إنجيل متى | 11 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الحادي عشر
١ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلاَمِيذِهِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدُنِهِمْ».
وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ أي حديثه في أصحاح ١٠.
ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاك لم يذكر من أين انصرف، ولكن يظهر من متّى ٩: ٣٥ أنه خاطبهم بذلك وهو يجول للتبشير.
لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِز أي لينادي بأخبار الملكوت الجديد، فلم يوقفه تعيينه الاثني عشر رسولاً عن التبشير بنفسه.
فِي مُدُنِهِم أي مدن الجليل، كما تدل عليه القرينة.
٢ «أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي ٱلسِّجْنِ بِأَعْمَالِ ٱلْمَسِيحِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ».
متّى ١٤: ٣ ولوقا ٧: ١٨ – ٣٥
أوضح متّى في هذا الأصحاح علاقة المعمدان بالمسيح، وكان قد أشار لذلك في متّى ٤: ١٢. ولا علاقة في الزمن بين متّى ٤: ١٢ وما جاء هنا من إرسال يوحنا اثنين من تلاميذه، والأرجح أن هذا الإرسال كان قبل ما جاء في متّى ٤: ١٢.
سَمِعَ من تلاميذه (لوقا ٧: ١٨).
فِي ٱلسِّجْن قال المؤرخ اليهودي يوسيفوس إن هذا السجن كان في قلعة ماخيروس في بيرية شرق بحر لوط، ولا تزال آثار تلك القلعة باقية إلى الآن. وأشار متّى إلى سجن يوحنا قبل هذا في متّى ٤: ١٢ وذكر في متّى ١٤: ٣ سبب سجنه وكيفية موته.
بِأَعْمَالِ ٱلْمَسِيح أي بمعجزاته ليبين أنه المسيح (يوحنا ١٠: ٣٨ و١٤: ١١ و١٥: ٢٤).
تَلاَمِيذِه استمرَّ أتباع يوحنا يعتبرونه معلمهم، وأبوا أن يعتبروا المسيح أعظم منه، بالرغم من شهادة يوحنا للمسيح (متّى ٣: ١١، ١٤ و٩: ١٤ ويوحنا ١: ٢٠ و٣: ٢٥ – ٣٠) وظن أكثر المفسرين أن يوحنا أرسل هذين التلميذين ليزيل شكوك كل تلاميذه التي بقيت فيهم بعد شهادته، وذلك بلقائهم للمسيح وسماع كلامه ومشاهدة معجزاته. ولعله أرسل التلميذين ليتحقق أن النبي الذي ظهر في الجليل هو نفس الشخص الذي عمده في الأردن. أو لعله قصد أن يحث المسيح على أن يظهر نفسه ملكاً زمنياً إسرائيل يحررهم من عبودية الرومان كما كان يتوقع، وتعجب من بطئه في ذلك. وظن بعضهم أن إيمان يوحنا في المسيح ضعف قليلاً في أثناء سجنه، لأن المسيح تركه كل تلك المدة، ولأنه سلك طريقاً يختلف عن الطريق التي توقع يوحنا أن المسيح يسلكها، فاعتراه بعض الشك في ذلك. وقد يعتري بعض المسيحيين الشك مثله بسبب تباطؤ تقدم ملكوت المسيح في العالم.
٣ «وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟».
تكوين ٤٩: ١٠ وعدد ٢٤: ١٧ ودانيال ٩: ٢٤ ويوحنا ٦: ١٤
وَقَالَ بواسطة رسوليه. وهو مجاز مرسل شائع في كل اللغات.
ٱلآتِي أي المسيح الذي انتظر مجيئه منذ قرون كثيرة. وفي اصطلاح اليهود يشير إلى المسيح، وبُني ذلك الانتظار على نبوات العهد القديم (تكوين ٤٩: ١٠ وإشعياء ٩: ١ – ٦ و١١: ١ – ٥ و٣٥: ٤ – ٦ وص ٥٣ كله ودانيال ٩: ٢٤ – ٢٧).
أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ أي نتوقع إتيان غيرك لتتحقق فيه النبوات؟ لقد بذل يوحنا كل الجهد في سبيل خدمة الله وممارسة وظيفته وإفادة تلاميذه، ولا شيء في ذلك من النفع الخاص له، لأن المسيح لم ينقذه من سجنه.
٤ «فَأَجَابَهُمَا يَسُوعُ: ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ».
لم يجاوب المسيح يوحنا بقوله نعم أو لا، بل اقتصر على توجيه أفكاره وأفكار تلاميذه إلى البراهين الحسية التي هي معجزاته، إتماماً للنبوات التي نسبها المسيح إلى نفسه، كقوله بلسان إشعياء «حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالإيل، ويترنم لسان الأخرس» (إشعياء ٣٥: ٥) ومثل ذلك ما جاء في إشعياء ٦١.
وهذا أفضل الجواب، فلا شيء يقنعنا مثل العمل، ولا شيء يتكلم بصوتٍ أعلى من سيرة الإنسان وتصرفاته. فلنفحص نفوسنا: لماذا لا يكون لكلامنا التأثير الصالح الذي ننتظره؟ هل السبب أننا نقول غير ما نفعل؟ وما تأثير قولنا عندئذ؟
أَخْبِرَا يُوحَنَّا هذا لا يستلزم القطع بشك يوحنا، فقد وجَّه المسيح الجواب إليه ليمحو شكه. وأفضل طريق لإزالة الشكوك في الدين هي أن نعرضها على المسيح بالصلاة. ومعجزاته ختم الله لصدق تعاليمه، ونتائج دينه النافعة من أفضل البراهين على صحة ذلك الدين.
٥ «ٱلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ».
إشعياء ٢٩: ١٨ و٣٥: ٤ – ٦ و٤١: ٧ ويوحنا ٢: ٢٣ و٣: ٢ و٥: ٣٦ و١٠: ٢٥، ٣٨ و١٤: ١١ ومزمور ٢٢: ٢٦ وإشعياء ٦١: ١ ولوقا ٤: ١٨ ويعقوب ٢: ٥
هذا تفسير قوله في العدد السابق «ما تسمعان وتنظران» وهو ما أراد أن يخبرا يوحنا به. وزاد لوقا على ذلك بقوله «في تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين» (لوقا ٧: ٢١).
وَٱلْمَوْتَى يَقُومُون كانت إقامة ابن أرملة نايين من المعجزات التي شاهدها تلميذا يوحنا.
وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُون من النبوات المتعلقة بالمسيح قوله «روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأُبشر المساكين» (إشعياء ٦١: ١). فيمتاز دين المسيح على غيره بأنه لا يفرق بين الأغنياء والفقراء والشرفاء والأدنياء، لأن كل بركاته بلا فضة وبلا ثمن، فيمكن للفقير أن يحصل عليها كالغني. إنه يعزي المساكين ولا سيما المساكين بالروح الذين يشعرون بجوع النفس وعطشها إلى البر أكثر من غيرهم. ولا بد من أن هذا البرهان يؤثر في يوحنا وإن كان لا يؤثر في الكتبة والفريسيين، لأنه كان يعتبر النجاة الروحية أعظم العجائب وأن شفاء الأمراض الجسدية رمز إلى تلك النجاة.
٦ «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».
إشعياء ٨: ١٤، ١٥ ومتّى ١٣: ٥٧ و٢٦: ٣١ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣: و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢: ١٤ وغلاطية ٥: ١١ و١بطرس ٢: ٨
هذا كلام عام يناسب يوحنا إن كان هو الذي شكَّ، ويناسب تلاميذه إن كان سؤاله لمجرد نفعهم.
طُوبَى أي غبطة وسعادة من الله.
يَعْثُر أي يشك فيقع في هاوية الإثم والضلال.
فِيَّ أي لفقري وتواضعي وتصرفي خلاف ما يتوقع الناس من المسيح. على أن المسيح صار عثرة لكثيرين (رومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣) وبذلك تمت نبوة إرميا ٦: ٢١. واليهود أكثر من عثروا به، لأنه لم يأتِ وفق انتظاراتهم من جهة حكمه الزمني ومجده العالمي. فكلام يسوع على غبطة المؤمن به يتضمن إنذاراً رهيباً للذين يشكون في أنه المسيح.
وإن سلمنا أن يوحنا شكَّ وقتاً، فلا ريب أنه وثق كل الثقة بالمسيح قبل موته شهيداً، لأن تلاميذه أتوا عند موته وأنبأوا المسيح، فأظهروا بذلك أنه لم يبقَ عندهم شك فيه.
٧ «وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هٰذَانِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟».
قصد المسيح من هذا الكلام أن يمنع الشعب من نتائج فاسدة من سؤال يوحنا إياه وجوابه له.
بَيْنَمَا ذَهَبَ هٰذَانِ لم يرد المسيح أن يمدح يوحنا أمام تلميذيه، لئلا يظن السامعون أنه يتملقه. ولكنه لم يسكت بعد ذهابهما دقيقة واحدة عن تبرئة يوحنا، لئلا يظن السامعون السوء في يوحنا.
مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ ذكر الشعب بذلك خروجهم إلى البرية عند بحر لوط حيث ذهبوا ليروا ويسمعوا ذلك النبي الشهير الذي كان حينئذ في سجن ماخيروس، ليجدد احترامهم له. وهذا السؤال يدل على أنهم نظروا في يوحنا حقيقة ما خرجوا لينظروه.
أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ كان نبات القصب يكثر على شاطئ الأردن حيث ذهبوا ليشاهدوا يوحنا ويسمعوه. والقصبة التي تحركها الريح ترمز للإنسان السريع التأثر الكثير التقلب الذي يقول اليوم غير ما قاله بالأمس. وهذا السؤال أشد نفياً لذلك عن يوحنا. ومعلوم أن يوحنا كان ثابتاً شديد التمسك بما يعتقده، فيستحيل أن يكون قد غيَّر شهادته. فسؤاله المسيح بواسطة تلميذيه لا شيء فيه من الدلالة على تغيير اعتقاده. وهذا مما يقوي القول بأن قصد يوحنا بسؤال المسيح هو إزالة شكوك تلاميذه فيه لا شكوكه هو.
٨ «لٰكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ يَلْبَسُونَ ٱلثِّيَابَ ٱلنَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ ٱلْمُلُوكِ».
أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ أي مترفهاً هائماً باللذات الجسدية. ولكن لبس يوحنا كان من وبر الإبل ومنطقة من جلد.
فِي بُيُوتِ ٱلْمُلُوك مثل قصر الملك هيرودس. ولم يكن يوحنا من حاشية الملك، ولا كان من أهل التملُّق الذين يشهدون بما يسر الذين يسمعونهم رغبةً في منفعة ذاتية. والخلاصة أن شهادة يوحنا للمسيح لم تتغير، فشهد له وهو في السجن كما شهد له وهو في البرية.
٩ «لٰكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ».
متّى ١٤: ٥ و٣١: ٢٦ ولوقا ١: ٧٦
سألهم المسيح ثالثةً، كأنهم أجابوا على السؤالين السابقين سلباً من شهادة ضمائرهم. فإذا لم يكن يوحنا كقصبة ولا كأحد أهل البلاد، فماذا يكون؟
أَنَبِيّاً أي كما أنتم تعتقدون. وسألهم هذا لكي يحقق لهم صحة ذلك الاعتقاد.
نعم أقول لكم وأفضل من نبي: كان أفضل من نبي لأن قواه فاقت قوى سائر الأنبياء. ولأن غيره من الأنبياء لم يتنبأ بالمسيح في الوضوح كما تنبأ هو به. وهو كان الواسطة لتعريف اليهود بأن يسوع هو المسيح بشخصه.
١٠ «فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ».
ملاخي ٣: ١ ومرقس ١: ٢
أَمَامَ وَجْهِكَ الخطاب هنا للمسيح والكلام على يوحنا.
مَلاَكِي أي رسولي وذلك دليل على أنه لم يأتِ من تلقاء نفسه بل من الله للكرازة. وذكر ملاخي في نبوته التي منها هذا الكلام ملاكين، أحدهما ملاك العهد سيد هيكله، والثاني سابقه وهما المسيح ويوحنا.
يُهَيِّئُ بأن ينبئ بمجيء المسيح ويجهز الناس لقبول تعليمه بواسطة التوبة والانتظار.
١١ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ».
ٱلْحَقَّ أَقُولُ هذا تأكيد لما سيأتي، ودفعٌ لظنهم أنه أراد المبالغة.
ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ الجنس البشري. (أيوب ١٤: ١ و١٥: ١٤ و٢٥: ٤).
أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا أي لم يوجد إنسان أعظم منه بين رؤساء الآباء والكهنة ولا الملوك. ولم تكن أفضليته في سجاياه وإن كان باراً، ولكن في أنه سابق المسيح في الوظيفة، وأقرب إليه من كل الأنبياء. فعظمة الإنسان تزيد بقربه من المسيح. وإذا كان سابق المسيح أعظم من جميع الناس، فكم تكون عظمة المسيح نفسه!
ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَات أي النظام الجديد وهو الكنيسة المسيحية. والمعنى أن أصغر المسيحيين يكون لوفرة النور والمعرفة أعظم من أفضل اليهود، لأن الناس كانوا قبل موت المسيح يسيرون على ضوء الفجر فقط. ولكن لما مات المسيح وقام أشرق ضوء الشمس على العالم، فصاروا إلى نهارٍ كامل، بالنسبة لنوع الأخلاق التي يجب أن يظهروها، ويتوقف على نوع السجايا التي يتحلون بها، والتي ذكرها السيد في وصاياه كما وردت في أصحاح ١٠، وجعلها دستوراً لأتباعه إذا شاءوا أن يؤثروا التأثير الصالح لنشر ملكوته المجيد. فلا يظن من ذلك أن أقل المسيحيين أقدس من يوحنا، فالأفضلية متوقفة على مجرد الوسائط، فإن يوحنا كان واقفاً على عتبة العهد الجديد أما المسيحيون بعده فدخلوا الهيكل. وكان يوحنا صديق العريس (يوحنا ٣: ٢٩) وصار المسيحيون مع عدم استحقاقهم العروس نفسها. ولم يحل الروح القدس على يوحنا بالقوة التي حل بها على تلاميذ ذلك العهد.
١٢ «وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ إِلَى ٱلآنَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ، وَٱلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ».
لوقا ١٦: ١٦
أشار المسيح بهذا إلى تأثير خدمة يوحنا برهاناً لما بيَّنه من عظمته في العدد العاشر.
مِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا أشار المسيح إلى ما حدث من التغير العظيم بمناداة يوحنا في مدة قصيرة، من بدء كرازة يوحنا إلى أن تكلم المسيح بهذا، ولعلها لا تزيد على سنة أو سنة ونصف. وشهد لوقا بعظمة ذلك التغيير فقال: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا. ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه» (لوقا ١٦: ١٦) ونهضت في تلك المدة أمة اليهود كلها على رغم رؤسائها، فكانت حركتها كحركة مدينة عند افتتاح محاصريها.
ٱلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَه أي أن اليهود تزاحموا على يوحنا ويسوع ليسمعوا تعليمهما، وكانوا غيورين ومجتهدين كأنهم يخطفون غنيمة ودل قوله «مِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ» (متّى ١١: ١٢). على أن تأثير شهادة يوحنا كان باقياً بعد سجنه. وإن كان دخول الملكوت وقتها لزمه كل ذلك الاجتهاد، فلا بد أنه يلزم مثله اليوم للفوز بالنصر والتغلب على كل مانع أو عائق.
١٣ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا».
انتهى بيوحنا نظام العهد القديم الذي كان استعداداً للمسيح، فكان الحلقة الأخيرة في تاريخ الفداء من سلسلة وسائط ذلك العهد الطويلة. وفي هذا العدد إثبات لما قيل في عدد ١١ وردٌّ على توهم البعض أن مثل يوحنا يغير شهادته للمسيح لطول بقائه في السجن.
ٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلنَّامُوسَ يراد بها كل العهد القديم، أي إعلان الله إرادته بالأنبياء والناموس. والحق أن الناموس نفسه نبوة، لأن طقوسه رموز إلى المسيح وهي «ظل الخيرات العتيدة» (عبرانيين ١٠: ١).
إِلَى يُوحَنَّا لأنه آخر أنبياء العهد القديم، وكل ما كان في هذا العهد لم يكن سوى رمز واستعداد.
تَنَبَّأُوا أي اتصلت نبواتهم بالتتابع إلى يوحنا. ومع أن موسى وسائر الأنبياء ماتوا قبل يوحنا بمئات السنين إلا أن المسيح اعتبرهم أحياء لأن شهاداتهم بقيت المكتوبة. فيجوز أن يقال إن البشيرين والرسل لا يزالون يتكلمون إلى اليوم.
١٤ «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهٰذَا هُوَ إِيلِيَّا ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ».
ملاخي ٤: ٥، ٦ ومتّى ١٧: ١٢ ولوقا ١: ١٧
ختم المسيح كلامه عن يوحنا المعمدان بتفسيره لنبوة ملاخي من جهة يوحنا (ملاخي ٤: ٥، ٦) فإنه أنبأ بمجيء إيليا. فبيَّن المسيح أن يوحنا هو المقصود بإيليا كما شهد الملاك الذي بشر بولادته أيضاً (لوقا ١: ١٧).
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا ذلك يدل على أن بعض السامعين كان يعتقد خلاف تفسير المسيح، فظنوا أن إيليا الحقيقي يأتي بنفسه، لا شخص غيره بروحه وقوته. فقول يوحنا على نفسه إنه ليس إيليا (يوحنا ١: ٢١) لا يناقض تفسير المسيح، لأن يوحنا أراد أنه ليس شخص إيليا. ويحتمل أن يوحنا في ذلك الوقت لم يعرف تمام المعرفة كيف يتمم نبوة العهد القديم.
١٥ «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».
متّى ١٣: ٩ ولوقا ٨: ٨ ورؤيا ٢: ٧ و٣: ٦
معنى هذا أن المسيح ذو شأن، يجب الإصغاء الشديد له، والتأمل لإدراك المعنى الدقيق لكلامه (انظر مرقس ٩: ١٦ ولوقا ١٤: ٣٥ ورؤيا ٢: ٧). ولأن لكل إنسان أذنين للسمع تكون كرازة يوحنا المعمدان بالمسيح، وبشرى المسيح بالخلاص للجميع. فعدم معرفة الناس طريق الخلاص ليس لعدم وسائط السمع، بل لأنهم لا يريدون أن يصغوا بآذانهم وقلوبهم.
١٦ «وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هٰذَا ٱلْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ».
لوقا ٧: ٣١ – ٣٥
بعد أن أكمل المسيح شهادته ليوحنا ووظيفته، أشار إلى الفرق بين يوحنا وبينه. ومع هذا الفرق لم يفرق الكتبة والفريسيون بينهما في المعاملة (لوقا ٧: ٣٠).
هٰذَا ٱلْجِيل ليس المقصود بالجيل كل أهل العصر، بل رؤساء اليهود الروحيين (لوقا ٧: ٢٩)
يُشْبِهُ أَوْلاَداً في أنهم كثيرو التقلب سريعو الضجر يطلبون ما ليس لهم حق أن يطلبوه.
فِي ٱلأَسْوَاق الأسواق متَّسعة تناسب اجتماع الأولاد للَّعب، كما تناسب البالغين للاتجار.
١٧ «وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا».
هذه شكوى بعض الأولاد من رفقائهم لأنهم لم يريدوا الاشتراك في اللعب، فقد لعبوا مرةً لعبة العرس ومرة أخرى لعبة الجنازة. ولعلهم عرضوا عليهم ألعاباً أخرى، فرفضوا أن يشتركوا في واحدٍ منها، وبقوا معتزلين اللعب، عابسين.
زَمَّرْنَا لَكُمْ أي طربنا لكم بألحان الفرح فلم ترقصوا طرباً.
نُحْنَا لَكُمْ ذلك إما بالأفواه وإما بالآلات كعادة الناس في الجنازة، فلم يظهروا علامة الحزن.
١٨ « لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ».
فسر المسيح بهذا العدد والذي يليه المقصود من التشبيه في العدد السابق.
لا يأكل ولا يشرب: أي أنه لم يأكل ولم يشرب كسائر الناس، لأن طعامه كان الجراد والعسل البري (متّى ٣: ٤). «لاَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَلاَ يَشْرَبُ خَمْرًا» (لوقا ٧: ٣٣) لأنه كان نذيراً (لوقا ١: ١٥) فكان لا بد أن يمتاز عن سائر الناس بالأكل والشرب.
فَيَقُولُونَ أي الكتبة والفريسيون.
فيه شيطان: أي أنه يشبه الشيطان في اعتزاله سائر الناس وإقامته في البرية، وفي منعه نفسه عن ضروريات الحياة ولذّاتها كفعل المجنون الذي ذُكر في متّى ٨: ٢٨.
١٩ «جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا».
متّى ٩: ١٠
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان هو المسيح (متّى ٨: ٢٠).
يَأْكُلُ وَيَشْرَب كسائر الناس بلا قهر الجسد.
فَيَقُولُونَ الذين لاموا يوحنا على تصرفه لاموا المسيح على خلاف ذلك التصرف. فجاء يوحنا بقساوة العهد القديم فلم يرضهم، وجاء المسيح بلين العهد الجديد فلم يسروا به.
أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ نسبوا ذلك إليه لا لإفراطه في الأكل والشرب، بل لأنه لم ينكر نفسه في مقتضيات الجسد كيوحنا.
مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاة لاموه أنه خالط الناس على اختلاف أحوالهم خلافاً ليوحنا المعمدان الذي انفرد عن الناس وسكن البرية. وأرادوا بقولهم محب للعشارين والخطاة أنه يحب عشرتهم، فهو منهم وفيهم. لكن هذا التعيير (أي أنه صديق الخطاة) هو مجده، لأنه لم يصاحب الضالين إلا ليهديهم إلى طريق التوبة والخلاص.
وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَ أي أن حكمة الله التي تجسدت، كما تجسدت في سفر الأمثال هي علة أعمال يوحنا والمسيح كليهما. وترجمة أخرى تقول «والحكمة تحققت بأعمالها» أي لا شيء يحقق الحكمة ويبررها إلا بتطبيقها على الحياة والسلوك. فإذا لام الفريسيون يسوع لأنه اختلط بالعشارين والخطاة فإن لومهم في غير محله، لأن غرض يسوع هو الخلاص لجميع الناس. لذلك فإن الحكمة في تصرفه قد تحققت بأن أظهر هذا الحب العظيم المسيحي حتى لأشقى الناس.
لام الكتبة والفريسيون أعمال المسيح، أما بنو الحكمة الحقيقية فقد حكموا بصلاحها ومدحوها. وبنو الحكمة هم تلاميذ المسيح المؤمنون. وغيرهم من اليهود كانوا كأولاد الأسواق، كثيري التقلب سريعي الضجر.وإنما برر بنو الحكمة يسوع ويوحنا، لأنهم رأوا تصرفهما مناسباً لوظيفتهما الإلهية، ووفقاً لنبوات العهد القديم المتعلقة بهما. فقد عاب عليه أولاد الجهالة بينما برره أولاد الحكمة. وكما كان اليهود يشتكون على المسيح ويوحنا بلا سبب، فإن أهل العالم لا يزالون يشتكون على المسيحيين لغير علة. فكيفما سار أهل التقوى يستنذبهم أهل الدنيا. ولكن الله يعرف خاصته ويبررهم.
٢٠ «حِينَئِذٍ ٱبْتَدَأَ يُوَبِّخُ ٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ».
لوقا ١٠: ١٣ الخ
حِينَئِذٍ ٱبْتَدَأَ لما فرغ المسيح من توبيخ اليهود لشكاواهم بلا سبب على يوحنا وعليه، بدأ ينذر المدن التي نالت زيادة من سماع تبشيره وعمل معجزاته فيها. واستعمل في هذا الإنذار بعض العبارات التي استعملها في خطابه السبعين تلميذاً (لوقا ١٠: ١٣ – ١٥، ٢١، ٢٢).
يُوَبِّخُ وبخهم إظهاراً لحزنه على عدم توبة الذين حصلوا على أحسن الوسائط لمعرفة الحق.
٢١ «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ».
يونان ٣: ٦، ٧، ٨
وبخ المسيح المدن التي كانت وقتئذٍ في غاية العظمة، لكنها خربت منذ قرون كثيرة. والضربات التي أنبأ المسيح بوقوعها على تلك المدن وقعت على أهلها، وعلامات وقوعها لا تزال ظاهرة على أطلالها.
وَيْلٌ أي مصابٌ عظيم. وهذا يدل على شدة حزن المسيح.
كُورَزِينُ لم تُذكر هذه المدينة إلا هنا وفي لوقا ١٠: ١٣ ولم يُعرف موقعها يقيناً، غير أنها كانت قريبة من بيت صيدا وكفرناحوم حتى كانت تذكر معهما. والأغلب أنها «كرازة» الواقعة على بُعد نحو ميلين ونصف ميل شمال خربة تل حوم.
بَيْتَ صَيْدَا هي مدينة في الجليل على شاطئ بحر طبرية الشمالي الشرقي عند مصب نهر الأردن في ذلك البحر. فيحتمل أنها كانت مبنية على جانبي ذلك النهر وهي مكان ميلاد ثلاثة من رسل المسيح: فيلبس وأندراوس وبطرس. ولم يذكر في الإنجيل أن المسيح صنع فيها شيئاً من المعجزات ولكن ذلك لا ينفي معجزاته فيها، لأن متّى ذكر القليل من عجائبه الكثيرة.
صُورَ وَصَيْدَاء مدينتان قديمتان في فينيقية على شاطئ بحر الروم، اشتهرتا بالتجارة البحرية والغِنى والترف والمعاصي. وأقدمهما صيدا التي بناها صيدون حفيد حام بن نوح (تكوين ١٠: ١٩ و٤٩: ١٣) لكن صور فاقتها بعد حين (يشوع ١٩: ٢٩ وإشعياء ٢٣: ٨ وحزقيال ٢٧: ٣٢) وأنذر الأنبياء هاتين المدينتين قديماً على شرهما ومعاصيهما (حزقيال ٢٠، ٢٧، ٢٨). وتمت عليها النبوات فعلاً. فقال المسيح إنه لو كان لهاتين المدينتين اللتين كانتا قديماً وثنيتين فرصة لمعرفة الحق، كما كان لكورزين وبيت صيدا، لتابتا بالتأكيد.
فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَاد كعلامات التوبة والندامة (يونان ٣: ٥ – ٩).
لنا من هذه الآية ثلاث فوائد:
لا بد من يوم الدينونة.
حال بعض الخطاة في ذلك اليوم شرٌّ من حال البعض الآخر.
عقاب أردأ الوثنيين أخف من عقاب الذين سمعوا الإنجيل ولم يتوبوا.
٢٢ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكُمَا».
متّى ١٠: ١٥ وع ٢٤
أي أن عقاب مدينتي الجليل سيكون أشد من عقاب مدينتي فينيقية، لأن خطيتهما أعظم. ورفض المسيح أشر من عبادة الأوثان. فمن رفض مواعيد النعمة المعروضة عليه أتته بدلاً منها إنذارات النقمة. فالمسؤولية تزيد بزيادة المعرفة. وفي يوم الدين يدان خطاة الأيام الأولى والأيام الأخيرة معاً أمام الجميع. ويدان كلٌّ على قدر ما كان له من وسائط النعمة. وإن لم يتُب أولاد الأتقياء الذين هُذِبوا منذ الطفولية، والذين واظبوا على سماع الصلاة والوعظ، حُسبوا أعظم إثماً من الوثنيين وعوقبوا أشد عقاب.
٢٣ «وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى ٱلْيَوْمِ».
إشعياء ١٤: ١٣ – ١٥ ومراثي إرميا ٢: ١
كانت كورزين وبيت صيدا خاطئتين ولكن فاقتهما في الإثم مدينة ثالثة هي كفرناحوم، وطن المسيح ومركز عمله، بعد أن هجر الناصرة. فامتازت على كل ما سواها بوسائط المعرفة والنعمة، وكان فيها بعض التلاميذ المؤمنين بالحق. ولكن أكثر سكانها لم يتأثر بشيء.
كَفْرَنَاحُومَ انظر تفسير متّى ٤: ١٣.
ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ كانت كذلك لأنه لم يكن لسواها على الأرض ما كان لها من الوسائط التي تشبه وسائط سكان السماء، لأن المسيح سكن فيها مدة، فحصلت على فوائد قدوته وتبشيره ومشاهدة معجزاته.
سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَة أي أنتِ التي ارتفعت فوق كل المدن حتى كدت تبلغين السماء ستنخفضين عن كل المدن حتى تهبطي إلى الهاوية. وذلك دليل على انحطاطها أخلاقياً ومادياً في هذا الزمان وإلى الأبد. وقد تم عليها كل ذلك لأنها فقدت كل العظمة الظاهرة حتى اختلف العلماء على موقعها اليوم. ومقارنة كفرناحوم بسدوم التي هلكت لفظاعة شرها كمقارنة كورزين وبيت صيدا بصور وصيدا. فالمعنى هنا كالمعنى هناك، أي أن وسائط كفرناحوم كانت أعظم من وسائط سدوم، فيكون عقاب أهلها أشد من عقاب أهل تلك.
لَبَقِيَتْ إِلَى ٱلْيَوْم دليلاً على أن خراب سدوم لم يكن من أسباب طبيعية بل من شر أهلها، وكان منع ذلك ممكناً لو تابت. وإمكان نجاة سدوم بالتوبة دليل واضح على أنه يمكن لكل خاطئ أن ينال الغفران لو تاب.
٢٤ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكِ».
لشدة ما وقع على سدوم من العقاب وسرعته ضُرب بها المثل إنذاراً للعبرانيين بالخطر المحيط بهم (إشعياء ١: ١٠ ومرقس ٤: ٦ وحزقيال ١٦: ٤٦ – ٥٧). وكل ما ذكره المسيح من عقاب كفرناحوم يصدق بأكثر تدقيق على الذين يرفضون المسيح اليوم.
٢٥ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَالَ يَسُوعُ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ».
لوقا ١٠: ٢١ مزمور ٨: ٢ ومتّى ١٦: ١٧ و١كورنثوس ١: ١٩، ٢٦ و٢كورنثوس ٣: ١٤
كان في مدن الجليل وقراها بعض الكتبة الفهماء الحكماء (لوقا ٥: ١٧) وهو قوله «وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ». فبعد ما ذكر المسيح ما كان من أمر مدن الجليل، كان لا بد أن يخطر علماؤها على باله، فقد قاوموه أشد مقاومة.
قَالَ يَسُوعُ لأن الأعداء وجَّهوا له سؤالاً لم يُذكر هنا. وقال البعض إن جواب المسيح كان على سؤال أضمروه في صدورهم، ظهرت علاماته على وجوههم وإشاراتهم. وظن آخرون أن السؤال ما تصوره من عدم توبتهم وعدم إيمانهم اللذين وبخهم عليهما، وهو التفسير الأرجح.
أَحْمَدُكَ ليس هذا مجرد الشكر على إحسان كشكر مُحسنٍ إليه للمحسن، لكنه إعلان الرضى بقضاء الله، فكأنه قال لأبيه: حسناً فعلت!
أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ خاطبه المسيح باعتباره ملك الكون، لأنه أظهر ذاته متنزهاً عن كل حكمة وسلطة بشرية، وخاطبه بكلمة الآب بياناً لقرب العلاقة بينه وبين ذلك الملك العظيم.
أَخْفَيْتَ لم يشكر المسيح أباه على أنه أخفى الحق عن بعض الناس، بل على أنه أظهره للأطفال. فما أخفاه عن البعض لم يُخفِه عن الكل. ولا شك أن الله يخفي الحق عن البعض أحياناً عقاباً لهم لأنهم أغمضوا عيونهم عنه وقسوا قلوبهم عليه. ويخفي ذلك غالباً بأن لا يمنحهم النعمة التي تقودهم على قبول الحق، فيتركهم في العمى الطبيعي الذي هو ثمرة خطيتهم الطبيعية. أو أن معنى ذلك أن الله سمح بأن كبرياءهم وعماهم الاختياري يخفيان عنهم الحق الإنجيلي، لأننا نقرأ أن ما سمح بوقوعه يُنسَب إليه، كما يُقال إنه قسى قلب فرعون، والمعنى أنه سمح بأن يتقسى.
هٰذِه أي معرفة الحق الروحية وتأثيره في قلوبهم وتمييز فوائد الإيمان والانتباه لإنذار الإنجيل (لوقا ١٩: ٤٢) ومواعيده (٢كورنثوس ٤: ٣).
ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ أراد بهما الكتبة والفريسيين، لأنهم كانوا حكماء وفهماء في الأمور الدنيوية، وفي معرفة الشريعة. وقد ظنوا أنهم كذلك في فهم معناها الروحي وهم يجهلونه كل الجهل. فلم يخترهم الله آنية لنعمته بسبب شدة كبريائهم التي جعلتهم يرفضون تعليمه لأنهم لم يشعروا باحتياجهم إليه. فنحن لا نتوصل إلى معرفة الحق الديني بمجرد الدرس العقلي، ولا بالحكمة البشرية، فكثيراً ما جهل أكابر الفلاسفة أبسط حقائق الإنجيل «لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ» (١كورنثوس ١: ٢١).
لِلأَطْفَالِ أي تلاميذه، لأنهم كانوا كالأطفال في الصفات الأخلاقية، وشعروا بأنهم كأطفال في المعرفة (١كورنثوس ٢: ٦، ٨، ١٠). والحق أنهم كانوا جهلاء وضعفاء في الأمور الروحية قبل أن ينيرهم الله ويقويهم. ولأنهم كانوا كالأطفال في التواضع والوداعة والتصديق أعلن الله لهم أسرار ملكوته. واليوم يجب أن نكون كالأطفال ليعلن لنا طريق الخلاص. لقد مجَّد المسيح الله وابتهج لرئاسته الفائقة العادلة. فعلى ذلك يجب أن يبتهج تلاميذه بالله ويمجدوه كلما تأملوا في هذا الشأن.
٢٦ «نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَك».
أي أشكرك أيها الآب لأنك اخترت أن تفعل هكذا، وما تختاره هو الأفضل، وهذه هي مسرتك في الأفضل الذي تريده وتفعله.
نَعَمْ هي حرف جواب. والجواب هنا عن سؤال مقدر هو: هل تشكرني على ذلك؟
هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أي مسرتك يا الله، وهذه المسرة ليست بلا سبب، وليس فيها شيءٌ من الظلم لأحد، وهي مبنية على غاية من الحكمة والمحبة. فإذا علمنا أن الله حكم بأمرٍ كفانا أن نعتقد أنه عن عدل وأنه أفضل ما يمكن حدوثه، لأنه يستحيل أن يخطئ الله في شيء من أعمال قضائه.
٢٧ «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلابْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ».
متّى ٢٨: ١٨ ولوقا ١٠: ٢٢ ويوحنا ٣: ٥٣ و١٣: ٣ و١٧: ٢ و١كورنثوس ١٥: ٢٧ ويوحنا ١: ١٨ و٦: ٤٦ و١٠: ١٥
الأرجح أن المسيح أقال هذا دفعاً لما يمكن أن يتوهَّمه التلاميذ من أن المسيح أدنى مرتبةً من الآب، فأظهر هنا أنه والآب واحد في بيعته الإلهية، وأن الله الآب سلم السلطان إليه في ذلك إلى حين إتمام الفداء.
كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ باعتبار أن المسيح فادٍ سلم إليه كل سلطان (متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٤٦ وكولوسي ١: ١٦ – ١٩ وعبرانيين ١: ٨). فرئاسة الكون لا تزال للمسيح لعمل الفداء، ولكن في نهاية ذلك العمل يرجع كل شيء إلى الحال الأصلي. «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (١كورنثوس ١٥: ٢٨) فتسلُّم المسيح السلطان من الآب لا يلزم منه أنه أقل من الآب، لأنه لا يستطيع أن يتسلم قوة غير متناهية إلا الله، ولا يقدر أحد أن يحكم في وقت واحد على كل المخلوقات في السماوات والأرض والجحيم إلا وهو.
لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ الخ لا يستطيع أن يدرك إنسان ولا ملاك ولا رئيس الملائكة أن يدرك كُنه الابن، فذلك مقصور على اللاهوت. فالمسيح أعلن أن طبيعته غير محدودة، حتى أنه لا يقدر أن يدركه سوى الآب غير المحدود (١كورنثوس ٢: ١١) فلا أحد من الناس يقدر أن يدرك تمام الإدراك سر شخص المسيح ووظيفته. ولو كان المسيح مجرد إنسان لما قدر أن يقول هذا.
مَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَه هذا مثل قول يوحنا «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يوحنا ١: ١٨) فوظيفة المسيح هي أن يعلن الآب للبشر، لأنه الكلمة الأزلي، ومن تلك الوظيفة يعلن لنا كل ما نقدر أن ندركه عن طبيعته. ولا شيء يمكنه أن يعلن لنا الله من تاريخ أو علم أو عقل أو شيء آخر غير إعلان الابن خاصة (يوحنا ٣: ٣٥ و١٤: ١٥ – ٢٤). وهذا الإعلان يكون بكلامه، وبأعماله، وبالروح القدس الذي يرسله.
٢٨ «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ».
لنا في هذا العدد جواب السؤال في عدد ٣ من هذا الأصحاح وهو «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (متّى ١١: ٣). فبعد أن قال المسيح «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ» (لوقا ١٠: ٢٢) وأنه يعلن الآب، استعمل وظيفته فدعا الناس إلى المصالحة مع الله على يده لنوال الراحة الأبدية.
تَعَالَوْا إِلَيَّ أي ارجعوا عن معلمي الناموس الذين يحمِّلون ضمائر الناس أحمالاً ثقيلة. واقبلوا إليَّ بالذات باعتبار لاهوتي وناسوتي، لا لتعليمي أو كنيستي أو رسلي أو غيرهم سواي. تعالوا إليَّ لأني أنا الطريق إلى الآب، ولأنكم لا تقدرون أن تأتوا إليه إلا بي، لأني أنا الوسيط الوحيد بين الله والناس. تعالوا إليَّ لتخلصوا بالشروط التي وضعتها لنوال الخلاص. وهذه الدعوة هي خلاصة البشرى الإنجيلية، وهي دليل على تنازل وشفقة ومحبة لا تحد. ولم يدَّعِ أحدٌ من الناس إلى نفسه كذلك غير المسيح، فلم يقُلها ملاك ولا نبي ولا فيلسوف ولا معلم. ولو كان المسيح مجرد إنسان ما تجاسر على ذلك.
يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ كانت هذه الدعوة عامة لأن الشقاء والحزن والتعب عمَّ الجميع، فإن نسل آدم كله يئن تحت حمل الخطية والشقاء الناتج عنها. فضميره متعب يوبخه على خطيته، وخوفه من العقاب الآتي يثقل عليه. فيدعو المسيح كل واحد إليه لينجو من الحزن والخوف، وهو يغفر له ويطهره ويخلصه من سلطة الخطية ودينونتها. فالذين رغبوا في أن يخلِّصوا أنفسهم بأعمالهم الصالحة وبرهم الذاتي هم تحت حمل لا يطاق من وفاء القوانين وزيارة الأماكن المقدسة والأصوام والأسهار والتقشف والصلوات الطويلة واعتزال الراحة والغِنى والحياة نفسها (وهذا أثقل مما تسمح رحمة الله أن تحمِّلهم إياه لو كان الخلاص بالأعمال) فهؤلاء يدعوهم المسيح إليه ليخلصوا ببره، ويستريحوا من أحمالهم.
أراد اليهود أن يكملوا كل فرائض ناموس موسى ليبرروا أنفسهم، فوقعوا تحت حمل ثقيل (متّى ٢٣: ٤ وأعمال ١٥: ١٠) وقد كمَّل المسيح الناموس، فهو يدعو اليهود إليه للراحة. والذين يجرون وراء اللذات في طرق الخطية التي هي خدمة الشيطان يجدون أنفسهم أخيراً تحت عبودية شر من عبودية مصر، إذ يقعون تحت عبودية البخل والكبرياء وطلب الرياسة والشهوات.
وَأَنَا أُرِيحُكُمْ لم يَعِدْنا المسيح أن نكون بلا حمل ولا تعب في هذه الأرض، إنما وعد بالراحة كل من ألقى حمله عليه. والراحة أعظم ما يحتاج إليه البشر. والعالم يعد بها كذباً، ولا يستطيع أحد إلا المسيح أن يهبها تامة وإلى الأبد. فهو يمنحنا الراحة لأنه رافع الخطية (يوحنا ١: ٢٩، ٣٦ وإشعياء ٥٣: ٤). ولأنه رئيس كهنة يرثي لضعفاتنا (عبرانيين ٤: ١٥). وهو يريحنا من حمل التبرير بالأعمال، ويريح الضمير من التوبيخ، ويريح القلب من مخاوف الموت ويوم الدين. ويريحنا بأن يهب لنا الغفران والسلام والمصالحة، وقلباً وديعاً متواضعاً صابراً قنوعاً يثق به. فطوبى للنفس التي استراحت برجاء الخلاص بالمسيح، فلها به فوق هذا كله راحة أبدية في السماء (عب ٤: ٩).
٢٩ «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ».
يوحنا ١٣: ١٥ وفي ٢: ٥ و١بطرس ٢: ٢١ و١يوحنا ٢: ٦ وزكريا ٩: ٩ وفيلبي ٢: ٧، ٨ وإرميا ٦: ١٦
هنا إشارة إلى ما يصيب زوجين من البقر معاً، فعليهما أن يشدّا النير بصورة منتظمة لكي يتقاسما الحمل. وفي هذا التشبيه يجعلنا المسيح شركاء له في حمل نير العالم لخلاصه، وهذا منتهى الشرف لنا والفرصة السانحة لنبرهن عن تكريس حياتنا لخدمته.
وَتَعَلَّمُوا مِنِّي باعتبار أنه نبي ومعلم عظيم يعلن الآب للناس (آية ٢٧). ويتم ذلك بتعليمه بالكلام والسيرة، وبثبوته في الناس. وهو لا يأمر بشيء لم يمارسه.
لأَنِّي وَدِيعٌ الخ أول درس ينبغي أن يتعلمه الناس من المسيح هو التواضع والتأثر بتعليمه، وهو خير قدوة لنا في التواضع. فالجلوس عند أقدام المسيح وحفظ هذا الدرس سر الراحة الفضلى والمسرة الخالدة.
فَتَجِدُوا رَاحَةً أي أن الذين يأتون إليه ويتعلمون منه يدركون الراحة التي يسألونها غيره عبثاً (يوحنا ١٤: ٢٧ و١٦: ٣٣). وكثيراً ما تم هذا الوعد في أشد المصائب كما قال بولس «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (٢كورنثوس ١٢: ٩، ١٠).
لِنُفُوسِكُمْ أي تستريح أرواحكم من أثقال الخطية وتعب الضمير.
٣٠ «لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ».
ميخا ٦: ٨ و١يوحنا ٥: ٣
زاد المسيح هذه الكلمات دفعاً للتوهم أن المسيحي يستبدل نيراً صعباً وحملاً ثقيلاً بمثيلهما.
نِيرِي هَيِّنٌ لأن المسيح يعين المؤمن به على حمله، ويهب النعمة الكافية لحامله، ولأن محبة المسيحي للمسيح تجعله لا يشعر بصعوبة حمله، ولأن لحامل ذلك النير وعداً بتواب جزيل. وإلا فذلك النير ليس هيناً، لأنه نير مقاومة الخطية، ونير الأحزان، ونير القيام بالواجبات. ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة على الطبع البشري وعدم قدرة الإنسان على حمله بدون معونة المسيح. ومع ذلك كله فإن نير المسيح أهون من كل نير. إنه أهون من نير الشريعة اليهودية مع ما أضافه إليها الكتبة والفريسيون من الطقوس والتقاليد. وأهون من نير الأديان الباطلة الذي على رقاب الوثنيين. وأهون من نير الشيطان الذي على رقاب عبيد اللذات والشهوات.
وَحِمْلِي خَفِيفٌ تقتضي خدمة المسيح إتمام واجبات كثيرة من جملتها حمل الصليب، لكنها تُسِر من قام بها، لأنها مصحوبة بسلام يفوق كل عقل (في ٤: ٧). إن حمل المسيح على المسيحي كالريش للطائر يزيد ثقله ولكنه لا يستطيع أن يعلو إلى السماء بدونه.
ومن آيتي ٢٨، ٢٩ نتعلم أن الداعي إلى الإقبال للمسيح أنه ابن الله الأزلي الذي صار إنساناً لأجلنا. وهو يدعو كل من شعروا بثقل الخطية وتعب الضمير، ويعدهم بالراحة والتعزية، على شرط أن يأتوا إليه ويتعلموا منه التواضع والمحبة.
السابق |
التالي |