إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 12 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح الثاني عشر

معظم هذا الأصحاح يشرح المقاومة الشديدة للمسيح لسبب معجزاته وتعاليمه وقد جُمعت فيه الحوادث بقطع النظر عن أزمنتها.

١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي ٱلسَّبْتِ بَيْنَ ٱلزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَٱبْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ».

تثنية ٢٣: ٢٥ ومرقس ٢: ٢٣ ولوقا ٦: ١

اعترض الكتبة والفريسيون على المسيح قبل ذلك ثلاثة اعتراضات: (١) ادعاؤه السلطان على مغفرة الخطايا (متّى ٩: ٣)؛ و(٢) مخالطته العشارين (متّى ٩: ١١)؛ و(٣) إهماله الصوم وما شاكل ذلك من أنواع الزهد (متّى ٩: ١٤ و١١: ١٩). واعترضوا هنا على أنه لم يحفظ السبت حسب تقاليدهم، ولم يُلزم تلاميذه بذلك. وأراد البشير بالوقت بقوله «في ذلك الوقت» الزمن التابع للحوادث المذكورة في أصحاح ٧.

فِي ٱلسَّبْتِ أي اليوم السابع من الأسبوع حسب الشريعة اليهودية، ولكن السبت المسيحي هو اليوم الأول منه وصار بدلاً من السابع بعد قيامة المسيح إكراماً لتلك القيامة.

بَيْنَ ٱلزُّرُوع كان الناس من أعداء وأصدقاء يزدحمون على المسيح فكان يضطر إلى اعتزالهم حين يريد الانفراد مع تلاميذه للصلاة. ولعل ذلك هو ما حمله على الذهاب بين الزروع، أو لعله كان راجعاً من الفصح الثاني بعد ابتدائه الخدمة (يوحنا ٥: ١).

يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ كانت تلك السنابل من الحنطة أو الشعير، وكان قطف الجائع لتلك السنابل من حقل غيره وفركها باليدين وأكلها أمراً عادياً شائعاً مباحاً حسب شريعة موسى (تثنية ٢٣: ٢٥). فنستنتج من قطف التلاميذ للسنابل أنهم فقراء، وكذلك المسيح. ومع أن المسيح كان معهم إلا أنهم لم يكن معهم خبز، واضطروا أن يدفعوا جوعهم بأكل حبوب السنابل. فكون الإنسان بلا خبز لا يعني أن الله تركه.

٢ «فَٱلْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسَّبْتِ».

كان الفريسيون يراقبون المسيح وتلاميذه دائماً ليمسكوهم في خطأ يشتكونهم عليه. فلم يلوموا التلاميذ على أنه ارتكبوا حراماً، بل على أنهم فعلوا ذلك يوم السبت، فإن الفريسيين كانوا محافظين كل المحافظة على شريعة موسى وعلى تقاليدهم، ففسروا قطف السنابل يوم السبت أنه بمنزلة الحصاد، وفركها بين اليدين بمنزلة الدرس، فحسبوها من المحرمات في السبت.

لقد غضَّ رؤساء اليهود النظر عما قصدته الشريعة بذلك اليوم من الفوائد الروحية، واقتصروا على الامتناع عن كل عمل فيه، وحسبوا من يحفظ السبت بهذا الأسلوب إسرائيلياً حقاً. فجاء في أحد كتبهم أنه يحرم في السبت ٣٩ نوعاً من العمل. ولكن المشكل عندهم كان في تحديد نوع هذا العمل، فإن فرك السنابل باليد مثلاً كان يحسب عملاً ممنوعاً في السبت! بل إن قطفها هو نوع من الحصاد، فحسبوا أن التلاميذ قد ارتكبوا نوعين من الأعمال التسعة والثلاثين الممنوعة، هما الحصاد والتذرية. فهل بعد هذا تفكير أضيق؟! وجاء في كتاب آخر تعيين المسافة التي يجوز فيها المشي بشرط أن يكون صاحبها يحتاج كل الاحتياج.

٣، ٤ «٣ فَقَالَ لَـهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ، ٤ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ وَأَكَلَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ ٱلَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ».

١صموئيل ٢١: ١ – ٦ خروج ٢٥: ٣٠ ولاويين ٢٤: ٥ الخ وخروج ٢٩: ٣٢ ولاويين ٨: ٣١ و٢٤: ٩

ردَّ المسيح على اعتراض اليهود الباطل على تلاميذه بخمسة براهين، ذكر متّى أربعة منها وذكر مرقس الخامس. الأول مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ عندما هرب من شاول وأتى إلى نوب وسأل الكاهن خبزاً فلم يجد سوى خبز التقدمة فأعطاه فأكل (١صموئيل ٢١: ١ – ٦) وكان ما فعله داود معروفاً عندهم، وكانوا يعتبرون داود من أفضل رجال الله، ويستحق أن يقتدوا بأعماله. فالضرورة أباحت ذلك لداود. فإذاً الأعمال الضرورية مباحة في يوم الراحة، لا تخالف الوصية الرابعة. واضطرار التلاميذ كاضطرار داود فعملهم مباح كعمله. وأما البراهين الأربعة الباقية فسنذكرها في مكانها.

بَيْتَ ٱللّٰهِ أي المكان الذي يظهر الله حضوره فيه، وهو يصدق على خيمة الاجتماع كما يصدق على الهيكل الذي جاء بعدها. وكانت الخيمة وقت الحادثة المذكورة في نوب (١صموئيل ٢١: ١).

خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ هو اثنا عشر رغيفاً كانت توضع على مائدة في القدس، أي القسم المتوسط من الخيمة. وكان الكهنة يأتون بخبز جديد كل يوم سبت يضعونه على تلك المائدة، ويأخذون الخبز ويأكلونه (لاويين ٢٤: ٥ – ٩). ولم يكن يجوز لغير الكهنة أن يأكل ذلك الخبز (خروج ٢٥: ٣٠). وكان هذا جزءاً مما أمر به الله من خدمة الخيمة أو الهيكل، فهو واجب كالسبت وإن كان أقل أهمية منه، لأن الله أمر بهما.

لَمْ يَحِلَّ أَكْلُه بحسب شريعة موسى التي لام الفريسيون التلاميذ على مخالفتها. فالمحافظة على الحياة في قصة داود حللت المحرم، وهكذا كان أمر التلاميذ. وفي ١صموئيل ٢١: ٦ أن خبز التقدمة كان عندما أخذه داود سخناً إذ وضع في ذلك اليوم على المائدة، وهذا دليل واضح على أن داود أخذه يوم السبت (لاويين ٢٤: ٨).

٥ «أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ أَنَّ ٱلْكَهَنَةَ فِي ٱلسَّبْتِ فِي ٱلْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ ٱلسَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟».

عدد ٢٨: ٩ ويوحنا ٧: ٢٢

البرهان الثاني عمل الكهنة يوم السبت، وهو ذبح البهائم المقدمة في ذلك اليوم وسلخها وتقطيعها وإحراقها. فهذا كان حسب حرف الشريعة محرماً، لكنه جاز لأنهم خدموا به الله. فالعمل الذي تقتضيه الخدمة التي أمر بها الله في العبادة يحل يوم السبت.

فِي ٱلتَّوْرَاة أي خمسة أسفار موسى، والمقصود هنا سفر العدد منها، فإنه فيه ذُكر نوع الذبيحة المفروض تقديمها يوم السبت (عدد ٢٨: ٩، ١٠).

فِي ٱلْهَيْكَلِ حيث يتوقع حفظ الشريعة أكمل حفظ، فيكون تعدي الشريعة فيه أشرّ من كل تعدٍّ آخر.

يُدَنِّسُونَ المراد بالتدنيس هنا العمل في يوم السبت كسائر الأيام. فلو لم تكن غاية الكهنة من أعمالهم في يوم السبت عبادة الله لكانت تلك الأعمال تدنيساً للسبت.

يُدَنِّسُونَ لأنهم أطاعوا أمر الله بخدمتهم الهيكلية في يومه. فليس كل عمل محرماً في يوم الراحة بل الأعمال الدنيوية. فالاجتهاد في خدمة الله في يومه أمر واجب.

٦ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰهُنَا أَعْظَمَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ».

٢أخبار ٦: ١٨ وملاخي ٣: ١ويوحنا ١: ٣ وعبرانيين ٣: ٣

أراد المسيح بمن هو أعظم من الهيكل نفسه. وهنا البرهان الثالث على جواز عمل التلاميذ المذكور، وهو حضور المسيح معهم وكونهم في خدمته يومئذٍ. فإذا جاز عمل الكهنة في يوم السبت (وهو مخالف لحرف الشريعة) بسبب قداسة خدمتهم في الهيكل جاز بالأولى عمل التلاميذ لحضور المسيح معهم وقداسة خدمتهم إياه، لأنه هو هيكل الله الحقيقي على الأرض لأنه به حضر الله لشعبه. ولم يكن هيكل سليمان سوى رمز إليه (يوحنا ٢: ١٩، ٢١). وكان التلاميذ حينئذٍ جياعاً فخارت قواهم. فلو لم يأكلوا حبوب السنابل ما استطاعوا خدمة سيدهم. فأبان المسيح في هذا الكلام أن خدمته أفضل من خدمة الهيكل. فلو لم يكن إلهاً حقاً لكان ذلك الكلام تجديفاً فظيعاً، لأنه ليس لأحدٍ غير الله أن يجيز للإنسان مخالفة الأوامر الإلهية.

٧ «فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلأَبْرِيَاءِ».

هوشع ٦: ٦ وميخا ٦: ٦ – ٨ ومتّى ٩: ١٣

مَا هُو أي ما معنى قول النبي «إني أريد» الخ. واقتبس المسيح هذا الكلام من نبوة هوشع ٦: ٦ ومعناه أن الله يفضل أعمال الرحمة على كل الأعمال الطقسية مهما عظم شأنها، واقتبسه المسيح مرة أخرى قبل هذه (انظر شرح متّى ٩: ١٣)

رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً إن حدث وجوب الاختيار بين الرحمة والذبيحة، واستحال أن يجتمعا معاً، ووجب أن نختار واحدة منهما، فنختار الرحمة ونترك الذبيحة. ومثل ذلك قول الرسول «وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا» (١كورنثوس ١٣: ٣). فقد خالف الفريسيون شريعة الرحمة وهم يلومون التلاميذ بسبب أكلهم وهم في حاجة إلى الطعام، لأنهم حافظوا على شريعة السبت الطقسية.

ٱلأَبْرِيَاء أي التلاميذ الذين تبرأوا، لأن قطفهم الطعام كان من أعمال الرحمة، رحموا به أجسادهم، ولأنهم كانوا حينئذ يمارسون أعمال الرحمة والمحبة بخدمتهم للمسيح.

٨ «فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضاً».

البرهان الرابع على جواز عمل التلاميذ هو سلطان المسيح وإباحته لهم ذلك العمل. فالمسيح هو الله، وهو أحقُّ بتفسير شريعة السبت وتوضيح ما تأمر به وما تنهى عنه. فرضاه عن فعل تلاميذه هو تبرئة لهم. وهذه الآية تبرهن لاهوت المسيح صراحةً وبقاء شريعة يوم الراحة في النظام المسيحي.

ٱبْنَ ٱلإِنْسَان ورد هذا الاسم ٨٧ مرة في العهد الجديد، ولم ينسب في مرة منها إلى غير المسيح.

رَبُّ ٱلسَّبْتِ السبت في سلطان المسيح ليجعله وفق الغاية التي وُضع لها، وهي مجد الله وما لا يجوز. وقوله إنه «رب السبت» لا يعني أن المسيح أبطل السبت، بل يدل على أنه أثبته، لأنه لو أبطل السبت لم يبقَ ربَّه. فالله عيَّن السبت لخدمته، والمسيح هو الله لقوله إنه رب السبت. فكل خدمة له في يوم الراحة تقديس لذلك اليوم. فللمسيح سلطان على السبت كما أن له سلطاناً على مغفرة الخطايا. وسلطانه على السبت سندٌ لإبدال اليوم السابع باليوم الأول، ليكون الأحد هو سبت الراحة. والمسيح أمر تلاميذه أن يعلموا كل ما أوصاهم به، وهم علموا المؤمنين أن يحفظوا يوم الأحد سبتاً للرب.

وزاد مرقس على هذه البراهين الأربعة برهاناً خامساً، هو قوله «السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس ٢: ٢٧) فيحقُّ للإنسان أن يعمل في السبت لحفظ حياته.

٩ «ثُمَّ ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ».

مرقس ٣: ١ ولوقا ٦: ٦

في الأعداد ٩ – ١٣ مناظرة أخرى جرت بين المسيح والفريسيين التقليديين في حفظ يوم السبت. وذكر متّى هذه بياناً لشدة مقاومة الفريسيين الدائمة للمسيح، وردّ المسيح على اعتراضاتهم. وكانت نتيجة المناظرة أنهم عزموا على قتله.

ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاك من موضع المناظرة، وهذا يعني أن المسيح كان يشغل وقته بالذهاب من موضع إلى آخر للتبشير (متّى ١١: ١ و١٥: ٢٩).

إِلَى مَجْمَعِهِم المرجح أن هذا المجمع كان في قرية كبيرة أو في مدينة بالجليل. وقال لوقا إن المسيح علم هناك (لوقا ٦: ٦).

١٠ «وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ، فَسَأَلُوهُ: هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ».

لوقا ١٣: ١٤ و١٤: ٤ ويوحنا ٩: ١٦

يتناول الإنجيل هنا مسألة أخرى من جهة حفظ السبت، وهو هل يجوز عمل الشفاء فيه؟ رأينا في الأعداد ١ – ٨ أن الشغل ممنوع أيضاً. وإذا كان ممنوعاً، فما هي حدود ذلك؟

يَدُهُ يَابِسَة ذكر لوقا أن هذه يده اليمنى، فالمصيبة عظيمة. وهذا أليبس نوعٌ من الشلل يُبطل الحركة ويمنع النمو، فهو كمرض يربعام (١ملوك ١٣: ٤ – ٦). ولا ضرورة للظن أن حضور ذلك الإنسان إلى المجمع كان بمؤامرة الفريسيين ليتخذوا شفاء المسيح إياه علة للشكوى، لأن المصابين كانوا يتبعون المسيح حيث ذهب.

فَسَأَلُوه أي الفريسيون (كما يظهر من عدد ١٤). وسأله الكتبة أيضاً (لوقا ٦: ٦ – ١١). وسأله الهيرودسيون أيضاً (مرقس ٣: ١ – ٦). ولم يقصدوا بالسؤال أن يستفيدوا، بل أن يجدوا علة في جوابه يشتكون بها عليه، كما قصدوا أن يقللوا احترام الشعب للمسيح عندما يظهرونه مخالفاً لشريعة موسى ولإيجاد ما يشتكون به عليه للمجلس المحلي.

لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْه لرؤساء المجمع الذين هم المجلس المحلي. ويظهر من سؤالهم أنهم حسبوا الإبراء في السبوت محرماً.

١١ «فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ هٰذَا فِي ٱلسَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟».

خروج ٢٣: ٤، ٥ وتثنية ٢٢: ٤

أجابهم المسيح على سؤالهم لكي تجيبهم ضمائرهم بالجواب الصحيح وتبين لهم خطأهم بإنكارهم على المسيح عنايته بالناس، وهو ما لا ينكرونه على أنفسهم في عنايتهم بالبهائم.

أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُم أشار بهذا إلى أمر كثير الوقوع أجازته الشريعة اليهودية، لكن علماء اليهود غيّروا هذه الشريعة بعد ذلك، فلم يجيزوا لصاحب الخروف الساقط إلا أن يضع خشبات في الحفرة يصعد عليها الخروف وحده.

١٢ «فَٱلإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ ٱلْخَرُوفِ! إِذاً يَحِلُّ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ فِي ٱلسُّبُوتِ».

الذي يجوز من أفعال الرحمة في السبوت للحيوان أولى أن يجوز فيها للإنسان. فإذاً أفعال الرحمة جائزة يوم الراحة للإنسان والحيوان.

١٣ «ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى».

ما أثمن قيمة الإنسان في عيني يسوع، فكما أن ابن الإنسان هو رب السبت، كذلك فإن الإنسان نفسه يجب أن يستعمل السبت لأجل خيره وتقديسه. ومعنى تقديس السبت هو في تمجيد الله بخدمة الآخرين، لا سيما الذين هم أقل حظاً منا في الحياة. هوذا إنسان يده يابسة لا يستطيع العمل فيعيده يسوع للعمل والكرامة.

مُدَّ يَدَكَ لو لم يكن لذلك الإنسان إيمان ما استطاع أن يمد يده لأنها كانت يابسة لا قوة لها على أن تتحرك، فمده يده برهان على ثلاثة أمور: صدق إيمانه؛ والقوة الإلهية؛ وصحة المعجزة. وقد أظهرت المعجزة قوة الله الشافية، وإرادة المصاب أن يحرك يده. ولكن لا نعلم أي الأمرين سبق الآخر. وكما فعل ذلك الإنسان يومئذٍ يجب أن يفعل الخاطئ الآن، لأن المسيح يقول لكل خاطئ: آمن بي، كما قال له مد يدك. فمن أطاع الأمر الإلهي نال قوة على أن يؤمن، كما نال ذاك قوة على أن يمد يده اليابسة.

ولنا من هاتين الحادثتين والكلام عنهما معرفة ما يجوز عمله في يوم الرب، وهو الأعمال الضرورية، والأعمال الخيرية، والأعمال المأمور بها في عبادة الله، ولا يجوز غيرها في ذلك اليوم. فلا يجوز أن نحسب ما ليس بضروري ضرورياً، ولا أن ننفق شيئاً من ذلك اليوم بالنزهات أو الأعمال الدنيوية العادية. فالذي يفعل هذا يدَّعي بأن ما يخص رب السبت يخصه هو نفسه. فلا حقَّ لأحد أن يخالف شريعة يوم الرب، ولا حق له أن يخالف غيرها من وصايا الشريعة. نعم إن المسيح أبطل كل تقاليد الشيوخ وتعاليمهم الكاذبة التي غيَّروا بها يوم الراحة والعبادة، فجعلوه يوم عبودية. لكنه لم ينطق بكلمة يُظهر بها أنه قصد نسخ الوصية الآمرة بحفظه، بل أثبتها وبيَّن دوامها في النظام المسيحي بقوله: «ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ» (لوقا ٦: ٥).

فَعَادَتْ صَحِيحَةً أعلن المسيح في عددي ٦، ٨ أنه إلهٌ، وأثبت تلك الدعوى في هذا العدد، فخيب المسيح أمل الفريسيين أن يجدوا عليه علة للشكوى، لأنه لم يدنس فيها السبت بعملٍ جسدي لا ولا بحركة إصبع، فلم يمس المصاب ولم يقل له «اشفَ» بل اقتصر على أن أمره أم يمدَّ يده، وهذا ليس ممنوعاً يوم السبت.

١٤ «فَلَمَّا خَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ».

متّى ٢٧: ١ ومرقس ٣: ٦ ولوقا ٦: ١١ ويوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٩ و١١: ٥٣

هذا أول نبأ في بشارة متّى بأن الفريسيين عزموا بعد المؤامرة على قتل المسيح. وأما ما كان من أمر أهل الناصرة في أن يطرحوه من فوق الجبل فكان نتيجة هيجان الجمع على غير قصد. ولم يعزم الفريسيون على قتله إلا بعد أن عجزوا عن دفع حججه. وهذا ما حدث مع ألوف شهداء المسيح الأمناء، الذين سُجنوا ورجموا وجلدوا وأُحرقوا وأُغرقوا، لا بالحجة والبرهان.

تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ المرجح أن الاجتماع للتشاور لم يكن عاماً، بل حُصر في فريسيي المدينة التي صُنعت فيها المعجزة. إلا أن مرقس ذكر أن الهيرودسيين اتفقوا معهم في المؤامرة، لأسباب دينية وسياسية وشخصية، وأعظمها حسدهم المسيح على اتباع الناس له. وما حدث بعد هذه المعجزة يرينا أن ليس للمعجزات تأثير حسن في المشاهدين إن كانوا من المتعصبين.

١٥ «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً».

متّى ١٠: ٢٣ ومرقس ٣: ٧ ومتّى ١٩: ٢

فَعَلِمَ يَسُوعُ أي علم مؤامراتهم مع أنها كانت سرية.

ٱنْصَرَف إلى بحر الجليل (مرقس ٣: ٧) لأنه لو بقي لكان في خطر، إما من تحريك أعدائه رجال الحكومة عليه، وإما من تهييجهم أوباش المدينة عليه، وإما من أن يغتالوه أو يقتلوه مكراً. وانصرافه لم يكن عن خوف بل لحكمة، لأن ساعته للموت لم تكن قد أتت، وكان يجب أن يتمم وظيفته (باعتباره نبياً) في تعليم تلاميذه حقيقة ملكوته وقواعد نظامه، قبل أن يقدم جسده ذبيحة على الصليب (باعتباره كاهناً).

وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ انصرافه لم يعطله عن عمل الخير، ولم يقسِّ جورُ الناس عليه قلبه. وقد «تبعه جمع كثير من الجليل ومن اليهودية ومن أورشليم ومن أدومية ومن عبر الأردن والذين حول صور وصيدا» (مرقس ٣: ٧، ٨) وكان سكان بعض تلك الأماكن من الأمم. فالذين سمعوه كان بعضهم من الأمم، فاقتبس (في عدد ٢١ من هذا الأصحاح) قول إشعياء «على اسمه يكون رجاء الأمم».

فَشَفَاهُمْ جَمِيعا أي شفى جميع المصابين بين أولئك الجموع.

١٦ «وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ».

متّى ٩: ٣٠

لأنه لم يرد أن يزيد غضب أعدائه عليه لزيادة انتشار شهرته، لئلا يعطلوه عن التبشير. ولم يرد أن يظهر أن شفاء الأجساد أهم من شفاء النفوس بتعليمه الإلهي. وأبى أن يجعل في قلوب الناس آمالاً دنيوية لئلا يقيموه ملكاً بالرغم منه، ولئلا ينشئ في قلوب ولاة الرومان خوف الفتنة. وتوصيته إياهم بأن لا يظهروه برهان تواضعه.

١٧ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».

إشعياء ٢: ١ – ٤

أراد البشير أن يبين أن اعتزال المسيح الجموع كان وفق نبوة إشعياء (إشعياء ٤٢: ١ – ٤). وامتاز متّى عن سائر البشيرين باقتباسه كلام الأنبياء وبيان إتمامه بالمسيح. ولم يقتبس هنا كلام النبوة بلفظه تماماً، بل بمعناه. لقد انتظر اليهود أن يكون مسيحهم رئيس جيش منتصراً، فلما رأوا يسوع يعتزل الجموع حكموا بأنه ليس المسيح، فأورد متّى هذه النبوة ليبين خطأهم بذلك الحكم، وأن تصرف يسوع تحقيق لنبوَّة إشعياء.

١٨ «هُوَذَا فَتَايَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي ٱلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِر ٱلأُمَمَ بِٱلْحَقِّ».

متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥

فَتَايَ وفي العبرانية «عبدي» لأنه وهو ابن الله أخذ صورة عبد (في ٢: ٧) ومع كونه ابناً تعلم الطاعة (عبرانيين ٥: ٨).

ٱلَّذِي ٱخْتَرْتُهُ اختار الله المسيح ليكون رسوله ومخلِّص شعبه، لأن الحكمة الإلهية لم تر غيره لائقاً لتلك الوظيفة من الناس والملائكة.

ٱلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي وهذا ما قاله الآب بصوتٍ من السماء (متّى ٣: ١٧) فكل رجائنا في قبول الآب لنا مبنيٌ على أن المسيح نائبنا مختار محبوب، سُرت به نفس الآب.

أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ حدث هذا بعلامة منظورة وقت معمودية يسوع (متّى ٣: ١٦) فصار أهلاً لممارسة وظيفته (يوحنا ٣: ٣٤).

فَيُخْبِر ٱلأُمَمَ بِٱلْحَقِّ الحق هو خلاصة المسيحية والإنجيل، بدليل قوله في عدد ٢٠ «حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ» إشارة إلى انتشار الإنجيل في كل الأرض. وهذا لا يناقض أن المسيح أُرسل إلى اليهود لا إلى الأمم، لأن ذلك مقصور على خدمة المسيح الشخصية وهو على الأرض.

١٩ «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ».

هذا العدد يكمل عدد ١٨، وفيه بيان صفات المسيح باعتبار شخصيته واعتبار وسائط تأسيس ملكوته وامتداده. أما صفاته الشخصية فهي الوداعة واللطف والحلم وحب السلام واعتزال الجاه والمجد العالمي. وأما وسائط امتداد ملكوته فكانت روحية، قائمة بالهدوء والانفعالات القلبية. فما كان المسيح يصيح كأبطال الحرب، ولا كان يطلب النصرة بكلام الافتخار أو بضجيج المناداة أو بهتاف تابعيه في الشوارع أو بالجدال العنيف أو بالإجبار أو علامات الجاه. لقد كان مختلفاً عن الكتبة محبي الخصومات، وولاة الرومان الذين كان دأبهم الإجبار، وأعمال المسحاء الكذبة في تهييج الفتن. وعلى ذلك يكون الدين الحق في كل عصر وديعاً هادئاً لطيفاً لا يقوم بالصياح ولا الخصومة ولا الإجبار ولا كلام الافتخار فهو محصور في المحبة والتوبة والإيمان والوقار والتقوى.

٢٠ «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ ٱلْحَقَّ إِلَى ٱلنُّصْرَةِ».

بهذا يتجلى لطف المسيح الحقيقي، فهو يواسي المساكين ويشفي المرضى، ولكنه كان يعنِّف المتغطرسين والمتكبرين والمرائين المنافقين الذين يتسترون باسم الدين وهو منهم براء.

هذا العدد كالعدد الذي قبله يكملان عدد ١٨ حيث قيل «فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ» وقيل في هذا «حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ» وما بين هاتين العبارتين بيان وسائل تحقيق النصرة. وكلها تظهر أن ملكوت المسيح ليس من هذا العالم (يوحنا ١٨: ٣٦) وإنه لم يأت بمراقبة (لوقا ١٧: ٢٠) بحسب القول «لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زكريا ٤: ٦) ووفق قول مؤسس ذلك الملكوت «لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ» وقوله «لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ» (يوحنا ١٨: ٣٦، ٣٧).

قَصَبَةً مَرْضُوضَةً … َفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً هاتان في غاية الضعف. فالقصبة جوفاء فارغة. فإن كانت مرضوضة كانت في غاية الضعف تُقصف بأقل قوة. والفتيلة المدخنة هي فتيلة السراج إذا نفد زيته، فأضعف نفخة تطفئها. ويراد بكلام بالمثلين: القلب المنسحق بالتوبة والندامة، والقلب الذي فيه بقية من أشعة المحبة والإيمان. والمعنى أن المسيح لا يقسو على التائبين بالتوبيخ والإنذار لما سلف من آثامهم، بل يقويهم ويعزيهم ويجبر قلوبهم المنكسرة، ويأتي بزيت النعمة للقلوب التي بقي فيها قليل من نار المحبة والغيرة الدينية. فالخاطئة التي أتت بيت سمعان وغسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها كانت «قصبة مرضوضة» أراد سمعان أن يقصفها، أما المسيح فجبر كسر قلبها (لوقا ٧: ٣٧ – ٤٨). وزكا عشار أريحا كان فتيلة مدخنة أراد الفريسيون أن يطفئوها ولكن المسيح أتاها بزيت النعمة فأوقدها (لوقا ١٩: ١ – ١٠).

ٱلنُّصْرَة هي غاية المسيح وملكوته، ولا بد من أن تكون مجيدة. ولو أنها لم تكن كما توقعها اليهود من مسيحهم.

٢١ «وَعَلَى ٱسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ ٱلأُمَمِ».

عَلَى ٱسْمِه أي عليه نفسه. ويُظهر هذا العدد شدة حاجة العالم إلى عمل المسيح الخلاصي، وهو ينبئ أن رسالة المسيح هي لكل العالم، إذ تنضم الأمم إلى مملكته. وذكر مرقس أن كثيرين من الذين تبعوا المسيح في ذلك الوقت كانوا من الأمم (مرقس ٣: ٧، ٨) ولا بد أنهم فرحوا بقول المسيح في هذا العدد.

ٱلأُمَمِ هذا على ما في الترجمة السبعينية، وفي العبرانية «الجزائر». ولا بد أن يكون المقصود سكان تلك الجزائر، وهم كانوا من الأمم. فالمراد بالكلمتين واحد، وهو أن الأمم يسمعون الإنجيل ويقبلونه.

٢٢ «حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ، حَتَّى إِنَّ ٱلأَعْمَى ٱلأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ».

متّى ٩: ٣٢ ومرقس ٣: ١١ ولوقا ١١: ١٤

ذكر متّى هذه الحادثة ليبين مقاومة أخرى من رؤساء اليهود للمسيح، وإنذار المسيح الرهيب على أثر ذلك.

مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَس يُفهم من القرينة أن عماه وخرسه كانا نتيجة سكنى الشيطان فيه. فمصيبته كانت من شر المصائب وأشد من مصيبة المجنون الذي ذُكر في متّى ٩: ٣٢، ٣٣، لأن ذاك كان مصاباً بالخرس وليس العمى.

٢٣ «فَبُهِتَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ وَقَالُوا: أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟».

فَبُهِتَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ هذه المعجزة المثلثة الشفاء أثرت في الناس تأثيراً غريباً، كما دلَّ عليه قوله «بهت» أي تحير ودُهش كثيراً، فسألوا هذا السؤال.

أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟ أي ألعله المسيح المنتظر الذي قالت النبوات إنه يكون نسل داود؟ (مزمور ١١٠). وابن داود لقبه الغالب على ألسنة اليهود. وسألوا ذلك لاستنتاجهم أنه لا يقدر على هذا العمل إلا المسيح (متّى ٩: ٢٧). وسؤالهم هذا أخاف الفريسيين وأغاظهم وحملهم على التجديف الآتي.

٢٤ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: هٰذَا لاَ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ».

متّى ٩: ٣٤ ومرقس ٣: ٢٢ ولوقا ١١: ١٥

بعلزبول هو من آلهة الساميين القدماء، وقد دعاه اليهود «بعلزبوب» أي إله الذباب، للتحقير. ثم جعلوه «رئيس الشياطين» زيادة في الاستهزاء. والفريسيون هنا هم الكتبة (وهم قسم من الفريسيين) أتوا من أورشليم لمجرد أن يراقبوا أعمال المسيح ويمحو تأثيرها (مرقس ٣: ٢٢). فالظاهر أن رؤساء الأمة اليهودية اضطربوا كثيراً من نجاح المسيح، ورأوا أنه من أهم الأمور أن يحفظوا مقامه ويمنعوا انتشار صيته بعد ذلك.

وأرسل رؤساء اليهود قبل هذا لجنة كهذه إلى يوحنا المعمدان سألته: من هو؟ ولماذا يُعمِّد؟ ولم يكن ممكناً أن ينكر الفريسيون المعجزة، فلم يبق لهم واسطة لمنع تأثيرها في الشعب إلا بأن ينسبوها إلى السحر ومشاركة المسيح للأرواح الشريرة. وهذا يدل على شر قلوبهم وعداوتهم وضعف حجتهم وصحة معجزة المسيح التي لو أمكنهم إنكارها ما قصروا عنه. فعدم اقتناعهم بمعجزات المسيح وإيمانهم به ليس إلا لعمى قلوبهم وقساوتها، ومحبتهم الظلمة والضلال أكثر من محبتهم للنور والهدى.

بَعْلَزَبُولَ هو اسم إهانة لبعلزبول أي إله الذباب وكان أحد آلهة الفلسطينيين (٢ملوك ١: ٢، ٣، ٦). عبدوه لاعتقادهم أنه وقاهم من ضربة الذباب وما شابهه من البعوض والهوام الضارة. أو لأن تمثاله كان كهيئة ذبابة. فبدل اليهود الباء في آخر اسمه باللام للإهانة. لقد نسب الكتبة معجزة المسيح إلى قوة الشيطان بعد تشبيهه ببعلزبول، وهذا دليل واضح على غاية بغضهم للمسيح واحتقارهم إياه.

رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ أي رئيس الملائكة الذين سقطوا من المقام الأسنى. ويُعرف بإبليس والشيطان. ولقبه اليهود ببعلزبول لزيادة الإهانة. اتهم الكتبة يسوع بمشاركة أنجس الأبالسة لكي يُخرج بقوته الشياطين الذين هم دونه، فارتكبوا بذلك أفظع تجديف. ولا يزال أعداء الإنجيل إلى اليوم يلقبون المسيحيين بأقبح الألقاب وينسبون إليهم شر الأعمال.

٢٥ «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ».

متّى ٩: ٤ ويوحنا ٢: ٢٥ ورؤيا ٢: ٢٣

كُلُّ مَمْلَكَةٍ ردَّ يسوع تهمتهم الفظيعة بدليل مبني على مبادئ سياسية يُسلم بها الجميع، وهي أن المملكة الواحدة إذا حارب بعضها بعضاً خربت لا محالة. ولا نظن ملكاً يبلغ به الجهل أن ينشئ حرباً بين رعاياه. فإذا استحال ذلك في ملك بشري فبالأولى أن يستحيل في أمر الشيطان الذي هو أحكم من الناس، كما أنه أشر منهم. فلا يتوقع أن يفسد عمله عمداً، وهو الذي بدأه منذ بداءة العالم. فمُهلك غيره لن يهلك نفسه.

فمن أوضح المبادئ أن نجاح المملكة متوقف على اتحاد رؤسائها واتفاقهم في الرأي والعمل. فمملكة الشيطان بأسرها مع ما بين جنودها من روح البغضة والخصام متحدة كل الاتحاد على مقاومة ملكوت المسيح.

وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْت ما صدق على المملكة يصدق على المدينة والبيت. فإن حارب بعض أهل مدينة بعضاً، وإن قاوم بعض عائلة بعضاً فلا بد أن تكون النتيجة خراب تلك المدينة أو ذلك البيت. فهل يجهل الشيطان أمراً واضحاً لكل إنسان؟ وهل يقلب عرشه بيده؟

٢٦ «فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يُخْرِجُ ٱلشَّيْطَانَ فَقَدِ ٱنْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟».

ما صدق على المملكة والمدينة والبيت يصدق على الشخص. فإن حارب الشيطان نفسه ما أمكنه أن يثبت، ولأبطل قوته وهدم مملكته. فأورد المسيح ذلك ليبين استحالة تهمتهم أنه شريك لعدوِّه، واستحالة ظنهم أن الشيطان يساعده على إخراج جنوده من الناس بعدما أرسلهم ليدخلوا فيهم ويعذبوهم، واستحالة حكمهم أن الشيطان يخرب بإحدى يديه ما يبنيه بالأخرى.

٢٧ «وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ».

أَبْنَاؤُكُم أي أبناء أمتكم اليهود وتلاميذكم وأتباعكم. وفي هذا العدد دفع ثان لتلك التهمة. فإن ما اتهموه به أن صحَّ عليه، صح على أبنائهم الذين يدَّعون أنهم يخرجون الشياطين، ويُصدِّق الناس أنهم يفعلون ذلك. إنهم لا يتهمونهم بمشاركة للشياطين، فبأي حق يتهمون المسيح بذلك؟ ويظهر ادعاء اليهود أن لهم قوة على إخراج الشياطين من أعمال ١٩: ١٣ فقد كان لسكاوا رئيس كهنة لليهود سبعة بنين يدَّعون تلك القوة، وذُكر مثل ذلك في تاريخ يوسيفوس. فلم يقل المسيح أنهم كانوا يُخرجون الشياطين حقاً. والمرجح أنهم لم يستطيعوا ذلك بدليل ما قيل في متّى ٩: ٣٣. فعندما كان المسيح يُخرج شيطاناً كان المشاهدون يشهدون بأنه «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هذَا فِي إِسْرَائِيلَ!».

يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ أي يثبتون كذبهم وبغضهم وظلمهم، إذ ينسبون إليه ما ينسبونه إليهم، مع أن الفعل واحد. والأبناء يحكمون على آبائهم عقلياً لا لفظياً.

٢٨ «َلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ».

دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ ولوقا ١: ٣٣ و١١: ٢٠ و١٧: ٢٠، ٢١

ذكر المسيح في هذا العدد النتيجة التي كان على الكتبة أن يستنتجوها لو تبعوا أحكام عقولهم، ولو لم تكن قلوبهم عمياء قاسية.

بِرُوحِ ٱللّٰه أي أنه ثبت مما بيَّنه لهم أن إخراج الشياطين لا يمكن أن يكون بقوة الشيطان. فإذاً لا بد من أن يكون بقوة روح الله، أي بقوة الله نفسه.

أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰه الله لا يعمل المعجزات ليثبت بها الكذب. فإذاً دعوى يسوع صحيحة، وملكوت الله قد أتى، ومُلك المسيح ابتدأ حسبما أنبأ الأنبياء وتوقع اليهود. ولو أن شيوخ اليهود أخطأوا في ماهية حكمه. وهذا برهان قاطع على أن المسيح أتى، وملكوته تأسس، ولو أن رؤساء اليهود لم يقتنعوا بذلك البرهان.

٢٩ «أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟».

إشعياء ٤٩: ٢٤ ولوقا ١١: ٢١ – ٢٣

أورد المسيح هنا مثلاً من الحوادث اليومية المألوفة ليوضح لهم عدم صحة دعواهم أنه شريك الشيطان، وليبرهن صحة دعواه أنه يقاومه. فقال إنه إذا سُلب أحد الأغنياء لا يصدق أحدٌ أنه هو سلب نفسه، بل يؤكد الجميع أن السالب عدوٌ له أقوى منه. فكان يجب أن الكتبة عندما رأوا أن الشيطان فقد قوته وطُرد من حصنه يستنتجون أن من هو أقوى من إبليس رئيس هذا العالم التقى به وهزمه (يوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١).

بَيْت أي نفس الإنسان الذي دخله الشيطان.

ٱلْقَوِيّ أي الشيطان.

أَمْتِعَتَهُ أي آلاته، وأراد بها جنوده الأبالسة الذين يدخلون الناس. فإخراج المسيح تلك الجنود وسكنه محلها في قلب الإنسان برهان على أنه أقوى من الشيطان، وأنه ربطه واستولى على بيته.

٣٠ «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ».

قال المسيح إنه والشيطان في حرب دائمة، وزاد على ذلك هنا أن كل من ليس معه هو عدوٌ له كالشيطان، وشريك لذلك الروح الشرير. وكان الكتبة ضده، فيكونون بذلك أعداءه وشركاء الشيطان، فبدل أن يثبتوا شركته للشيطان أثبت عليهم تلك الشركة عينها. وأظهر المسيح بهذا الكلام أن الحياد في تلك الحرب العظيمة بين ملكوته وملكوت الشيطان غير جائز، وأنه يحسب من لا يحارب معه بكل قوته عدواً له (رومية ٨: ٧).

وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ هذا مثل مأخوذ من عمل الحصاد، وهو به يوضح ويؤكد أن «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ». فالذي لا يجمع النفوس مع المسيح للخلاص يبددها ويمنعها من الخلاص فيهلكها. وخلاصة كل ذلك أن في هذا العالم مملكتين فقط، هما مملكة النور ومملكة الظلمة، أو مملكة الحق ومملكة الباطل، أو مملكة البر ومملكة الإثم، أو مملكة الله ومملكة الشيطان. وهاتان المملكتان متضادتان، لا تنتهي الحرب بينهما، وليس فيها صلح ولا هدنة. فكل مخلوق عاقل لا بد من أن يكون من إحدى تلك المملكتين في الدنيا وفي الآخرة، يشارك جنودها هنا في العمل، ويشاركهم هناك في الجزاء.

٣١ «لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيفُ عَلَى ٱلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ».

مرقس ٣: ٢٨ ولوقا ١٢: ١٠ وأعمال ٧: ٥١ وعبرانيين ٦: ٤ – ٦ و١٠: ٢٦ – ٢٩ و١يوحنا ٥: ١٦

اكتفى المسيح بما قاله من العدد ٢٥ – ٣٠ بالرد على الكتبة بدعواهم أنه شريك الشيطان، وأخذ هنا يبكتهم على تجديفهم عليه وبغضهم له بأن يظهر لهم فظاعة إثمهم وشر العقاب الذي عرضوا أنفسهم له.

لِذٰلِكَ أي لتهمتكم الباطلة الناتجة عن الحسد والبغض.

أَقُولُ لَكُمْ أي أنا ابن الله وابن الإنسان، أقول لكم أيها الأعداء الذين تتهمونني كذباً.

كُلُّ خَطِيَّةٍ مهما كانت فظيعة يمكن أن تُغفر إلا الخطية التي ذكرها بعد ذلك.

وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيف التجديف أكبر من الحلف، لأنه أعظم إهانة لله ودينه، ولأنه يُرتكب عن عمد.

عَلَى ٱلرُّوحِ شرح المقصود بالتجديف على الروح في العدد الآتي.

٣٢ «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي».

هذا شرح العدد ٣١. والتجديف على الروح القدس هو الاسترسال في المكابرة رغم معرفة الصواب، بل هو زيادة التحقير للصواب حتى يعتاد القلب على العمى الروحي فلا يقتنع لأنه لا يريد الاقتناع، لذلك لا يغفر له أبداً.

عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَان على المسيح في اتضاعه، أي وهو في صورة عبد على الأرض (فيلبي ٢: ٧). فيكون قصده أن الطعن فيه (ما دام لاهوته محجوباً) إثم يُغفر. وواضحٌ أن ذلك الغفران يُنال على شرط أن يكون مقروناً بالتوبة وطلب المغفرة. ومن أمثال ذلك تعييرهم إياه بأنه من الناصرة، وأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه أكول وشريب خمر. ومن أمثاله ما ارتكبه شاول الطرسوسي قولاً وفعلاً.

وَأَمَّا… عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس المقصود بهذا أن الروح القدس شهد أن يسوع هو المسيح، فكانت مقاومة الكتبة له بالبغض والإهانة مقاومة للروح القدس نفسه، وذلك إثم لا يغفَر (انظر مرقس ٣: ٣٠). لقد نسبوا القوة التي صنع بها المسيح المعجزات إلى الشيطان، والمسيح صنعها بقوة الروح القدس، فيكونون قد أنزلوا ذلك الروح مصدر كل خير منزلة الشيطان مصدر كل شر، وهذا أفظع تجديف.

فَلَنْ يُغْفَرَ لَه وسبب ذلك أن ليس لهذه الخطية مغفرة، إذ لا يرتكبها إلا الذين حصلوا على أحسن معرفة بالحق كالكتبة الذين شاهدوا براهين لاهوت المسيح بمعجزاته (عبرانيين ٦: ٤ – ٧ و١٠: ٢٦، ٢٧)؛ وأن مرتكبها لا يمكن أن يتوب ويطلب المغفرة لأن الذي يأتي بالخاطئ إلى التوبة هو الروح القدس الذي أغاظه الخاطئ بمقاومته عمداً حتى فارقه.

والذين في خطر الوقوع في هذه الخطية هم أولاد المسيحيين إذا بقوا بلا توبة، والعاملون في بيوت الأتقياء، والذين واظبوا على سماع الوعظ والإنذار ولم يتأثروا. والذين في خطر مقاومة الروح القدس هم الذين يرفضون تنبيهاته وتوبيخاته، ويتخذون فعله في تجديد القلب موضوعاً للهزء والضحك، لأنهم مشغولون بالملاهي والملذات الدنيوية.

لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي يوضح مرقس ذلك بقوله «وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً» (مرقس ٣: ٢٩) وقد قسم اليهود الزمان كله إلى قسمين عظيمين: الحاضر، والمستقبل. وسمّوا الأول «هذا العالم» والثاني «العالم الآتي». فذكر متّى القسمين بمعنى أن ذلك الذنب لن يُغفر أبداً. فإذاً الخطايا قسمان: قسم يُغفَر وقسم لا يُغفَر. فكما أن الذي يُغفر يُغفر إلى الأبد، كذلك الذي لا يُغفَر لن يغفر إلى الأبد. ولا صحَّة لزعم البعض أن بعض الخطايا تُغفر في العالم الآتي وإن لم تُغفر هنا.

٣٣ «اِجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً، أَوِ ٱجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً، لأَنْ مِنَ ٱلثَّمَرِ تُعْرَفُ ٱلشَّجَرَةُ».

متّى ٧: ١٧ لوقا ٦: ٤٣، ٤٤

إذا نظرنا في هذه الآية بقطع النظر عن القرينة رأيناها وفق قول المسيح في وعظه على الجبل (متّى ٧: ١٦ – ٢٠) ومعناه أنه يجب على من يقولون إنهم أتقياء أن يجعلوا حياتهم وفق كلامهم. ومن القرينة نرى أن قصد المسيح أنه يجب على الذين اتهموه بأنه شريك الشيطان أن يقيسوا أعماله على هذا القياس، أي أن يحسبوا الشجرة جيدة إذا رأوا ثمرها جيداً، ويحسبوها رديئة إذا رأوا ثمارها رديئة. فكأن المسيح يقول: إن كانت أعمالي جيدة يستحيل أن تكون بشركة الشيطان، لأن الشيطان مصدر كل شر لا شركة له في شيء من الأعمال الحسنة فإن الكتبة سمعوا أقوال المسيح وشاهدوا أعماله. فإذاً لا عذر لهم على تلك التهمة الباطلة، لأن إخراج الشيطان من الإنسان وشفاءه من الأثمار الجيدة.

٣٤، ٣٥ «يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِٱلصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ لإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلصَّالِحِ فِي ٱلْقَلْبِ يُخْرِجُ ٱلصَّالِحَاتِ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشُّرُورَ».

متّى ٣: ٧ و٢٣: ٣٣ ولوقا ٦: ٤٥

بعد أن وبخ المسيح الكتبة على افترائهم الباطل قال إن ذلك الافتراء يدل على سوء نواياهم وطباعهم، دلالة الإثمار على الشجرة.

يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي هذا ما لقب به يوحنا المعمدان أمثال هؤلاء من الكتبة (متّى ٣: ٧). ولقبوا بذلك نسل الحية المذكور في تكوين ٣: ١٥ الذي يقاومه نسل المرأة (أي المسيح) دائماً وينتصر عليه أخيراً. فالكتبة بين الناس كالأفاعي بين الحيات، فإنها اشتهرت بالسم وإيقاع الضرر.

كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِٱلصَّالِحَاتِ ما دامت صفاتكم كذلك لا يمكنكم أن تتكلموا إلا بمثل ما قلتم عليَّ.

مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْب شبَّه القلب بنبع والكلام بما يجري من النبع، فيمكن أن يُعرف القلب من الكلام كما يُعرف النبع من الماء الجاري منه.

ٱلْكَنْزِ يُقصَد بالكنز هنا أشياء مجموعة بغضّ النظر عن قيمتها، فيحتمل أن يكون حسناً أو رديئاً. والكنز هو ما حصل عليه الإنسان من التعاليم والتربية والعادات وأسلوب التفكير والاتجاهات والميول. وخلاصة هاتين الآيتين أن قلوب الناس تُعرف مما يتكلمونه به اختياراً بلا خوفٍ أو حياء كما تكلم هؤلاء الكتبة، فكلماتهم الشريرة برهنت أن كنز قلوبهم شرير.

٣٦ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ».

انظر جامعة ٢: ١٤

كلام الإنسان دليل واضح على صفاته، وهو من جملة ما يحاسب الله عليه يوم الدين. وقد قال البعض أن لا حساب على الكلام، إذ لا طائل تحته.

كُلَّ كَلِمَةٍ أي غير نافعة كما هو مفهوم عموماً، لكن القرينة تدل على أن المسيح أشار بذلك إلى الكلمات الشريرة التي قالها الكتبة عليه، فأنذرهم بأن الله يحاسبهم عليها كما يحاسبهم على أفعالهم. ولا ريب أن ذلك يصدق أيضاً على كل الكلمات الكاذبة والكلمات النجسة وكلمات التذمر والكلمات المهيجة الخصومات. قال سليمان الحكيم «اَلْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي يَدِ اللِّسَانِ» (أمثال ١٨: ٢١) وقال داود «اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ» (مزمور ١٤١: ٣) وقال الرسول «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ» (كولوسي ٤: ٦).

٣٧ «لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ».

ما أعظم قيمة الكلام في نظر المسيح، فمن فضلة القلب يتكلم اللسان، فهو المعبر الحقيقي عن الفكر، وهو أعظم أداة للإعراب عما في داخلنا. فالناس لا يستطيعون أن يروا قلوبنا ولا يعرفوها، ولكنهم يسمعون كلامنا ويفهمون ما نحن ويحكمون علينا. وفي هذه القاعدة لخَّص المسيح كل ما قاله في هذا المعنى.

بِكَلاَمِك لأن الكلام يبين صفة القلب، لذلك اتخذه الناس مثلاً فيقولون «الكلام صفات المتكلم». وليس المعنى أن الحساب مقصور على الكلام بدون نظر إلى الأعمال، بل المقصود (كما في عدد ٣٦) أن الكلام من جملة ما يحاسَب الإنسان عليه. فبكلماتنا نكتب تاريخ حياتنا والقائمة التي ندان أو نتبرر بها يوم الدين. إن نسيناها فالله لا ينساها «اللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ» (يعقوب ٣: ٦)

تَتَبَرَّرُ الإنسان يتبرر قدام الله بالإيمان لأنه وحده يعرف قلوب الناس، ولكنه يتبرر أمام الناس الذين لا يستطيعون معرفة القلوب بالكلام والأعمال التي تشهد بما في القلب.

٣٨ «حِينَئِذٍ قَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً».

متّى ١٦: ١ ومرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦ ويوحنا ٢: ١٨ و١كورنثوس ١: ٢٢

قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ أي غير الذين جدفوا عليه منهم لأن لوقا يقول «وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ» (لوقا ١١: ١٦).

يَا مُعَلِّمُ قالوا له ذلك إما تملُّقاً، وإما تهكماً، لأنهم لم يعتقدوا أنه معلم بالحق.

آيَة أي من السماء (مرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦) فإنهم شاهدوا معجزاته في شفاء المرضى وإخراج الشياطين، ولكنهم لم يعتبروها برهاناً كافياً على أن يسوع هو المسيح، لأنه كان يفعلها بيده، وكانت متعلقة إما بأهل الأرض وإما بأهل الجحيم، فسألوه معجزة من السماء لا يد له فيها لتكون مجرد برهان من الله على أنه المسيح، لا لمنفعة إنسان. وفي سؤالهم ذلك تعريض بأن يسوع كان يعمل المعجزات بالسحر أو بخفة اليد، ولذلك سألوه معجزة لا تصل يده إليها. وربما خطر على بالهم حينئذٍ المعجزات التي جرت على يد موسى، كإتيانه بخبزٍ من السماء، وكبعض ضربات مصر كالرعود والبروق والبرَد والظلمة، فأرادوا أن يشاهدوا مثلها منه.

٣٩ «فَقَالَ لَـهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ».

إشعياء ٥٧: ٣ ومتّى ١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨ ولوقا ١١: ٢٩ ويوحنا ٤: ٤٨

جِيلٌ أراد به أغلب أمة اليهود في ذلك الوقت، فقصد الحاضرين والكثيرين من أمثالهم.

فَاسِقٌ شبه العهد القديم علاقة الله ببني إسرائيل بعلاقة الرجل بامرأته، وأن العهد بينه وبينهم كعهد الزواج (إشعياء ٥٧: ٣ وهوشع ٣: ١ وحزقيال ١٦: ١٥) فلذلك حسب عليهم عبادة الأوثان فسقاً. نعم أنهم لم يكونوا من عبدة الأوثان يومئذٍ، لكن عدم أمانتهم له في أمور كثيرة أوجب عليهم أنهم فاسقون.

لاَ تُعْطَى لَهُ آيَة أراد أنه لا يعطيهم آية من نوع طلبهم، وليس أنه لا يُجري المعجزات أمامهم بعد ذلك. ورفض طلبهم دفعاً لإرادة الله، ولأنهم أهانوا المسيح به إذ احتقروا المعجزات التي صنعها قبلاً كأنها من أعمال السحر أو الشعوذة، ولأنه قدم قبل ذلك ما يكفي من البراهين على إثبات دعواه.

إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ قدم لهم يونان، والمقصود بها قيامته بعد موته، ليس لأنها وفق طلبهم، بل لأنه حسبها أعظم معجزاته، وأنها توجب عليهم الاقتناع بصحة دعواه. ويونان هو أول أنبياء العهد القديم، وهو «ابن أمتاي الذي أبوه من جث حافر» (٢ملوك ١٤: ٢٥). عاش حوالي ٨٦٠ ق.م.

٤٠ «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ».

يونان ١: ١٧

أعطاهم آية موته ودفنه وقيامته بدلاً من الآية السماوية التي طلبوها، وربط ذلك بإحدى حوادث العهد القديم على طريق اللغز، واختار ذلك مثلاً للمشابهة بين الأمرين والمخالفة بينهما في النتائج.

ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ كان اصطلاح اليهود في تلك الأيام أن يحسبوا الجزء من النهار نهاراً كاملاً، والجزء من الليل ليلاً كاملاً (١صموئيل ٣٠: ٢ أو ١٣ وتكوين ٤٣: ١٧، ١٨ و٢أخبار ١٠: ٥، ١٢ وهوشع ٦: ٢). فيصحُّ أن يكون معنى قوله «ثلاثة أيام وثلاث ليال» يوماً كاملاً أي أربع وعشرين ساعة، وجزئين من يومين آخرين مهما كان الجزآن صغيرين. وليس هذا التفسير من اختلاق المسيحيين كما يزعم أعداء الدين للتوفيق بين نبوة المسيح وإتمامها، فإن ذلك مبدأ من كتاب التلمود أقدس كتب اليهود بعد كتاب الله ففيه «إن إضافة ساعة إلى يوم تُحسب يوماً آخر، وإضافة يوم إلى سنة يُحسب سنة أخرى» وهكذا كان الأمر في زمن أستير (أستير ٤: ١٦ و٥: ١). ولو كان هناك خطأ لاعترض اليهود على المسيحيين وادعوا كذب مسيحهم لعدم إتمامهم وعده بقيامته صباح اليوم الثالث. ولكنهم لم يذكروا هذا الاعتراض قط.

فِي قَلْبِ ٱلأَرْض أي في القبر، وذلك يشبه قول يونان في صلاته «صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ.. لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي.. فِي قَلْبِ الْبِحَارِ» (يونان ٢: ٢، ٣) وإشارة المسيح هنا إلى أعظم معجزاته وهي قيامته بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال لم يفهمها الفريسيون، ولا فهمها تلاميذه وقتها.

٤١ «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا».

إرميا ٣: ١١ وحزقيال ١٦: ٥١ ولوقا ١١: ٣٢ ورومية ٢: ٢٧ ويونان ٣: ٥

ذكر المسيح في عدد ٤٠ المشابهة بينه وبين يونان في بعض الأحوال، وذكر في هذا العدد الفرق بين تأثير وعظه ووعظ يونان، وذلك ليبيِّن قساوة قلوب اليهود الذين لم يؤمنوا به، لأن الوثنيين الذين وعظهم يونان تابوا ونجوا، ولكن اليهود الذين وعظهم المسيح لم يتوبوا وكانوا عرضة للهلاك.

نِينَوَى هي عاصمة أشور، بناها نمرود أو أشور (تكوين ١٠: ١١) وموقعها على نهر دجلة. وكانت مدينة عظيمة محيطها ٤٨ ميلاً أو نحو مسيرة عشرين ساعة، وعلو أسوارها مئة قدم، وعرضها عشرة أقدام، عليها ١٥٠٠ برج، علو كل برج ٢٠٠ قدم. وأنبأ الله بخرابها بلسان يونان فتابت بوعظه، فتأخر خرابها مئتي سنة. وأنبأ بخرابها بعد ذلك ناحوم النبي (ناحوم ١: ٨ و٢: ٦). وتم خرابها قبل الميلاد بأكثر من ست مئة سنة، وآثارها اليوم قرب مدينة الموصل.

سَيَقُومُون أي وقوفهم أمام منبر الديان، لا قيامتهم من القبور.

هٰذَا ٱلْجِيلِ أي يهود عصر المسيح.

يَدِينُونَهُ لا بكلامهم، بل بأعمالهم الماضية.

وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا البرهان هنا من الأدنى إلى الأعلى، كما في شرح لعدد ٦ من هذا الأصحاح. المنادي بالتوبة هنا أعظم من المنادي بها هناك، لأن الأول ابن الله والثاني ابن أمتاي. والأسباب الموجبة للتوبة في وقت المسيح أعظم منها في زمن يونان. والهلاك الأبدي الذي أنذر به المسيح أهول من الهلاك الزمني الذي أنذر به يونان.

٤٢ «مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا».

١ملوك ١٠: ١، ٢أخبار ٩: ١ ولوقا ١١: ٣١

وفي ترجمة أخرى بدل «التيمن» ذكرت «ملكة الجنوب» أي جنوب بلاد العرب بالنسبة لما كانت عليه من حضارة عريقة وتقدم وعمران. وقد انتقل المسيح من بيان الفرق بين توبة أهل نينوى وعدم إيمان اليهود، إلى ذكر تعجب ملكة سبا من حكمة مجرد إنسان وهزء الكتبة والفريسيين بحكمة معلم إلهي للمشابهة.

مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ هي ملكة سبا (١ملوك ١٠: ١) ولعلها اليمن، وهي الجزء الجنوبي من بلاد العرب.

أَقَاصِي ٱلأَرْض أي بلاد بعيدة، وهو تعبير يوناني يقصد به المسافة البعيدة مع اختلاف الأمة والدين. فالاختلاف بين عمل ملكة التيمن وعمل اليهود يومئذٍ يظهر قساوتهم أكثر مما أظهرها اختلاف عمل أهل نينوى وعملهم، لأن أهل نينوى تأثروا من وعظ يونان وهو أمامهم، أما ملكة التيمن فتأثرت بسمعها خبر سليمان على البعد. واحتملت مشقة السفر من على بُعد نحو ألف ميل وهي امرأة وملكة لتسمع حكمة سليمان. ولكن المسيح نفسه أتى إليهم. وهي أتت بلا دعوة من سليمان، وأما المسيح فلم يكف عن أن يدعوهم إليه. وسليمان لم يستطع أن يعطي تلك الملكة حكمته، أما المسيح فمستعد أن يعطيهم كل كنز الحكمة الحقيقية. فإذاً المسيح أعظم من سليمان، وموضوع كلامه أهم من موضوع حديث سليمان وتلك الملكة، وحكمته أعظم من حكمة سليمان. ومع كل ذلك تأثرت كل التأثر وهم لم يتأثروا. وأعلن المسيح في هذا الأصحاح عظمته الإلهية أولاً بأنه أعظم من الهيكل (عدد ٦)؛ وثانياً بأنه أعظم من يونان النبي (عدد ٤١)؛ وثالثاً بأنه أعظم من سليمان الملك.

٤٣ «إِذَا خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ».

أيوب ١: ٧ ولوقا ١١: ٢٤ و١بطرس ٥: ٨

أخذ المسيح هنا يبين الحال التي صارت إليها الأمة اليهودية كلها وبعض أفرادها بتعليم الفريسيين وتقاليدهم وسيرتهم. لقد نفر اليهود بسبب بقائهم سبعين سنة في سبي بابل من عبادة الأوثان التي كانوا قبل ذلك يميلون إليها، فشبَّه المسيح هذا بإخراج روح نجس من قلوبهم. ولكن تعليم الفريسيين صيَّرهم إلى حالٍ أردأ، وكأنه دخل فيهم سبعة أرواح أشر من الأولى. وحال الإنسان مثل حال الأمة، فيمكن أن يرجع عن بعض الخصال الرديئة ويصلح سيرته بعض الإصلاح، ولكنه إن لم يتغير قلبه يسقط عند التجربة إلى حال الشر والبر الذاتي والكفر وقساوة القلب، فيكون رجاء خلاصه في هذه الحال أضعف مما كان في الحال السابقة.

إِذَا خَرَجَ لا نعلم هل خرج الروح من نفس الإنسان بإرادته أم رغماً عنه، ولكن لا بد أنه إذا قصد الإنسان إصلاح نفسه وابتدأ ذلك لم تكن نفسه مسكناً يرغب فيه الروح النجس، فيخرج مؤقتاً.

فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاء كان اليهود يحسبون القفار مساكن الشياطين (إشعياء ١٣: ٢١، ٢٢ و٣٤: ١٤) ونسب يوحنا ما ذكر إلى خراب بابل (رؤيا ١٨: ٢) وكلام المسيح هنا وفق هذا الرأي.

يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِد الأبالسة لا يستريحون ما لم يضروا أحداً، فلا يجد الروح في القفار فرصة للضرر كما يجد في قلب الإنسان، فلذلك لا يرضى بما هو فيه من تقلبه في الشقاء من مكان إلى آخر.

٤٤ «ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً».

بَيْتِي أي جسد الإنسان الذي كان داخلاً فيه ونفسه. والمعنى أن الروح النجس عزم بعد مدة على الرجوع، ليرى ماذا كانت نتيجة شروع الإنسان في إصلاح نفسه.

فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً قال بعضهم إن معنى ذلك أن روح الإنسان عادت إلى الصحة التامة بعد خروج الشيطان منها. وقال آخرون إن ذلك إشارة أنه مُعدٌ لرجوع الروح الشرير، فيكون «فارغاً» من التأثيرات الصالحة إذ لم يدخله المسيح بعد خروج الشيطان، و «مكنوساً» أي خالياً من كل مانع للشيطان، و «مزيناً» لإبهاجه. والمذهب الثاني أوفق لحال اليهود يومئذٍ لأنهم لم يكونوا حين جاء المسيح في حال الصحة الروحية التامة والطهارة الكاملة، بل كانوا عكس ذلك. فلم يكن إصلاحهم بسبي بابل وبمناداة يوحنا المعمدان بالتوبة إلا ظاهراً، وكان الرياء زينة لهم فكانوا أشبه بالقبور المبيضة.. فلا أمن للنفس بالإصلاح إن لم يسكن الله القلب وتخضع قوى النفس كلها له. فكثيراً ما طُرد شيطان المسكرات من قلوب السكارى، وأقيم كل مانع من رجوعه يستطيع عقل الإنسان أن يخترعه، مع كل القصد بعدم التسليم له. لكن كل ذلك لم ينفع بلا طلب نعمة الله والحصول عليها.

٤٥ «ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هٰكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلشِّرِّير».

عبرانيين ٦: ٤ و١٠: ٢٦ و٢بطرس ٢: ٢٠ – ٢٢

ثُمَّ أي حين يجد أنه غير مستريح، وأن قلب الإنسان معدٌّ له.

يَذْهَبُ أي في طلب رفاق له.

سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أي عدد غير معينة (متّى ١٨: ٢١، ٢٢). وكان هذا العدد من الأرواح النجسة في مريم المجدلية (مرقس ١٦: ٩ ولوقا ٨: ٢). وأشار بذلك إلى زيادة تسلط القوات الشريرة على الإنسان، وقلة الرجاء بخلاصه.

هٰكَذَا يَكُونُ الخ نسب المسيح هنا ما سبق إلى يهود عصره، فإن أحوالهم الأخيرة التي صارت أشر من الأولى هي الأحوال التي كانوا فيها بعد رفضهم كون يسوع مسيحهم، وقبل خراب أورشليم. قال يوسيفوس المؤرخ «إن اليهود ولا سيما رؤساؤهم كانوا في ذلك الوقت في أشد الغلو والتعصب والهيجان فأشبهوا من سكنهم الأبالسة». وقد تم قول المسيح على اليهود، فإنهم حين رجعوا من السبي كانوا يكرهون الأوثان وظلوا كذلك، فكانوا أحسن من ذي قبل قليلاً، ثم سقطوا في فسادٍ آخر كمحبة العالم والرياء والتمسك بالطقوس الدينية دون الجوهر وعمى القلب، وزادوا إثماً حتى أنهم صلبوا ابن الله، فأسلم هيكلهم ومدينتهم إلى أيادي الرومان فقُتل منهم ربوات كثيرة وسُبي ربوات كذلك، وتبددوا منذ ذلك الوقت في أطراف الأرض. وهذا نصيب كل خاطئ نبهه الروح القدس فأغاظه، أي أن حاله الأخيرة تكون أشر من الأولى.

٤٦ «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ».

متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٣: ١٣ و٦: ٣ ولوقا ٨: ١٩ – ٢١ ويوحنا ٢: ١٢ و٧: ٣، ٥ وأعمال ١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٥ وغلاطية ١: ١٩

لا بد أن هناك سبباً لمجيء أمه وإخوته إليه يطلبونه وهو يخاطب الجمع. والمحتمل أن ذلك خوفهم عليه من زيادة التعب العقلي والجسدي (انظر مرقس ٣: ٢١) أو خوفهم على حياته لأنهم سمعوا ببغض الكتبة والفريسيين له. فلا نتعجب من هذا الاهتمام الناتج عن المحبة العائلية، مع عدم كفاية علمهم بحقيقته وإرساليته (يوحنا ٧: ٣ – ٥). فلو كان لهم كمال اليقين بحكمة يسوع وقدرته لما وقفوا خارجاً يطلبونه.

وَقَفُوا خَارِجاً أي خارج البيت، أو خارج دائرة السامعين. ووقوفهم كذلك إما لعدم إمكانهم أن يصلوا إليه لازدحام الناس عليه، وإما لأنهم أرادوا توفيقه عن الكلام واتخاذ فرصة الانفراد به ليكلموه.

٤٧ «فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ».

يظهر من مرقس ٣: ٣٢ أن الجمع كان جالساً حوله فبلغه طلب أمه وإخوته بانتقاله من واحد إلى آخر.

٤٨ «فَأَجَابَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟».

حاشا أن يكون في كلام المسيح أي تحقير لنسبه الجسدي بأمه وإخوته حسب ظاهر هذا الكلام، ولكن ما يجب أن نفهمه هو شدة اهتمامه بنسبٍ روحي أسمى وأعظم، وهو نسبه إلى أتباعه المؤمنين باسمه، الذين هم نواة ملكوته السماوي المجيد. فهؤلاء أمه وإخوته الحقيقيون.

أخذ ربنا من ذلك فرصة لتعليم الحاضرين بقوله وفعله أن علاقته بأقاربه ليست كعلاقتهم بأقاربهم، وأن ارتباطه بعائلته الروحية أشد من ارتباطه بعائلته الجسدية. فقرابة الإيمان والمحبة أقرب من قرابة اللحم والدم.

مَنْ هِيَ أُمِّي الخ أراد بذلك أن علاقته بعائلته ليست كعلاقتهم بعائلاتهم، وأنه ليس ملزوماً مثلهم أن يطيع أوامر العائلة. وفي ذلك لا شيء من الإهانة لتلك العائلة أو عدم الاكتراث بها، لأنه أطاعها الطاعة الواجبة وهو ولدٌ. وعندما كان على الصليب اعتنى بوالدته كل الاعتناء (يوحنا ١٩: ٢٥ – ٢٧). لكنه أراد أن يبين خصوص علاقته بعائلته. فهذا قريب من جوابه لوالديه بقوله «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (لوقا ٢: ٤٩) وأتى المسيح ذلك بطريق السؤال ليجعلهم يتوقعون الجواب فيحملهم ذلك على زيادة الإصغاء.

٤٩ «ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي».

أتى يسوع مخلِّصاً لجميع البشر، وصار أخاً لكل أولاد آدم إذ صار آدم الثاني، وهو أخو المؤمنين به على نوع أخص.

مَدَّ يَدَهُ ليميز تلاميذه أكمل تمييز. ولا بد من أن تلك الإشارة كانت مصحوبة بنظره إليهم نظر المحب إلى أحبائه.

هَا أُمِّي وَإِخْوَتِ لم ينكر بذلك محبته لأمه وإخوته، بل أراد بيان شدة محبته للمؤمنين به لأنه فوق كل محبة بشرية.

٥٠ «لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».

يوحنا ١٥: ١٤ وغلاطية ٥: ٦ و٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١١ وعبرانيين ٢: ١١

أوضح بهذا أن مجرد سمع تعاليمه والتتلمذ له ظاهراً يوجب تلك العلاقة العظمى التي ذكرها، فحقق لهم أن سبب تلك العلاقة هو العمل بموجب تعليمه لا مجرد سماعه، وأن هذا الإكرام مقصور على صنع مشيئة الله. فمن قام بذلك الشرط أُحب واعتبر كأم يسوع وإخوته، وإن كان فقيراً ساذجاً لا صفة له تجذب القلب إلى محبته (يوحنا ١: ١٢، ١٣ و١٥: ١٥ ورومية ٨: ٣٢ – ٣٩ وأفسس ٥: ٢٥، ٣٧). ومما يستحق الملاحظة هنا أن يسوع لم يذكر له أباً بين هذه العائلة، ولم يذكر يوسف قط كأبٍ له لأن لا أب له غير الله.

وفي هذا العدد إنذار للذين يبغضون المسيحيين ويضطهدونهم لأنهم يضطهدون أقارب ملك الملوك. وفيه تعزية عظيمة لجميع المؤمنين، فإن إيمانهم به وطاعتهم لله جعلاهم أقرب الخلق إليه، فذلك الأخ الأكبر يعتني بهم إلى الأبد. فإن كان يوسف قد اعتنى بإخوته في مصر، فبالأولى يعتني يسوع بإخوته الروحيين على الأرض وفي السماء. وهذه العلاقة الشريفة من نتائج الولادة الجديدة التي نصير بها أولاداً لله وإخوة للمسيح. وطاعتنا لله أجلى برهان على تلك الولادة السماوية.

وفي هذه الآية ما ينبه المسيحيين إلى وجوب حب بعضهم بعضاً، لأن إخوة المسيح أخوة لبعضهم.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى