إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 20 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح العشرون

١ – ٧ «١ فَإِنَّ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ ٱلصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، ٢ فَٱتَّفَقَ مَعَ ٱلْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ٣ ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي ٱلسُّوقِ بَطَّالِينَ، ٤ فَقَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. ٥ وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ وَٱلتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذٰلِكَ. ٦ ثُمَّ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشَرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هٰهُنَا كُلَّ ٱلنَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ ٧ قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَـهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ»

تكوين ١٨: ٢٥ وأفسس ٦: ٨ وعبرانيين ٦: ١٠

ينتمي العدد الأخير من الأصحاح السابق إلى هذا الأصحاح، لأنه مقدمة المثل المذكور هنا (كما يظهر من عدد ١٦ من هذا الأصحاح). وغاية المسيح من هذا المثل إصلاح خطأ تلاميذه في قولهم «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» (متّى ١٩: ٢٧). فقد ظنوا أنهم تركوا من أجل المسيح أكثر مما ترك غيرهم من أجله، وأنهم يستحقون أعظم المدح والثواب. فأجابهم المسيح على هذا السؤال بلطف في أول الأمر، وأوضح لهم أنهم يشاركونه في المجد والكرامة يوم مجيئه الثاني، وأنهم سيحصلون في هذا العالم على مئة ضعف ما تركوه من أجله، كما أن لهم الحياة الأبدية في عالم الآخرة.

ثم ضرب هذا المثل ليعلمهم أن كل ما وعدوا به من البركات هبة لا أجرة، وأن الحياة الأبدية توهب لكل المسيحيين على السواء، أولين كانوا أم آخِرين، وفيه يبين أن الله يوزع النفائس السماوية مجاناً (رومية ٤: ٤، ٥) وأن لا حق لأحد أن يدَّعي أهليته للسماء أو أفضليته فيها بناءً على أنه أتى إلى المسيح قبل غيره، أو لأنه ترك من أجله أكثر من الآخرين، أو لأنه زاد غيرة على سواه.

فلا يصح أن نتخذ كل ما في ذلك المثل إيضاحاً لما يحدث في السماء عندما يوزع الرب نِعمه على المختارين، لأنه يستحيل أن يحسد سكان السماء بعضهم، أو أن يتذمر أحدهم على الله. بل يجب أن نفهم منه تحذير التلاميذ من دعوى البر الذاتي وانتظار نيل السعادة السماوية كأجرة. فإذاً كلام المسيح ليس نبوءةً بما سيحدث في السماء، بل هو توضيح لنتيجة ما أظهره التلاميذ من البر الذاتي وتوقع السعادة العلوية كأجرة. فبيَّن المسيح لهم أنهم إن لم يرجعوا عما أظهروا كانوا الآخِرين والأصغرين في ملكوت السماوات، وأن الذين يتضعون مع أنهم آخِرون بالنسبة إليهم يجعلهم الله أولين في ملكوته. وأن لا حق للذين دُعوا أولاً إلى ملكوت السموات وتعبوا وقتاً طويلاً أن يدَّعوا ثواباً أعظم من ثواب الذين دُعوا أخيراً وتعبوا زمناً قصيراً.

مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ أي نظام الحياة المسيحية الذي بدأ على الأرض وسيكمل في السماء.

رَبَّ بَيْتٍ أي رئيس عائلة، وهو في هذا المثل صاحب كرم يعتني به بواسطة فعلة يستأجرهم يومياً في سوقٍ قرب بيته. فخرج مراراً في النهار واستأجر فعلة وأرسلهم إلى العمل في كرمه. استأجر البعض في أول النهار، واستأجر آخرين قبل الغروب بساعة. واتفق مع الفريق الأول على دينار، وهو أجرة الفاعل في اليوم. والذين استأجرهم بعد الأولين لم يتفق معهم على شيء، لكنه وعد أن يعطيهم ما يستحقون فوثقوا بقوله. ولا شك أنهم توقعوا جزءاً من الدينار على قدر الوقت الذي عملوا فيه. ولما ذهب رب الكرم إلى السوق مرة أخرى وجد عمالاً بطالين، فعاتبهم على ذلك، فاعتذروا بأن أحداً لم يطلبهم للعمل.

وقصد المسيح من هذا المثل أن يعلمنا معاملة الله للذين يدعوهم إلى العمل في كنيسته. إنها كمعاملة رب الكرم المذكور لأولئك الفعلة. وكثيراً ما يشبِّه الكتاب المقدس الكنيسة بالكرم (إشعياء ٥: ٧ وإرميا ١٢: ١٠ ومتّى ٢١: ٢٨، ٣٣ ولوقا ١٣: ٦).

ويدعو الله الناس إلى العمل في كنيسته بواسطة الأنبياء والرسل والمعلمين والكتاب والروح القدس. ودعا الله الناس إلى ذلك العمل منذ خلق الإنسان، في الوقت الذي شاءه والطريق التي اختارها. فدعا اليهود أولاً، ودعا بعدهم إلى نور إنجيله وطاعته أمماً مختلفة من الوثنيين في أزمنة مختلفة. ولا زال يدعو البعضهم في هذا العصر. وهو يدعو البعض في سن الصبا وآخرين في سن الشيخوخة. ويدعو بعضهم إلى خدمة طويلة كيوحنا الرسول وبعضهم إلى خدمة قصيرة كيوحنا المعمدان، وكاللص على الصليب وقد قرب من الموت. ولله حكم في دعوة كل أمة في وقتها وكل شخص في وقته. وتلك الدعو كلها من نعمه بدليل قوله «لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ» (يوحنا ١٥: ١٦) والثواب الذي وعد الله به فعلة الكنيسة هو الحياة الأبدية، أي الميراث السماوي وإكليل البر. وكل ذلك الثواب من النعمة على من عمل طويلاً وقاسى التعب الأشد، فالثواب أعظم من أطول الأعمال وأشقها بما لا يقاس. والمقصود بالفعلة في هذا المثل خدام الله بالحق، سواء دُعوا في العصور الأولى من زمن العالم أم العصور الأخيرة، وسواءٌ دُعوا في أول الحياة أم في آخرها. فلا إشارة في المثل إلى أن أحداً من الفعلة زاد اجتهاداً أو أمانة أو غيرة على الآخر، لأنهم كلهم نالوا الجزاء في آخر النهار لأن صاحب الكرم اعتبرهم أمناء.

٨ «فَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ٱدْعُ ٱلْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ ٱلأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلآخِرِينَ إِلَى ٱلأَوَّلِينَ».

متّى ١٣: ٣٩، ٤٠ ورؤيا ٢٠: ١١، ١٢

لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ أي الغروب وهو وقت انصراف الفعلة. والمقصود به يوم الدينونة لأنه نهاية العالم، ويصح أيضاً أن يراد به نهاية عمر كل إنسان.

وَأَعْطِهِمُ ٱلأُجْرَة أمر لهم بالأجرة في نهاية يوم العمل وفقاً لشريعة موسى (لاويين ١٩: ١٣ وتثنية ٢٤: ١٥). وذلك يدل على عدل رب الكرم وحنوه.

مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلآخِرِينَ حقَّ له أن يفعل ذلك. ولا فرق للفعلة سواء ابتدأ منهم أو من الأولين، لكنه ذكر هذا الترتيب إتماماً للمقصود من المثل، ليعرف الفعلة كلهم مساواتهم في الأجرة. فلو أعطى الأولين أولاً لانصرفوا ولم يعرفوا كم أخذ الآخِرون. ولا مقتضى للبحث عن معنى الوكيل الروحي، ولكن إن كان المقصود به أحداً فهو الرب يسوع المسيح، الذي هو وكيل بيت الله أي الكنيسة، وهو الذي يوزع الثواب (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ٥: ٢٧ وعبرانيين ٣: ٦). ولا معنى روحي لابتداء الإعطاء من الآخرين، فلا قصد منه سوى المطابقة لقوله «الأولون آخِرون والآخِرون أولون».

٩، ١٠ «٩ فَجَاءَ أَصْحَابُ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشَرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. ١٠ فَلَمَّا جَاءَ ٱلأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً».

دِينَاراً دِينَاراً مساواة رب الكرم فعلته في الأجرة عدل للكل، ورحمة للبعض. وإذا نظرنا إلى معاملته الكل رأينا الرحمة، لأن كل ما أعطاه الفعلة هو أكثر مما استحقوه. ولعل علة إعطاء رب الكرم من عملوا قليلاً أجرة نهار تامة شفقة عليهم، لمعرفته أن عيالهم محتاجون ولا يفكيهم أقل من دينار، وأنهم لم يتوقفوا عن العمل بعض النهار عمداً، فلا ذنب عليهم.

والمعنى الروحي للمساواة في الأجرة هو أن الله يهب الحياة الأبدية لكل خدامه الأمناء، ولا يهب لأحد منهم أقل منها، مهما كانت خدمته قصيرة على الأرض. فالخلاص حظ جميع المؤمنين، وهذا قضاء نعمته، فإنه فتح باب السماء للص الذي آمن ساعة موته كما فتحه لسمعان الشيخ الذي انتظر تعزية إسرائيل زماناً (لوقا ٢: ٢٩). وهو يفتحه للمؤمن الذي يموت اليوم كما فتحه لإبراهيم خليله.

١١، ١٢ «١١ وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ ٱلْبَيْتِ ١٢ قَائِلِينَ: هٰؤُلاَءِ ٱلآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ ٱحْتَمَلْنَا ثِقَلَ ٱلنَّهَارِ وَٱلْحَرَّ!».

رومية ٣: ٢٤، ٢٧

كان لهم الحق أن يتذمروا لو أعطاهم أقل من الأجرة المتفق عليها. ولا محل للتذمر إلا في الظلم، وهنا عدل تام. فلم يتذمروا إلا بسبب حسدهم للذين شفق عليهم رب الكرم بأن أعطاهم أجرة نهار كامل على عمل جزء منه. فاحتمال المتذمرين ثقل النهار وحره هو ما توقعوه عند الاتفاق فأخذوا جزاءه.

١٣ – ١٥ «١٣ فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ ١٤ فَخُذِ ٱلَّذِي لَكَ وَٱذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هٰذَا ٱلأَخِيرَ مِثْلَكَ. ١٥ أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟».

رومية ٩: ٢١ وتثنية ١٥: ٩ وأمثال ٢٣: ٦ ومتّى ٦: ٢٣

المتذمرون هنا كالأخ الأكبر في مثل الابن الضال (لوقا ١٥: ٣١). وأجاب رب الكرم أحدهم كنائب عن الباقين، وبرهن له أنه لم يظلم أحداً منهم، فماله له، وله أن يتصرف به كما شاء إذا لم يظلم أحداً. فإن شاء أن يعطي بعض الناس كل ماله فلا حق لغيره أن يتذمر عليه. وأي حق للأجير الذي أخذ كل أجرته أن يتذمر على مستأجره إن تصدق على غيره؟

يَا صَاحِب غلب استعمال ذلك في الكتاب المقدس عند مخاطبة الأعلى للأدنى.

مَا ظَلَمْتُك كذلك يعامل الله كل إنسان بالعدل.

فَخُذِ ٱلَّذِي لَكَ وَٱذْهَبْ الظاهر من ذلك أن المتذمرين أبوا أن يأخذوا الأجرة المتفق عليها.

أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ الخ أي هل يقتضي كوني كريماً أن تحسد أنت أخاك؟ لقد أعطيتك حقك الذي لك، وأما هو فأعطيه أكثر من حقه لأنه محتاج. وكثيراً ما ينسب الكتاب المقدس الحسد إلى العين (تثنية ١٥: ٩ وأمثال ٢٣: ٦ و٢٨: ٢٢ ومرقس ٧: ١، ٢) .

وخلاصة كلام رب البيت أنه برر نفسه، وأثبت أنه عادل، وأن له حقاً أن يساوي الفعلة في الأجرة كما استحسن. فغاية المسيح من هذا المثل أن يُري تلاميذه خطأهم بعدم اقتناعهم بالهبة الإلهية (أي الحياة الأبدية) كغيرهم من المؤمنين، وتوقعهم أن ينالوا أكثر من غيرهم لإتباعهم المسيح قبل الجميع، وتركهم أكثر مما تركه الآخرون لأجله.

١٦ «هٰكَذَا يَكُونُ ٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَٱلأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ».

متّى ١٩: ٣٠ و٢٢: ١٤

ٱلآخِرُونَ أَوَّلِين هذا تكرار ما قيل في متّى ١٩: ٣٠. إنما عكس ترتيب الكلمات لمناسبة معاملة رب الكرم للفعلة. ومعناه أن قضاء الله في السماء ليس كقضاء الإنسان على الأرض، فكثيرون ممن يحسبهم الناس في الدنيا آخِرين في القداسة يحسبهم الله في الآخرة أولين، لأن الناس ينظرون إلى الظاهر والله ينظر إلى الباطن. وهذا توبيخ على الكبرياء ومثال في التواضع لبطرس وسائر الرسل الذين حسبوا أنفسهم مستحقين أن يكونوا أولين في السماء. وهو كذلك للذين تنصروا من اليهود وظنوا أنهم يستحقون الامتياز على المؤمنين من الأمم، لأنهم من شعب الله الخاص أصلاً. وهو كذلك المسيحي كل عصر يظنون أنهم أولى بنعمة الله من غيرهم لدخولهم خدمته في أول حياتهم، أو لرتبة بلغوها في الكنيسة، أو لزيادة أتعابهم ومشقاتهم في سبيل المسيح. وهو مثل لكل إنسان في التواضع الذي يكون بدونه الأولون آخِرين، وبه يصير الآخِرون أولين.

فالخلاص من النعمة، والافتخار بالبر الذاتي يجعل الأولين في كنيسة المسيح آخِرين. فلا يعتبر المسيح طول المدة التي يخدمه عبيده فيها، بل يعتبر كيفية الخدمة. فربما خدمهُ واحد في يوم أكثر مما يخدمه غيره في سنين.

كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُون تدلنا القرينة على أن المدعوين والمنتخبين هنا مسيحيون حقيقيون. وصرح المسيح بذلك أن كثيرين من الناس يدعون فيؤمنون به ويصيرون أعضاء في كنيسته، ولكن لقلة مواهبهم واجتهادهم لا يشتهرون بين المسيحيين. ولكن بعض هؤلاء وهم قليلون يُنتخبون فيكونون بمجرد مشيئة الله رسلاً أو معلمين أو غير ذلك من موظفي الكنيسة.

ويحتمل أن المقصود بذلك أن كثيرين يتبعون المسيح ولكن قليلين يخدمونه بالتواضع حباً له لا رغبة في الأجرة، فيستحقون أن يُرفعوا على غيرهم. أو أن قليلين يقبلون الروح القدس قبولاً وافراً ليشتهروا بالقداسة وإفادة الغير. وغاية ذلك المثل بيان عقيدة واحدة: وهي أن الحياة الأبدية هبة يتساوى بها جميع المؤمنين. فإن اعتبرنا أعراض ذلك المثل كلها مستعارة لأمور روحية غلطنا كثيراً. ومن ذلك أربع ضلالات نحن معرضون للسقوط فيها:

الخطأ الأول أننا نستنتج أن الخلاص بالأعمال بدعوى أن الفعلة الذين عملوا النهار كله أخذوا أجرهم بعملهم. مع أنه لم يستحق أحد السماء بأعماله، لأن الحياة الأبدية هبة من نعمة الله لكل رجل وامرأة وولد، لا أجرة. إن الناس يستأجرون فعلة، ولكن الله لا يستأجر الناس ليكونوا مسيحيين. قال المسيح كذلك أنتم أيضاً متّى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالن (لوقا ١٧: ١٠).

الخطأ الثاني أن نستنتج أنه لا يوجد تفاوت في درجات المجد في السماء بدعوى أن كل فاعل أخذ ديناراً. ولكن هناك تفاوت، وإن لم يُشر إليه هنا، وهو واضح في أماكن كثيرة في الكتاب. (ومن ذلك متّى ٢٥: ١٤ – ٣٠ ولوقا ١٩: ١٢ – ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٤١). نعم إن هبة الحياة الأبدية واحدة لكل المختارين، ولكن ليس كل مؤمن يقبل من ملء النعمة كالآخر.

الخطأ الثالث أن نستنتج أن القديسين في السماء يحسدون بعضهم بعضاً أو يتذمرون على الله بدعوى أن فعلة الكرم تذمروا على ربه. وهو فرض مستحيل لإظهار، فالحسد يظهر رداءة البر الذاتي وحب الرئاسة.

الخطأ الرابع أن نستنتج جواز تأخير التوبة إلى أواخر العمر، بدعوى أن الفعلة الذين استؤجروا في الساعة الحادية عشرة نالوا أجرة مساوية لغيرهم. فإن أصحاب الساعة الحادية عشرة كان لهم عذر كافٍ وهو أنه لم يستأجرهم أحد. فلو رفضوا أن يعملوا قبلاً لم يقبلهم صاحب الكرم أخيراً. ولا عذر لمن يؤخر توبته.

١٧ «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى ٱنْفِرَادٍ فِي ٱلطَّرِيقِ وَقَالَ لَـهُمْ».

صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيم ليحضر عيد الفصح ويقدم نفسه ذبيحة لفداء العالم. وذكر متّى ابتداءَ سفره من الجليل إلى أورشليم في متّى ١٩: ١ فمضى عليه نحو ستة أشهر في الطريق وهو في بلاد بيرية. وما ذكر هنا من المحادثة بينه وبين تلاميذه كان قرب نهاية تلك المدة. والأرجح أنهم كانوا حينئذٍ قرب أريحا.

عَلَى ٱنْفِرَادٍ فِي ٱلطَّرِيقِ أُمر كل ذكور اليهود أن يحضروا الأعياد العظيمة في أورشليم (خروج ٣٣: ١٧) فغصَّت الطريق بالمسافرين في مثل ذلك الوقت. واعتاد الأصدقاء والجيران أن يجتمعوا ويسيروا معاً للأمن والتسلية (لوقا ٢: ٤٢) فأخذ يسوع تلاميذه على انفراد من سائر المسافرين لأمرٍ مختص بهم.

١٨، ١٩ «١٨ هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، ١٩ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُوم».

متّى ١٦: ٢١ ومتّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١، ١٦ الخ ولوقا ٢٣: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨ الخ وأعمال ٣: ١٣

هذه مرة ثالثة أنبأ المسيح تلاميذه بموته، فقال:

(١) إن أورشليم محل موته.

(٢) إنه يموت في تلك الزيارة لها.

(٣) يسلمه إلى الموت أحد أصدقائه. وإتمام ذلك في متّى ٢٦: ١٥.

(٤) رؤساء الكهنة والكتبة (أي المجلس الأعلى) يحكمون عليه بالموت وإتمام ذلك في متّى ٢٦: ٥٧. ولما كان سلطان إجراء الحكم بالموت للرومان، أسلموه إليهم بغية ذلك (متّى ٢٦: ٦٦ و٢٧: ٢).

(٥) إن الأمم (أي بيلاطس وعساكر الرومان) يجرون ذلك الحكم (متّى ٢٧: ٢٦ – ٣٥).

(٦) أنهم يهزأون به (متّى ٢٧: ٢٩).

(٧) أنهم يجلدونه (متّى ٢٧: ٢٦) وكان الجلد بسوط ذي ثلاث ألسنة جلدية، يضربون به المحكوم عليه بالصلب قبل أن يصلبوه.

(٨) إنه يموت صلباً، وكان ذلك عقاب العبيد وشر الأثمة وذكر إتمام ذلك في متّى ٢٧: ٣٥.

(٩) إنه يقوم في اليوم الثالث (ص ٢٨) وزاد مرقس ولوقا على ذلك قول المسيح إنهم يبصقون عليه، وهو من أشد أعمال الإهانة.

وقد تنبأ بها أنبياء العهد القديم بآلام المسيح هذه، وأوضحها في إشعياء ٥٣ ودانيال ٩: ٢٦، ٢٧. وغاية المسيح من تكرار هذا النبأ لتلاميذه بالتفصيل، أن ينبههم ليحتاطوا من الشك فيه عند وقوع تلك الحوادث المحزنة، وليؤكد لهك قيامته، فيعرفون أن القيامة المبهجة تأتي بعد الآلام القاسية. «وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ» (لوقا ١٨: ٣٤). وسبب هذا هو شدة تأثير الآراء اليهودية من جهة ملك المسيح الزمني، التي أعمت أذهانهم. ولعلهم ظنوا كلامه لغزاً في غاية الإبهام، أو حسبوه نتيجة يأس شديد يبقى قليلاً ويزول.

٢٠ «حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي مَعَ ٱبْنَيْهَا، وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً».

متّى ٤: ٢١ ومرقس ١٠: ٣٥

أُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي اسمها سالومي (قارن متّى ٢٧: ٥٦ مع مرقس ١٥: ٤٠) تبعت يسوع من الجليل (متّى ٢٧: ٥٥) وحضرت صلبه (مرقس ١٥: ٤٠) وأتت إلى القبر (مرقس ١٦: ١).

مَعَ ٱبْنَيْهَا ذكر مرقس مجيء ابني زبدي فقط. ومن مقارنة البشيرين نستنتج أن الوالدة طلبت ما يريده ولداها، وأنهما أقنعاها أن ترافقهما إلى المسيح وتسأله ذلك. فمعظم الخطأ خطأهما. ويؤكد ذلك أن جواب المسيح كان لهما لا لها.

وَسَجَدَت زيادة إكرام له جرياً على العادة.

وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئا أي سألته معروفاً وأخفت المطلوب إلى بعد الوعد به، لأنها شكت في لياقة ذلك الطلب. ومثل هذا طلبت بثشبع إلى سليمان (١ملوك ٢: ٢٠).

٢١ «فَقَالَ لَـهَا: مَاذَا تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ لَهُ: قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ٱبْنَايَ هٰذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنِ ٱلْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ».

متّى ١٩: ٢٨

سألها المسيح عن مقصودها قبل أن يعدها به لا ليعرفه بل لينبه ضميرها على الخطأ ويبني عليه التوبيخ.

عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنِ ٱلْيَسَارِ الجلوس عن يمين الملك وعن يساره من علامات الشرف العظيم وسمو السلطان (١صموئيل ٢٠: ٢٥ و١ملوك ٢: ١٩ ومزمور ١١٠: ١). ويبدو أن الأخوين توقعا أن المسيح يملك على الأرض، رغم كثرة ترديد المسيح عليهم أن ملكوته ليس من هذا لعالم. فأرادا أن يمتازا على غيرهما في يوم نصرته. أما طلبهما التقرب من المسيح فحسن. أما رغبتهما في الرفعة على الآخرين فخطأ. ولعل الذي حملهما على طلب ذلك قول المسيح إن تلاميذه يجلسون على اثني عشر كرسياً (متّى ١٩: ٢٨) فانتظروا قرب مجيئه في المجد (لوقا ١٩: ١١). وحب الرئاسة الذي أظهرا التلميذان هنا أظهره الرسل كلهم قبل ذلك (متّى ١٨: ١ وبعده لوقا ٢٢: ٢٤).

فِي مَلَكُوتِكَ لم يرد التلميذان بهذا الملكوت ملكوت السماء، بل ملكوت المسيح على الأرض.

٢٢ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ ٱلَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِٱلصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا قَالاَ لَهُ: نَسْتَطِيعُ».

ص ٢٦: ٣٩، ٤٢ ومرقس ١٤: ٣٦ ولوقا ١٢: ٥٠ و٢٢: ٤٢ ويوحنا ١٨: ١١

لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ لم يوبخهما المسيح على حب الرئاسة بل أجابهما بلطف، وأظهر لهما غلطهما في ماهية ملكوته وطريق ارتفاعه عن الارض، كأنه قال لهما: ظننتما أنكما التمستما بتلك الطلبة مكانَي الشرف والمجد والسعادة، والحق أنكما طلبتما بذلك مكانَي أشد الضيق والهوان. فإنه لم يعلم ذلك التلميذان حقيقة ما طلباه، ولكنهما عرفاه يوم رأيا المسيح مصلوباً بين لصين. وغلطهما في حب الرئاسة كغلطهما في غضبهما في غير هذا المكان (لوقا ٩: ٥٥).

أَتَسْتَطِيعَانِ أي هل لكما من الشجاعة والثبات ما يقدِّركما على احتمال كل ما سأحتمله؟

أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ المقصود بالكأس هنا النصيب الذي يعينه الله للناس من خير أو شر. واستعيرت الكأس للنصيب، لأن الناس اعتادوا أن يشربوا من الكأس أشربة مختلفة بعضها مرٌّ والبعض حلوٌ. وتستعار غالباً في الكتاب للفرح (مزمور ١١: ٦ و١٦: ٥ و٢٣: ٥ و٦٠: ٣ و٧٥: ٨ وإشعياء ٥١: ١٧ وإرميا ٢٥: ١٥ ومراثي إرميا ٤: ٢١ وحزقيال ٢٣: ٣١ ومتّى ٢٦: ٣٩، ٤٢ ويوحنا ١٨: ١١). وأشار المسيح بالكأس إلى ما توقع احتماله من الآلام التي وجب أن يقاسيها قبل أن يدخل المجد، ووجب أن يشاركه فيها المقربون إليه خاصة.

تَصْطَبِغَا قصد المسيح بالصبغة كقصده بالكأس، أي الإشارة إلى آلامه، واستعارها لذلك في موضع آخر بقوله: «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠). وتستعار الصبغة في الكتاب لانسكاب النعمة الإلهية على النفس. ولكن الصبغة هنا صبغة الآلام والهوان والدم. ومشاركة المسيح في الكأس والصبغة تشير إلى الاتحاد التام به في الروح والحياة، أي في القلب والفعل. ومثل ذلك إشارة إلى السرين في الكنيسة المسيحية.

ولا يزال المسيح اليوم يسأل تابعيه هذا السؤال، فإنكار الذات وحمل الصيب واتباع المسيح مما في كأس المسيح من المرارة وفي صبغته من الآلام واجب كل مسيحي. نعم إن يسوع البار شرب الكأس أولاً واصطبغ بالصبغة، وهو يعيننا على الاقتداء به في ذلك. فيجب أن نقبلهما إذا انتظرنا أن نجلس في الآخرة على عرش بيت الله، أو أن نقف في عتبته.

نَسْتَطِيعُ لعلهما فهما من سؤال المسيح الإقرار به أمام العالم علانية، أو لعلهما فهما منه أنه يسأل إن كانا مستعدين أن يحاربا معه. ولا ريب أنهما قالا ذلك بإخلاص، ولكن كلامهما لم يخلُ من زيادة الاتكال على الذات، ولذلك سقطا وقت التجربة مع غيرهما من التلاميذ، بدليل قوله «حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا» (متّى ٢٦: ٥٦).

٢٣ «َقَالَ لَهُمَا: أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا ٱلْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَـهُمْ مِنْ أَبِي».

متّى ٢٥: ٣٤ وأعمال ١٢: ٢ ورومية ٨: ١٧ و٢كورنثوس ١: ٧ ورؤيا ١: ٩

لم يحاورهما المسيح في شأن قدرتهما على إتمام وعدهما، فقبله على ما فيه، ووعدهما بعظيم تمييزهما على الآخرين وأقربيتهما منه في أمر واحد: هو مشاركتهما له في آلامه. وتم هذا الوعد لهما بطريقتين مختلفتين، فأحدهما (وهو يعقوب) شرب كأس الآلام واصطبغ بصبغة الدم قبل كل الرسل، فقد مات شهيداً بأمر هيرودس أغريباس (أعمال ١٢: ٢) والآخر يوحنا عاش أكثر من سائر الرسل فاحتمل اضطهادات كثيرة من اليهود (أعمال ٤: ٣ و٥: ١٨، ٤٠) واحتمل الاضطهادات مع سائر المؤمنين التي أجراها القيصران الرومانيان نيرون ودومتيان، ونفاه إلى جزيرة بطمس (رؤيا ١: ٩) ومن هناك كتب إلى المسيحيين قوله «أَنَا يُوحَنَّا أَخُوكُمْ وَشَرِيكُكُمْ فِي الضِّيقَةِ» (رؤيا ١: ٩) فاختبر ما في تلك الكأس من المرارة زمناً أطول من زمن كل الرسل.

فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَه لم يرد المسيح بذلك نفي الثواب مطلقاً، لأن ذلك يناقض ما قاله في أوقات أخرى (متّى ٢٥: ٣١ – ٤٠ ويوحنا ٥: ٢٢ – ٣٠). لكنه أراد أنه لا يعطي شيئاً بالمحاباة، أو لمجرد إلحاح السائل، أو بلا نظر إلى قصد الآب منذ الأزل. وهو لم يظهر سر القضاء الأزلي في هذا الشأن لإرادة الآب.

لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَـهُمْ مِنْ أَبِي هذا الأمر مقضيٌ به منذ الأزل، وهو وفق قوله «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (متّى ٢٥: ٣٤). وسوف يثاب الأخوان حسب غنى نعمته بالفوز بمكان في ملكوته السماوي، فيجب أن يقتنعا بذلك، لأن أدنى مكان في السماء هو ثواب جزيل على أشد الأتعاب وأقسى الآلام لأجل المسيح على الأرض.

٢٤ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْعَشَرَةُ ٱغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ ٱلأَخَوَيْنِ».

مرقس ١٠: ٤١ ولوقا ٢٢: ٢٤، ٢٥

سَمِعَ المقصود بما سمعوه من طلبة يوحنا ويعقوب، لا جواب المسيح لهما.

ٱلْعَشَرَة أي سائر الرسل.

ٱغْتَاظُوا علة غيظهم ليست خطأ الأخوين، بل رغبتهما في ما طلباه وسبقهما إليه، لأن ذلك مطلب كل الرسل. والذي يوضح أن علة غيظهم غير مذكورة، وأنهم كلهم مثل الأخوين في حب الأفضلية والرئاسة هو أن يسوع وجَّه كلامه إلى الكل، ويتضح هذا في الأعداد الأربعة الآتية.

٢٥ «فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ».

فَدَعَاهُمْ أي الاثني عشر، فإنهم جميعاً يشتركون في خطأ الأخوين. والأرجح أنهم كانوا يتخاصمون على ذلك الأمر، فدعاهم ليبين لهم الفرق بين ملكوته والممالك الأرضية.

رُؤَسَاءَ ٱلأُمَمِ أي الرؤساء السياسيين في الممالك الأرضية.

يَسُودُونَهُمْ أي يتسلط كلٌ منهم على رعيته، ويستخدم سلطانه لنفع نفسه لا لنفع الرعية.

وَٱلْعُظَمَاءَ أي الوزراء والمشيرين.

يَتَسَلَّطُون أي يرتقون على سائر الشعب إلى مناصب السلطة والشر والمجد. فالتباين في المنزلة من خواص الممالك الأرضية، وفيها يتم التمييز بين العالي والواطي وبين الرئيس والمرؤوس وبين الكبير والصغير والغني والفقير. وهذه التباينات ظاهرة كل الظهور، فكل الناس يبذلون الجهد ليرتقوا إلى أعلى منزلة. وهذا الجهد يفتح أبواب الكبرياء والحسد والظلم والاغتصاب والمخاصمات العنيفة أمام الناس.

٢٦ «فَلاَ يَكُونُ هٰكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً».

لاَ يَكُونُ هٰكَذَا فِيكُمْ أي هذا ليس من صفات ملكوتي المختلف عن كل ممالك الأرض، فإن كل أعضائه إخوة متساوون، فالغني والفقير والحر والعبد والعالم والأمي كلهم في رتبة واحدة في الكنيسة. فالخصام على المراتب العالية في تلك الكنيسة عبث. والمسيح لم ينفِ بذلك وجود الرتب بين الرؤساء السياسيين وممارسة سلطانهم لدفع الشر أو منعه عن الرعية ولجلب النفع لها. ولم ينف من الكنيسة ما يلزم من السلطان الضروري لحفظ طهارتها ونظامها، لكنه نفى أن يدَّعي الإنسان رفعة المقام على غيره، أو السيطرة على أجساد غيره من أعضائها أو ضمائرهم، لأن لله وحده السلطان على ضمائر الناس.

عَظِيما العظمة التي طلبها المسيح في الكنيسة هي عظمة نفع كل عضو لغيره، لا عظمة المقام واللقب. فيحق للمسيحي أن يجتهد في أن يفوق غيره بالاقتداء بالمسيح الذي لم يأتِ ليخدَم بل ليخدُم.

خَادِماً مما يشجع الإنسان على اختيار خدمة إخوته أمران: التواضع والرغبة في فعل الخير. وهذا خلاف قوانين الأمم الذين رؤساؤهم يسودونهم وعظماؤهم يتسلطون عليهم. وبناء على ذلك سُمي موظفو الكنيسة خداماً (١كورنثوس ٣: ٥ و٢كورنثوس ٣: ٦ و٦: ٤ و١١: ٢٣ وأفسس ٣: ٧، ٢٣، ٢٥ و٤: ٧ و١تسالونيكي ٢: ٢ و١تيموثاوس ٤: ٦)

٢٧ «وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً».

متّى ١٨: ٤

معنى هذا العدد هو كمعنى العدد السابق سوى فرقٍ زهيد، وهو أن معظم إشارة الألفاظ في السابق كانت إلى نفع الغير، ومعظمها في الثاني موجهة إلى المقام.

أَوَّلاً أي في الاسم والصيت والوظيفة. و «الأول» أعظم من «العظيم» كما أن «العبد» أحقر من «الخادم».

عَبْداً العبد في زمن كتابة الإنجيل أدنى مما هو اليوم كثيراً. فمن اختار أن يكون مثل عبدٍ فاختياره غاية التواضع. فخلاصة العددين موعظة في التواضع ونفع الآخرين.

٢٨ «كَمَا أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».

لوقا ٢٢: ٢٧ ويوحنا ١٣: ٤، ١٤ وفيلبي ٢: ٥ الخ، إشعياء ٥: ٢٠، ١١ ودانيال ٩: ٢٤، ٢٦ ومتّى ٢٦: ٢٨ ويوحنا ١١: ٥١، ٥٢ ورومية ٥: ١٥، ١٩ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ٢٨ و١بطرس ١: ١٩

كَمَا أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ المسيح أحسن مثالٍ لما أمر به تلاميذه في العددين السابقين «فإنه إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ.. أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ» (فيلبي ٢: ٦، ٧) ولم يأت باحتفال ومجد بل باتضاع، وأنفق العمر على عمل الخير للآخرين، واحتمل المشقات ليعطي الناس ما يحتاجون إليه من الجسديات والروحيات، وأنكر نفسه على الدوام من أجلهم. فإنه خدم والديه في الناصرة كل السنين اتي تقضَّت عليه فيها. وخدم الناس في الجليل واليهودية نحو ثلاث سنين ونصف سنة قبل موته. ولم تنته خدمته على الأرض حتى وُضع في قبر يوسف الرامي. وهو لا يزال يخدم المؤمنين في السماء بشفاعته إلى الآب فيهم، وبإرساله مبشريه إلى العالم ينادون بالخلاص للناس. فهو خير مثال «فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ» (١بطرس ٢: ٢١).

لِيُخْدَمَ كملوك هذا العالم وعظمائه وسائر من لهم خدم وجنود وأمثالهم.

وَلِيَبْذِلَ نَفْسَه أي حياته. وهذا أعظم برهان على أنه لم يأتِ ليُخدم بل ليخدُم غيره، وكانت خاتمة خدمته للناس بذل حياته عنهم.

فِدْيَةً هي في الأصل ما يُعطى عن الأسير لنجاته من الأسر. ثم أُطلقت على كل ما ينقذ الإنسان من المصائب أو العبودية أو العقاب أو الموت (خر ٢١: ٣٠ ولاويين ٢٥: ٥٠ وأمثال ١٣: ٨). ويلزم من قوله «بذل نفسه فدية» أمران:

(١) إن الناس أسرى الخطية وعبيد لها وتحت دينونة الله من أجلها وعرضة للموت (رومية ٢: ٦ – ٩ و٣: ٩ – ٢٠، ٢٣ وأفسس ٢: ٣ و١يوحنا ٥: ١٩). و

(٢) أن المسيح بذل حياته ليفديهم من تلك العبودية والدينونة والموت. مات عنهم اختياراً وقبل الله موته بدل موتهم. وكان موت المسيح أهم مواضيع وعظ الرسل بعد يوم الخمسين. ويتضح لنا من ذلك أن المسيح لم يمت لتثبيت صدق تعاليمه، ولا لتقديم المثال للصبر على الاضطهاد لأجل البر وإعلان محبة الله للناس، وإن كانت هذه من فوائد مجيئه، بل مات كفارة عن الخطاة لكي لا يموتوا إلى الأبد.

عَنْ كَثِيرِين قصد بهذا المقارنة بين الواحد الذي هو الفادي والمتعدد وهم المفديون. ولأن ذلك الفادي ابن الله كان لموته قيمة لا تُحد فيقبلها الله بدل موت البشر إن أتوا إليه بالإيمان والتوبة. وقوله «عن كثيرين» لا يمنع أنه فدية الجميع إن قبلوه، وفق قول الرسول «الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (١تيموثاوس ٢: ٦ ومثل قول يوحنا ٣: ١٦ و١٠: ١٥ و١يوحنا ٢: ٢). ولكن الفداء وإن كان عن الجميع قبله كثيرون لا الجميع. ويظهر كثرتهم قوله «بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ» (رؤيا ٧: ٩).

فمجيء المسيح من مجد السماء إلى الهوان من أعظم أمثلة إنكار الذات والخدمة في كل تاريخ العالم. واستبداله سجود الملائكة له بخدمته للناس، والجلوس على عرش المجد بالتعليق على صليب العار والموت وعظٌ للتلاميذ لكلا يطلبوا العظمة الدنيوية، بل عظمة نفع الآخرين كما ابتغى هو.

٢٩ «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ».

مرقس ١٠: ٤٦ ولوقا ١٨: ٣٥

وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ المعجزة الآتية صنعها المسيح على قول متّى وهم خارجون من المدينة، وهذا وفق ما قاله مرقس (مرقس ١٠: ٤٦). ولكن لوقا قال إن المسيح صنعها «لما اقترب من أريحا» (لوقا ١٨: ٣٥). وقد ظن البعض أن قصد لوقا الإنباء بأن المسيح صنعها وهو قريب من أريحا بقطع النظر عن أنه صنعها داخلها أو خارجها. وظن آخرون أن الأعمى صرخ إلى المسيح وهو داخل المدينة، وأنه تبع يسوع في الطريق، والتقيا بأعمى آخر، فلم يشفهما المسيح إلا بعد خروجه منها. وظن آخرون أن الحادثة التي ذكرها متّى ليست الحادثة التي ذكرها لوقا. ولا عجب إن وُجد في أريحا ثلاثة عميان، لأنها كانت مدينة كبيرة. ولعل المسيح أبرأ الأعمى الذي ذكره لوقا وشاع خبره حتى بلغ الأعميين الآخرين، فلاقياه وهو خارج من المدينة.

وقول لوقا «لما اقترب» يشير إلى المكان، أو إلى الوقت. ومما يبين لنا أن لوقا لم ينظر إلى الوقت سياق كلامه عن تلك الحادثة، فإنه قال «ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا» (لوقا ١٩: ١) وبعدما قال ذلك ذكر حوادث جرت وهو في المدينة كنزوله في بيت زكا. وصعوبة التوفيق بين قول متّى وقول لوقا نتيجة قلة معرفتنا أحوال تلك الحادثة. ولو عرفنا كل تلك الأحوال ما رأينا شيئاً من هذه الصعوبة.

أَرِيحَا مدينة تقع على بُعد ١٧ ميلاً شمال شرق أورشليم، وسُميت أيضاً مدينة النخل (تثنية ٣٤: ٣). بناها قديماً الكنعانيون ثم افتتحها يشوع وهدمها يوم كانت وطن راحاب إحدى نساء سلسلة نسب المسيح (يشوع ٦: ٢٦). وهي المرأة الأممية الوحيدة التي ذكرت في قائمة الممتازين بالإيمان (عبرانيين ١١) وجدد بناءها حيئيل البيتئيلي بعد ٢٥٠ سنة من هدمها (١ملوك ١٦: ٣٤) وكان فيها أيام إيليا مدرسة لبني الأنبياء (٢ملوك ٢: ٥) وتجاه تلك المدينة شرقي الأردن صعد إيليا إلى السماء، وفيها أبرأ أليشع المياه المرة (٢ملوك ٢) وذكر ٣٤٥ من بنيها بين العائدين من سبي بابل (عزرا ٢: ٣٤) ولرجالها ذكرٌ حسن بين بناة أورشليم (نحميا ٣: ٢) وزيَّنها هيرودس الكبير بقصور نفيسة وقنوات محكمة الصنع ومات، وجدد ابنة أرخيلاوس بعض ما هُدم من قصورها. وكانت في أيام المسيح المدينة الثانية في يهوذا، وبلغ عدد سكانها يومئذٍ نحو مئة ألف، واشتهرت بالبلسم المشهور وهو من محصولاتها المعروفة وعظمت تجارتها كثيراً.

جَمْعٌ كَثِير ذلك الجمع مؤلف من رفقاء المسيح وجماعات من بلاد مختلفة صاعدة إلى أورشليم للفصح.

٣٠ «وَإِذَا أَعْمَيَانِ جَالِسَانِ عَلَى ٱلطَّرِيقِ. فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مُجْتَازٌ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: ٱرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ٱبْنَ دَاوُدَ».

متّى ٩: ٢٧

وَإِذَا أَعْمَيَانِ اقتصر مرقس ولوقا على ذكر أعمى واحد. وإذا قارنا أقوال البشيرين الثلاثة تحققنا إن أقل من المسيح شفى على الأقل أعميين أحدهما ابن تيماوس، وهو أشهرهما لأمر نجهله. فاكتفى مرقس ولوقا بذكره دون رفيقه. وحدث مثل ذلك في أمر المجنونين في جدرة، إذ اكتفى مرقس ولوقا بذكر أحدهما وذكر متّى الاثنين (متّى ٩: ٢٨) وكذلك ذكر متّى الأتان والجحش واقتصر مرقس على ذكر الجحش (متّى ٢١: ٢ ومرقس ١١: ٢).

فَلَمَّا سَمِعَا أنهما سمعا أولاً ضجيج الجماعات المارة ومخاطباتهم. فسألا عن سبب ذلك فأجابهما البعض أن يسوع مجتاز (لوقا ١٨: ٣٨) ولا ريب أن في ذلك الجواب شيئاً من الاحتقار ليسوع، لأنه اشتهر بأنه معلم وصانع معجزات.

ٱرْحَمْنَا هذا دليل على شعورهما بشقائهما وعدم استحقاقهما ودليل على ثقتهما بقدرة المسيح على إعانتهما.

يَا ٱبْنَ دَاوُد إن كان غيرهما لم يعتبره سوى يسوع الناصري، أي ابن بلدة حقيرة، فإنهما اعتبراه عظيماً. ولا شك أنه بلغهما ما صنعه من المعجزات، ويحتمل أنهما أُخبرا بحوادث معموديته في الأردن القريب من أريحا فآمنا بأنه المسيح، ولذلك ناداياه باللقب الذي يطلقه اليهود على المسيح المنتظر.

نعم إن الأعميين لم يبصراه بعيون الجسد، لكنما رأيا فيه بعيون الإيمان ما لم يره أكثر أهل أريحا، وما لم يره رؤساء الكهنة وعلماء الشعب: إنه هو يسوع مسيح الله. فنداؤهما المسيح بذلك الاسم علامة إيمان عظيم، لأنهما لم يشاهدا شيئاً من آياته.

٣١ «فَٱنْتَهَرَهُمَا ٱلْجَمْعُ لِيَسْكُتَا، فَكَانَا يَصْرُخَانِ أَكْثَرَ قَائِلَيْنِ: ٱرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ٱبْنَ دَاوُدَ».

فَٱنْتَهَرَهُمَا ٱلْجَمْعُ لعل سبب ذلك أنهم ظنوا مناداة الأعميين المتسولين تزعج المسيح، وربما كان يخاطب الناس حينئذٍ فانتهروهما ليسمعوا خطابه.

فَكَانَا يَصْرُخَانِ أَكْثَرَ لم يُسكتهما انتهار الجمع لشدة رغبتهما في استجابة طلبهما، وشعورهما بشدة مصابهما، وعظمة بركة الشفاء منه. فاستمرا يصرخان وزادا إلحاحاً وأثبتا إيمانهما بمقاومة كل الموانع. فعلى الخطاة الذين يأتون إلى المسيح بغية شفاء نفوسهم أن يتوقعوا الموانع وانتهار الغير إياهم، وأن لا يمنعهم ذلك عن إدراك خلاص المسيح، كما أنه لم يمنع الأعميين من نوال البصر. إنهما اغتنما الفرصة مخافة ألا تسنح لهما غيرها. ويحث الروح القدس الناس على اغتنام الفرصة للحصول على الخلاص بقوله: «هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (٢كورنثوس ٦: ٢).

٣٢ «فَوَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟».

بلغ الصراخ لأجل الرحمة أذني المسيح حالاً وأوقفه عن المسير، مع أنه صراخ المتسولين على الطريق. ولا يزال اليوم يسمع صراخ طالب الرحمة، وهو بين جنود السماء كما سمعه وهو بين جموع الزوار في أريحا، سواء صعد ذلك الصراخ من كوخ أم من قصر.

فَوَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا قال مرقس إن الذي ناداه بعض المشاهدين بأمر من المسيح (مرقس ١٠: ٤٩) فاكتفى متّى بإسناد الفعل إلى المسيح لأنه أمر بذلك فهو إسناد مجازي. وزاد مرقس على ما قاله متّى أن بارتيماوس (وهو أحد الاثنين) طرح رداءه رغبة في سرعة الوصول إلى المسيح.

مَاذَا تُرِيدَانِ ذلك دليل على استعداده لإعانتهما كما دل على ذلك وقوفه ومناداته إياهما، وجعل ذلك وسيلة لإظهارهما ثقتهما بقدرته وإرادته أن يشفيهما.

٣٣ «قَالاَ لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!».

كان طلبهما في أول الأمر عاماً، وأما الآن فمختص بنوال البصر.

٣٤ «فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ».

وجه البشير الأفكار هنا إلى حنو المسيح أكثر مما وجهها لعظيم قوته، لأن كل غاية المسيح من أعماله هو إظهار فرط رأفته لا عظمة قوته. فإن الناس انتهروا الأعميين لصراخهما، وأما المسيح فتحنن عليهما وشفاهما.

فَلِلْوَقْت أي انهما حصلا على البصر التام في الحال، لا تدريجياً كما حدث لعميان أبراهم المسيح (مرقس ٨: ٢٣ – ٢٥).

فَتَبِعَاهُ أول ما حصلا على نعمة البصر استخدماها ليتبعا المسيح، دلالة على شكرهما له وإيمانهما به ومحبتهما له. ولعلهما تبعاه إلى أورشليم. ويجب أن كل من أبرأه المسيح من العمى الروحي يتبعه بالشكر والإيمان والمحبة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى