إنجيل متى | 15 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الخامس عشر
١ «حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ ٱلَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ».
مرقس ٧: ١ الخ
وهذا دليل أن شهرة يسوع كانت قد انتشرت وذاع ذكره على كل شفةٍ ولسان، وأن من جهة تعاليمه الممتازة، أو إجراء العجائب والمعجزات، أو سيرته المملوءة بالمحبة والحنان، فاقتضى قدوم بعض علماء اليهود ليفحصوا: من هذا؟
أتوا من أورشليم ليراقبوا يسوع ويسمعوا كلامه ويخبروا الرؤساء ويمنعوا الشعب من قبولهم للمسيح. وهنا شكوا التلاميذ إليه، وكانت الشكوى في الحقيقة عليه. وغرضهم من ذلك خفض مقامه وعدم اعتباره عند الشعب.
٢ «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ ٱلشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟».
كولوسي ٢: ٨
تَقْلِيدَ ٱلشُّيُوخ هو وصايا طقسية أخذها الخلف عن السلف شفاهاً منذ قرون عديدة من آباء الأمة اليهودية المعروفون بالشيوخ.
زعم اليهود (ما عدا الصدوقيين منهم) أن موسى أُعطي على طور سينا نوعين من الوصايا، أحدهما مكتوب والآخر شفوي، فحفظه في ذاكرته وسلمه قبل موته إلى يشوع، وسلمه يشوع إلى القضاة، وسلمه القضاة إلى الأنبياء، وبذلك حُفظ بلا تغيير حتى سُطِّر في التلمود الذي يحترمه اليهود إلى هذا اليوم احترامهم لأسفار موسى والأنبياء بل أكثر منها. فإنهم شبهوا الشريعة المكتوبة بالماء، والتي لم تكتب بالخمر. وكانت تلك التقاليد كثيرة لكنها لا طائل تحتها. فاحترامهم لها دلالة على أنهم تركوا عظائم الناموس وتمسكوا بالأمور الزهيدة في الدين، فجعلوا الجوهريات عرضيات والعرضيات جوهريات. ويوضح ذلك سؤالهم المسيح هنا. وأما الصدوقيون فرفضوا كل تلك التقاليد.
تَلاَمِيذُكَ أي المتعلمون منك فأنت المسؤول عن أعمالهم.
فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُم هذا الغسل مما أمر به موسى في سفر اللاويين (ص ١٢ – ١٥) فإن ذلك مختص بأوقات معينة وهي واسطة التطهير من تدنُّسات مخصوصة لا تتعلق بالأعمال البيتية اليومية. فلم يقصد الكتبة من الغسل النظافة المعتادة، بل الخدمة الدينية التي أوجبوا أن تؤتى دائماً قبل الأكل. واعتبروا ذلك أكثر من اعتبارهم طهارة القلب. وزاد مرقس على اغتسالهم قبل الأكل اغتسالهم بعد مجيئهم من السوق (مرقس ٧: ٣، ٤). وعلة ذلك احتمال اقترابهم في السوق من وثني أو مما له، فتدنسوا به فاغتسلوا بغية أن ترجع إليهم الطهارة الدينية. فلهذا كان الاغتسال عندهم من ضروريات الدين. وكثيراً ما مدحت كتبهم أحد الربانيين بأنه حين سُجن ولم يسمح له من الماء إلا بما يحتاج إلى شربه اختار أن يموت عطشاً على أن يأكل بيدين غير مغسولتين.
خُبْزاً أي طعاماً. واقتصروا على ذكر الخبز لأنه قوام الحياة الجسدية، وهو كناية عن كل أنواع الطعام.
ولم يعتبر المسيح تقاليد الشيوخ ذات شأن. وهذا علة شكوى الفريسيين. على أن المسيح لم يذم الغسل ولكن ذم فرضه شرعاً، وأن الله يوجبه، وهم جعلوه أسمى مما أمر به في الشريعة.
٣ «فَأَجَابَ: وَأَنْتُمْ أَيْضاً، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟».
لم ينكر المسيح أن تلاميذه خالفوا تقاليد الشيوخ، لكنه دافع بأن قال إن اليهود خالفوا شريعة الله بتقاليدهم البشرية المناقضة لها. ومن الخطير أن يفرض البشر على غيرهم أوامر تخالف أمر الله. صحيحٌ أن المسيح أوجب على تلميذه أن يترك أمه وأباه لأجل الإنجيل، وقال إن من أحب أباً أو أماً أكثر منه فلا يكون له تلميذاً (متّى ٤: ١٨، ٢٢) مع أن الله أمر بإكرام الوالدين (خروج ٢٠: ١٢). لكن المسيح قصد بهذا أن ما علينا لله يجيء قبل ما علينا للناس، فإذا اضطر إنسان أن يختار أحد الواجبين وجب أن يختار أعظمهما، وهو طاعة الله. أما الفريسيون ففضلوا الشريعة الوضعية على الشريعة الإلهية.
٤ «فَإِنَّ ٱللّٰهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً».
خروج ٢٠: ١٢ ولاويين ١٩: ٣ وتثنية ٥: ١٦ وأمثال ٢٣: ٢٢ وأفسس ٦: ٢ وخروج ٢١: ١٧ ولاويين ٢٠: ٩ وتثنية ٢٧: ١٦ وأمثال ٢٠: ٢٠ و٣٠: ١٧
ذكر المسيح هنا مثالاً لتعديهم شريعة الله بتقليدهم.
ٱللّٰهَ أَوْصَى في الوصية الخامسة (خروج ٢٠: ١٢).
وَمَنْ يَشْتِمْ الخ قيل ذلك في شريعة الله على يد موسى (خروج ٢١: ١٧).
٥ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ».
يمكن ترجمة هذه العبارة هكذا «من قال لأبيه وأمه إن ما أقدمه لكما هو قربان وتقدمة للرب، لذلك لا أستطيع تقديمه لكما». أي أن الله أمر بشيء أمر شيوخ اليهود بخلافه، فإن تقليدهم ينافي الوصية الخامسة الآمرة بواجبات الأولاد لوالديهم. ومن تلك الواجبات الاعتناء بهم زمن الحاجة والشيخوخة. وذلك مما يوجبه على الإنسان ضميره ونص الكتاب الإلهي. فإنهم وإن لم ينفوا وصية الله قولاً نفوها عملاً بتعليمهم الوضعي البشري.
ومن قول المسيح هنا نرى أنه أوجب على المؤمنين به ما أوجبته شريعة موسى من أمر إكرام الوالدين وطاعتهما ومحبتهما والاعتناء بهما إن كانا في حاجة أو في شيخوخة.
قُرْبَانٌ تقدمة دينية لله أو شيء مخصص له. وقوله «قربان» بمثابة قولنا «هذا نذر عليَّ أو وقف لله» وكانوا يعينون المال أو جزءاً منه لأمور دينية بمجرد التلفظ بكلمة «قربان» فينفق بعد ذلك على الهيكل أو على الكهنة واللاويين، أو على شراء حيوانات الذبيحة. وكان الفريسيون يعلمون أن وقف المال كذلك يسر الله أكثر من أن ينفق على الوالدين المحتاجين.
قُرْبَانٌ هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّ هذا قول الابن، ومعناه: إني وقفت لله يا والديَّ كل ما أستطيع أن أنفعكما به من مال أو خدمة، فلم يبقَ لكما شيء منه. وبعد قول الابن لوالديه ما ذُكر لا يعطيهما شيئاً من ماله أو خدمته، ولو كانا في أشد الاحتياج.
فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ هذا جواب الشرط في قول الفريسيين «من قال لأبيه أو أمه..». والمعنى أن من قال هذا لا يصبح مكلفاً أن يكرم والديه بتقديم مالٍ أو خدمة لهما ولو كانا في أشد الفقر. وهذا تصريح بالهروب من الواجبات الطبيعية والإلهية للوالدين. فإذا تركهما الولد وماتا جوعاً فلا لوم عليه ولا حرجفإن تقليد الفريسيين أجاز له أن يوقف ما له للهيكل بعد المدة التي يختارها، ولو كانت نهايتها يوم موته. فيكون له أن ينفق من ماله على نفسه كل تلك المدة ولا يجوز أن ينفق شيئاً منه على والديه.
٦ «فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ».
أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰه خلاصة الوصية الإلهية وجوب إكرام الوالدين، والحكم بقتل من شتم والديه. أما خلاصة تقليد اليهود فإنه إذا اغتاظ ولد من والديه وقال «مالي وخدمتي لكما قربان» يكون قد عمل صالحاً. فإذاً شريعتهم التقليدية البشرية الطقسية أبطلت شريعة الله الأدبية الأبدية.
تَقْلِيدِكُم أي التقليد الذي أنتم تسيرون بموجبه وتلزمون غيركم أن يتبعكم فيه.
ولا يذم المسيح بهذا التعليم من يوقف لله جزءاً من المال لمقاصد دينية أو خيرية، لكنه ذمَّ من يفعل هذا ليتخلص من الواجبات نحو الوالدين والأقرباء لغيظٍ منهم. قال الرسول الإلهي «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ» (١تيموثاوس ٥: ٨).
٧، ٨ «٧ يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: ٨ يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً».
إشعياء ٢٩: ١٣ وحزقيال ٣٣: ٣١
ظهر هذا الرياء بتشجيع الأبناء على مخالفة الوصية الخامسة «أكرم أباك وأمك..» بادعاء أنه يريد أن يكرم الله قبل الوالدين. والحقيقة أنه يتهرب من واجباته نحو الوالدين.
يَا مُرَاؤُونَ هم الذين يقولون ويعملون خلافاً لما في نفوسهم خداعاً لغيرهم. وصح وصف الفريسيين بالرياء لأنهم ادعوا الغيرة لشريعة الله والدين الحق، وهم يخالفونهما، لأنهم جعلوا ترك الأبناء ما يجب عليهم لوالديهم المحتاجين من أعمال التقوى.
حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ إشعياء ٢٩: ١٣ والكلام منقول عن الترجمة السبعينية. ولم يرد بقوله «عنكم» أن النبي قصدهم دون غيرهم، بل أن ما قاله يصدق عليهم كما صدق على اليهود في عصره، وذلك قبل حديث المسيح بسبعمئة سنة.
يَقْتَرِبُ إِلَيَّ… بِفَمِه أي يظهرون أشد الغيرة لعبادة الله ويتممون كل مطالب الشريعة الخارجية ويعلنون بكلمات شفاههم أنهم يسبحونه، ولكن كل ذلك عبث لأن الله يطلب عبادة القلب وتسليم الإرادة وهم لا يفعلون ذلك.
وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ كل عبادة لا يشترك فيها القلب يحسبها الله رياءً، فأول ما يجب علينا أن يكون لنا القلب الجديد (حزقيال ١٨: ٣١) وأفضل تقدمة لله هي القلب المنكسر (مزمور ٥١: ١٧) والختان الحقيقي هو ختان القلب (رومية ٢: ٢٩) والطاعة المقبولة هي الطاعة من القلب (أفسس ٦: ٦) والإيمان الذي للخلاص هو إيمان القلب (رومية ١٠: ١٠) فيجب علينا أن نسأل حلول المسيح في قلوبنا بالإيمان (أفسس ٣: ١٧) وأعظم طلبة تطلبها الحكمة الإلهية من كل منا هي قوله «يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ» (أمثال ٢٣: ٢٦).
٩ «وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاس».
كولوسي ٢: ١٨ الخ وتيطس ١: ١٤
وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي أفسد رؤساء الدين من اليهود بل من كل طائفة دينهم بما زادوا عليه من دون إذن الله، فلم يبق فيه فائدة لهم ولا للذين اقتدوا بهم في تعليمهم وسيرتهم. فصارت عبادتهم باطلة لأنها كانت خارجية، والله ينظر إلى قلب العابد لا إلى يديه المرفوعتين وركبتيه الجاثيتين وشفتيه المتحركتين، ولأنها لم تكن مبنية على الطاعة لله، ولأنها لم تأت بأثمار لمجد الله ولا لخير الناس ولا لخير أنفسهم هم.
يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاس أي يجعلون وصايا الناس أموراً جوهرية في الدين، فيوجبون الإيمان بها والعمل بموجبها. والمقصود بوصايا الناس هنا التقاليد اليهودية، وهذه التسمية تصدق على التقاليد التي قبل الميلاد وعلى كل أمثالها بعده. ووضع اليهود تلك الوصايا فوق وصايا الله، ولكنها ليست شيئاً بالنسبة إليها ولا تلزم الضمير بالطاعة لها. فأعلن المسيح أن شريعة الله المكتوبة أسمى من كل تعليم سواها فتجب الطاعة الكاملة لها، وإنه لا اعتبار البتة للتقاليد مهما كانت قديمة أو مستندة على أسماء المشهورين من الناس في العلم والمقام.
١٠ «ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا».
ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وجه كلامه السابق إلى الكتبة والفريسيين، وهنا وجه الكلام إلى الجمع المصغي إليه. ولا يلزم من قوله «دعا الجمع» أنه غيَّر مكانه أو أنهم غيَّروا أماكنهم ولا أنهم لم يكونوا يسمعونه قبلاً. ولكن أراد بذلك زيادة انتباههم لما عزم على أن يقوله من مبادئ الدين ولإيضاح الحق، دفعاً لأمثال تلك المسألة التي أوردها الكتبة والفريسيون.
ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا قال ذلك تنبيهاً لهم على أهمية ما سيتكلم به، فطلب منهم أن يدركوا المعنى ولا يكتفوا بالسمع.
١١ «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ هٰذَا يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
أعمال ١٠: ١٥ ورومية ١٤: ١٤، ١٧، ٢٠ و١تيموثاوس ٤: ٤ وتيطس ١: ١٥
ينتقل هنا إلى مواجهة ذلك الغسل اليهودي الطقسي الذي جعلوه كأحد وصايا الله إن لم يكن أعظم، وهكذا تمسكوا بالعرض وتركوا الجوهر. إذ الجوهر هو حفظ اللسان والفم من الدنس قبل حفظهما بواسطة غسل الأيدي فقط.
كان اليهود يهتمون كثيراً بالتمييز بين الأطعمة المحسوبة في شريعة موسى طاهرة والأطعمة المحسوبة فيها نجسة. وغاية الله في وضع ذلك التمييز أمران:
(١) أن يعلمهم بأمور محسوسة التمييز بين الحلال والحرام، وقيمة الطهارة القلبية استعداداً لدخول المسكن السماوي. و
(٢) أن يجعله حاجزاً بين اليهود وجيرانهم الوثنيين، ليكونوا شعباً متفرِّداً لأنهم يلتزمون ألا يأكلوا معهم. فلم يرد المسيح أن يقول إن بعض الأطعمة أقدس من البعض، ولا أن يكون ذلك إلى الأبد، بل جعله موقوتاً إلى نهاية النظام الموسوي.
وتمت غاية الله بإفراز اليهود عن الأمم بواسطة تمييز الأطعمة خمسة عشر قرناً. لكن نتج من ذلك أمران لم يرضهما الله، وهما أن اليهود حسبوا الشريعة الرمزية الموقوتة جوهرية أبدية، وحسبوا الأطعمة المنهي عنها نجسة، وأنها تنجس النفس والجسد. ثم اعتبروا أن النجاسة الرمزية شرٌ من الدنس الأخلاقي.
ولم يقصد المسيح هنا أن ينسخ الشريعة الموسوية من جهة تمييز الأطعمة، بل أراد إصلاح الخطأ الذي وقع فيه اليهود، وبيان أن روح الإنسان لا تتنجس بالمأكولات. فلا شيء من الأطعمة يمكنه أن ينجس الأخلاق. فالنجاسة الأخلاقية تتوقف على حال القلب لا حال الجسد.
مَا يَدْخُلُ ٱلْفَم أي الأطعمة على اختلاف أنواعها.
يُنَجِّسُ أي تنجيساً أخلاقياً. فلم ينكر المسيح أن بعض الأطعمة ينجس طقسياً، ولا أن الذي يأكل الطعام المنهي عنه يخطئ لتعديه نهي الله. لكنه قال إن الطعام في ذاته لا ينجس ولا يقدس. وقول المسيح «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ» واضح لكل مسيحي حتى أنه لا يحتاج إلى دليل، ولكنه كان عند اليهود سراً عظيماً لأنه خالف ما علمهم إياه رؤساء دينهم. وتعليم المسيح يخالف اعتقاد ملايين الوثنيين الذين يقوم دينهم على الامتناع عن أكل اللحوم واكتفائهم بأكل البقول. وبذلك يتعلق رجاءهم دخول السماء.
ويظهر قول المسيح المذكور سمو الديانة الروحية وعدم قيمة الطقوس والأصوام والاغتسالات الدينية بالنسبة إلى طهارة القلب التي لا بد منها لمعاينة الله.
١٢ «حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: أَتَعْلَمُ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا ٱلْقَوْلَ نَفَرُوا؟».
حِينَئِذٍ أي بعد ما انفصل المسيح وتلاميذه عن الكتبة والفريسيين وانصرف الجموع دخل هو وتلاميذه بيتاً (مرقس ٧: ١٧).
نَفَرُوا أي غضبوا على المسيح لأنه علَّم خلاف تقاليد الشيوخ، وخلاف ما ظهر لهم أنه تعليم موسى، ولأنه دعاهم «مرائين» وأثبت عليهم أنهم تعدوا الوصية الخامسة بتقاليدهم. ونستدل من ذلك أن التلاميذ اضطربوا لما سمعوا وشاهدوا من رؤساء دينهم وبلادهم من أدلة الغضب على معلمهم.
١٣ «فَأَجَابَ: كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ».
يوحنا ١٥: ٢ و١كورنثوس ٣: ١٢ الخ.
هذه الاستعارة قديمة ومتواردة جداً كقول المرنم «كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَمًا وَغَرَسْتَهَا.. يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ، وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ» (مزمور ٨٠: ٨، ١٣). هذا الكلام مثل استُعير فيه غرس النبات في الأرض وتقرير التعاليم، فالقلوب كالأرض والتعاليم كالغروس.
كُلُّ غَرْسٍ أي كل تعليم من تعاليم الفريسيين وتقاليدهم، فكل ما يتعلق بهم غير نافع كالأعشاب البرية بين الزروع.
أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ ادَّعى الفريسيون أن تعاليمهم إلهية، ولكن المسيح قال إنها بشرية لأنها ستُقلع، وكل ما هو من الله يثبت إلى الأبد. وقوله نبوي، فستنتهي كل الضلالات في الدين، وكل المعلمين الكاذبين أو المفسدين هم للقلع والهلاك.
وهذه النبوة تسر أصحاب الحق كما تخيف أهل الضلال. فالتقاليد البشرية هي مما لم يغرسه الآب فعاقبتها ظاهرة، وتنفيذ قلعها واجب على كل أصحاب الحق.
١٤ «اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ».
إشعياء ٩: ١٦ وملاخي ٢: ٨ ومتّى ٢٣: ١٦ ولوقا ٦: ٣٩
هذه كلمات شديدة جداً تدل على الثورة الروحية التي لا هوادة فيها ولا لين.
اُتْرُكُوهُمْ أي لا تتبعوهم ولا تلتفتوا إلى ما يقولون. لا تسألوا عن ذمهم إياكم أو مدحهم لكم ولا عن رضاهم أو غيظهم، فإن هلاكهم قريب. وإن لم يهلكهم غيرهم سيهلكون أنفسهم، لأن الضالين أعداء نفوسهم فيضرون ذواتهم أكثر مما يضرون غيرهم. ولا تجادلوهم لأن غاية الجدال إرشاد الضالين لا قصاص المضلين، وهذا القصاص من أحكام الله لا من أحكامهم.
هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ المراد بهؤلاء العميان رؤساء اليهود الذين لا بصر روحي لهم ليدركوا الحق لإفادة أنفسهم أو نفع غيرهم.
عُمْيَانٍ العميان هم الشعب الذين انقادوا لتعاليم رؤسائهم بلا نظر، وخضعوا لهم في كل الطقوس والفرائض الباطلة الثقيلة التي حملوهم إياها. فالله ليس ظالماً عندما يسمح لبعض الناس أن يقودوا غيرهم إلى الهلاك، لأن المنقادين غير مجبورين أن يتبعوا أولئك القادة، بل هم مخيرون في اتباع من يحبون. فإذن هم مذنبون . فإن اتباع المعلمين الكذبة إثم، وكذا قبول كل تعليم مخالف لكتاب الله.
أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى الخ هذا الكلام جارٍ مجرى المثل، وضربه المسيح مثلاً في غير هذا الموضع (لوقا ٦: ٣٩). والأمر واضح أنه إذا قاد الأعمى أعمى فهما في خطر أن يسقط كلاهما في كل حفرة. والذي يصدق على العمى الجسدي يصدق على العمى الروحي وهذا أشرّ لأنه اختياري (متّى ١٣: ١٥) ولا يشعرون به (يوحنا ٩: ٤١) ولذلك لا يحترسون. فإن ضرر النفس بالسقوط في هاوية الضلال أشد من ضرر الجسد بالسقوط في حفرة مهما كانت عميقة.
١٥ «فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: فَسِّرْ لَنَا هٰذَا ٱلْمَثَلَ».
قال بطرس ذلك بالنيابة عن سائر الرسل بدليل قوله «فَسِّرْ لَنَا» وبدليل أن المسيح وجه الجواب إلى جميع الرسل.
هٰذَا ٱلْمَثَل المراد بهذا المثل ما ذكره في آية ١١ بقوله «ليس ما يدخل الفم الخ» وسمى بطرس ذلك مثلاً لأن له معنى باطناً وراء المعنى الظاهر، ولأنه استغرب كلام المسيح فلم يعتقد أنه يقصد منه ظاهر معناه.
١٦ «فَقَالَ يَسُوعُ: هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى ٱلآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟».
يتضمن هذا السؤال توبيخ الرسل على اشتراكهم في الضلالة العامة، لأن أهواءهم اليهودية السابقة منعتهم من إدراك قصد المسيح. وتظهر لنا صعوبة التخلص من تلك الأهواء في أن بطرس احتاج بعد ذلك بزمان إلى رؤيا خاصة لدفع الأوهام التي نتجت من تلك الأهواء (أعمال ١٠). ومع كل ذلك بقي أسيراً لها حتى لامه بولس نحو عشرين سنة من ذلك الوقت (غلاطية ٢: ١١).
أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى ٱلآنَ كان مما يجب عليهم لتعلمهم منه أن يكونوا أكثر فهماً من سائر الشعب بعد كل تلك المدة التي علمهم فيها.
غَيْرُ فَاهِمِينَ فمعنى المثل واضح لكل ذي عقل سليم ولكل من له معرفة بكتاب الله. ليس لهم عذر إذا منعتهم الأهواء اليهودية وتقاليد اليهود عن فهمه.
١٧ «أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يَمْضِي إِلَى ٱلْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى ٱلْمَخْرَجِ؟».
١كورنثوس ٦: ١٣
كأنه يقول لماذا استغربتم قولي؟ إن ما يأكله الإنسان لا يدنس نفسه، فالطعام يدخل الجوف ليهضم ويختلط بعض أجزائه بالدم، ويندفع الآخر إلى الخارج، فبذلك يصل الطعام إلى أعضاء الجسد فقط ولا يمس النفس. فإذاً لا يؤثر فيها خيراً أو شراً. فعواطف الإنسان الأخلاقية لا تتأثر من الطعام.
١٨ «وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ فَمِنَ ٱلْقَلْبِ يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
يعقوب ٣: ٦
بعدما صرّح المسيح بأن ما يدخل الفم لا ينجسه أوضح أن ما ينجسه حقيقة، أي لا يؤهله لدخول هيكل الله السماوي. كما أن الذي يتدنس طقسياً غير أهل لأن يدخل هيكل سليمان.
ٱلْقَلْب كثيراً ما يعبر الكتاب بالقلب عن مستودع ميول الإنسان، خيراً كانت أم شراً. ويعبر به أحياناً عن المشيئة، وأحياناً عن كل الصفات الأخلاقية، وهو المقصود هنا. إذاً غسل القلب لا اليدين يطهر الإنسان، فإن كان قلب الإنسان دنساً كان الإنسان كله دنساً. فقوله «ما يصدر من القلب ينجس» يدل على الحال الداخلية. وليس المقصود هنا أن الأفكار الشريرة لا تنجس القلب إلا عند ظهورها، بل إنها إذا ظهرت دلت على نجاسة مصدرها.
١٩ «ِأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١ وأمثال ٦: ١٤ وإرميا ١٧: ٩ ومرقس ٧: ٢١
هذه أهم الخطايا في العُرف اليهودي لأنها ضد وصايا الله العشر. لذلك لفت يسوع نظرهم إلى هذه الحقيقة الجوهرية لئلا تعمى بصائرهم عن نور الله كما كانت حالة أولئك. فليهربوا إذن من هذا العمى الروحي المخزي. إن أصل كل الرذائل المذكورة هنا في أهواء القلب الرديئة ومبادئه الفاسدة.
أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ هي طليعة جيش الشرور الذي يخرج من القلب وهي أفكار الطبيعة الفاسدة. فمن الأغلاط أن لا يكترث الإنسان بأفكاره، ويكترث فقط بأعماله، فالأفكار أساس كل عمل وينابيع كل ارتكاب الشر. إن طهارة الأعمال أو نجاستها تتوقف على الأفكار التي أنتجتها. ولا يمكن للإنسان أن يكون طاهراً ما دامت أفكاره دنسة.
قَتْلٌ هو إعدام حياة الإنسان عمداً، ونهت عنه الوصية السادسة. والقتل يتولد من الحقد والبغض وروح الانتقام التي في القلب (يعقوب ٤: ١ و١يوحنا ٣: ١٥).
زِنىً، فِسْقٌ الزنى هو تعدي أحد الزوجين الوصية السابعة. والفسق هو تعدي الأعزب تلك الوصية، وكلاهما نتيجة الشهوة الرديئة في القلب (يعقوب ١: ١٥).
سِرْقَةٌ هي كل تعدِ على حقوق الآخرين المالية، وهي نتيجة الطمع في القلب فتكون منهياً عنها في وصيتين هما الثامنة والعاشرة.
شَهَادَةُ زُور هي إخفاء الحق عند الحاجة إلى بيانه، أو إظهار خلافه بهدف ضرر المشهود عليه ونفع الشاهد نفسه. فهي نتيجة الحقد أو الطمع في القلب. واللسان الكاذب يظهر أن القلب مملوء خداعاً. ونهت عنها الوصية التاسعة.
تَجْدِيف شتم الله والناس، وقد نُهي عنه في الوصية الثالثة. ويأتي التجديف نتيجةً للغيظ الشديد في القلب. وذكر مرقس في كلامه على هذا الخطاب خطايا لم يذكرها متّى، وترك خطايا ذكرها فيه متّى. فيظهر من ذلك أن المسيح ذكر عدة خطايا، ذكر متّى بعضها وذكر مرقس البعض الآخر.
٢٠ « هٰذِهِ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. وَأَمَّا ٱلأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
كرر هنا قوله السابق لزيادة الإيضاح والتقرير، وخلاصة ذلك أن الخطايا المذكورة تنجس الإنسان أي تجعله مكروهاً من الله وغير أهل لدخول السماء الطاهرة.. ولا ينجسه أن يترك غسلات جسدية طقسية. فشهادة المسيح بحال القلب البشري (في آيتي ١٩، ٢٠) ليست على أردأ الناس فقط بل على البشر عامة، وشهادته حق لأنه يعلم ما في الإنسان (يوحنا ٢: ٢٥). فهذا يظهر لنا إثم قلوبنا كما هو في عيني الله، واحتياجنا إلى المخلص ليغفر ذلك الإثم، وإلى الروح القدس ليطهر تلك القلوب وفقاً لقول داود «قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مزمور ٥١: ١٠). فمن طلب هذه الطلبة وحصل على المغفرة والتجديد تغيرت أحواله القديمة الرديئة «إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا» (٢كورنثوس ٥: ١٧).
٢١ «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَٱنْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ».
خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاك أي من أرض جنيسارت قرب كفرناحوم (متّى ١٤: ٣٤).
وَٱنْصَرَف ظن البعض أنه انصرف ليتقي غضب أعدائه الذين هاجوا كثيراً في ذلك الوقت. وظن آخرون أنه انصرف ليتخلص من ازدحام الجموع الكثيرة الآتية إليه بغية الشفاء أو المشاهدة العادية. ولعله انصرف ليظهر لتلاميذه بفعل الخير لامرأة من الأمم، فإن للأمم نصيباً في فوائد مجيئه، وإن كانت خدمته الأرضية لليهود خاصة (آيتا ٢٤، ٢٦).
ولا ريب في أن كل سفر من أسفار المسيح كان بموجب قضائه السابق لغاية معينة، سواء وضحت لنا تلك الغاية أم لا.
نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاء قال مرقس إنه مضى إلى تخوم صور وصيدا (مرقس ٧: ٢٤) فهو لم يدخل كثيراً في أرض تلك المدينتين. ولعله بلغ التخوم ولم يتجاوزها. وكانت المدينتان أعظم المدن في فينيقية، وهما على شاطئ بحر الروم غرب الجليل وشمال غرب اليهودية.
٢٢ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ ٱلتُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ: ٱرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ٱبْنَ دَاوُدَ. اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّا».
كَنْعَانِيَّةٌ سُميت كذلك لأن سكان فينيقية كانوا أولاد كنعان حفيد نوح، ولم يطردهم بنو إسرائيل من أرضهم كما طردوهم من أرض فلسطين. وسماها مرقس «أممية» لأنها وثنية، وفينيقية سورية لأنها من سلالة القبائل التي أمر الله بإهلاكهم لأجل عبادتهم الأوثان ولأجل كثرة شرورهم. ونُسبت إلى سوريا لأن الأرض التي سكنتها كانت محسوبة عند الرومان جزءاً من ولاية سوريا وتحت حكم واليها.
خَارِجَةٌ مِنْ ٱلتُّخُومِ أي آتية من بيت أو قرية في تلك الأرض قريبة أو بعيدة.
ٱرْحَمْنِي انتشر صيت المسيح يومئذٍ في كل سوريا حتى بلغ أقاصيها (متّى ٤: ٢٤) وأتى الناس إليه من صور وصيدا (مرقس ٣: ٨). فالظاهر أن تلك المرأة سمعت برأفته وحنوه وشفقته على الحزانى والمصابين، فحملها ذلك على أن تقصد المسيح ليشفي ابنتها. فسألته الرحمة لنفسها إذ حسبت مصيبة بنتها مصيبة لها.
وكثيراً ما تكون مصائب الإنسان بركة له، لأنها تقوده إلى المسيح. فلولا مرض تلك البنت ما عرفت هي ولا أمها المسيح، ولا أتت الأم إليه. ومن أعظم ما كان لتلك البنت من خير مع مصابها أنه كان لها والدة صلَّت إلى المسيح من أجلها. فعلى كثيرين من الأولاد الآن أن يشكروا الله أن أمهاتهم لم تكف عن الصلاة إلى المسيح من أجلهم، فإن تلك الصلاة من وسائل خلاصهم.
يَا ٱبْنَ دَاوُدَ غلب أن يدعى المسيح بهذا الاسم أكثر من سائر أسمائه، فلا بد من أن الذين أخبروها بأعمال المسيح سموه بهذا الاسم.
مَجْنُونَةٌ أي فيها شيطان (مرقس ٧: ٢٩).
٢٣ «فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: ٱصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!».
نتعجب من تصرف المسيح مع هذه المرأة المسكينة، كما نتعجب من شدة كلامه معها وهو المشهور عنه بالرقة واللين نحو المرأة بنوع خاص. ونرى فرقاً في هذا الحديث عن حديثه مع المرأة السامرية مثلاً. فلماذا؟ لا نستطيع أن نفهم الموقف تماماً إلا بدرس القرائن كلها. ويظهر أن هذه المرأة احتاجت إلى مثل هذا الكلام لتُظهر إيمانها العظيم.
فَلَمْ يُجِبْهَا أي بقي ساكتاً، وهذه يعني عدم قبوله طلبها. وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها أن المسيح أبى أن يعمل المعجزة إحساناً إلى المصابين، إذ كثيراً ما صنع المعجزات بدون طلب. على أن امتناعه هنا الآن كان وقتياً لغاية ذات شأن، وهي أن يمتحن إيمان الوالدة وليعلّم تلاميذه (لا لعدم إرادته أن يشفي المريضة) كما يظهر من النتيجة. ولا بد أن سكوت المسيح كان محزناً لتلك الأم، وامتحاناً لإيمانها، ومثاراً لاستغرابها، لأنه كان خلاف ما سمعت به من أمر المسيح.
فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ تبعتهم المرأة المذكورة وصرخت وراءهم حتى شفق التلاميذ عليها، أو ضجروا من لجاجتها، أو خافوا أن يجتمع الناس على صراخها. فتوسَّطوا لها مع المسيح.
ٱصْرِفْهَا أي اشفِ ابنتها فتنصرف. ويتضح هذا من القرينة لا من هذا اللفظ.
تَصِيحُ وَرَاءَنَا يُحتمل أنهم قالوا ذلك لتكدرهم من صوتها، أو لأنها أظهرت بصياحها حزنها وغيرتها وثباتها وإيمانها، فلذلك سألوا المسيح إجابتها لطلبها.
٢٤ «فَأَجَابَ: لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ».
متّى ١٠: ٦ وأعمال ٣: ٢٥ و١٣: ٤٦ ورومية ١٥: ٨
لم ينجح الوسطاء في سؤال المسيح أكثر مما نجحت المرأة نفسها، فأسكتهم بجوابه، كما أنه لم يلتفت إليها. وطلب الرسل من المسيح تلك المعجزة لأنهم أيقنوا أنه لا مانع حينئذٍ من شفاء تلك الابنة سوى عدم إرادته هو أن يشفيها.
أُرْسَلْ أي من الآب.
خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ يظهر من هذا أن وظيفة المسيح كانت مختصة باليهود. ولكن أُنبئ عنه بأن به تتبارك كل قبائل الأرض (تكوين ٢٢: ١٨) وهو نفسه قال «لِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ» (يوحنا ١٠: ١٦) فهذا الاختلاف بين قول المسيح هنا، وقول النبوة، وقوله في يوحنا ١٠: ١٦) ليس أن المسيح غيَّر قصده بعد تأسيس ملكوته وحصوله على شيء من النجاح، فوسع دائرته كما فعل بعض مؤسسي الأديان الفاسدة، لأن المسيح قصد من البدء أن يكون دينه لكل البشر (يوحنا ٣: ١٥، ١٦ و١٢: ٣٢) فجواب المسيح للتلاميذ يشير إلى خدمته الشخصية وهو على الأرض في الجسد يعظ ويصنع المعجزات، ولا يشير البتة إلى عمله باعتباره فادياً أو وسيطاً بين الله والناس. والله قضى أن يُنادى بالإنجيل لليهود أولاً إتماماً للمواعيد التي وعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وكانت خدمة المسيح على الأرض تكميلاً لذلك القضاء وتلك المواعيد. وشفقة المسيح على اليهود حصرت تبشيره بهم، فإنه لو نادى للأمم أيضاً لرفض اليهود كلهم ذلك في الحال لشدة تعصبهم. وعلى ذلك قال بولس «وَأَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«مِنْ أَجْلِ ذلِكَ سَأَحْمَدُكَ فِي الأُمَمِ» (رومية ١٥: ٨، ٩). فجواب المسيح لتلاميذه ليس إنكاراً قاطعاً لطلبهم، لكنه إظهار لأن إجابة تلك الطلبة خارجة عن دائرة إرساليته حينئذٍ.
٢٥ «فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: يَا سَيِّدُ أَعِنِّي».
ظلت المرأة تصرخ وراء المسيح وهو ماشٍ إلى أن دخل بيتاً (مرقس ٧: ٢٤) فدخلت وراءه وسجدت له داعية إياه «سيداً» بياناً لاحترامها له، وسألته المعونة لأنها كانت في غاية الشدة. وكانت صلاتها وجيزة جداً. لكن إمارات وجهها ودموعها وإلحاحها جعلت لكلامها تأثيراً.
٢٦ «فَأَجَابَ: لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ».
ص ٧: ٦ وفيلبي ٣: ٢
أخذ المسيح يجاوبها. لكن جوابه كان مما يحمل على اليأس أكثر من سكوته السابق.
لَيْسَ حَسَناً أي غير لائق.
خُبْزُ ٱلْبَنِين أي الخبز المعد لأجلهم، أي بركات الإنجيل من معجزات وغيرها مما خص الله به اليهود أولاً باعتبار كونهم بني الملكوت (متّى ٨: ١٢) وورثة المواعيد. وإن أظهروا أنهم لا يستحقون. وإذ كان اليهود بمنزلة البنين اقتضى أن يطعمهم أولاً (مرقس ٧: ٢٧) ولا يليق أن يؤخذ الطعام منهم ويُعطى للأمم.
لِلْكِلاَب تستعار الكلاب في الكتاب المقدس للإهانة إذا أريد بها كلاب الأزقة (تثنية ٢٣: ١٨ و١صموئيل ١٧: ٤٣ ومتّى ٧: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٥). ولقَّب اليهود الأمم بالكلاب ليهينوهم بدعوى أن هم كالكلاب ينجسون الآخرين. ولو كان هذا قصد المسيح فلا بد أنه أظهر قساوةً أكثر مما يُتوقع منه. ولكن بعض القساوة تزول إذا كان قصده بالكلاب هنا كلاب البيت التي تجلس تحت مائدة أربابها، وهو المرجح.
فعلى ذلك ليست المقارنة هنا بين الأولاد والكلاب المؤذية الكريهة التي تجول في الأزقة، بل بينهم وبين كلاب البيت التي تتوقع أن تُطعم بعد إطعام الأولاد، بدليل قوله له المجد «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ» (مرقس ٧: ٢٧).
وتزول بعض القساوة إذا اعتبرنا أن المسيح خاطبها بالكلمات التي اعتاد اليهود أن يستعملوها في الكلام عن الأمم، دون أن يحكم بصحة كون الأمم أردأ من اليهود.
وتزول أكثر القساوة إذا اعتبرنا أن المسيح قال لها ذلك امتحاناً لتواضعها وإيمانها.
وتزول تلك القساوة إذا اعتبرنا أن القساوة كانت في اللفظ فقط، وأن قلب المسيح كان مملوءاً حنواً ورحمة لتلك المرأة. ومثل ذلك ما أظهره يوسف في مصر من القساوة لإخوته مع أن قلبه كان مملوءاً بالحب لهم، حتى أنه اضطر أن ينفرد عنهم ليبكي (تكوين ٤٢: ٧، ٢٤)
وخلاصة جواب المسيح لها أن الوقت لإظهار الرحمة لم يأت بعد.
٢٧ «فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَٱلْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا».
لو وجه المسيح كلامه السابق إلى غير هذه المرأة ليئس الإنسان كل اليأس منه، أو غضب غضباً شديداً وانصرف. ولكنها رأت بإيمانها وتواضعها من كلامه موضوعاً للرجاء، فحوَّلت لصالحها ما ظهر أنه ضدها. فسلَّمت بقوله إن الأمم بالنسبة إلى اليهود كالكلاب تحت مائدة أربابها، وسألته بالشكر ما يترتب على ذلك من الحقوق. فكأنها قالت: «لا يجوز أن يُحرم البنون خبزهم لتأكله الكلاب. ولكن للكلاب أن تأكل الفتات الساقط من مائدة البنين، فلا يخسر البنون شيئاً. فشفاء ابنتي كأنه فتات بالنسبة إلى كثرة المعجزات التي صُنعت لليهود». فأظهرت بهذا إيماناً مثل الإيمان التي أظهرته المرأة التي تيقنت الشفاء من مجرد لمس هدب ثوبه. لقد تيقنت الفينيقية شفاء ابنتها والتعزية والفرح لقلبها من مجرد كسرة صغيرة تحصل عليها من وليمة بركات المسيح.
أَرْبَابِهَا جاءت بذلك جمعاً لتعدد رؤساء العائلات، مع أنها أرادت واحداً هو الله لأنه رب كل عائلة.
أما خبز البنين الآن فهو المسيح. ولا أحد من أولاد آدم يعد بمنزلة الكلب ويُمنع من الجلوس على مائدة السيد، فالكل مدعوٌ إليها مجاناً. فَفِعل تلك المرأة في ذلك مثال لنا الآن، فإنها طلبت شفاءً جسدياً ولم تيأس من كثرة الموانع الظاهرة. فبالأولى يجب أن نطلب الحياة الأبدية لنفوسنا ونداوم على ذلك مهما ظهر لنا من الموانع.
٢٨ «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لَـهَا: يَا ٱمْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ. فَشُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
بعد أن امتحن المسيح إيمانها وتواضعها امتحاناً كافياً أخذ يجيب طلبها، فكافأها على تواضعها بمدحه لها، وتسجيل قصتها في الإنجيل، فتُذكر به إلى نهاية الزمان.
عَظِيمٌ إِيمَانُك لم يمدح المسيح غيرها بمثل هذا المدح سوى قائد المئة المذكور في متّى ٨: ١٠ وكلاهما من الوثنيين. وظهرت عظمة إيمانها بالنسبة إلى عدم إيمان اليهود الذين كانت لهم كل الوسائط لمعرفة المسيح والإيمان به، وكل منهما حصل بإيمانه الشفاء لغيره لا لنفسه. فإيمان المرأة كان عظيماً حتى غلب كل الموانع الظاهرة في طريق الحصول عليه. ولا شك أنها لعظمة إيمانها لم تُحسب أجنبية بعد، بل حُسبت ابنة إبراهيم المؤمن (رومية ٤: ١٦).
كَمَا تُرِيدِينَ أظهر المسيح في أول الأمر أنه لا يريد أن يعطيها أدنى شيء، ولكن بعد امتحان إيمانها فتح لها مخازن نعمته، وأذن لها أن تأخذ كل ما شاءت. فلا شك أن النفع لنفسها في هذا الأسلوب كان أعظم مما لو أجابها المسيح في بدء الطلب.
فَشُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا أي خرج الشيطان منها وبرئت من تأثيره الرديء. والمسيح شفى هذه البنت وهي بعيدة عنه كما كان في أمر ابن رئيس المجمع في كفرناحوم (يوحنا ٤: ٥٠) وخادم قائد المئة (متّى ٨: ١٣). وبرهن بذلك فاعلية قدرته بكلمته وهو غائب كفاعليتها بلمسه وهو حاضر.
نرى في قصة هذه المرأة أربعة أمور تستحق الاعتبار:
(١) إظهار محبتها كأمٍّ بأحسن طريق، وهو طلب معونة المسيح لابنتها.
(٢) تواضعها.
(٣) لجاجتها في الصلاة والمداومة عليها.
(٤) إيمانها ومدح المسيح ذلك دون غيره، لأن الإيمان أعظم الفضائل عند المسيح وأصل كل فضيلة.
ولنا من هذه القصة تعليمنا أن الله قد يبطئ عن استجابة الصلاة مع أنه عازم على الإجابة. ولنا تعليم قيمة الإلحاح والمداومة والتواضع والإيمان في الصلاة، وإثبات صدق وعده في قوله «اطلبوا تجدوا» وفي القصة تعزية عظيمة للوالدين الذين يسألون المسيح البركات الروحية لأولادهم، وإن الإيمان أصل الشجرة التي أغصانها التواضع والصبر والمداومة على الصلاة. وأن من يُحسبون أدنى الناس وأنهم محرومون هالكون يجب أن لا ييأسوا من النعمة إذا طلبوها بالإيمان والتوبة. وهي تذكرنا بقصة يعقوب وهو يصارع الملاك الليل كله فانتصر أخيراً (تكوين ٣٢: ٢٤ – ٣٢ وهوشع ١٢: ٣، ٤).
٢٩ «ثُمَّ ٱنْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِبِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ».
مِنْ هُنَاك أي من تخوم صور وصيدا.
جَانِبِ بَحْرِ ٱلْجَلِيل قال لوقا إن المسيح مرَّ بالعشر المدن التي هي شرق ذلك البحر.
إِلَى ٱلْجَبَل الأرجح أنه قصد بذلك الراحة والعزلة والانفراد ولكنه قلما حصل عليهما. والمقصود بذلك الجبل الأرض المرتفعة شمال العشر المدن وشرق الأردن.
٣٠ «فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ».
إشعياء ٣٥: ٥، ٦ ومتّى ١١: ٥ ولوقا ٧: ٢٢
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ نستنتج من كثرة المجتمعين إلى المسيح أنه لم يذهب قبلاً إلى تلك البلاد.
وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ ذكر البشير هنا أربعة أنواع من المرضى، ثم وجد «آخرين كثيرين» بأمراض مختلفة لا يسع الوقت ذكر أمراضهم بالتفصيل، فاقتصر على هاتين الكلمتين.
وَطَرَحُوهُمْ أتوا ذلك بغية تحريك شفقة المسيح عليهم، ورغبة في حصول الشفاء بالحال عن يد المسيح.
فَشَفَاهُم نفهم من ذلك أن المسيح شفى كل مريض قُدم إليه بلا استثناء، فلم يذكر متّى شيئاً من ذلك بالتفصيل، ولكن مرقس ذكر إحدى المعجزات الكثيرة التي صنعها المسيح في ذلك الوقت (مرقس ٧: ٣٢ – ٣٥).
فكما كان المسيح قادراً ومستعداً حينئذٍ على شفاء كل أولئك المرضى، هو الآن قادر ومستعد على صنع معجزات أعظم من تلك في نفوس الناس. وكما أنه لم يعسر عليه في ذلك الوقت شفاء أي نوع كان من الأمراض الجسدية، لا يعسر عليه الآن شفاء أي نوع كان من الأمراض الروحية.
٣١ «حَتَّى تَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ إِذْ رَأَوُا ٱلْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَٱلشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ».
في هذه الآية بيان تأثير المعجزات في نفوس المشاهدين، وهو تعجبهم وتمجيدهم، مما يدل على أن المسيح لم يأتِ الأرض قبل ذلك. وكرر متّى هنا ذكر أنواع المرض الأربعة التي ذكرها قبلاً على خلاف الترتيب السابق، وزاد بيان التغيير الذي حصل لكل من شفي.
إِلٰهَ إِسْرَائِيل من هذا نستدل أن أكثر أولئك الجبليين كانوا من الأمم. ولعلهم الجدريون الذين شفى المسيح في أرضهم المجنون الذي كان فيه لجئون وسألوه أن ينصرف عن تخومهم.
٣٢ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ: إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى ٱلْجَمْعِ، لأَنَّ ٱلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي ٱلطَّرِيقِ».
مرقس ٨: ١ الخ
ما أجمل هذه العناية وما أعظمها! هؤلاء الناس قد انصرفوا إلى يسوع تاركين بيوتهم وعيالهم، فجوعهم ليس عن فقر بل عن انشغال بما هو أعظم من الأكل. لذلك أرادهم يسوع أن ينتعشوا جسدياً كما انتعشوا روحياً، واهتم بإطعامهم.
المرجح أن الموضع الذي صُنعت فيه المعجزة الآتية ليس بعيداً عن الموضع الذي أشبع فيه خمسة الآلاف (متّى ١٤: ١٥ – ٢١) غير أن ذلك كان في سهل قرب بيت صيدا ونهر الأردن. ولكن هذا كان في وعر جبلي شرق ذاك (مرقس ٧: ٣١) ومما قيل في مرقس ٧: ٣٩ عن جهة انصرافه منه، وذلك أنه كان عبر البحر إلى مجدل التي هي على شاطئ البحر الغربي.
فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ أي للعناية بالجمع. وذلك كان من المسيح من تلقاء ذاته. ولا شيء يدل على أن الناس سألوه إياه. وفيه إتمام قوله سابقاً: «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متّى ٦: ٣٣)
إِنِّي أُشْفِق نُسب إلى المسيح في الإنجيل انفعالات كثيرة كالغيرة والفرح والشكر والغضب والتعجب، والذي نُسب إليه أكثر من الجميع هو الشفقة، فهي صفته الغالبة. ولا ريب في أن ذلك كُتب لتعزيتنا وفائدتنا لنعرف عظمة الملجأ الذي لنا في المسيح.
ثَلاَثَةَ أَيَّام هذا في اصطلاح اليهود، ولا يشير ضرورة إلى أكثر من يوم كامل وجزئين من يومين آخرين. فمضت عليهم ليلتان في تلك البرية. والمرجح أنهم أكلوا في اليوم الأول والثاني ما كان معهم من الطعام. ولذلك لا يجب أن يكون المعنى أنهم لم يذوقوا شيئاً في كل تلك المدة. ولكن في اليوم الثالث لم يكن عندهم شيء يؤكل. فانظروا كيف يحفظ الرب حساب الوقت الذي يُصرف في خدمته (رؤيا ٢: ٢). أما المسيح فصرف تلك الأيام بالتعليم وشفاء المرضى.
صَائِمِينَ أي بلا طعام، وليس لأنهم يؤدون فرضاً دينياً.
يُخَوِّرُوا أي يضعفون من عدم الأكل. قليل من الناس اليوم يهملون أجسادهم ليعتنوا بنفوسهم، ولكن لا بد أن المسيح يعتني بهم.
شفاهم المسيح ثم أطعمهم. وكذلك يصنع للذين يشفي أنفسهم من مرض الخطية، ثم يطعمهم من الخبز الحقيقي النازل من السماء ليتقووا فلا يخورون في الطريق السماوية.
٣٣ «فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هٰذَا عَدَدُهُ؟».
٢ملوك ٤: ٤٣
مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هذا دليل واضح أن ذلك المكان قفر خالٍ من السكان والطعام. وكان حصولهم على ما يحتاجون إليه بالوسائط الطبيعية مستحيلاً، ولم يتوقعوا الحصول على ذلك بمعجزة. وسؤال الرسل يذكرنا بقول موسى لله عن إطعام بني إسرائيل لحماً في البرية «أَيُذْبَحُ لَهُمْ غَنَمٌ وَبَقَرٌ لِيَكْفِيَهُمْ؟ أَمْ يُجْمَعُ لَهُمْ كُلُّ سَمَكِ الْبَحْرِ لِيَكْفِيَهُمْ؟» (عدد ١١: ٢٢).
ومن الغريب هنا أن الرسل نسوا معجزة إشباع خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين سابقاً، ولم يتوقعوا مثلها حينئذٍ. لكن قلب الإنسان يميل إلى عدم الإيمان في كل زمان ولا سيما في أوقات الضيق والاضطراب، فينسى النجاة السابقة، كما نسي بنو إسرائيل يوم اشتد بهم العطش أن الرب قد شق لهم البحر الأحمر، وتساءلوا «أَفِي وَسْطِنَا الرَّبُّ أَمْ لاَ؟» (خروج ١٧: ١ – ٧ ومزمور ٧٨: ١٩، ٢٠). فنسيان المراحم في الماضي يُولد الشكوك في الحاضر.
ولعدم توقع الرسل المعجزة ثلاثة أسباب:
(١) أنهم لم يروا سوى معجزة واحدة من هذا النوع. ومن وقتها رجعوا إلى الأكل بالطريق العادية.
(٢) أنه مضى عليهم ثلاثة أيام دون أن يُظهر لهم من المسيح ما يدل على أنه أراد أن يجري معجزة.
(٣) إن مشاورته لتلاميذه حملتهم على الظن بأنه أراد إطعام الجموع بوسائط عادية.
٣٤ «فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ ٱلسَّمَكِ».
لم يسألهم المسيح عن قدر ما عندهم من الطعام لأنه لا يعرفه، بل لينبههم لقلة الطعام بالنسبة إلى كثرة الجياع. وكان عدد الأرغفة يومئذٍ أكثر من عدد الأرغفة في المعجزة الماضية والسمك قليل من صغاره. فيظهر من ذلك أن هذه المعجزة غير تلك. والأرجح أن ذلك الطعام القليل هو ما أعدَّه التلاميذ لأنفسهم. وهذا يدل على بساطة معيشتهم وهم يتجولون من مكان لآخر.
٣٥ «فَأَمَرَ ٱلْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلأَرْضِ».
هذه هي العادة القديمة عند اليهود أن يتكئوا وقت الطعام لكي يهونوا على أنفسهم ويرتاحوا قبل الشروع في الأكل. ولا شك أن هذه الحكمة شرقية قديمة. فيا ليتنا نأتي إلى الطعام مرتاحين قنوعين.
أمر المسيح الجموع في المعجزة السابقة أن يتكئوا على العشب وهنا أمر من معهم بالاتكاء على الأرض، مما يؤيد القول إن المكان قفر خالٍ. وكان الاتكاء لراحة الجموع وسهولة مرور التلاميذ بينهم عند توزيع الطعام. ولا بد أن اتكاءهم للأكل في تلك الحال كان إيماناً منهم أن لهم طعاماً يكفيهم في مثل ذلك المكان.
٣٦ «وَأَخَذَ ٱلسَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَٱلسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَٱلتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا ٱلْجَمْعَ».
١صموئيل ٩: ١٣ ومتّى ١٤: ١٩ ولوقا ٢٢: ١٩
جاء الشكر قبل كسر الخبز، ولولاه ما جرت المعجزة. فلنكن شاكرين كل حين. وقد ذكر البشير هنا أن المسيح شكر كما فعل في المعجزة السابقة، لكنه زاد في الأولى أنه «َرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ» (متّى ١٤: ١٩). وفي هذا خير مثال للمؤمنين. وكان من عادة المسيح أن يُظهر موافقته للآب، فشكره لأجل الخبز ولأجل شبع الشعب الذي سيكون به. ثم وزَّع الطعام على الجموع على أيدي التلاميذ ليتحققوا أنه يقدر أن يعمل ما اعتقدوا عدم إمكانه.
٣٧ «فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ ٱلْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ».
بقاء الكسر برهان على أن الآكلين شبعوا. فأمر المسيح تلاميذه بجمع الكسر مثال للتدبير والاقتصاد، وجمعوها ليأكلوها عند الحاجة. والأوعية التي جُمعت بها الكسر هنا تختلف عن الأوعية التي جمعت بها الكسر في المعجزة السابقة، في أمرين:
(١) عددها، فإنها كانت في الأولى ١٢ وفي الثانية سبعاً. و
(٢) نوعها، فإنها كانت في الأولى قففاً وفي الثانية سلالاً وهي أكبر من القفف، فإن السل كان يسع إنساناً (أعمال ٩: ٢٥). والمسيح ميز بعد ذلك بين نوعي الأوعية يوم ذكرهم بالمعجزتين (متّى ١٦: ٩، ١٠).
٣٨ «وَٱلآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ».
كان عدد الآكلين في هذه المعجزة أقل من عددهم في المعجزة السابقة، وكان عدد الأرغفة عند التلاميذ فيها أكثر من عدد الأرغفة في الأولى، وفي كليهما أظهر المسيح قوته الإلهية. وفي هذا الخبر برهان على صدق البشير، فإنه ذكر الحادثة كما وقعت. فلو كان الخبر مصنوعاً كان زاد عظمة المعجزة الثانية على المعجزة الأولى ليُظهر أن المسيح يرتقي في أعماله. وأولئك الأربعة الآلاف صاروا أربعة آلاف شاهد بقوة المسيح وشفقته.
٣٩ «ثُمَّ صَرَفَ ٱلْجُمُوعَ وَصَعِدَ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ».
مرقس ٨: ١٠
بعد أن أطعم المسيح الجموع صرفهم وأخذ سفينة وعبر البحر إلى الجانب الغربي، فلم يبق هنالك حتى لا يعبده الشعب ويخدمه، بل ذهب ليفعل الخير في مكان آخر.
تُخُومِ مَجْدَل معنى مجدل «برج» وهو اسم عدة أماكن في فلسطين. وهو هنا قرية على بُعد ثلاثة أميال أو ساعة من مدينة طبرية شمالاً، وكان منها مريم المجدلية التي أخرج المسيح منها سبعة شياطين (مرقس ١٦: ٩).
قال مرقس أنهم ذهبوا إلى دلمانوثا (مرقس ٨: ١٠) وهي قرية قرب مجدل وأصغر منها، بينما ذكر متّى تخوم مجدل التي تضم المكانين.
السابق |
التالي |