إنجيل متى | 22 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الثاني والعشرون
١ «وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً».
لوقا ١٤: ١٦ ورؤيا ١٩: ٧، ٩
تابع المسيح تعليمه بأمثال، فضرب مثلاً في هذا الأصحاح يشبه في بعض أموره المثل الذي ذكر في لوقا ١٤: ١٥ – ٢٤. وهما مثلان مختلفان، لأن ذاك ضُرِب في بيرية في بيت فريسي وهذا في أورشليم في الهيكل. وقصد المسيح في ذاك دعوة الناس إليه. وقصده في هذا دينونتهم على رفضه. وهدف هذا المثل كهدف مثل الكرم، أي إظهار شر اليهود في رفض المسيح، وعقابهم على ذلك. والفرق بين المثلين أن الله في الأول طلب ثمار البر، وفي الثاني عرض البركات على الناس. في الأول خاطب اليهود كأُمة، وفي الثاني خاطبهم كأفراد. وفي الأول رمز إلى المسيح بأنه ابن رب الكرم، وفي الثاني بملك ابن ملك.
٢ «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لابْنِهِ».
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَات أي بركات الإنجيل التي بشر بها المسيح.
يُشْبِهُ إِنْسَاناً أي أحوال إنسان وأعماله. وتقوم تلك المشابهة بالاستعداد، والدعوات، وقبول كل المدعوين الدعوة أو رفضها، وفرح كل من قابليها.
عُرْساً كثيراً ما يشبِّه الكتاب المقدس بركات العهد الجديد بعرس (إشعياء ١٥: ٦ و٦١: ١٠ و٦٢: ٥ وهوشع ٢: ١٩ ومتّى ٩: ١٥ ويوحنا ٣: ٢٩ وأفسس ٥: ٢٢ و٢كورنثوس ١١: ٢). ووجه الشبه بين وليمة العرس والإنجيل: الابتهاج وجمع الأصدقاء. ويحق للإنجيل أن يشبه عرساً لأن فيه مسرات، فهو بشارة غفران وسلام ورجاء ومصالحة مع الله ورفقته، وبكل بركات العهد الجديد، ومواعيد السماء، وتعزية الروح القدس. ولأن فيه إظهار محبة المسيح لكنيسته ومحبة الكنيسة للمسيح، ومسرة كل منهما بالآخر، واتحادهما الدائم. وخلاصة ذلك أن بركات الإنجيل تشبه وليمة، ولزيادة ما فيه من المسرة يشبه وليمة عرس، ولما فيه من الشرف والعظمة يشبه وليمة عرس ملك، كوليمة أحشويرش التي «أَظْهَرَ غِنَى مَجْدِ مُلْكِهِ وَوَقَارَ جَلاَلِ عَظَمَتِهِ» (أستير ١: ٤) لأن العريس هو المسيح والعروس هي كنيسته. ومدة التبشير في الإنجيل زمان الخطبة.
ويقول سفر الرؤيا إن اقتران المسيح بالكنيسة لا يكون إلا بعد مجيئه الثاني (رؤيا ١٩: ٧). فيصح أن نحسب الوليمة المذكورة هنا وليمة خطبة المسيح للكنيسة على الأرض، ووليمة الاقتران في السماء (أفسس ٥: ٢٧). وقد عبَّر الكتاب عن الوليمتين بالعرس.
ومعروفٌ أن الأمور الدنيوية تعجز عن إيضاح الأمور الروحية، ولذلك ضاق المثل هنا ببيان القصد، لأن أعضاء الكنيسة الحقيقيين فيه هم المدعوون الذين قبلوا الدعوة ولبسوا ثياب العرس، وكلهم يشكِّلون العروس فيها.
٣ «وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا ٱلْمَدْعُوِّينَ إِلَى ٱلْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا».
لا تزال العادة في الشرق حتى اليوم أن يحمل بعض ذوي العروس بطاقة دعوة يذهبون بها إلى بيوت الأصدقاء والجيران يدعونهم إلى العرس قائلين «عقبال عند الجميع».
عَبِيدَه ظن البعض أن العبيد هم جماعة الأنبياء (متّى ٢١: ٣٦) وهم الذين دعوا الأمة اليهودية لتقبل مراحم الله وبركاته. وظنهم آخرون خدام الإنجيل في أيام المسيح قبل صلبه كيوحنا المعمدان والاثني عشر رسولاً والتلاميذ السبعين، فهؤلاء كلهم نادوا «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ الله» (مرقس ١: ١٥) وهو المرجَّح. فهي دعوة ثانية، تكرر دعوة الأنبياء الأقدمين جرياً على العادة الباقية إلى هذا اليوم في الولائم، وهي أن المدعو يُدعى ثانية في ساعة الوليمة (أستير ٥: ٨). فيتضح من ذلك أن دعوة المسيح ليست جديدة، بل هي تكميل للدعوة الأولى. فمنذ بدأ أن يكون اليهود أمة قام نبيٌ بعد نبي ليخبر الأمة بإتيان ملكها ومنقذها، ويحثها على الاستعداد لقبوله.
وهذا المثل بُني على عادة الملوك الأرضيين في ولائمهم، فلم يكن يليق بشرف الملك أن يرسل ابنه ليدعو الناس. ولكن ابن الله ملك السموات والأرض تنازل أن يدعو العالم قائلاً: تعالوا، لأن كل شيء مُعدٌّ.
ٱلْمَدْعُوِّينَ هم البشر، وأولهم الأمة اليهودية.
فَلَمْ يُرِيدُوا من الغريب أن المدعوين في المثل يرفضون مثل هذه الدعوة الشريفة المبهجة. والعقل لا يسلم بذلك الرفض إلا بأن أولئك المدعوين كانوا يكرهون تسلط ذلك الملك، وغير راضين أن يظهروا الصداقة له أو أن يقبلوا دعوته لهم بحضور وليمته. فرفضوا الدعوة ليعلنوا بغضهم له وعصيانهم عليه. ويشبه هذا انفعالات أكثر اليهود ضد ملكوت المسيح الروحي، فكان ما أظهروه للمسيح من أعمالهم كما لو قالوا «لا نريد أن هذا يملك علينا» فعدم محبة المسيح ومُلكه سبب رفض دعوته للخلاص.
٤ «فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى ٱلْعُرْسِ».
أمثال ٩: ٢
عَبِيداً آخَرِين الأرجح أن هؤلاء هم الرسل وغيرهم من المبشرين الذين نادوا بالإنجيل بعد صلب المسيح وصعوده، مبتدئين بذلك منذ يوم الخمسين، كاستفانوس وبرنابا وبولس وأمثالهم ممن نادوا بيسوع والقيامة. لكن يحتمل أنه أراد بإرسال العبيد الآخرين تكرير الدعوة إظهاراً لطول أناته ورغبته في خلاصهم.
قُولُوا لِلْمَدْعُوِّين أشار بذلك إلى أن دعوة الإنجيل عامة شاملة لكل البشر، كقوله «مَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا» (رؤيا ٢٢: ١٧).
ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي كناية عن البركات الروحية من السلام والمسرة بالمسيح. فهو مثل قوله بفم النبي «يَصْنَعُ رَبُّ الْجُنُودِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ فِي هذَا الْجَبَلِ وَلِيمَةَ سَمَائِنَ، وَلِيمَةَ خَمْرٍ عَلَى دَرْدِيّ، سَمَائِنَ مُمِخَّةٍ، دَرْدِيّ مُصَفًّى» (إشعياء ٢٥: ٦).
ويذكر البشير لوقا ٢٤: ٢٢ – ٢٤ هذا المثل ذاته ويضيف إليه أنه لا يزال يوجد مكان. وهذا إشارة إلى أن المدعوين ليسوا يهوداً فقط، بل تعم الدعوة الأمم، ويُفسح لهم المجال لقبول الإنجيل.
كُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ أي أن الآب مستعد أن يقبل الخاطئ، والابن أن يشفع فيه، والروح القدس أن يقدسه، وأن في الإنجيل كل ما تحتاج النفس إليه. وابتدأ الاستعداد للوليمة الإنجيلية زمن الناموس في رسومه وذبائحه وأعياده «ظل الخيرات العتيدة» وأشار المسيح إلى ما في هذه الوليمة من شبع للنفس (يوحنا ٦: ٥١ – ٥٩). وفي خطاب بطرس يوم الخمسين تمام الإيضاح بقوله «كل شيء معد» (أعمال ٢) (انظر أيضاً أعمال ٣: ١٩ – ٢٦ و٤: ١٢).
٥، ٦ «٥ وَلٰكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، ٦ وَٱلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ».
رومية ٢: ٤ وعبرانيين ٢: ٣
في هذين العددين بيان معاملة الناس للإنجيل مما فعله اليهود إلى ما يعمله أكثر الناس إلى هذا اليوم. وينقسم أهل العالم إلى قسمين:
(١) الذين لا يبالون بالأمور الروحية، وينهمكون بالأمور الدنيوية غير المحرمة، فإثمهم بأنهم اكتفوا بها ولم يلتفتوا إلى الروحيات، وهم المقصودون بالذين «تهانوا ومضوا الخ». وأمثال هؤلاء الذين دعاهم حزقيا الملك إلى عيد الفصح في أورشليم (٢أخبار ٣٠: ١٠) ومنهم ديماس الذي ترك بولس «إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ َ» (٢تيموثاوس ٤: ١٠) وأكثر الناس من هذا القسم. و
(٢) الذين يقاومون الإنجيل فعلاً لأنه يقاوم كبرياءهم وبرهم الذاتي وأرباحهم وتعصبهم، وهم المشار إليهم بالذين رفضوا دعوة الملك أولاً ثم أعلنوا عداوتهم بعصيانهم جهاراً وقتلوا عبيده. وذُكر من أمثال هؤلاء في سفر الأعمال أعمال ٤: ٣ و٥: ١٨، ٤٠ و٧: ٥٨ و٨: ٣ و١٢: ٣ و١٤: ٥، ١٩ و١٧: ٥ و٢١: ٣٠ وفي ١كورنثوس ٤: ٣ وفي ١تسالونيكي ٢: ٢، ١٤ – ١٦. وكان استفانوس ويعقوب من أول جيش الشهداء الذين شُتِموا وقُتِلوا.
٧، ٨ «٧ فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ٨ ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا ٱلْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا ٱلْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّين».
دانيال ٩: ٢٦ ولوقا ١٨: ٢٧ ومتّى ١٠: ١١، ١٣ وأعمال ١٢: ٤٦
أشار هنا إلى خراب أورشليم
جُنُودَهُ القصد بهؤلاء عساكر الرومان، فكل جيوش الأرض جنود الله، بمعنى أنهم يجرون مقاصده عمداً أو اتفاقاً أو على الرغم من أنفسهم. فإنه سمى الأشوريين «قضيب غضبه» (إشعياء ١٠: ٥، ٦). وسمى نبوخذنصر ملك بابل «عبده» (إرميا ٢٥: ٩) مع أن الله عاقب نبوخذنصر على ما فعله (إرميا ٥١: ١١). ولعل القصد بجنود الله ملائكته الذين يجرون عقابه غير منظورين (١أخبار ٢١: ١٥، ١٦ و٢أخبار ٣٢: ٢١).
مَدِينَتَهُمْ كانت أورشليم أولاً مدينة الملك العظيم أي الله، لكنها صارت بعد ما رفض اليهود ابنه «مدينتهم» (لوقا ١٣: ٣٤، ٣٥) وما قيل هنا مثل ما قيل في متّى ٢١: ٤١ وخربت تلك المدينة بعد ٤٠ سنة من هذا الكلام.
فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّين هم أثبتوا على أنفسهم أنهم غير مستحقين لأنهم لم يقبلوا الدعوة، وصار الباقون مستحقين لأنهم قبلوها (أعمال ١٣: ٤٦). فكلا الفريقين لا يستحق الجلوس إلى مائدة الملك.
انتهى هنا الجزء الأول من هذا المثل وهو المتعلق باليهود. وباقي المثل مختص بتاريخ الكنيسة المسيحية من خراب أورشليم إلى اليوم. وقوله «العرس مستعد» أي أنه مهيأ، ويمكن قبول جميع الداخلين إليه.
٩ «فَٱذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَٱدْعُوهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ».
مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ أرسله إلى تلك المفارق لكثرة الناس فيها عادة، وذلك إشارة إلى تبشير الأمم بالإنجيل بعدما رفضه اليهود. ومن ذلك الوقت دُعي كل أمم الأرض إلى الوليمة الإنجيلية (أعمال ٢١: ٢١، ٢٢) وامتثالاً لقوله «ااذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ» ذهب فيلبس إلى السامرة وبشر هنالك. وبشر بطرس كرنيليوس الروماني ورفقاءه وعمدوهم. ونادى بولس لأهل أثينا بأن «اللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُواِ» (أعمال ١٧: ٣٠).
١٠ «فَخَرَجَ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ إِلَى ٱلطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَٱمْتَلأَ ٱلْعُرْسُ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ».
متّى ١٣: ٣٨، ٤٧
في هذا العدد وصف المجموعين بالدعوة التي ذُكرت في العدد السابق، وجُمعوا بدون امتياز بين الشريف والدنيء والغني والفقير والعالم والجاهل.
أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ لعل الأشرار هنا الذين رذائلهم ظاهرة للناس كالمرأة الخاطئة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها. والصالحين هم الأفاضل ظاهراً كنثنائيل وكرنيليوس. فقبل الأشرار ليكونوا صالحين، وقبلها الصالحون في عيون الناس ليكونوا صالحين في عيني الله.. ولعل القصد بذلك أن الدعوة الإنجيلية عامة تشمل كل أصناف الناس بغض النظر عن أحوالهم السابقة. فالشرط الوحيد هو الإيمان بأن يسوع هو المسيح. أو لعله بيان إمكان أن يكون في الكنيسة مراؤون مع المؤمنين الحقيقيين، كما مرَّ في شرح مثال الشبكة (متّى ١٣: ٤٧، ٤٨). وهذا لا يمنعه ما احتمله الكلام من المعاني السابقة. وقد يكون الشرير في نظر الناس صالحاً، لكنه في نظر الله العكس بالعكس.
فَٱمْتَلأَ ٱلْعُرْسُ لم يبطل رفض اليهود للمسيح مقاصد الله من إظهار كثرة رحمته وبهاء مجده.
١١ «فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ٱلْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ».
رومية ٣: ٤٢ و١٣: ١٤ و٢كورنثوس ٥: ٣ وأفسس ٤: ٢٤ وكولوسي ٣: ١٠، ١٢ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥ و١٩: ٨
بقية هذا المثل مختصة بالذين قبلوا الدعوة ظاهراً، ومقارنتهم بالذين قبلوها حقيقة.
دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ميَّز الملك نفسه لا الخدم بين المستحق وغيره من المتكئين. وهذا إشارة إلى أن الله وحده يعرف قلوب الناس، فيميز بين المخلصين والمرائين. ولا شك أن الوقت المعين للفحص العظيم هو نهاية العالم كما مر في مثل الزوان (متّى ١٣: ٣٩). وأما الآن فيسير المسيح بين المنائر الذهبية (رؤيا ١٢: ١، ٢) ويميز أعمال كل من يدَّعي أنه مسيحي. وهذا هو الفحص المشار إليه في هذا المثل.
إِنْسَاناً هو الوحيد الذي وُجد غير أهل لأن يكون من المتكئين الكثيرين. ولكن لا يلزم من ذلك تعيين عدد المرائين بالنسبة إلى عدد المخلصين في الكنيسة. وإن كان لوحدته معنى، فهي تشير إلى تدقيق فحص الملك حتى لا يغفل عن واحد بين كثيرين. وذكر المرائي بين المخلصين يدل على أن القصد بتلك الوليمة هي الكنيسة على الأرض، لأنه لا يمكن لأحدٍ من المرائين أن يحضر وليمة السماء لأنه «يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِينَ هُمْ لَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٩).
لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ تتضمن الدعوة إلى العرس أن يأتي المدعو لابساً الأثواب اللائقة بالعرس. وكان عند الملوك الأقدمين والأغنياء جزء كبير في خزائن ثروتهم ملبوسات نفيسة (متّى ٦: ١٩ ويشوع ٧: ٢١ وقضاة ١٤: ١٢ و٢ملوك ٥: ٥ وأيوب ٢٧: ١٦ ويعقوب ٥: ٢)، فجاء في التاريخ أنه كان للوكولوس أحد أغنياء الرومان خمسة آلاف رداء. وأن خمسين فارساً انكسرت بهم السفينة فنجوا بالسباحة وأتوا إلى غلياس، أحد سكان جزيرة صقلية فألبسهم مما في خزانته من الثياب اللباس الكامل. وكان من عادة الملوك والأعيان أن يهبوا لأصدقائهم الثياب الفاخرة علامة مسرتهم بهم، وكان الملوك والخلفاء يقدمون خلعاً، وكان من لا يقبل تلك الهبة يُعد من محتقري واهبها (تكوين ٤١: ٤٢ و٤٥: ٢٢ و٢ملوك ٥: ١٥ وأستير ٦: ٨ ودانيال ٥: ٧).
والأرجح أن الملك المذكور في المثل وهب لباس العرس لكل المدعوين، كما وهب ياهو ملك إسرائيل لعبدة البعل (١صموئيل ١٨: ٤ و٢ملوك ١٠: ٢٢) ولولا ذلك لم يسكت الذي ليس عليه لباس العرس عن الاعتذار عندما سأله الملك «كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟» فقد كان حضوره بملابسه العادية إهانة متعمَّدةً للملك. ولم يفسر المسيح قصده بلباس العرس، لكن كلامه يدل على أنه شيءٌ من الاستعداد لا بد منه في حضور وليمة عرس الحمَل السماوية، وأنه لا بد من أن يكون قبل حضور الوليمة. ومما نعلمه من آيات أُخرى في الكتاب المقدس هو أن برَّنا الذاتي خرقة نجسة (إشعياء ٦٤: ٦) وأن الله أعد لنا ثياباً بيضاً (رؤيا ٣: ٥ و٦: ١١ و٧: ٩) وهي «الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ» (عبرانيين ١٢: ١٤ ورؤيا ١٩: ٨ ورومية ١٣: ١٤ ولوقا ١٥: ٢٢ وإشعياء ٦١: ١٠ وغلاطية ٣: ٢٧) قداسة من «غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ ٱلْحَمَلِ» (رؤيا ٧: ١٤) وهي «بر الله» (رومية ١: ١٧) وذلك البر بالمسيح (رومية ١٠: ٤ وغلاطية ٣: ٢٧ و٢كورنثوس ٥: ٢١) ونحصل عليه بالإيمان به (في ٣: ٩) وهو «هبة أو عطية مجانية» (رومية ٣: ٢٤) وهو «بر ينشئُ فينا براً» (رومية ٨: ٤).
ورأى بعضهم أن القصد بلباس العرس بر المسيح، وآخر أنه تقدس الروح القدس. وكلاهما صحيح، لأن الأمرين متلازمان. والخلاصة أن القصد بالإنسان الذي عليه لباس العرس هو الذي يتكل على بره الذاتي للخلاص محتقراً البر الذي أعده الله.
١٢ «فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ».
يَا صَاحِبُ هذه الكلمة هنا كلمة لطف موجهة من شخص أعلى إلى أدنى.
كَيْفَ دَخَلْتَ الخ سؤال الملك وسكوت المسئول يدلان على أن الملك أعد لباساً لكل مدعو، فلم يكن لذلك الإنسان عذر. فإهماله لباس العرس إهانة للملك، فندم حتى لم يستطع أن ينطق بكلمة. وفي هذا العدد وما بعده إشارة إلى ما يحدث يوم الدين، فكل خاطئ لا يقبل في حياته بر المسيح يسأله الله في اليوم الأخير «كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟» ويكون يومئذٍ محكوماً عليه من ضميره، فيقف بلا عذر أمام منبر الله مع أنه ربما جلس مدة حياته الأرضية على مائدة الرب بين المخلصين، ولم يعرف أحد منهم أنه مراءٍ. ولكن حين يأتي المسيح للدينونة يُعرف حالاً ويعاقب.
إن يسوع يدعونا لنأتي إليه بما نحن عليه بلا انتظار أن نكون أكثر أهلية لقبوله. ولكن إن أتينا إليه بقلوبنا، فلن نبقى على ما نحن عليه، لأنه سيغيِّرنا.
١٣ «حِينَئِذٍ قَالَ ٱلْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».
متّى ٨: ١٢
لِلْخُدَّامِ هم غير العبيد الذين دعوا الناس إلى الوليمة. فالعبيد هم المبشرون بالإنجيل، والخدام هم الملائكة (متّى ١٣: ٤١، ٤٩).
خُذُوهُ يُفصَل المراؤون على الأرض عن المخلّصين في اليوم الأخير إلى الأبد، ويُمنعون من السماء (متّى ١٣: ٤٨ و٢تسالونيكي ١: ٩).
ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّة في داخل قصر الملك نور وشبع وفرح، وفي الخارج ظلمة وجوع وحزن. والقصد بالظلمة الخارجية شقاء النفس واليأس، نتيجة منع الأثيم من حضرة الله.
ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ (انظر متّى ٨: ١٢) وهذا دليل على تشديد قصاص الملك لذلك الإنسان على إهانته إياه، وإهانته العريس والعروس والمتكئين أيضاً. وفي ذلك بيان لعاقبة المرائين في الظلمة الجهنمية.
١٤ «لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُون».
متّى ٢٠: ١٦
(انظر شرح متّى ٢٠: ١٦). كثيرون يُدعون ببشرى الإنجيل، وهم ثلاث فرق: بعضهم يستخفون بها ويفضلون العالم عليها. وبعضهم يبغضون الحق ويقاومونه. وآخرون يعترفون بالحق ظاهراً ولا يقبلونه في قلوبهم. وقليلون يقبلون الدعوة لخلاص نفوسهم ويثبتون بذلك صحة اختيارهم.
وأمثال القسمين جماعة البالغين العبرانيين الذين خرجوا من مصر، والاثنين اللذين دخلا أرض كنعان (١كورنثوس ١٠: ١ – ١٠ ويهوذا ٥). وجيش جدعون فإنه دُعي إلى الحرب وكان ٣٢ ألفاً، فانتخب منه ٣٠٠ فقط ليكونوا أنصاراً لجدعون وشركاء نصره (قضاة ٧) ودُعي كل اليهود وانتُخب قليلون منهم للحياة لأن أكثرهم فضَّل خطاياه على المخلّص. ودُعي الأمم للخلاص أيضاً (إشعياء ٤٥: ٢٢) فبشروا بالإنجيل أمة بعد أخرى، وإلى الآن لم يقبله إلا القليلون منهم فاثبتوا أنهم انتُخبوا. وهذه الآية خلاصة المثل كله لا خلاصة الجزء الأخير منه. فليس القصد بها أن أكثر أعضاء الكنيسة غير منتخبين وأنهم مراؤون. فالقصد بالمدعوين هنا كل الناس الذين رفض أكثرهم نعمة الله (متّى ٧: ١٣، ١٤).
١٥ «حِينَئِذٍ ذَهَبَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ».
مرقس ١٢: ١٣ الخ ولوقا ٢٠: ٢٠ الخ
قال لوقا «فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ الْوَالِي» (لوقا ٢٠: ٢٠). وكان الفريسيون قبل ذلك يسألون المسيح كما اتفق لكل منهم. ولكنهم اتحدوا وتشاوروا بعد ذلك واختاروا مسائل معينة اتفقوا عليها، ظنوا أنه لا بد أن يقع ولو في جواب واحدة منها، ليجدوا علّة يشتكون بها عليه إلى بيلاطس الوالي كمهيج الناس على الحكومة. واختاروا أن يسألوه بواسطة أناس يتظاهرون بأنهم يبتغون الاستفادة منه.
ولو وجدوا علة ليشكوا يسوع إلى الوالي في هذا الشأن لكان تقديمهم إياها من أفظع أعمال الرياء، لأنهم كانوا يبغضون تسلط الرومان، ورغبوا في مسيح سياسي يقودهم إلى طرح نير الاستعمار الروماني. ومن أول أسباب رفضهم أن يسوع هو المسيح هو عدم موافقته إياهم على ذلك. فطلبوا أن يجدوا عليه ذنباً هم مرتكبوه في قلوبهم. وكانت غايتهم مما أعدوه من المسائل له أن يلجئوه إلى جواب يجعل الشعب يكرهه، فيقوم عليه أو يكرهه الوالي فيعاقبه.
يَصْطَادُوهُ اصطياد الطيور يتم بشرك أو فخ. ورغب الفريسيون اصطياد المسيح فيعرضونه لغضب الشعب أو غضب الوالي. وتوقعوا ذلك بثلاث مسائل
(١) سياسية دينية.
(٢) أخلاقية تتعلق بالطلاق.
(٣) علمية تتعلق بتفسير كتبهم الدينية. فالأولى قدمها الفريسيون والهيرودسيون، والثانية قدمها الصدوقيون، والثالثة قدمها أحد الكتبة. فغلبهم المسيح كلهم وأرجعهم خائبين.
١٦ «فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ بِٱلْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ ٱلنَّاسِ».
لوقا ٢٣: ٧
تَلاَمِيذَهُمْ أي الذين هم يعلمونهم، وقد أرسلوهم إخفاءً لما أضمروه له.
ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ هم فرقة سياسية من اليهود غايتها الانتصار للعائلة الهيرودسية. والمظنون أنهم كانوا يبتغون أن أحد تلك العائلة يملك في أورشليم بدل الوالي الروماني، كما كان في أيام هيرودس الكبير. وتظاهروا بفرط المحبة للرومان والرغبة في طاعتهم بغية الحصول على غايتهم. وكان بين هؤلاء والفريسيين عداوة شديدة. ومع ذلك اتفقوا على الإضرار بالمسيح، فادَّعوا أنهم اختلفوا في مسألة، رفعوا الأمر إليه ليحكم بينهم.
تُعَلِّمُ… بِٱلْحَقِّ هذا مدح باللسان يخالف ما في القلب. وغايتهم من هذا التملق أن يسر المسيح بهم ويجيبهم بلا حذر. وكثيراً ما قاد التملق الناس إلى الهلاك، وهو أشد خطراً من التهديد (مزمور ٥٥: ٢١). فعلينا أن نحذر المملقين.
وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ أي أنك لا تخشى أن تتكلم بالحق، وأنك مستقل الأفكار فحكمك بلا هوى.
إِلَى وُجُوهِ أي لا تنطق بشيء خلاف اعتقادك إرضاءً للسامعين. فقولهم هذا حق، وإن كان قصدهم الخداع، فلم يخطر على بالهم أن المسيح يعلم أفكارهم مع أنه «لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ» (يوحنا ٢: ٢٥).
١٧ «فَقُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟».
قيصر اسم لكل إمبراطور من الرومان كفرعون لقب كل ملوك مصر. وكان الإمبراطور يومئذٍ طيباريوس الذي اشتهر بالقساوة والدناءة (ملك سنة ١٤ – ٣٧م). وكان اليهود يؤدون الجزية للرومان بالنسبة إلى أموالهم حسب إقرارهم بأقدارها (لوقا ٢: ١). وتأديتهم الجزية دليل على تسليمهم بسلطة الأجانب عليهم، وعلامة على عبوديتهم. وكان تأديتهم الجزية للرومان من أكره الأمور عندهم ولا سيما عند الفريسيين، واعتقدوا أن تأديتها لا تجوز في شريعة موسى. ففيها ما نصه: «مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكًا. لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيًّا لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ» (تثنية ١٧: ٦٥). وقامت فتن كثيرة في اليهودية لأخذ الرومان تلك الجزية من أهلها (أعمال ٥: ٣٧) فلو سئل الفريسيون هذا السؤال لأجابوا «لا». ولو سئل الهيرودسيون لأجابوا «نعم» إرضاءً للرومان. فلو قال المسيح «يجوز» لشكا عليه الفريسيون إلى الشعب وأثبتوا أنه خائن لأمته، فيستحيل أن يكون مسيحهم المتوقع أنه يرفع نير الرومان عنهم، فيمكنهم أن يقضوا عليه بلا معارض من الشعب. ولو قال «لا يجوز» لشكاه الهيرودسيون إلى بيلاطس الوالي بحُجَّة أنه عاصٍ يهيج الفتن على قيصر، كما كذب بعضهم بعد ذلك «وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ» (لوقا ٢٣: ٢).
١٨ «فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟».
أظهر المسيح بهذا الجواب أنه يعلم ما في القلوب، وذلك علم مختص بالله. ودعاهم «مرائين» بدون نظر إلى وجوههم، وصدق بذلك، لأنهم كانوا كذلك. فإنهم تظاهروا بأنهم يرغبون في معرفة الحق وغايتهم أن يصطادوه بكلمة.
١٩ «أَرُونِي مُعَامَلَةَ ٱلْجِزْيَةِ. فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً».
متّى ٢٠: ٢
كشف المسيح رياءهم، وأجابهم على سؤالهم إجابةً لا تعرِّضه لمساءلة الفريقين القائمين عليه. كما علَّمهم علاوة على ذلك تعليماً مفيداً، وأظهر سمو الحكمة السماوية والعلم الإلهي.
مُعَامَلَةَ ٱلْجِزْيَةِ أي صنف النقود الذي تؤدونه جزية.
قَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً الدينار نقد روماني من الفضة (والجزية التي كانت تؤدى للهيكل شاقل أو نصف شاقل وهو نقد يهودي). وكان وجود ذلك الدينار في أيديهم جواباً لسؤالهم. فإنهم باستعمالهم له أظهروا خضوعهم لقيصر، لأنه «إذا راجت نقود ملك في بلاد، اعترف سكانها بأن ذلك الملك ملكهم». فباستعمال الفريسيين نقود الرومان أقروا بسلطان قيصر عليهم، وبيَّنوا أنهم أجازوا تأدية الجزية له.
٢٠ «فَقَالَ لَـهُمْ: لِمَنْ هٰذِهِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟».
كان مرسوماً على الدينار صورة رأس قيصر ومكتوباً حوله اسم قيصر وبعض ألقابه الشريفة.
٢١ «قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَقَالَ لَـهُمْ: أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰه».
متّى ١٧: ٢٥ ورومية ١٣: ٧ و١بطرس ٢: ١٣، ١٧
لم يترك المسيح في جابه باباً للشكوى ضده للشعب أو للحاكم الروماني، فقد حكموا قبل أن يسألوه بجواز تأدية الجزية، بدليل ما في أيديهم من عُملة قيصر، وهو إقرار بأنه ملكهم. وبذلك أجاب على مسالة أهم من مسألتهم، حيرت أفكارهم، وهي أنه هل تأدية الجزية لملك أجنبي خيانة لله أو لا؟ فظهر من كلام المسيح أنها ليست خيانة. فالقيام بالواجبات السياسية لا يلزم منه ضرورة مخالفة القيام بالواجبات لله.
أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ قوله «ما لقيصر» صدَّق على كل الواجبات السياسية، كتأدية الجزية بناءً على أن نقودها من قيصر، وأنها ترد إليه بأمره، وأن الطاعة واجبة لقيصر ولكل من يعينهم في مناصب. والكتاب المقدس يوجب الطاعة للحكومة السياسية والشريعة البشرية ضمن حدودها (رومية ١٣: ١ – ٧ و١كورنثوس ٧: ٢١ – ٢٤ وأفسس ٦: ٥ – ٨ وكولوسي ٣: ٢٢ – ٢٥ و١بطرس ٢: ١٣ – ١٧). وأفضل رعايا الملوك هم المسيحيون بالحق. والجزء الأول من جواب المسيح هو قوله «أعطوا إذاً ما لقيصر» وُجِّه للفريسيين الذين رفضوا في قلوبهم سلطان قيصر عليهم.
وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰه هذا الجزء الثاني من جواب المسيح ووجَّهه إلى الهيرودسيين الذين رغبوا في الخضوع لقيصر فكانوا في خطر أن يهملوا واجباتهم لله.. لقد كان المشتكون مختلفين في الرأي في ما بينهم، وإنما اجتمعوا معاً مؤقتاً للإيقاع به واصطياده بكلمة.
ويصدق قوله «ما لله لله» على كل الواجبات الدينية. فنفس الإنسان على صورة الله (تكوين ١: ٢٧) فيجب أن تُعطى النفس له، أي أن نقدم قلوبنا وأموالنا وخدمة أيدينا له بروح الإيمان والمحبة والطاعة. فعلينا أن نطيع حكام الأرض لأن الله أمر بذلك.
وخلاصة الجواب أنه يجب إعطاء الدينار لقيصر وإعطاء النفس لله. ويجب أن يكون كل إنسان أميناً للحاكم الأرضي وأميناً للحاكم السماوي. ولا يلزم بالضرورة أن تتناقض مطالب الحاكمَيْن. فإن تناقضا وجب أن يطاع الله أكثر من الناس (أعمال ٥: ٢٩).
٢٢ «فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا».
تَعَجَّبُوا لأنه استوفى جواب الفريقين، ولم يتمكن أحدهما من توجيه الشكوى ضده، بعد أن كانوا يظنون أنه لا يمكنه أن ينجو من الفخ الذي أخفوه له. فتحيروا من وفرة حكمته، ثم تركوه وانصرفوا في خجل مفحمين.
٢٣ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ، ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، فَسَأَلُوهُ».
مرقس ١٢: ١٨ الخ ولوقا ٢٠: ٢٧ الخ وأعمال ٢٣: ٨
صَدُّوقِيُّون ذكروا قبلاً (راجع متّى ٣: ٧) وكان أكثر رؤساء الكهنة من هذه الفرقة (أعمال ٥: ١٧).
لَيْسَ قِيَامَةٌ أنكروا قيامة الجسد لأنهم أنكروا خلود النفس (أعمال ٢٣: ٨). فإن تلاشت النفس عند الموت لم يبق باب لحياة الجسد. فملاشاة النفوس منافٍ لقيامة الأجساد. فوجه المسيح جوابه إلى الضلالة الأصلية في اعتقادهم، وبرهن من الكتب المقدسة أن موتى هذا العالم لا يزالون أحياء في عالم آخر. فخلود النفس وقيامة الجسد وثواب الأبرار وعقاب الأشرار عقائد ترتبط معاً. فمن أثبت أحدها أثبت الكل.
ومثل اعتقاد الصدوقيين في ذلك كان اعتقاد الفلاسفة الأبيقوريين الذين خاطبهم بولس في أثينا (أعمال ١٧: ١٨).
٢٤ «يَا مُعَلِّمُ، قَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ أَحَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَوْلاَدٌ يَتَزَوَّجْ أَخُوهُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيُقِمْ نَسْلاً لأَخِيهِ».
تثنية ٢٥: ٥
قَالَ مُوسَى سنَّ موسى هذه الشريعة دفعاً لانقراض العائلة، ولحفظ اسم الإنسان ونسبته بين أمته إن مات بلا نسل (تثنية ٢٥: ٥، ٦)
يُقِمْ نَسْلاً لأَخِيهِ كان إذا مات أحد بلا نسل تزوج أخوه أرملته، وسمَّي أول ولد منها باسم الميت، واعتُبر ذلك الولد وارثه وابنه. ومثال ذلك في راعوث ص ٤.
٢٥ – ٢٨ «٢٥ فَكَانَ عِنْدَنَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ، وَتَزَوَّجَ ٱلأَوَّلُ وَمَاتَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ تَرَكَ ٱمْرَأَتَهُ لأَخِيهِ. ٢٦ وَكَذٰلِكَ ٱلثَّانِي وَٱلثَّالِثُ إِلَى ٱلسَّبْعَةِ. ٢٧ وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. ٢٨ فَفِي ٱلْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ ٱلسَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ!؟».
ذكروا للمسيح حادثة من الممكنات البعيدة الوقوع، ظنها الصدوقيون اعتراضاً منافياً لإمكان القيامة. فإنهم فرضوا كأمر لا بد منه أن الموتى إن قاموا بقوا على ما كانوا عليه في هذا العالم، فيكون المتزوجون هنا متزوجين هناك. ولم يقدروا أن يتصوروا كيف تكون امرأة واحدة زوجة لسبعة في وقت واحد! فأنكروا القيامة لأنهم حسبوها مستحيلة.
لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ ذكروا ذلك لئلا يجيبهم المسيح بأنها تكون زوجة لمن ولدت له.
٢٩ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ ٱللّٰهِ».
يوحنا ٢: ٩
نسب المسيح ضلالهم إلى سببين:
(١) جهلهم بما حوته كتبهم الدينية التي اعترفوا أنها إلهية، و
(٢) تحديدهم قوة الله، كأنه غير قادر أن يجمع أجزاء الأجساد بعد موتها ورجوعها إلى التراب، وكأنه يعجز أن ينظمها ثانية ويحييها. لقد نسوا أن تجديد بنية الموجود أسهل من إيجاده من لا شيء، فسلَّموا بالخلْق وأنكروا القيامة. فعدم المعرفة بالكتاب المقدس، وعدم الإيمان بقوة الله هما سبب ضلالات كثيرة.
٣٠ «لأَنَّهُمْ فِي ٱلْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ فِي ٱلسَّمَاءِ».
١يوحنا ٣: ٢
لأَنَّهُمْ فِي ٱلْقِيَامَةِ أي الناس بعد القيامة
لاَ يُزَوِّجُونَ أي لا يعطون بناتهم زوجات لأبناء غيرهم، ولا يأخذون بنات غيرهم زوجات لأبنائهم.
وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ أي لا يأخذون بنات غيرهم زوجات لأنفسهم. وقول المسيح في هذا العدد جواب مفحم لاعتراض الصدوقيين، وخلاصته أن العلاقة بين الزوج والزوجة مختصة بهذه الدنيا فلا تكون في السماء، فلا موت في السماء (رؤيا ٢١: ٤) ولا حاجة إلى الولادة (لوقا ٣٠: ٣٥، ٣٦). فلو سُئل الفريسيون سؤال الصدوقيين وهو «لمن تكون المرأة من السبعة؟» لأجابوا «هي للأول» ولكن المسيح قال إنها ليست لأحد منهم.
كَمَلاَئِكَةِ صرّح المسيح بوجود ملائكة، الأمر الذي أنكره الصدوقيون، وقال إن المؤمنين يكونون بعد القيامة كالملائكة في بعض الأمور. فلا تناقض في ذلك لكونهم ذوي أجساد. وهم يشبهون الملائكة في الخلود، وعدم الزواج، وأنهم ليسوا عرضة لنوع من الجوع أو العطش أو الوجع أو النوم أو الشهوات الجسدية، وأن أجسادهم الروحية لا تقبل الفساد. كما أنه لا يلزم أن نفهم من هذا القول إن الذين لا يتزوجونهم أقدس وأفضل من الذين يتزوجون.
ونفي المسيح الزواج في السماء لا يعني أن الذين عرف بعضهم بعضاً على الأرض لا يعرفون بعضهم في السماء، ولا يعني أن الأصدقاء هنا لا يكونون أصدقاء هناك، ولا أن المتزوجين هنا ينسون هذا هناك. إنما قال إن الجسد الروحاني يخلو من شهوات الجسد الحيواني، لأنه «يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا» (١كورنثوس ١٥: ٤٤) ويلزم من تشبيه المسيح الصالحين بالملائكة أنهم يقومون كاملين في القداسة والسعادة.
٣١، ٣٢ «٣١ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ: ٣٢ أَنَا إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. لَيْسَ ٱللّٰهُ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ؟».
خروج ٣: ٦، ١٦ ومرقس ١٢: ٢٦ ولوقا ٢٠: ٣٧ وأعمال ٧: ٣٣ وعبرانيين ١١: ١٦
برهن المسيح في هذين العددين بما في كتب موسى (خروج ٣: ٦، ١٥) أن الذين ماتوا في هذا العالم أحياء في عالم آخر، ولذلك يستطيعون أن يرجعوا إلى الأجساد ويقومون. واقتصر على إيراد البرهان من كتب موسى، لأن الصدوقيين اعتبروها كلام الله بنوع خاص. ولو أن في العهد القديم براهين أخرى (منها أيوب ١٩: ٢٥، ٢٦ ومزمور ١٦: ١٠، ١١ وإشعياء ٢٦: ١٩ وحزقيال ٣٧ ودانيال ١٢: ٢).
وقول الله لموسى كان من العليقة الملتهبة في حوريب، بعد موت إبراهيم بـ ٣٢٩ سنة، وبعد موت اسحق بـ ٢٢٤ سنة، وبعد موت يعقوب بـ ١٩٨ سنة. وأكد في ذلك القول إنه لم يزل إلهاً لهم. ولو أنهم تلاشوا ما صحَّ أن يقول هذا، فإن الله ليس إله عدم. فإذاً كانت نفوس أولئك الآباء حية عند الله، لأنه قال ذلك مع أن أجسادهم كانت في القبور طيلة تلك المدة.
وزاد لوقا على ما قاله متّى «لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ» (لوقا ٢٠: ٣٨) وأورد المسيح تلك الآية للصدوقيين لما فيها من البرهان على خلود النفس، لأنهم أنكروه. وأما الله فخاطب بها موسى لما فيها من برهان أنه لا يزال يذكر العهد الذي قطعه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب بأن يجعل نسلهم شعبه الخاص.
أَنَا إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ… ويَعْقُوب أي إني إلههم الآن كما كنت إلههم وهم على الأرض. فلم يقل كنت إلههم بل «أنا إلههم» أي أنه يديم حياتهم، وهو مصدر سعادتهم وحافظ عهده لهم.
لَيْسَ ٱللّٰهُ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ أي أنه ليس إله مجرد أسماء أولئك الآباء، بل هو إله أشخاصهم. وهو ليس إله مجرد تراب ورماد، بل إله أرواح حية.
بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاء الموتى عند أهل الأرض هم أحياء عند الله. وهذا يخالف اعتقاد القائلين إن أرواح الموتى في سبات تبقى إلى القيامة. اكتفى في رده على الصدوقيين بإيراد ما يُثبت خلود النفس، لأن إنكارهم القيامة نتج عن إنكارهم ذلك الخلود.
٣٣ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْجُمُوعُ بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ».
متّى ٧: ٢٨
ٱلْجُمُوعُ هم المحيطون به سوى الصدوقيين، وكان أكثرهم من الفريسيين. وكان الصدوقيون قليلين بين اليهود بالنسبة إلى الفريسيين. لكن أكثر الكهنة كانوا صدوقيين.
بُهِتُوا لم تدهشهم عقيدة القيامة بل برهنة المسيح على صحتها بآية لم يخطر على بالهم أنها دليل على القيامة. وبُهتوا من قدرته على إبطال سفسطة الصدوقيين وتعليمه حقائق روحية عظيمة، لأن الجموع كانوا قد اعتادوا أن يسمعوا في الهيكل الجدال بين الصدوقيين والفريسيين في أمور سطحية.
٣٤ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ ٱجْتَمَعُوا مَعاً».
مرقس ١٢: ٢٨ الخ
أَبْكَمَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ توقع الصدوقيون أن يبكموا يسوع باعتراضاتهم، فرأوا النتيجة أن يسوع أبكمهم بأجوبته المملوءة حكمة، وبأدلته القاطعة. ولكن مع أنهم أُبكموا لم يقتنعوا.
ٱجْتَمَعُوا أي الفريسيون، وكانت غاية اجتماعهم أن يجهزوا له فخاً جديداً. فسرورهم بأن المسيح غلب الصدوقيين لم تكسبه رضاهم.
٣٥ «وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَامُوسِيٌّ، لِيُجَرِّبَهُ».
لوقا ١٠: ٢٥
نَامُوسِيٌّ كان الناموسيون فرقة من الكتبة، وهم فريسيون (مرقس ١٢: ٢٨). ولعلهم تخصصوا في دراسة ناموس موسى، ولو أن باقي الكتبة كانوا يدرسون الكتاب كله من ناموس وأنبياء.
لِيُجَرِّبَهُ يظهر مما ذكره مرقس أن الفريسيين اتخذوا هذا الناموسي آلة لمقاصدهم الشريرة على المسيح، وأنه لم يشاركهم في تلك المقاصد. ويظهر من ذلك أيضاً أن جواب المسيح أثر فيه تأثيراً كثيراً وأقنعه بجودة تعليمه (مرقس ١٢: ٣٢ – ٣٤). والتجربة التي قصدها الفريسيون هي أن يجاوب المسيح بما يقلل احترام السامعين إياه، إن جاء جوابه خلاف اعتقادهم أو أن يكون ضعيفاً يثير السخرية.
٣٦ «يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ ٱلْعُظْمَى فِي ٱلنَّامُوس؟».
كان هذا من أهم المسائل عند الفريسيين، وانقسموا على الإجابة أحزاباً، فقال بعضهم إن أعظم الوصايا هي وصية الختان، وقال البعض إنها وصية الغسل والتطهيرات، وقال آخرون إنها الوصية المتعلقة بأهداب الثياب (عد ١٥: ٣٨). وقال غيرهم إن رابع الوصايا العشر هي الأهم.
٣٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ».
تثنية ٦: ٥ و١٠: ١٢ و٣٠: ٦ ولوقا ١٠: ٢٧
إِلٰهَكَ أي الإله الواحد خالقك وحافظك. فنسبته إليك توجب عليك أن تحبه، وتبين تلك العلاقة أنه يستحق تلك المحبة. وفي قوله «إلهك» إشارة إلى أن الله واحد حق، وهو «إلهك» بسبب ما بينكما من عهد كان في جبل سيناء من أنه يكون إلهاً لبني إسرائيل وأن يكون بنو إسرائيل شعباً له. والله بالنسبة للمسيحي إلهُ مصالحةٍ بدم ابنه. وهذا يزيد على ما كان لليهودي.
ولعل قصد المسيح بذكر القلب والنفس والفكر أن يجمع كل قوى الإنسان على محبة الله، فتُوقف كلها لخدمته.
قَلْبِكَ يراد بالقلب في الكتاب المقدس مصدر عواطف الإنسان أو انفعالاته. ويلزم من قوله «تحب الرب من كل قلبك» أنه لا يكفي بمجرد العبادة الظاهرة والطاعة الخارجية، لكنه يطلب المحبة القلبية، وأن تفوق محبتنا له محبتنا لغيره، وأن نكون مستعدين أن نترك كل شيء لأجله (أمثال ٢٣: ٢٦ وإرميا ٣: ١٤).
نَفْسِكَ النفس مصدر حياة الإنسان، فمحبة الله من كل النفس تؤثر في كل طبيعة الإنسان حتى ضميره ومشيئته. فتقتضي أنه إن عاش الإنسان يعيش للرب، وإن مات يموت به (يوحنا ١٤: ١٥، ٢٣ و١كورنثوس ٥: ١٤ وفي ١: ٢١ و١يوحنا ٢ و٤: ١٦).
فِكْرِكَ القصد بالفكر هنا قوى الإنسان العقلية، فمحبة الله من كل الفكر تقتضي أن تدخل في دروسنا ومباحثنا وأعمالنا الجسدية، وأن نكون مستعدين لأن نتعلم منه كل شيء، وأن نفضل تعاليم كتابه الصريحة على كل أحكام عقولنا (مزمور ١١٩: ١٥، ٩٧ وأمثال ١٢: ٥ و٢كورنثوس ١٠: ٥). فيجب أن تكون محبتنا لله (١) خالصة (٢) قوية (٣) سامية على كل محبة. واقتبس المسيح هذه الآية من التثنية تثنية ٦: ٤، ٥. وبذلك علَّم أن الشريعة كلها تكمل بأمر واحد هو المحبة. وهي تحملنا على تكميل كل واجباتنا لله والناس طوعاً واختياراً. وهي أفضل ما يمكن الإنسان أن يقدمه. ويجب تقديمها لأفضل الكائنات.
ونتعلم أن الله لا يكتفي باعتقادنا بوجوده ووحدته، واعترافنا بحق سلطانه، وحفظنا يوم عبادته، وتقديمنا القرابين والذبائح. فجوهر ما يرضيه منا المحبة القلبية، وعليها تُبنى طاعتنا المقبولة له، لا على خوفنا من العقاب أو طمعنا في الثواب.
٣٨ «هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى وَٱلْعُظْمَى».
ٱلأُولَى أي المقدمة على كل ما سواها في أهميتها وشمولها ودوامها.
ٱلْعُظْمَى هي العظمى لأن الذي يحفظها يحفظ سائر الوصايا الإلهية. والله هو الأول والأعظم فيستحق أن تكون محبتنا له «الأولى والعظمى». وهذا جواب شافٍ كافٍ على سؤال الناموسي.
٣٩ «َٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».
لاويين ١٩: ٢٨ ومتّى ١٩: ١٩ ومرقس ٢٢: ٣١ ولوقا ١٠: ٢٧ ورومية ١٣: ٩ وغلاطية ٥: ١٤ ويعقوب ٢: ٨
والثانية: لم يسألهُ الناموسي عن الوصية الثانية، لكن يسوع انتهز الفرصة ليعلمه الشريعة كلها.
مثلها: في أن مصدر الوصيتين واحد وهو الله، وأن أساسهما واحد وهو المحبة. والثانية لا تقوم بدون الأولى، لأنه لا يمكن أن نحب أخانا حق المحبة إلا إن أحببنا الله أولاً (١يوحنا ٤: ٢٠، ٢١). وهي مثل الأولى في الإخلاص والمنفعة للعالم.
كَنَفْسِكَ هذا مقتبس من سفر اللاويين (لاويين ١٩: ١٨) ولم يأمرنا الكتاب المقدس أن نحب أنفسنا لأن هذا أمر مسلَّمٌ به. ويظهر من هذا العدد أن محبة النفس ليس إثماً لأن المسيح جعلها قياس محبتنا للقريب، ولكنها تكون إثماً إذا قادتنا إلى إهمال واجباتنا لله وللناس.
٤٠ «بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ ٱلنَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلأَنْبِيَاءُ».
متّى ٧: ١٢ و١تيموثاوس ١: ٥
أي أن هاتين الوصيتين تشتملان على كل جوهر الناموس والأنبياء وهما العهد القديم. ويحق أن يُزاد على ذلك أنهما تشتملان على تعليم المسيح والرسل، أي العهد الجديد بالإضافة إلى العهد القديم، لأن المحبة لله والناس هي خلاصة الدين كله. وقد قال المسيح إنه جاء ليكمل الناموس والأنبياء بنفسه (متّى ٩: ١٧) وبيَّن هنا كيفية تكميله إياهما أيضاً بواسطة تلاميذه إلى نهاية الزمان، وهذا وفق قوله «الْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ» (رومية ١٣: ١٠). وقوله «وَأَمَّا غَايَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ» (١تيموثاوس ١: ٥).
بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ أي تقوم أربع من الوصايا العشر بحفظ الأولى، وست منها بحفظ الثانية.
ونفهم مما ذكره مرقس أن الناموسي اقتنع من قول المسيح، وتغيرت أفكاره عما كانت عليه عندما أتى إلى المسيح، لأنه أتى ليجربه (راجع ع ٣٤) فرجع يثني عليه (مرقس ١٢: ٣٢). ورأى المسيح أن الناموسي أدرك، فقال إنه ليس بعيداً عن ملكوت الله. ولا دليل لنا على أنه جاوز هذا الحد، فالذي يكتفي بقربه من الملكوت دون دخوله يدركه الهلاك وهو بباب السماء.
ونفهم مما قاله مرقس أيضاً أنه «لم يجسر أحد بعد ذلك» أن الفريسيين استخدموا يهوذا الخائن وشهود زور ليبلغوا مرامهم من المسيح. ونتج من شر الفريسيين خيرٌ لنا، لأنه لولا اعتراضاتهم ما حصلنا على أجوبة المسيح المفيدة.
٤١ «وَفِيمَا كَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ».
مرقس ١٢: ٣٥ الخ ولوقا ٢٠: ٤١ الخ
هذا الاجتماع هو نفس الذي ذُكر في ع ٣٤. ولعلهم كانوا محيطين به يتوقعون أن ينطق بما يشتكون به عليه.
سَأَلَهُمْ بعد أن سألوه فأفحمهم. وقد سألهم ليظهر للشعب جهل الفريسيين لكتبهم، وعدم معرفتهم بالصفات المميزة للمسيح المنتظر، وليعلّم تلاميذه كيف يفسرون النبوات المتعلقة به، وليُثبت لاهوته وسلطانه.
٤٢ «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ؟ ٱبْنُ مَنْ هُوَ؟ قَالُوا لَهُ: ٱبْنُ دَاوُدَ».
فِي ٱلْمَسِيحِ أي في شخصه وحقيقته.
ٱبْنُ مَنْ هُوَ؟ غايته من هذا السؤال أن يبين أنه ابن الله وابن الإنسان، أي أنه شخص واحد ذو طبيعتين.
ٱبْنُ دَاوُدَ أجابوه بذلك بلا توقف، لأن المسيح اشتهر عندهم بهذا الاسم بدليل أنهم لما رأوا معجزاته قالوا «ألعلَّ هذا هو ابن داود؟» (متّى ١٢: ٢٣) وأن المرأة الفينيقية صرخت إليه قائلة «ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!» (متّى ٢٠: ٣٠) وأن الذين احتفلوا بدخوله أورشليم صرخوا قائلين «أوصنا لابن داود» وكذا كان صراخ الأولاد في الهيكل (متّى ٢١: ٩، ١٥) فذلك الجواب حق ولكنه بعض الحق (لوقا ١: ٣٢ ورومية ١: ٣، ٤). فاكتفى الفريسيون به غير ملتفتين إلى عدم كفايته لموافقة كل النبوات المتعلقة بالمسيح.
وجهل أكثر اليهود طبيعة المسيح الإلهية للحجاب الذي كان يفصل بين قلوبهم وبين نور الحق، وهو حجاب جعلهم يتوقعون أن يكون المسيح ملكاً زمنياً مثل كورش أو إسكندر الكبير أو يوليوس قيصر، يجلس على كرسي داود ويجدد عظمة المملكة اليهودية. فعلى ذلك لم يلزم عندهم أن يكون له سوى الطبيعة البشرية والمساعدة الإلهية.
٤٣، ٤٤ «٤٣ قَالَ لَـهُمْ: فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِٱلرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: ٤٤ قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟».
مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٢: ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وعبرانيين ١: ١٣ و١٠: ١٢، ١٣
يتبين من هذين العددين ثلاثة أمور: (١)إن داود كتب المزمور المقتبس منه، وهو المزمور ١١٠. (٢) أنه كتبه بالوحي. (٣)أنه لم ينبئ بملك عادي من نسله بالمسيح المنتظر.
يَدْعُوهُ دَاوُدُ أي في المزمور. والمقصود هنا خاصة مزمور ١١٠ لأن اليهود كلهم اعتقدوا أنه إنباء بالمسيح. ويؤيد ذلك آيات كثيرة (انظر أعمال ٢: ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وعبرانيين ١: ١٣ و٥: ٦ و٧: ١٧ و١٠: ١٣).
بِٱلرُّوحِ أي بوحي الروح القدس فهو معصوم. وهذا قول واحد من أقوال كثيرة للمسيح تُثبت أن العهد القديم من وحي الله.
رَبّاً دعوة داود المسيح رباً اعتراف بأن المسيح أعظم منه، لأن هذا ما يقال من الأدنى إلى الأعلى. فلو كان المسيح مجرد إنسان من نسل داود لكان دون داود فكيف يليق بداود الملك العظيم المقتدر الذي لم يعرف رباً له إلا الله أن يدعو واحداً من نسله ربه. فهل يحسن بإبراهيم أن يدعو واحداً من نسله ربهُ. فهل يحسن بإبراهيم أن يدعو إسحاق ابنه أو يعقوب حفيده رباً له؟ فمن المحال أن يكرم الابن البشري رباً لأبيه.
ٱلرَّبُّ أي الآب، وهو الأقنوم الأول في الثالوث، وهو المتكلم.
لِرَبِّي هذا الرب هو المسيح ضرورة، لأن الله لا يخاطب بما خاطب به هذا الرب ملكاً أرضياً. والياء (ي) في ربي راجعة لداود.
عَنْ يَمِينِي يراد باليمين مكان الإكرام الأعظم (١ملوك ٢: ١٩ و١صموئيل ٢٠: ٢٥ ومتّى ٢: ٢١). والجلوس عن يمين الملك دليل على الاشتراك في المجد والسلطان الملكي.
أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً هذا مجاز مبني على عادة الملوك قديماً، فقد كانوا يضعون أقدامهم على رقاب أسراهم دلالة على كمال النصر (يشوع ١٠: ٢٤ و٢صموئيل ٢٢: ٤١ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وعبرانيين ١٠: ١٣) وتتم هذه النبوة بما يفعله المسيح في اليوم الأخير.
٤٥ «فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟».
لم يرد هنا جواب لهذا السؤال، ولكنه ورد في رومية ١: ٣، ٤ وهو أن المسيح إنسان وإله، فهو ابن داود في ناسوته، ورب داود في لاهوته. ولأنه إله كان في زمن داود كما كان منذ الأزل، رب داود وملكه. ولأنه إنسان كان ابنه، جاء من نسله. وإن كان الفريسيون جهلوا هذا الجواب كما ادعوا بسكوتهم، فهم أذنبوا لأنهم جهلوا النبوات أو تغافلوها، ولأن المسيح أعلن لهم سابقاً بتعليمه أنه ابن الله وابن الإنسان (يوحنا ١٠: ٢٤ – ٣٨). وهذا ما اشتكوا به عليه إلى بيلاطس (يوحنا ١٩: ٧) وسؤال قيافا المسيح «هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» يدل على أنه لم يجهل ذلك الجواب (متّى ٢٦: ٦٣).
وفي هذا الأصحاح أدلة كثيرة على حكمة المسيح السامية، لأنه أوضح تعاليمه الصادقة، ولم يقع في شيء من الفخاخ التي أخفاها له أعداؤه الكثيرون البارعون في كل أنواع المكر والاحتيال. وعلاوة على ذلك فإنه أخجلهم وأبكمهم.
٤٦ «فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّة».
مرقس ١٢: ٣٤ ولوقا ١٤: ٦ و٢٠: ٤٠
فَلَمْ يَسْتَطِعْ لم يستطيعوا لأنهم لم يريدوا لئلا يبرهنوا بكلامهم أنهم على ضلال.
يَسْأَلَهُ بَتَّة قصد أن يوقعه بما يشتكي به عليه. واعتزلوا ذلك لاختبارهم سوء عاقبته لهم.
السابق |
التالي |