وكان رجاؤه أن يرسل تيموثاوس سريعاً مبنياً على ثقته بأن المسيح يدبر الأمور حتى يتيسر له ذلك وهذا لم يكن إلا بأنه حسب كل الأمور تحت سلطان المسيح فلم يكن رجاؤه كرجاء الدنيويين الذي يحتمل أن يكون باطلاً.

لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي الخ بواسطة الأخبار التي يأتي إليه بها تيموثاوس منهم مما يتعلق بأحوالهم الجسدية وثباتهم في الإيمان خاصة. والظاهر أنه كان قد مضى زمن طويل من مجيء أبفرودتس إليه بأنبائهم. وكان مثل اهتمامه هنا بأمر الفيلبيين اهتمامه بأمر الكورنثيين (٢كورنثوس ٢: ١٣ و٧: ٦ و٧) واهتمامه بكنيسة تسالونيكي (١تسالونيكي ٣: ١ – ٩).

٢٠ «لأَنْ لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ».

مزمور ٥٥: ١٣

أبان في هذه الآية علة إرساله تيموثاوس دون غيره (انظر في شأن تيموثاوس وتفسير أعمال ١٦: ١ – ٣).

لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي أبان معنى هذا بقوله «أَنَّهُ كَوَلَدٍ مَعَ أَبٍ خَدَمَ مَعِي» (ع ٢٢).

يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ كان تيموثاوس مع بولس وقت تأسيس كنيسة فيلبي كما يظهر من (أعمال ١٦: ٣ و١٧: ١٤) وهذا ما يحمله طبعاً أن يشارك بولس في الاهتمام بتلك الكنيسة. ودعاه الرسول «ابنه الصريح في الإيمان» (١تيموثاوس ١: ٢). فولادته الروحية جعلته وارثاً انفعالات والده الروحي واهتمامه. وأراد «بالإخلاص» أنه لا يدعي شيئاً لا يشعر به في قلبه وأنه لا يؤثر نفع نفسه على نفعهم.

٢١ «إِذِ ٱلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

١كورنثوس ١٠: ٢٤ و٣٣ و١٣: ٥ و٢تيموثاوس ٤: ١ و١٦

إِذِ ٱلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ أي ما يؤول لراحتهم ومكاسبهم ونفع عيالهم. ومراده «بالجميع» جمهور المؤمنين الذين في رومية ممن يمكنه أن يرسلهم. أو رفقاؤه المبشرون الذين كانوا معه حينئذ فيحتمل أنه عرض عليهم أن يرسلهم فاستثقلوا أخطار الطريق. ومثل هذا قوله عليهم بعد ذلك عند محاكمته أمام نيرون «فِي ٱحْتِجَاجِي ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي» (٢تيموثاوس ٤: ١٦).

لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي لا يهتمون بالأمور المتعلقة بملكوت المسيح التي تحمل على إنكار الذات والتعرض للخطر. وقول بولس هنا يوافق قول المسيح لتلاميذه «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ ٱلآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي» (يوحنا ١٦: ٣٢). و ربما كان لوقا وأمثاله يوم كتب هذا غائبين عن رومية في الجهات للمناداة بالإنجيل.

٢٢ «وَأَمَّا ٱخْتِبَارُهُ فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّهُ كَوَلَدٍ مَعَ أَبٍ خَدَمَ مَعِي لأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ».

١كورنثوس ٤: ١٧ و١تيموثاوس ١: ٢ و٢تميوثاوس ١: ٢

استدل على إخلاص تيموثاوس من سبق معرفتهم إياه عند زيارته الأولى لهم (ع ١٦) وحين أرسله بولس إلى تسالونيكي والمرجّح أنه أرسله إليهم أيضاً (تسالونيكي ٣: ٢) وحين أرسله من أفسس إلى مكدونية (أعمال ١٩: ٢٢). وحضوره مع بولس في سفره الأخير إلى أورشليم (أعمال ٢٠: ٤ – ٦).

خَدَمَ مَعِي لأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ منع بولس تواضعه من أن يقول «خدمني» وما قاله جعلهما كلهيما خادمين للمسيح في سبيل الإنجيل. وقوله «إنه كولد مع أب خدم معي» الخ يشير إلى أنه إظهر كل رقة واحترام للرسول.

٢٣ «هٰذَا أَرْجُو أَنْ أُرْسِلَهُ أَوَّلَ مَا أَرَى أَحْوَالِي حَالاً».

توقع بولس أن يحاكم سريعاً في الدعوى التي أتى رومية من أجلها وسُجن وكان مرتاباً في ما تكون النتيجة ألحكم عليه أم تبريره فقصد أن يرسل تيموثاوس إليهم حالما يعرف ذلك.

٢٤ «وَأَثِقُ بِٱلرَّبِّ أَنِّي أَنَا أَيْضاً سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعاً».

ص ١: ٢٥ وفليمون ٢٢

وَأَثِقُ بِٱلرَّبِّ هذا كقوله «أرجو في الرب» (ع ١٩) وكقوله لفليمون «أَعْدِدْ لِي أَيْضاً مَنْزِلاً، لأَنِّي أَرْجُو أَنَّنِي بِصَلَوَاتِكُمْ سَأُوهَبُ لَكُمْ» (فليمون ٢٢) والمرجح أنه حصل على ما رجاه وإنه أُطلق وبقي حراً أربع سنين أو خمساً ثم قُبض عليه وسُجن ثانية واستشهد.

٢٥ «وَلٰكِنِّي حَسِبْتُ مِنَ ٱللاَّزِمِ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ أَبَفْرُودِتُسَ أَخِي، وَٱلْعَامِلَ مَعِي، وَٱلْمُتَجَنِّدَ مَعِي، وَرَسُولَكُمْ، وَٱلْخَادِمَ لِحَاجَتِي».

ص ٤: ١٨ فليمون ٢ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ و٢كورنثوس ١١: ٩ وص ٤: ١٨

حَسِبْتُ مِنَ ٱللاَّزِمِ أي أنه استحسن أن يرسل إليهم أبفرودتس حالاً (مع أنه تاب في عاقبة محاكمته) نظراً لشوقه إليهم واهتمام الكنيسة بأمره.

أَبَفْرُودِتُسَ ذُكر أيضاً في (ص ٤: ١٨) ولم يُذكر اسمه في غير هذه الرسالة. ومختصر هذا الاسم أبفراس وذُكر في (كولوسي ١: ٧ و٤: ١٢ وفليمون ٢٣). ولا دليل على إنه هو أبفرودتس المذكور هنا. ويعسر علينا أن نعتقد أن وليد كولوسي في أسية يكون أيضاً من أهل فيلبي في أوربا ورسول كنيستها المختار. وكل ما نعلم من أمره أنه من أعضاء كنيسة فيلبي أرسلته الكنيسة بالإعانة لبولس في رومية (ص ٤: ١٨) وإن مرض هنالك مرضاً خطيراً سمعت به الكنيسة واضطربت ولما شفي استحسن بولس أن يرجعه حالاً بهذه الرسالة ومدحه كثيراً.

أَخِي في الإيمان بالمسيح.

ٱلْعَامِلَ مَعِي في المناداة بالإنجيل. ولعله عمل مع بولس وهو في فيلبي وفي رومية قبل أن مرض والأرجح أن بولس اعتبر كل خدمته للمسيح مشاركة له في العمل العظيم أي التبشير بالإنجيل. ومثل ذلك قوله في برسكلا وأكيلا (رومية ١٦: ٣). وفي تيموثاوس (رومية ١٦: ٢١ وفي تيطس (٢كورنثوس ٨: ٢٣).

ٱلْمُتَجَنِّدَ مَعِي كان عاملاً معه في خدمة المسيح ومتجنداً معه ليقاوم قوات الظلمة المحاربة بالإنجيل. وبمثل ذلك شهد لأرخبس (فليمون ٢).

رَسُولَكُمْ أي الذي أرسلتموه إلي كما يتبين من قوله في (ص ٤: ١٨). وهذا كمعنى الرسول في قوله بمن أتيا بمال الإحسان. وأما أخوانا فهما رسولا الكنائس (٢كورنثوس ٨: ٢٣). وليس في ذلك ما يشير إلى أنه كان راعي كنيسة فيلبي. وأما نوع خدمته فقد أُعلن في العبارة التالية.

وَٱلْخَادِمَ لِحَاجَتِي أي أموري الجسدية بدليل ما في (ص ٤: ١٨).

٢٦ «إِذْ كَانَ مُشْتَاقاً إِلَى جَمِيعِكُمْ وَمَغْمُوماً، لأَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضاً».

ص ١: ٨

ذكر في هذه الآية علتين لإرسالة أبفرودتس حالاً.

مُشْتَاقاً إِلَى جَمِيعِكُمْ هذا شأن من غاب مدة طويلة عن وطنه وكنيسته وأهل بيته ولا سيما من مرض مرضاً شديداً وكان في شك من أن يراهم على الأرض أيضاً.

مَغْمُوماً الخ لأنه خاف من النتائج أن بلغ أهل وطنه نبأ مرضه وإنه في خطر الموت وهو بعيد عن أهله وأصحابه. ولم يذكر الرسول كيف بلغهم نبأ مرضه.

٢٧ «فَإِنَّهُ مَرِضَ قَرِيباً مِنَ ٱلْمَوْتِ، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ رَحِمَهُ. وَلَيْسَ إِيَّاهُ وَحْدَهُ بَلْ إِيَّايَ أَيْضاً لِئَلاَّ يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ».

قال هذا إثباتاً لصدق ما بلغهم من نبإ مرضه الشديد.

ٱللّٰهَ رَحِمَهُ أي شفاه بالوسائط العادية وكان ذلك الشفاء رحمة للمريض.

بَلْ إِيَّايَ أَيْضاً أي رحم بولس مع رحمته لأبفرودتس إذ صلى بغية شفائه وأخذ هنا يشكر الله على إجابة صلاته. ويظهر مما قيل هنا أنه لم يكن لبولس أن يأتي معجزات الشفاء متى أراد إذ لا دليل على أن بولس قدر أن يصنع شيئاً لأبفرودتس في مرضه سوى أن صلى من أجله. والمرجح أن الله حين كان يقصد أن يصنع معجزة على يد رسله كشفاء المقعد في لسترة على يد بولس وشفاء مثله في أورشليم عند باب الهيكل المعروف بالباب الجميل على يدي بطرس ويوحنا كان يعطيهم علامة أنه قد قصد ذلك.

لِئَلاَّ يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ لو مات أبفرودتس لحزن بولس على فراقه فوق حزنه على سجنه وتوقع محاكمته وقلة أصحابه فإنه مما يظهر من كلامه لم يكن له من الأصحاب الذين يعتمدهم سوى تيموثاوس وأبفرودتس. فلو مات لفقد بولس صاحباً عزيزاً ومعيناً نافعاً ولخسرت كنيسة فيلبي عضواً مفيداً ولزاد حزنه كثيراً لأنه يكون حينئذ قد بذل حياته في خدمته (ع ٣٠).

٢٨ «فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُوهُ تَفْرَحُونَ أَيْضاً وَأَكُونُ أَنَا أَقَلَّ حُزْناً».

أَرْسَلْتُهُ أي سأرسله لا محالة. فعبر عن المستقبل بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه ولأن وصوله إليهم يكون مع وصول الرسالة لأنه هو حاملها.

بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ لم يرسله بولس بهذه السرعة لو لم يكن قد مرض وحزنوا الحزن الشديد لمرضه فإن ذلك حمله على سرعة إرساله حينما صار قادراً على السفر.

وَأَكُونُ أَنَا أَقَلَّ حُزْناً متى عرفت بوصول رسولكم إليكم وزوال غمّكم وفرحكم بالاجتماع. وفي هذا تلميح إلى أنه يظل حزيناً بالحزن القديم (ع ٢٧) الناتج عن سجنه ومنعه من الجولان للتبشير واهتمامه بنجاح الإنجيل وأحوال الكنائس.

٢٩ «فَٱقْبَلُوهُ فِي ٱلرَّبِّ بِكُلِّ فَرَحٍ، وَلْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّماً عِنْدَكُمْ».

١كورنثوس ١٦: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ١٢ و١تيموثاوس ٥: ١٧

فَٱقْبَلُوهُ لأني اجتهدت في إرساله بسرعة.

فِي ٱلرَّبِّ كما يليق بأن يقبل المسيحيون عضواً من كنيستهم بعد أن غاب عنهم وكان مشرفاً على الموت وشفاه الله فعليكم أن تقبلوه كهدية جديدة من الرب أرسلها إليكم إجابة لصلواتكم.

لْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّماً عِنْدَكُمْ كان عليهم أن يكرموه نظراً لما قام به من الخدمة الحسنة. ففي العبارة إشارة إلى أن مثله قليل.

٣٠ «لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ قَارَبَ ٱلْمَوْتَ، مُخَاطِراً بِنَفْسِهِ، لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي».

١كورنثوس ١٦: ١٧ وص ٤: ١٠

مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ أي لأجل ما عمله في سبيل المسيح من خدمة أحد عبيده وهذا على وفق قول المسيح «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى ٢٥: ٤٠).

مُخَاطِراً بِنَفْسِهِ أي أنه عرّض نفسه للموت إما بسفره من فيلبي إلى رومية وهو غير قادر على السفر لانحراف صحته وإما من شدة أتعابه في رومية وهو يخدم بولس في السجن اختياراً قطع النظر عن الضرر الناتج من ذلك لجسده.

لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي لم يقصد بولس البتة أن يلوم أهل كنيسة فيلبي كأنهم لم يكترثوا به أو غفلوا عنه لكنه قصد أن غيابه عنهم منعهم من إتمام الخدمة (ص ٤: ١٠) وإن أبفرودتس سافر كل ذلك السفر لكي يقوم هو نفسه بما كان أهل الكنيسة يقومون به لو كان بولس عندهم. وما أتى به أبفرودتس حمل بولس على أن يقول لهم «اقبلوه بكل فرح» (ع ٢٩).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى