فيلبي

الرسالة إلى أهل فيلبي| المقدمة| الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى أهل فيلبي 

للدكتور . وليم إدي

تمهيد

فى كورنثوس ولا تعليم شيء في ما يتعلق بنظام الكنيسة مع أنه فيها بعض أسماء خدم الكنيسة ولا نظم قواعد الإيمان مع أنه ذكر جلال المسيح وتواضعه وأشار إلى الفرق بين الناموس والنعمة. فالغاية إظهار محبته المسيحية وشكره على ما أتاه الفيلبيون في تلك الأثناء من العطايا التي كانت علامة اعتبارهم إياه وسداً لعوزه في السجن إذ لم يكن يستطيع العمل كعادته لإعالة نفسه وإظهار عواطفه لهم كما أظهرها لأهل تسالونيكي في رسالته الأولى إليهم. ومما جعله ممنوناً لهم أكثر ما كان ممنوناً لأهل تسالونيكي أنهم أظهروا مراراً كثيرة قبل ذلك عنايتهم بحاجاته الجسدية. وأراد أن ينبئهم بما يطمئنون به من أمره علاوة على إعلان شكره لهم على عنايتهم به وبيان أنه لم ييأس لكثرة ضيقاته وأخطاره بل إنه يتحقق نجاح الإنجيل بواسطة ذلك وبغية أن يجعلهم مطمئنين من جهة رسولهم أبفرودتس الذي لفرط خدمته إياه اعتراه مرض شديد وكان حينئذ قد أبلّ من مرضه وبيان ممنونيته لهم على عناية رسولهم به وإنكاره نفسه وتعرضه للخطر في سبيل خدمته وتثبيتهم في الشجاعة والإيمان في الاضطهادات والضيقات التي كانت عليهم وحثهم على الاتحاد والتواضع متمثلين بالمسيح. وفي كلامه على تواضع المسيح أتى بما ليس في الإنجيل أوضح منه من الكلام على تجسد المسيح وآلامه وارتفاعه. ثم دعاهم إلى الفرح ونبههم على وجوب أن يكون فرحهم في الرب وحذرهم من أن يدخل بينهم المعلمون الماثلون إلى الرسوم اليهودية القائدون لهم إلى الاتكال على الأمور الحسية الدنيوية فحثهم على أن يتكلموا على المسيح وحده وأن يتقدموا في الحياة الروحية متوقعين ثواب يوم القيامة العظيم. ولم يذكر في هذه الرسالة شيئاً من الملامة إلا حين أشار إلى الاختلاف بين امرأتين من الكنيسة سماهما وطلب أن تتفقا وسأل مساعدة شريكه واكليمندس على ذلك. ثم دعاهم أيضاً إلى الفرح والاتحاد والثبات والحلم والقناعة وممارسة الفضائل المسيحية وكرر شكره لهم على كرمه عليه. وختم رسالته بالسلام والبركة. وهذه الرسالة رقيم من صديق إلى أصدقائه في الرب كتبه أسيراً في وحدته وضيقته وريبه في مستقبله وأوضح فيه رقته عليهم بدون التفات إلى ترتيب المواضيع بدون الاقتباس من العهد القديم وإيراد البراهين على صحة تعليمه. وهي تزيد اعتبارنا لكاتبها لشفقته على أولاده الروحيين وشجاعته في الخطر وغيرته للمسيح وإنجيله وهي تشهد لقوة الإيمان المسيحي بأنه يعضد النفس في أشد الخطوب.

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو        

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

المقدمة وفيها خمسة فصول

الفصل الأول: في كاتب هذه الرسالة

في هذه الرسالة تصريح بأن بولس الرسول هو كاتبها (ص ١: ١) وأن تيموثاوس كان أحد رفقائه يوم كتبها (ص ١: ١ و٢: ١٩). وهي تدل على أنه كان مسجوناً يومئذ (ص ١: ٧). وعلى أنه نادى بالإنجيل قبل ذلك في مكدونية (ص ٤: ١٥) وهذا كله على وفق الواقع ويمنع كل ريب في أن بولس كاتبها. وتعليم الرسالة وأسلوب تأليفها وما يتعلق بذلك موافقة لما عهد من هذا الرسول في غيرها من رسائله.

الفصل الثاني: في مدينة فيلبي

كانت مدينة فيلبي من أكبر مدن مكدونية وهي على نهر اسمه كنجس أو كنجيتيس وهي على أمد تسعة أميال من البحر في سهل واسع مخصب يرتفع ١٦٠٠ قدم عن سطح البحر وكانت ميناها نيابوليس واسمها اليوم كافالا. وسميت فيلبي نسبة إلى فيلبس ملك مكدونيا أبي اسكندر الكبير إكراماً له لأنه جدّد بناءها وحصّنها سنة ٣٥٥ ق. م وكان اسمها قبل ذلك دِيتُم. واشتهرت لقربها من مناجم الذهب التي كان فيلبس يستخرج منها نحو ألف وزنة في السنة ولكونها على الطريق السلطانية بين أوربا وأسية ورومية وبزنتيوم المعروفة اليوم بالقسطنطينية. استولى عليها الرومانيون سنة ١٦٨ ق. م وهي السنة التي أخذوا فيها مكدونية من برسيوس بن فيلبس وآخر ملوك مكدونية. وجعلها أوغسطس قيصر مهجراً رومانياً تذكاراً للحرب العظيمة التي حدثت في جوارها وغلب فيها بروتوس وكاسيوس سنة ٤٢ ق. م ونشأ عن ذلك أن تحولت الجمهورية الرومانية ملكية. وأسكنها أوغسطس كثيراً من الجنود الرومانية وأعطاهم كل حقوق سكان مدينة رومية (انظر تفسير أعمال ١٦: ١٢). وليس اليوم من هذه المدينة سوى أطلالها. وكان بعض سكانها في أول ما أتى بولس إليها رومانيين وبعضهم يونانيين من المكدونيين وكان الفريقان من الوثنيين وكان فيها أيضاً قليلون من اليهود لم يكن عددهم كافياً لأن يكون لهم مجمع فيها ولكنهم كانوا يصلون في محل خارج المدينة على شاطئ النهر ليس فيه بناء. وكانت اللغة الغالبة في فيلبي وقتئذ اليونانية وكانت لغة الحكومة فيها لاتينية.

الفصل الثالث: في كنيسة فيلبي

أسس بولس كنيسة فيلبي في سفره الثاني للتبشير سنة ٥٢ وهي أول مدينة بلغها من مدن مكدونية إجابة لما رآه في الرؤيا في ترواس وهي أنه رأى «رَجُلاً مَكِدُونِيّاً يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا» (أعمال ١٦: ٩). ورافقه وقتئذ سيلا وتيموثاوس والمرجح أن لوقا رافقه أيضاً كما يستدل من كلامه في (أعمال ١٦: ١٠) وكان بولس ينادي بالإنجيل كعادته لليهود أولاً فكانت مناداته لهم في فيلبي خارج المدينة على شاطئ نهر كنجس. وكانت نتيجة وعظه هنالك أن آمنت ليديا واعتمدت هي وأهل بيتها. وفي تلك المدينة أخرج روح العرافة من جارية كانت تتبعهم أياماً كثيرة وتزعج بولس بصراخها فكانت عاقبة ذلك أن مواليها الوثنيين غضبوا لأنهم خسروا ما كانوا يربحونه من عرافتها فاشتكوا على بولس وسيلا إلى ولاة المدينة فألقيا في السجن بعدما جُلدا لكنهما أُطلقا من قيودهما ليلاً بمعجزة. وكان تأثير تلك المعجزة وتعليم بولس أن آمن حارس السجن الوثني واعتمد هو وأهل بيته. ومع أن الولاة أطلقوهما من السجن استحسنا أن يتركا المدينة إجابة لطلبهم. واجتمعا قبل ذهابهما مع الإخوة في بيت ليديا وعلماهم وعزياهم وحينئذ غُرست هنالك أول كنيسة إنجيلية في أوربا فنمت من ذلك الوقت إلى أن كُتبت إليها هذه الرسالة وكان فيها يومئذ أساقفة وشمامسة (ص ١: ١) وكان ذلك كله في نحو ١١ سنة. وبعد مضي خمس سنين (شغل بولس أكثرها في كورنثوس وأفسس) زارها سنة ٥٧ ب. م يوم هرب من هيجان عبدَة أرطاميس عليه في أفسس والأرجح أنه هنالك كتب الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (أعمال ١٩: ٢١ و٢٠: ١ و٢) ثم زارها سنة ٥٨ وهو راجع من أخائية إلى أورشليم وركب البحر من نيابوليس (أعمال ٢٠: ٦).

ولنا من هذه الرسالة أن عمل الإنجيل نجح هنالك كثيراً على رغم ما حدث من الضيق الشديد وأن الرسول بحضوره وكتابته ورُسلائه قدر أن يعزيهم أحسن التعزية وأنهم كانوا يحبونه محبة وافرة فشكر الله على مشاركتهم في الإنجيل من أول يوم دخل فيه فيلبي إلى يوم كتابة هذه الرسالة (ص ١: ٥) وأنه اشتاق إلى جميعهم في أحشاء يسوع المسيح (ص ١: ٨) وشهد بأنهم أطاعوه في كل حين ليس في حضوره فقط بل في غيابه أيضاً (ص ٢: ١٢). وكان يرجو أن يرسل إليهم تيموثاوس سريعاً لكي تطيب نفسه إذا عرف أحوالهم (ص ٢: ١٩) وشهد أيضاً بأنهم هم وحدهم من كل كنائس مكدونية شاركوه في أمر العطاء والأخذ (ص ٤: ١٥). وإنهم أرسلوا إليه نفقة بيد أبفرودتس وهو في السجن (ص ٤: ١٧) فجروا بذلك على مقتضى فعلهم السابق حين أرسلوا إليه ما يخفف ثقل ضيقه وهو في تسالونيكي (ص ٤: ١٦) ونستنتج من كل ذلك أن الكنيسة كانت ناجحة كل النجاح.

الفصل الرابع: في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها

كتب الرسول هذه الرسالة من رومية وهو في السجن وقد ذُكرت بداءة سجنه في تلك المدينة في (أعمال ٢٨: ١٦ و٢٠ و٣٠ و٣١). وأشار إليه في هذه الرسالة (ص ١: ٧ و١٣ و١٤). والذي يدل على أنها كُتبت وهو مسجون في رومية لا في قيصرية ذكره فيها بيت قيصر (ص ٤: ٢٢) ودار الولاية (ص ١: ١٣). والمرجح أن المراد بدار الولاية ثكنة الحرس الذين كانوا حرس الأمبراطور. وأما زمن كتابتها فآخر السنتين اللتين هما مدة سجنه الأول في رومية أي سنة ٦٣ ب. م. والدلائل على ذلك قوية ومنها توقعه سرعة الحكم بدعواه (ص ١: ٢٠ و٢: ٢٢). وأمله أن يأتي إلى فيلبي بعد قليل ويشاهد الإخوة (ص ٢: ٢٤). ومنها أنه مضى وقت كافٍ لكي يسمع الفيلبيون نبأ سجنه وأن يرسلوا إليه أبفرودتس وأن يبلغهم نبأ وصوله إلى رومية واعتراء المرض الشديد إياه وإنبائهم بولس باضطراب أفكارهم من أمر أبفرودتس. وما ذُكر يقتضي أربعة أسفار بين رومية وفيلبي وكان ذلك يشغل وقتاً طويلاً مع الوقت الذي لا بد منه بين كل نبأين (ص ٢: ٢٦). ومنها أن نبأ سجنه انتشر كثيراً في المملكة الرومانية وآل إلى تقدم الإنجيل (ص ١: ١٢). ومنها أن القسوة كانت عليه وقت كتابة هذه الرسالة أشد منها في أول مدة سجنه (قابل بما في أعمال ٢٨: ٣٠ بما في ص ١: ٢٩ و٣٠ وص ٢: ٢٧). ونعلم من التاريخ الروماني أن برص رئيس المعسكر في سنة ٦٠ ب. م الذي تسلم بولس عند وصوله إلى رومية ورفق به مات بعد تلك السنة بقليل في سنة ٦٢ وأُقيم تيجالينس موضعه وهو ممن اشتهروا بالنفاق والقسوة. وكان نيرون قد طلق امرأته أكتافيا وأخذ يوبيا حظية وهي يهودية الأصل فكانت بالطبع عدواً لبولس. فإذا حسبنا أن بولس وصل إلى رومية سنة ٦١ ب. م فسنتا سجنه الأول انتهتا في سنة ٦٣ ب. م فالمرجح أن الرسالة كُتبت قُبيل هذا الوقت وإن وقت محاكمته وإطلاقه مدة قصيرة كما ذهب إليه بعض المؤرخين فإذاً بولس كتب هذه الرسالة بعدما كتب رسالته إلى أفسس ورسالته إلى كولوسي ورسالته إلى فليمون.

الفصل الخامس: في غاية هذه الرسالة ومميزاتها

لم تكن غاية هذه الرسالة دفع الضلالات في التعليم كما كانت غاية رسالته إلى الغلاطيين ولا إصلاح الخلل في السلوك كما كانت غاية الرسالة الأولى إلى كورنثوس ولا تعليم شيء في ما يتعلق بنظام الكنيسة مع أنه فيها بعض أسماء خدم الكنيسة ولا نظم قواعد الإيمان مع أنه ذكر جلال المسيح وتواضعه وأشار إلى الفرق بين الناموس والنعمة.

فالغاية إظهار محبته المسيحية وشكره على ما أتاه الفيلبيون في تلك الأثناء من العطايا التي كانت علامة اعتبارهم إياه وسداً لعوزه في السجن إذ لم يكن يستطيع العمل كعادته لإعالة نفسه وإظهار عواطفه لهم كما أظهرها لأهل تسالونيكي في رسالته الأولى إليهم. ومما جعله ممنوناً لهم أكثر ما كان ممنوناً لأهل تسالونيكي أنهم أظهروا مراراً كثيرة قبل ذلك عنايتهم بحاجاته الجسدية. وأراد أن ينبئهم بما يطمئنون به من أمره علاوة على إعلان شكره لهم على عنايتهم به وبيان أنه لم ييأس لكثرة ضيقاته وأخطاره بل إنه يتحقق نجاح الإنجيل بواسطة ذلك وبغية أن يجعلهم مطمئنين من جهة رسولهم أبفرودتس الذي لفرط خدمته إياه اعتراه مرض شديد وكان حينئذ قد أبلّ من مرضه وبيان ممنونيته لهم على عناية رسولهم به وإنكاره نفسه وتعرضه للخطر في سبيل خدمته وتثبيتهم في الشجاعة والإيمان في الاضطهادات والضيقات التي كانت عليهم وحثهم على الاتحاد والتواضع متمثلين بالمسيح. وفي كلامه على تواضع المسيح أتى بما ليس في الإنجيل أوضح منه من الكلام على تجسد المسيح وآلامه وارتفاعه.

ثم دعاهم إلى الفرح ونبههم على وجوب أن يكون فرحهم في الرب وحذرهم من أن يدخل بينهم المعلمون الماثلون إلى الرسوم اليهودية القائدون لهم إلى الاتكال على الأمور الحسية الدنيوية فحثهم على أن يتكلموا على المسيح وحده وأن يتقدموا في الحياة الروحية متوقعين ثواب يوم القيامة العظيم.

ولم يذكر في هذه الرسالة شيئاً من الملامة إلا حين أشار إلى الاختلاف بين امرأتين من الكنيسة سماهما وطلب أن تتفقا وسأل مساعدة شريكه واكليمندس على ذلك. ثم دعاهم أيضاً إلى الفرح والاتحاد والثبات والحلم والقناعة وممارسة الفضائل المسيحية وكرر شكره لهم على كرمه عليه. وختم رسالته بالسلام والبركة.

وهذه الرسالة رقيم من صديق إلى أصدقائه في الرب كتبه أسيراً في وحدته وضيقته وريبه في مستقبله وأوضح فيه رقته عليهم بدون التفات إلى ترتيب المواضيع بدون الاقتباس من العهد القديم وإيراد البراهين على صحة تعليمه. وهي تزيد اعتبارنا لكاتبها لشفقته على أولاده الروحيين وشجاعته في الخطر وغيرته للمسيح وإنجيله وهي تشهد لقوة الإيمان المسيحي بأنه يعضد النفس في أشد الخطوب.

التالي
زر الذهاب إلى الأعلى