إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 08 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح الثامن

ذكر متّى في هذا الأصحاح والذي يليه عدة معجزات فعلها المسيح إثباتاً لتعليمه، وأن له سلطاناً من الله. وتنقسم هذه المعجزات إلى ثلاثة أنواع، فمنها ما يتناول الأمراض المستعصية كالبرص والفالج (الشلل) والصرع. ومن المعجزات ما يتناول الأرواح النجسة وقهر قوات إبليس وجميع جنوده. ومنها ما يتناول القوى الطبيعية كإسكات البحر. وهذا يُظهر أن يسوع هو المسيح مخلص العالم وسيد الكائنات كلها. ولا يحسن أن نظنها ذُكرت حسب أوقات وقوعها تماماً، بل إن البشير جمعها كنماذج لسائر المعجزات، كما أنه كتب لنا موعظة من مواعظه نموذجاً لسائر المواعظ.

١ «وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ ٱلْجَبَلِ تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ».

وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ ٱلْجَبَلِ تَبِعَتْهُ الخ القصد هو الإنباء بأن ذلك الجمع العظيم الذي تبعه عند صعوده إلى الجبل وأصغى إلى وعظه لم يتركهُ لما فرغ من الوعظ، بل تبعه في نزوله إلى السهل ومروره بجانب بحر طبرية إلى كفرناحوم. فالأرجح أن العجائب التي ذكرها البشير عملها المسيح بمرأى من هذا الجمع.

٢ «وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي».

مرقس ١: ٤٠ الخ ولوقا ٥: ١٢ الخ

وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ لعل البشير ذكر هذه المعجزة أولاً لأن البرص كان مرضاً يختلف عن بقية الأمراض في عدة أمور: منها أنه كان مؤلماً ومكروهاً في ذاته، وكأن موتاً يبدأ في الإنسان وهو حي ويؤثر أولاً في الجلد ثم في الأعضاء واحداً بعد واحد، ويفصل بعضها عن بعض (انظر سفر العدد ص ١٢: ١٢) ولم يتحقق أن هذا المرض باقٍ إلى هذا اليوم على هيئته الأصلية. والأرجح أنه لا يزال في الأرض ولكنه نادر، وليس كثيراً كما كان بين اليهود. وكانت شريعة موسى شديدة مدققة في معاملة البرص (لاويين ١٣ و١٤). فكان على الأبرص أن ينفصل عن سائر الشعب باعتباره نجساً، وأن يُعلن برصه بثيابه وإشاراته وكلماته «تُشق ثيابهُ» (لاويين ١٣: ٤٥) «ويكشف رأسه» (عدد ٦: ٩ وحزقيال ٢٤: ١٧) «ويغطي شاربيه» (حزقيال ٢٤: ١٧) و «يُطرد من المحلة أو من المدينة» (لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢ – ٤ و٢ملوك ٧: ٣) ويُلزم أن يصرخ إذا رأى أحداً مقترباً إليه قائلاً على نفسه «نجس نجس». وجرت تلك الشريعة على أعلى الناس وأدناهم بلا استثناء، كما حدث مع مريم أخت موسى (عدد ١٢) والملك عزيا، فقضى باقي حياته في بيت منفرد واعتزل المُلك (٢أخبار ٢٦: ١٦ – ٢١).

وشدد الله الشريعة على الأبرص ليجعل البرص رمزاً للخطية أمام عينيه. والخطية تشبه البرص في سبعة أشياء: (١) كلاهما داءٌ أصاب الإنسان بعد خلقه، فإن الله خلقه صحيح الجسم طاهر النفس. (٢) كلاهما وراثي (بعدما حدث أولاً) فالبُرص يلدون بُرصاً والخطاة يلدون خطاة. (٣) امتداد كليهما خفيٌ وتدريجيٌ قلما يظهران في الطفولة ولكنهما يظهران في عمر متقدم. (٤) كلاهما مكروهٌ نجس يفصل صاحبه عن جماعة الله. وهذا الانفصال رمز إلى الانفصال العظيم (رؤيا ٢١: ٢٧). (٥) كلاهما لا يُشفى بوسائط بشرية (٢ملوك ٥: ٧). (٦) كلاهما مميتٌ، أحدهما للجسد والآخر للنفس. (٧) تقدر القوة الإلهية وحدها على شفاء كليهما في الماضي، وتقدر عليه في المستقبل.

وَسَجَدَ لَهُ لا بد أن هذا الأبرص سمع بقوة يسوع وشفقته، ولعله سمع وعظه على الجبل وهو بعيد عن الناس، فانجذب إلى المسيح بما سمع وبما فعله فيه الروح القدس. وظهر إيمانه وتواضعه ورغبته في الشفاء بمجيئه وسجوده.

يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أظهر الأبرص ثقة تامة بقدرة المسيح على شفائه، وسلَّم له أن يستعمل تلك القدرة لإبرائه بحكمته ومحبته. فيجب على كل خاطئ أن يأتي إلى المسيح للتطهير، فيجد القبول مثله.

أَنْ تُطَهِّرَنِي كان ذلك المرض يُحسب نجساً فحُسب الشفاء منه تطهيراً.

٣ «فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: أُرِيدُ فَٱطْهُرْ. وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ».

فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ ليبين للحاضرين العلاقة بين استعمال قوته ونتيجتها، لا لأن اتصال يده بالأبرص كان ضرورياً للشفاء.

لَمَسَه لم يفعل ذلك ليخالف الشريعة عمداً (لاويين ٥: ٣ و١٤: ٤٦) لأن الشريعة منعت من لمس الأبرص، ولكنه لمسه ليطهره، فطهر لأنه شُفي حالما مدَّ يده إليه. وأظهر المسيح سلطانه على الشريعة الطقسية إذ خالف حرفها ووافق جوهرها. وبمثل هذا لمس المسيح طبيعتنا الخاطئة وشفاها بدون أن يتنجس.

أُرِيد أظهر بذلك إتماماً لوعده «اطلبوا تجدوا» (متّى ٧: ٧) وهو جواب لقول الأبرص له «إن أردت».

وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ أتى الشفاء في الحال، وبذلك تبين أنه كان معجزياً. فما أعظم سرعة ذلك التغيير! إنه في لحظة شُفي شفاءً تاماً من داء عضال. وقوة المسيح على المرض رمزٌ إلى سلطانه على الشر ولعنة الخطية.

٤ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ ٱذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمِ ٱلْقُرْبَانَ ٱلَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَـهُم».

متّى ٩: ٣٠ ومرقس ٥: ٤٣ ولاويين ١٤: ٣، ٤، ١٠ ولوقا ٥: ١٤

ٱنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ فلا يفتخر بشفائه على أنه علامة رضى الله الخاص عليه. وكانت غاية كتم شفائه أن يحصل على الشهادة الشرعية بطهارته من الكاهن ليرجع إلى معاشرة الناس، خوفاً من أن الكهنة لا يعطونه الشهادة بعد أن يبلغهم أن المسيح شفاه حسداً وبغضاً للمسيح نفسه. وكان المسيح يمنع أحياناً من إظهار معجزاته لئلا يُعاق عمله الروحي بكثرة الآتين إليه للنفع الجسدي، ولأنه فضَّل خير النفس على خير الجسد، ولئلا يهيج عليه غضب الرؤساء ومقاومتهم. أما الأبرص الذي شُفي فلم يُطع أمر المسيح (مرقس ١: ٤٥).

بَلِ ٱذْهَبْ ألحَّ عليه بذلك لئلا يسبقه خبر المعجزة إلى الكهنة فلا يعطونه شهادة الشفاء. وكانت طاعة هذا الأمر تلزمه أن يسافر نحو خمسين ميلاً أو يومين إلى أورشليم.

أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ أي للكاهن في هيكل أورشليم وفقاً لشريعة موسى (لاويين ١٤: ٣) فيفحصه بالتدقيق، ويمارس ما يقتضيه تطهيره طقسياً، ويصرح بطهارته شرعاً. وبهذه الواسطة حصل المسيح على تصديق الكاهن لمعجزته، وبيَّن احترامه للشريعة أنها من الله وأنها لا تزال شريعة. فقول المسيح «أرِ نفسك للكاهن» كان لإتمام جزء من الشريعة الطقسية المتعلقة باليهود البُرص، ولا علاقة لذلك بالواجبات المسيحية. فما أمر به الأبرص لم يكن سوى أمرٍ للبُرص، وكان طقسياً يهودياً. والشريعة الطقسية زالت والكهنوت اليهودي بطل.

وَقَدِّمِ ٱلْقُرْبَانَ والقربان عصفوران حيان طاهران، وخشب أرز وقرمز وزوفا (لاويين ١٤: ٤).

شَهَادَةً لَهُ كانت هذه الشهادة لهم ليعطوا الشهادة للأبرص، فتكون شهادة عليهم إذا أبوا أن يعترفوا بأن الذي فعل المعجزة التي شهدوا بصحتها هو المسيح. وكانت شهادة للشعب أن يسوع هو المسيح، وأنه لم يخالف شريعة موسى.

٥ «وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ كَفْرَنَاحُومَ، جَاءَ إِلَيْهِ قَائِدُ مِئَةٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ».

لوقا ٧: ١ – ١٠

كَفْرَنَاحُوم انظر شرحنا لأصحاح ٤: ١٣.

قَائِدُ مِئَة كانت تلك البلاد تحت الحكم الروماني، فكان بالمدن الكبيرة فِرَق من الجنود. وكان قائد المئة المذكور من رؤساء تلك الفِرق، وهو وثنيٌ ولادةً وتربيةً. ويظهر من القرينة أنه ممن أحسنوا الإيمان. وقال البعض إنه متهوِّد، ولكن ذلك يناقضه تعجب المسيح المذكور في عدد ١٠ من هذا الأصحاح.

جَاءَ… يَطْلُبُ إِلَيْه قيل في لوقا ١: ٧ إنه لم يأتِ هو بنفسه بل أرسل يطلب إليه. ولا تناقض بذلك بين البشيرين، لأن خبر متّى مختصر، وإسناد المجيء فيه إلى القائد مجازي. والجوهر هو تقديم الطلب بقطع النظر عن الواسطة. ومن المجاز المسلَّم به عند جميع الناس أن يُنسب الفعل إلى مسببه بغضّ النظر عن الفاعل كقولهم «بنى الأمير المدينة».

قارِن يوحنا ٣: ٢٢ بيوحنا ٤: ٢ تجد في الأول قول البشير إن المسيح كان يعمد، وفي الثاني قوله إنه لم يعمد هو نفسه بل تلاميذه. وقارن متّى ٢٠: ٣٥ ويوحنا ١٩: ١ تجدهُ يقول إن بيلاطس جلد يسوع مع أن ذلك فعل العسكر بأمره.

٦ «وَيَقُولُ: يَا سَيِّدُ، غُلاَمِي مَطْرُوحٌ فِي ٱلْبَيْتِ مَفْلُوجاً مُتَعَذِّباً جِدّاً».

غُلاَمِي الأرجح أن ذلك الغلام عبدٌ له أعزَّه لأمانته له. وهذا يُظهر زيادة لطف هذا القائد، فلم يكن الأسياد يهتمون بصحة عبيدهم وراحتهم.

فِي ٱلْبَيْتِ أي في بيت القائد.

مَفْلُوجاً الفالج (الشلل) مرض عصبي يمتنع به تسلط الأعصاب على العضلات، وهو يصيب بعض الجسد أو كله.

مُتَعَذِّباً جِدّاً نستنتج من ذلك أن كل جسده كان مفلوجاً حتى لم يستطع الحركة. والظاهر أن مرضه كان مما تنقبض به العضلات، وهو من أشد الأنواع إيلاماً. ولكثرة أنباء هذا المرض في الإنجيل نستنتج كثرته في تلك الأيام في فلسطين، وأن علاج الأطباء قلما نفع فيه. فما أسعد ذلك العبد بسيد يعتني به ويتضرع إلى المسيح من أجله. وعلى أصحاب الأعمال أن يصلّوا من أجل من يعملون عندهم.

٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ».

أجاب الرب طلبة ذلك القائد حالاً، مع أنه كان من أُمَّة وثنية. وقوله «أشفيه» يدل على أن له كل سلطان مثل الله.

٨ «فَأَجَابَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ: يَا سَيِّدُ، لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي، لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي».

لوقا ١٥: ١٩، ٢١ ويوحنا ٥: ٨، ٩ و١١: ٤٣، ٤٤

لَسْتُ مُسْتَحِقّاً يدل هذا الكلام على شعوره بخطيته، واعتباره المسيح ذا وقارٍ وقداسة، مع أنه كان قائداً رومانياً، والرومان كانوا يحتقرون اليهود كالعبيد. وكانت وظيفته العسكرية من أسباب الافتخار والكبرياء.

وقائد المئة هذا لم يكن لطيفاً فقط، بل كان حكيماً يراعي خاطر اليهود من جهة تنجسهم من بيت روماني، ولو كان هؤلاء الحكام وهم المحكومين. وفي الوقت ذاته لا يريد أن يحرج موقف المسيح فيكتفي أن يأمر الروح الشرير كما يأمر القائد جنوده، فينتهي كل شيء بسلام.

ونعلم مما جاء في لوقا ٧: ٨ أن الرب كان منطلقاً إلى بيت القائد وقد قرب منه حين لقيه رُسل القائد حاملين الرسالة المذكورة. واعتقد القائد عدم استحقاقه أن يدخل المسيح تحت سقفه، ولكن المسيح رضي أن يسكن قلبه، ويقبله أخيراً ساكناً أبدياً في بيت أبيه. ففي ذلك القائد إيمان عظيم، علاوة على زيادة تواضعه. ودليل إيمانه أنه نظر في ذلك الشخص الوضيع الحقير المنظر عظمة فائقة إلهية، واعتقد قدرته على شفاء المفلوج بكلمة واحدة من على بُعد.

كَلِمَةً أي أمراً بشفاء المرض.

٩ «لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَبْ فَيَذْهَبُ، وَلِآخَرَ: اِيتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِيَ: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَل».

تَحْتَ سُلْطَانٍ أي أني لست ملكاً ولا رئيس جيش، بل في رتبة صغيرة بالنسبة إلى سائر الرؤساء العسكريين، ومع هذا فلستُ محتاجاً أن أجيء بنفسي لتنفيذ أوامري، فآمر الجنود أو عبيد البيت فيتممون مطالبي، فتتم فعلاً. فكم بالحري أنت يا صاحب السلطان المطلق! إنك لا تحتاج إلا أن تقول كلمة فتطيعك الأمراض! ويعلمنا التاريخ أن الحكم الروماني العسكري كان صارماً جداً، فكان أقصر الأوامر يُطاع فوراً وبدون مناقشة.

١٠ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ تَعَجَّبَ، وَقَالَ لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا».

تَعَجَّبَ تعجُّب المسيح جزءٌ من سر التجسد الذي أشار إليه بولس الرسول بقوله «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). فبالنظر إلى لاهوته لا يظهر له شيءٌ أنه جديد أو غريب. أما بالنظر إلى ناسوته فقد كان إنساناً تاماً يشعر ويتكلم ويفعل كغيره من الناس سوى أنه لا يخطئ. وكانت تلك الحادثة من الغرائب وهي أن يرى أميٌ من الوثنيين ما لم يرَهُ الكتبة والفريسيون من أُمة المسيح.

لِلَّذِينَ يَتْبَعُونه أي ليس لتلاميذه فقط، بل لرسل القائد وللجمع المحيط به.

إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا كان هذا الإيمان بقدرة المسيح على شفاء المرضى، ويحتمل أنه آمن بأن المسيح يقدر أن يخلِّص النفس أيضاً. فالغريب أن إيمانه كان متفرِّداً، فلم يُظهر أحد من تلاميذه إيماناً كإيمانه بقدرته على الشفاء بكلمة ولو من على بُعد. ولا آمن أحدٌ من الأمة اليهودية التي تعرف النبوات التي تعلن صفات المسيح وأعماله ومعجزاته. فإذا قارنت إيمان مريم ومرثا بإيمان ذلك القائد تبين لك صحة ما ذُكِر (يوحنا ١١: ٢١، ٣٢ وانظر متّى ٩: ٢١).

ومقارنة المسيح إيمان ذلك القائد بإيمان إسرائيل دليل على أنه لم يكن متهوداً أو دخيلاً تبع الدين اليهودي. وشهادة الشيوخ الواردة في لوقا ٦: ٥ لا تدل إلا على أنه كان راضياً عن اليهود مستحسناً دينهم.

فِي إِسْرَائِيل هو اسم يعقوب (تكوين ٣٢: ٢٨، ٢٩) وهو اسم الاثني عشر سبطاً إلى أيام يربعام، ثم صار اسماً لعشرة أسباط منهم إلى وقت سبي بابل، ثم أُطلق على الأمة كلها.

١١ « وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».

تكوين ١٢: ٣ وإشعياء ٢: ٢، ٣ و١١: ١٠ ولوقا ١٣: ٢٩ وأعمال ١٠: ٤٥ و١١: ١٨ و١٤: ٢٧ ورومية ١٥: ٩ – ١٢ وأفسس ٣: ٦

تنبأ المسيح هنا بحوادث كثيرة في المستقبل مثل حادثة القائد، وأنه كما فاق الأمميُّ اليهودَ معرفةً وإيماناً بالمسيح، هكذا سيفعل جموع كثيرة من الأمم. وهذا أول كلام أشار به المسيح إلى دخول الأمم في ملكوته الجديد. لقد كانت بلاغة الكلام في خطاب يسوع بأنه كان يغتنم الفرص ليلفت النظر إلى الأمور الفضلى في الحياة، فينبِّه الناس للجوهر دون العرض. وإن ملكوته يضم الصالحين في قلوبهم من الفئة المؤمنة، لا الذين يرثون الصلاح ولو كانوا من الجنس المختار.

مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِب أي من كل الجهات حتى أقاصي الأرض. وفي ذلك وعدٌ ووعيد. الوعد للبعيدين عن المسيح، والوعيد للذين عندهم ما يمكن أن يجعلهم أقرب إليه.

وَيَتَّكِئُونَ مجاز يدل على الراحة، وهو مأخوذ من عادة الولائم في تلك الأيام. فالمسيح يشبِّه خيرات ملكوته بوليمة (لوقا ١٤: ١٦). ويشير أيضاً إلى الدخول في العائلة. والاشتراك مع الشرفاء في الوليمة يتضمن الشرف والسعادة.

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ هم رؤساء الآباء الثلاثة، وقد صوَّرهم المسيح يرأسون كلَّ العائلة العظيمة المتسلسلة منهم. وظلت تلك العائلة قروناً كثيرة الشعب المختار والكنيسة المنظورة. وكان الدخول إليها يتضمن الحقوق السياسية والشعبية، والحقوق الدينية الروحية. وابتدأ امتداد تلك السعادة للأمم على الأرض منذ مجيء المسيح وسينتهي في السماء.

١٢ «وَأَمَّا بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».

متّى ٢١: ٤٣ و١٣: ٤٢ و٢٢: ١٣ و٢٤: ٥١ و٢٥: ٣٠ ولوقا ١٣: ٢٨ ورومية ٢: ٢٥ – ٢٩ و٢بطرس ٢: ١٧ ويهوذا ١٣

بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ هم نسل إبراهيم الذين اختارهم الله أولاداً بالتبني، فحسبوا نفوسهم مُقربي الله وورثة ملكوته، واحتقروا الأمم كأنهم خارجون عن ذلك الملكوت.

فَيُطْرَحُونَ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ أشار هنا إلى بيت منير ليلاً فيه وليمة، طُرِد منه البعض إلى الخارج حيث الظلام والبكاء على الخيبة. فملكوت الله ملكوت النور والفرح، والطرد منه يعني البعد عن الله وعن معاشرة الأتقياء، وهو أشد العقاب. والذين يُطردون من السماء يُطردون من النور والسعادة والشركة بسبب عدم إيمانهم، ويُطرحون إلى ظلمة جهنم وعارها وحزنها وعذابها.

ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان كناية عن الحزن والغضب واليأس.

١٣ « ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ: ٱذْهَبْ، وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ. فَبَرَأَ غُلاَمُهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».

وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ لم يقصد أن إيمانه استحق ذلك الثواب، بل أن النعمة وُهبت له بالنسبة إلى إيمانه. فإيمان قائد المئة كان سبباً في شفاء عبده وحياته. وفي ذلك تشجيع عظيم لكل من يصلي لأجل غيره، ولا سيما الآباء من أجل أولادهم. والإيمان المقبول ليس مجرد التصديق بل ما يحدث به الثقة بالمسيح والالتجاء إليه بالتواضع.

فَبَرَأَ في الحال. لم يصل المسيح إلى البيت، ولم يرَ المريض. لكنه شفاه بكلمة من على بُعد، فأظهر بذلك شفقته وقوته. واليوم مع أن المسيح غائب بالجسد، لكنه لا يزال يشفي أمراض الجسد والنفس إجابة لصلواتنا.

١٤، ١٥ «١٤ وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ، رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً، ١٥ فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى، فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ».

مرقس ١: ٢٩ – ٣١ ولوقا ٤: ٣٨، ٣٩ و١كورنثوس ٩: ٥

هذه هي المعجزة الثالثة التي ذكرها البشير متّى. وهي تدل على أن قوة المسيح على الأمراض المعتادة كالحمى كقوته على الأمراض العظيمة كالبرص والفالج. ولم يفعل هذه المعجزة أمام الجمع كالمعجزتين السابقتين. وزاد مرقس ولوقا على قول متّى أن المسيح فعل تلك المعجزة في يوم السبت، وأنه دخل قبلاً المجمع وعلَّم، وأخرج الروح النجس من مجنون.

بَيْتِ بُطْرُسَ في كفرناحوم، وهي وطن المسيح في الجليل (مرقس ١: ٢٩). ولكن بطرس وُلد في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٥).

حَمَاتَهُ كان بطرس متزوجاً. ومن ١كورنثوس ٩: ٥ نرى أن زوجته كانت تحيا معه. ولم يمنع زواجه في اختياره رسولاً (عبرانيين ١٣: ٤).

مَحْمُومَةً قال لوقا «أخذتها حمى شديدة».

لَمَسَ يَدَهَا فعل ذلك بخلاف ما فعله في شفاه عبد القائد، فأظهر أن قوته ليست محدودة بالأحوال أو الأساليب. على أن المسيح كان يستخدم الحواس في عمل المعجزات ليدل على أن الشفاء متوقف على قوته ومشيئته.

فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ لم يشفها فقط ويتركها ضعيفة من تأثير المرض، بل ردَّ إليها القوة التي كانت قبله. وأول الطرق وأفضلها لاستعمال الصحة بعد المرض هو أن نوقفها لخدمة المسيح. وعلى كل من يشفيهم المسيح أن يخدموه.

١٦ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ ٱلأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ ٱلْمَرْضَى شَفَاهُمْ».

مرقس ١: ٣٢ الخ ولوقا ٤: ٤٠، ٤١ وأعمال ١٠: ٣٨

انتشر خبر مجيء المسيح إلى كفرناحوم، وما أجراه من معجزات، فجاء كثيرون إليه مساءً. ولعلهم أتوا بالمرضى حينئذٍ لانخفاض الحر، أو لأنهم رأوا أن المجيء بعد الغروب أوفق لأن ذلك كان يوم السبت (مرقس ١: ٢١، ٢٩). ويظهر مما قيل في هذه الآية أن المسيح عمل معجزات كثيرة لم تُذكر بالتفصيل.

مَجَانِين هم الذين تسلطت عليهم الشياطين، فضربوهم بأمراض جسدية أو عقلية أو بكليهما، فأطاعت الأرواح النجسة أمر المسيح وخرجت، فشُفي المجانين عقلاً وجسداً.

وَجَمِيعَ ٱلْمَرْضَى شَفَاهُم يظهر من مرقس ١: ٣٣ أن المدينة كلها تحركت يومئذٍ، وأنه لم يبقَ في المدينة سقيم. وذلك رمزٌ عما استعد المسيح أن يعمله لنفوس الناس من فيض نعمته.

١٧ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا».

إشعياء ٥٣: ٤ و١بطرس ٢: ٢٤

لِكَيْ يَتِمَّ قصد البشير متّى أن يبرهن لليهود أن يسوع هو المسيح، فقال إن أعمال المسيح في شفاء المرضى كانت تحقيقاً للنبوات القديمة المتعلقة بأفعال المسيح. وهنا ذكر المعجزة السادسة. وقد اقتبس هذا الكلام من نبوة إشعياء ٥٣: ٤.

أَسْقَامَنَا ظن بعضهم أن النبي أشار بهذه الكلمة إلى المصائب الأخلاقية. فإن صح ظنهم فلا فرق، لأن الكتاب المقدس يذكر على الدوام المصائب الروحية والمصائب الجسدية مقترنين معاً، باعتبارهما فرعين لأصل واحدٍ. فالكلمة في الأصل العبراني تصدق على الأمرين، مثل كلمة «شر» في اللغة العربية. فالنبوات تذكر المسيح كأنه متألم يشارك الغير في آلامهم. وزاد البشير على ذلك أن المسيح طبيب يشفي أمراض النفس والجسد.

أَخَذَ… وَحَمَلَ هذا اصطلاح في الذبائح الموسوية لأن الذبيحة كانت تؤخذ بدل الخاطئ، ويقال إنها حملت خطيته. وليس معنى «إن المسيح أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا» أنها نُقلت إليه حقيقة، فإننا نعلم أنه جاع وعطش وتعب، ولكن لم نعلم من ذلك قط أنه مرِض. فالمقصود بقوله «حمل أمراضنا» الإشارة إلى كل عمل المسيح لأجلنا الذي أكمله على الصليب وفقاً لقول الرسول الإلهي «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (١بطرس ٢: ٢٤). والمرض أحد نتائج الخطية، وأعمال المسيح في الشفاء رموز وعرابين لأفعاله الروحية. ولم يرفع شيئاً من تلك النتائج إلا بأن حمل الخطية، فإنه أخذ على نفسه كل حِمل البشر الساقطين من الخطايا والأحزان وأنواع الشرور، فرفع كل ذلك عنهم ووضعه على نفسه، بأن وفى دينهم على الصليب، وحمل أمراضهم أيضاً بأن اشترك في الحزن مع المعذبين. وهو يزيل الأمراض أوقاتاً وينفي علل كل الأحزان والخطايا بفدائه، ويحسب أحزان تابعيه كلها أحزاناً له وفي كل ضيقهم يتضايق (إشعياء ٦٣: ٩). وعمله هذا لا يزال جارياً في العالم إلى هذه الساعة بواسطة الكنيسة، فهي تنشئ المستشفيات وترسل المرسلين الأطباء إلى أقاصي الأرض ليعالجوا الأجساد، وهم يعالجون النفوس. وهذه الفوائد الجسدية التي تقوم بها الكنيسة ليست سوى الأثمار الصغرى من شجرة الحياة التي غرسها المسيح.

١٨ «وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِٱلذَّهَابِ إِلَى ٱلْعَبْرِ».

لم يتقيد متّى بذكر الحوادث حسب زمن حدوثها، فإن المخاطبة هنا لم تكن إلا في مساء اليوم الذي فيه ضرب المسيح الأمثال التي ذكرها هذا البشير في أصحاح ١٣ من إنجيله. ولعل متّى أراد أن يذكر هنا تسكين المسيح اضطراب البحر لأنه من أعظم ما فعله من المعجزات، فذكر المخاطبة التي سبقت هذه المعجزة. ويؤيد ذلك ما جاء في لوقا ٨: ١٢.

وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حدث أحياناً إن اجتمع كثيرون إلى المسيح. وفي أحد هذه الاجتماعات حدث ما ذكره هنا.

أَمَرَ بِٱلذَّهَاب أي أمر تلاميذه الملازمين له، وقد ذكر متّى أربعة منهم في ص ٤: ١٨ – ٢٢.

إِلَى ٱلْعَبْر أي من جانب بحيرة طبرية الغربي إلى جانبها الشرقي، وهي مسافة نحو ستة أميال أو ساعتين. وأمر المسيح بالذهاب إلى هناك لئلا يقيمه الناس ملكاً بغير رضاه، لأنهم كانوا ينتظرون ملكاً سياسياً، ولئلا يظن الحكام أنه يسعى في ثورة في البلاد، وليجعل فرصة للناس في أماكن أخرى أن يسمعوا كلامه، وليستريح قليلاً من تعبه.

١٩ «فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي».

لوقا ٩: ٥٧، ٥٨

جرى الحوار المذكور هنا وهم ذاهبون إلى الشاطئ، حيث كانت السفينة. وسبب ما جاء فيه وفي أمثاله هو انتظار النفع الدنيوي من المسيح الذي هو رجل الأحزان والأتعاب (إشعياء ٥٣: ٤) وعجز الناس عن أن يفهموا تلك النبوءة. ولا شك أن هذا الكاتب اندفع ليسير مع عاطفته أكثر من اللازم، فأراد يسوع أن يعيده إلى التروي والتبصر في ما عزم عليه، وأراده أن يعرف النفقة قبل أي إقدام.

فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ أي واحد من الكتبة، وهم علماء اليهود ومفسرو الشريعة (متّى ٢: ٤ و٥: ٢٠) وكان أكثر الكتبة أعداء للمسيح (١كورنثوس ١: ٢٠). ونستنتج من جواب المسيح لهذا الكاتب أنه توقع أن يحصل على منافع زمنية بتقربه إلى المسيح، لأنه تأثر من مشاهدة المعجزات وكثرة المجتمعين إلى المسيح.

يَا مُعَلِّم تلقيب الكاتب المسيح بهذا يدل على أنه اعتبره معلماً أعظم منه.

أَتْبَعُك أي أكون لك تلميذاً، وأقبل تعليمك. فلم يرد أن يتبعه لمجرد الرفقة في السفر إلى العبر.

أَيْنَمَا تَمْضِي أي إلى كل مكان تذهب إليه في كل حال وضيق وخطر، لكن على شرط لم يذكره وهو أن يشترك في الغلبة والمجد عندما يجلس المسيح على كرسي الملك.

٢٠ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».

يتبين قصد ذلك الكاتب من جواب المسيح هنا، فلو كان طلبه نتيجة محبته للمسيح ما أعطاه المسيح هذا الجواب. وجواب المسيح لا يدل على الفقر الشديد كما فهم البعض لأنه كان للمسيح أصحاب كثيرون قادرون على مساعدته ومستعدون لها (انظر لوقا ٨: ٣ و١٠: ٣٨) ولعله قصد أن لا مكان معين له، وأن الحياة تفرض عليه السفر من مكان إلى آخر، وهذا خلاف ما توقع الكاتب على ملازمته للمسيح.

فغاية المسيح في ذلك أن يقطع رجاء الكاتب الحصول على الخيرات الدنيوية من اتِّباعه. وربما ظهر للبعض أن ملازمة هذا الكاتب للمسيح ستفيد المسيحية في أول أمرها، فعجبوا من عدم اكتراث المسيح به وعدم ترغيبه إياه في أن يتبعه. لكن المسيح لم يُرد أن يكون له تلاميذ غايتهم دنيوية، ولا من يخدعون أنفسهم بتوقعهم الفوائد العالمية، ولا من لم يتوقعوا الضيق والاضطهاد من اتِّباعه.

الثَّعَالِبِ… وَالِطُيُورِ خص الثعالب والطيور بالذكر لأنه حسبها نائبة عن الحيوانات الدنيئة، فبيَّن أنه لا يملك قصوراً وحقولاً يوزعها على أتباعه، بينما تلك الحيوانات الدنيئة لها أكثر مما له، لأن لها مساكن معلومة خاصة.

أَوْجِرَةٌ جمع وجار، وهو مسكن الحيوان الوحشي من مغارة وما شابهها.

أَوْكَارٌ جمع وكر وهو بيت الطائر، وهو مكانه للراحة والأمن.

ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ لا يدل هذا الاسم على أن المسيح مجرد إنسان كسائر البشر، لأن ما قيل فيه هنا لا يصدق على كل واحد من الناس، فهو اسم مختص به بناءً على ما قيل عنه في دانيال ٧: ١٣. فإنه في الأصل «ابن الله» بالحق وهو «ابن الإنسان» لأنه أخذ لنفسه الطبيعة البشرية. وهذان الاسمان يدلان على طبيعتيه البشرية والإلهية. فإذاً ابن الإنسان هو ابن الله المتجسد، وهو آدم الثاني في أحوال اتضاعه وآلامه. ولم يرد هذا الاسم في الإنجيل لغير المسيح، ولا أحد يسميه به في البشائر سواه. وقد أطلق هذا الاسم على نفسه ٦١ مرة. ولعل المراد من تسميته بذلك في أعمال ٧: ٥٦ ورؤيا ١: ١٣ و١٤: ١٤ أنه الذي اعتاد أن يسمي نفسه «ابن الإنسان». ولعل عدم استعمال تلاميذه هذا الاسم له وهو على الأرض كان دفعاً لما يلزم منه من الإهانة والاستخفاف، لأنه لقب احتقار لا لقب شرف. ولكنه استعمله إشارة إلى ناسوته التام الذي اتخذه من البشر، وإلى اشتراكه معهم في كل شيء ما عدا الخطية.

لَيْسَ لَهُ الخ أي ليس له مسكن معين يملكه أو يتصرف به كما يشاء. ولا يعني هذا أن المسيح بات ليلاً في العراء لعدم وجود مأوى له سوى تلك الليالي التي انقضت عليه وهو يصلي باختياره منفرداً، فإنه لما أبى السامريون أن يقبلوه في قريتهم ذهب إلى قرية أخرى (لوقا ٩: ٥٦). فإذا كان قصد الكاتب أنه مستعد أن يتبع المسيح في المصائب الوقتية بغية المناصب الشريفة حين يثبت ملكوته، كان قصد المسيح بجوابه أن ملكوته ليس من هذا العالم، وأنه ليس سوى سائح على الأرض لا مسكن معين له. فالمسيح لم يطرد الكاتب ويمنعه من اتِّباعه بل أراده جلياً نصيب تابعيه الحقيقيين إصلاحاً لأخطائه في طلب الخير الدنيوي من ملازمته له. والمرجح أنه رجع عن قصد لما سمع هذا الجواب.

وهذا يعلِّمنا أن نحتمل الضيقات بإنكار الذات، كما احتملها رئيسنا لأجلنا، فإنه وُلد في مذود ليس له، وكان غريباً في العالم الذي هو خلقه، ودُفن بعد موته في قبر مستعار ليرينا عدم قيمة الغنى الأرضي ويشتري لنا الغنى الحقيقي (٢كورنثوس ٨: ٩). فيخطئ من يتوقع من المسيح غير خلاص نفسه.

٢١ «وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي».

مِنْ تَلاَمِيذِهِ أي من الذين تبعوه ليتعلموا منه، واعترفوا بأنه معلم ذو سلطان لا من رسله.

أَدْفِنَ أَبِي يتبين من ذلك أن أباه قد مات ولم يُدفن بعد، وأراد بدفنه القيام بكل ما يتعلق بالجنازة حسب عوائد تلك الأيام. ووعد المسيح أنه يتبعه على شرط أنه يسمح المسيح له بأن يوم بواجباته لوالده المتوفى. فيظهر لنا أن طلبه في محله لأنه من واجبات الدين أن يكرَم الوالدان أحياءً وأمواتاً. لكن المرجح أن المسيح رأى خطراً على نفس ذلك التلميذ من الرجوع إلى بيته، وأراد أن يعلمه أن القيام بالواجبات للمسيح أفضل وأهم من القيام بالواجبات للوالدين.

ظن بعضهم أن أباه لم يكن قد مات وأنه شيخ طاعن في السن، فطلب ذلك التلميذ أن يبقى عنده إلى يوم موته ودفنه. ولكن لا دليل على صحة هذا الظن أو ترجيحه.

٢٢ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱتْبَعْنِي، وَدَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ».

لوقا ٩: ٥٩، ٦٠

ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم أي اترك موتى النفس يدفنون موتى الأجساد. وأراد بموتى النفوس أصحاب الميت وأصدقاءه غير المؤمنين. فإن للموت في الكتاب المقدس معنيان: حقيقي ومجازي (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦) فكأنه قال له إن هنالك من يهتم بدفن أبيك، فقد دعوتك لتتبعني فلا تلتفت إلى دعوة أخرى. فأراد المسيح بذلك أنه حين يدعو إنساناً، يجب على هذا الإنسان أن لا يتعطل عن الطاعة، لأنها أعظم من كل واجباته نحو الناس كقيام الولد بدفن والده.

رأى بعضهم أن المسيح أراد بذلك أن يمتحن ذلك التلميذ ليرى إن كان مستعداً أن يترك كل شيء من أجله، كما طلب في متّى ١٠: ٢٧ «اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ» ولوقا ١٤: ٢٦ «نْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا». وظن البعض أن أقرباءه يمنعونه إن ذهب إليهم عن الرجوع إلى المسيح، أو إن انفعالاته تمنعه عن ذلك الرجوع. ولا ريب في أن هنالك سبباً كافياً لمنع المسيح له من أنه كان في قلبه شيءٌ من عدم عقد النية على البقاء مع المسيح.

ومن فهم من قوله «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» أن الفريقين موتى بالحقيقة أتى في ذلك معنى مفيداً أيضاً، فإن دفن الموتى ذواتهم مستحيل، فيلزم منه أن ترك الموتى بلا دفن أفضل من أن يترك الإنسان طاعته للمسيح ويهلك نفسه. ولكن ذلك بعيدٌ عن ظاهر الكلام.

٢٣ «وَلَمَّا دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ».

هنا معجزة أخرى من معجزات المسيح أظهرت سلطانه على العناصر والقوى الطبيعية.

ٱلسَّفِينَةَ هي قارب للصيد لعله لبطرس وأندراوس، أو لابني زبدي، أو قارب مستأجر للسفر.

تَلاَمِيذُه هم الذين اعتادوا رفقته كبطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا.

٢٤ «وَإِذَا ٱضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي ٱلْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ ٱلأَمْوَاجُ ٱلسَّفِينَةَ، وَكَانَ هُوَ نَائِماً».

مرقس ٤: ٣٧ الخ ولوقا ٨: ٢٣ الخ

وَإِذَا حرف فجاءة، يدل على حدوث ما لم يكن متوقعاً.

ٱضْطِرَابٌ عَظِيمٌ سطح بحيرة طبرية منخفض عن سطح البحر المتوسط بنحو ٦٠٠ قدم، وتحيط بها أكمة عالية، فكانت عرضة للعواصف الفجائية والاضطرابات الشديدة التي يُخشى منها على السفن الصغيرة كقوارب الصيادين. فلا بد من أن ذلك الاضطراب كان غير عادي لأنه أخاف التلاميذ، مع أنهم اعتادوا البحر منذ الصغر لأنهم صيادون.

غَطَّتِ ٱلأَمْوَاجُ ٱلسَّفِينَة كانت كل موجة من تلك الأمواج عالية حتى ارتفعت فوق السفينة ومالت عليها حتى كادت تمتلئ من الماء وتغرق.

وَكَانَ هُوَ نَائِماً المرجح أن المسيح كان قد تعب كثيراً من التعليم وشفاء المرضى حتى لم يستيقظ من صوت الرياح وضجيج الأمواج وحركات السفينة، فدلَّ نومه على أنه إنسان كما دلت معجزاته عند استيقاظه على أنه إله. وكان بذلك خلاف يونان النبي الذي نام وضميره ميت. أما المسيح فنام وضميره مستريح. وكان حضور يونان سبب اضطراب البحر والخطر لمن معه. أما حضور المسيح فحقق الأمن لرفاقه.

٢٥ «فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!».

أَيْقَظُوهُ الأرجح أنهم انتظروا يقظته ما أمكنهم قبل أن يوقظوه، ثم نادوه بصراخ الخوف والسرعة.

نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِك أي أنقذنا من هذا الخطر، لأننا أخذنا نغرق، ولذلك أيقظناك؟

٢٦ «فَقَالَ لَـهُمْ: مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ ثُمَّ قَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيَاحَ وَٱلْبَحْرَ، فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».

مزمور ٦٥: ٧ و٨٩: ٩ و١٠٧: ٢٩

مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ؟ أراد بهذا السؤال توبيخهم وعدم رضاه عنهم، ليس لانتفاء الخطر أو عدم ما يحملهم على الخوف، بل لأن حضوره كان يوجب عليهم أن لا يخافوا بل أن يثقوا بقوته وإرادته أن ينقذهم. ولعلَّ نوم المسيح في مثل ذلك الوقت كان سبب ضعف ثقتهم. لكنهم أخطأوا بأنهم ربطوا بين سلطانه ويقظته، لأنه كان يجب عليهم أن يتيقنوا أن حضوره يؤكد خلاصهم نائماً كان أم مستيقظاً.

وكثيرون اليوم من تلاميذ المسيح لهم من الإيمان والمحبة ما هو كافٍ لأن يحملهم على ترك كل شيء من أجله ومع ذلك يخافون في الضيقات خوفاً شديداً.

يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان كان للتلاميذ إيمان قليل. ولو لم يكن لهم شيءٌ من الإيمان ما لجأوا إليه في وقت الخطر، لكن كان عليهم أن يكون إيمانهم كثيراً بعد أن شاهدوا معجزاته. والقليل من الإيمان أفضل من عدمه، لأن المسيح بعد ما وبخهم على قلة إيمانهم أثابهم على ذلك الإيمان القليل بإجابة صلاتهم وتهدئة البحر.

إن هذه الحادثة تذكر المسيحي كيف حفظ الله الفلك على مياه الطوفان التي أغرقت العالم القديم، وتعلمه وجوب الثقة بالمسيح الحاضر معنا، الغير منظور في زمن الخطر الشخصي، وعندما تهب عواصف الاضطهاد على الكنيسة.

ٱنْتَهَرَ ٱلرِّيَاح خاطب الريح كأنها فعلت فعلاً تدركه. وهذا ما جعل البعض يظنون أنه كان للأبالسة يد في ذلك الاضطراب، لأن الإنجيل استعمل نفس هذا اللفظ «انتهر» لتوبيخ المسيح للروح النجس (مرقس ٩: ٢٥). ومما قوَّى ظنهم هو أن الخطية هي سبب كل مصيبة في العالم، وسبب الخطية الشيطان. وأما نحن فنقول إن المسيح أنزل العناصر منزلة العصاة فانتهرها كما انتهر الحمى (لوقا ٤: ٣٩) فنفذ أمره بسهولة غريبة. فموسى تسلط على المياه بعصا الله، ويشوع بتابوت العهد، وأليشع برضى إيليا. وأما يسوع فبكلمة منه.

فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ خضعت العناصر في أعظم اضطرابها لأمر المسيح ذي السلطان عليها. وإن كان قد سمح للأبالسة أن يتسلطوا وقتاً على تلك العناصر، فقد عجزوا عند كلمة المسيح. فإنه بكلمة واحدة من شفتيه سكنت الريح وسكتت الأمواج. وهذه المعجزة رمزٌ إلى فعل المسيح الروحي الذي يفعله في كل زمان، وهو منحه الراحة للنفس في اضطرابات هذه الحياة وإخضاعه كل قوة مانعة من تقدم ملكوته.

كثيراً ما تكون طريق الواجبات طريق خطر، فيجب على الذين يتبعون المسيح أن لا يتوقعوا منه أنه سيعفيهم من المصائب. ولكن إذا كان الرب معهم وهم متكلون عليه فليس الخطر مخيفاً ولا الموت هائلاً.

٢٧ «فَتَعَجَّبَ ٱلنَّاسُ قَائِلِينَ: أَيُّ إِنْسَانٍ هٰذَا! فَإِنَّ ٱلرِّيَاحَ وَٱلْبَحْرَ جَمِيعاً تُطِيعهُ».

تَعَجَّبَ ٱلنَّاسُ ظنَّ بعضهم أن الذين تعجبوا الملاحون لا الرسل، ولكن الأرجح أن العجب شمل الفريقين، لأنه المسيح بينهم كان ذا صفات أعظم مما تصوروا، فاقترابهم من شخص له مثل هذا السلطان جعلهم يتعجبون ويخافون أيضاً (مرقس ٥: ٤١).

أَيُّ إِنْسَانٍ هٰذَا!؟ استفهام يراد به عظيم التعجب مما شاهدوه من سلطان المسيح على الرياح والبحر، علاوة على ما عهدوه من قوته على الأمراض والأرواح النجسة لأنها أطاعته طاعة العبيد لأربابهم (مزمور ٨٩: ٨، ٩). وقد أذن الله في وقوع ذلك الاضطراب لزيادة مجد المسيح في تسكينه، ويعظم شأنه في عيون تلاميذه وليقوي ثقتهم بنجاتهم من كل خطرٍ بواسطة القرب منه، ولكي يرى تلاميذه ضعف إيمانهم.

٢٨ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ ٱلْجِرْجَسِيِّينَ ٱسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ ٱلْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدّاً، حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ ٱلطَّرِيق».

مرقس ٥: ١ – ٢٠ ولوقا ٨: ٢٦ – ٣٩

ٱلْعَبْرِ أي الجانب الشرقي من بحيرة طبرية.

كُورَةِ ٱلْجِرْجَسِيِّين لعلها سُميت كذلك من مدينة اسمها جرسة أو كرسة على شاطئ بحيرة طبرية، وهذه المنطقة قسم من بلاد الجدريين نسبة إلى عاصمتها «جدرة» إحدى المدن العشر المشهورة، فسمى مرقس ولوقا هذه المنطقة باسم البلاد التي هي قسم منها (مرقس ٥: ١ ولوقا ٨: ٦). ولعله ذكرها باسمها القديم قبل أن يهدمها بنو إسرائيل (تكوين ١٥: ٢١ ويشوع ٣: ١٠ و٢٤: ١١ وتثنية ٧: ١).

ٱسْتَقْبَلَهُ كان ذلك حين نزلوا من السفينة إلى البر، ولعل المجنونين كانا يراقبانهم وهم مقبلون على السفينة.

مَجْنُونَان لم يذكر مرقس ولوقا سوى واحد منهما، ولعل أحدهما كان أشد جنوناً من الآخر، أو لأن أمره كان أهم من أمر الآخر لعلة لا نعلمها. ونرى من تتبع البشائر أن متّى يهتم بذكر العدد أكثر من سائر البشيرين (متّى ٩: ٢٧ و٢١: ٢) وأن مرقس اعتنى بذكر إمارات وجه المسيح وإشاراته أكثر من سواه، ولوقا بذل الجهد في ذكر صلوات المسيح، ويوحنا اهتمَّ أكثر بأحاديث المسيح وخطاباته. ولا تناقض بين متّى ومرقس في أن ذكر أحدهما المجنونين واقتصر الثاني على ذكر واحد منهما، بل أن ذلك يدل على استقلال كلٍ منهما في ما كتبه. وقد ذكرنا ما يتعلق بالجنون في شرحنا لمتّى ٤: ٢٤.

خَارِجَانِ مِنَ ٱلْقُبُورِ تأوي الوحوش أو اللصوص إلى القبور القديمة (كما ذكر يوسيفوس المؤرخ) كما يأوي إليها المجانين المطرودون من بيوت الناس أو التاركون لها اختياراً. واعتبر اليهود تلك القبور نجسة، وتجنبها الأمم اعتقاداً أنها مساكن أرواح الموتى. أما المجانين فسكنوها لأنهم وجدوها موافقة لأحوال عقولهم التعسة.

هَائِجَانِ جِدّا زاد مرقس ولوقا على ذلك بيان الوسائل التي اتخذها الناس لمنع المجنونين من إيذاء نفسيهما والإضرار بالغير، من ربطهما بقيود وسلاسل، ولكنها ذهبت عبثاً (مرقس ٥: ٣ – ٥ ولوقا ٨: ٢٩). واقتصر متّى على ذكر خوف أهل البلاد منهم. فما أعظم الشقاء والأذى الذي يسببه تسلط الشياطين على الناس.

٢٩ «وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟».

قد صرخا: العجب من أن المجنونين اكتفيا بالصراخ فلو كان الحاضرون غير المسيح وتلاميذه لهجما عليهم لا محالة، فإنهما قد منعا الناس أن يمروا من هناك. والذي منعهما من الهجوم معرفة الشياطين المسيح وخوفهم منه.

مَا لَنَا وَلَكَ؟ تكلمت الأبالسة بفمي المجنونين، واستعملت ضمير الجمع بقولها «ما لنا». إما لأنها جنس، وإما لأنها كثيرة في ذلك المجنونين. واستفهام أولئك الأرواح استنكاري، أرادوا به أنه لا حقَّ للمسيح في معارضته لهم، فهم لا يتوقعون النفع من المسيح ولا الرحمة، إنما يخافون من العقاب. وكلامهم يدل على إرادة المقاومة للمسيح، مع شعورهم بالعجز عنها.

قبل الوقت لتعذبنا: الأرجح أن «الوقت» هو يوم الدين (يهوذا ٥ و٢بطرس ٢: ٤ و١كورنثوس ٦: ٣ ورؤيا ٢٠: ١٠). فخافوا من أن يمنعهم المسيح من الجولان في الأرض ويرسلهم إلى جهنم. ويظهر من ذلك أن الشياطين يرون منعهم عن تعذيب غيرهم عذاباً لهم علاوة على عذابهم في جهنم.

ٱبْنَ ٱللّٰهِ هذا ليل واضح على أن جنون الرجلين لم يكن مرضاً عادياً بل كان مساً من الشياطين وإلا ما عرفا أن يسوع ابن الله، أما الشياطين فيعلمون ذلك. ويظهر من هنا أن الملائكة الأطهار لا يمتازون عن الأبالسة بالمعرفة بل بالمحبة.

٣٠ «وَكَانَ بَعِيداً مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى».

حرمت شريعة موسى أكل لحم الخنزير (لاويين ١١: ٧ وتثنية ١٤: ٨). إنما الذين كانوا يأكلون ذلك اللحم يومئذٍ هم العسكر الروماني وغيرهم من الأمم. وكان أكثر سكان تلك المنطقة أمماً، فربوا الخنازير طعاماً لهم وربحاً من بيعه للرومان. ولم تكن تلك الخنازير بعيدة عن المشاهدين بعداً يجاوز حد النظر وكان عدد تلك الخنازير نحو ألفين (مرقس ٥: ١٣).

٣١ «فَٱلشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ ٱلْخَنَازِيرِ».

طلب الأبالسة إلى المسيح أمرين: (١) أن يتركهم، و(٢) أن يأذن لهم بالذهاب إلى الخنازير إن أجبرهم على الخروج من الرجلين. ولا نعلم كيف يمكن لتلك الأرواح أن تسكن تلك البهائم، ولا نعلم القصد من طلبهم ذلك. ولعل السبب أن يبقوا في تلك المنطقة، أو أن تبقى لهم فرصة للأذى بعد ذلك، أو أن يهيجوا السكان على يسوع. ولنا في ذلك تعزية حسنة، وهي أن قوة الشيطان محدودة، فلا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله.

٣٢ «فَقَالَ لَـهُمُ: ٱمْضُوا. فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ ٱلْخَنَازِيرِ، وَإِذَا قَطِيعُ ٱلْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ ٱنْدَفَعَ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَمَاتَ فِي ٱلْمِيَاهِ».

ٱمْضُوا أذن المسيح للشياطين ليحول شرهم خيراً كما يفعل بأعمال الناس الأشرار «لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا» (مزمور ٧٦: ١٠). ولعله أذن لهم في ذلك ليوضح رداءة أولئك الأرواح، وليظهر عظمة نجاة المجنونين منهم.

في هذه القصة أورد البشير متّى كثيراً من الدعابة، فقد كان يكتب لقوم يعرفون عادات الأمم ويقارنونها بعادات اليهود وتقاليدهم من جهة نجاسة الخنازير، فصوَّر هذه النتيجة المحزنة لتجار الخنازير وخسارتهم الفادحة، يقابلها الربح الحقيقي بإرجاع ذي الروح النجس للصحة الكاملة.

وَإِذَا قَطِيعُ ٱلْخَنَازِيرِ الخ نتيجة دخول الأبالسة في الخنازير اختارت الخنازير الهلاك (وهو مما تجتنبه بالغريزة) عند دخول تلك الأرواح فيها، فركضت واندفعت من الجبل حيث كانت ترعى إلى البحر فغرقت كلها. وهذا يبرهن أن جنون الرجلين كان من تلك الأرواح لا من مرض عادي. ويبرهن الفرق العظيم بين أعمال المسيح وأعمال الشيطان، فإن أعمال المسيح للخلاص وأعمال الشيطان للهلاك.

لام البعض المسيح لأنه جلب على أصحاب الخنازير خسارة مادية. وردَّ بعضهم على ذلك بأن أصحاب تلك الخنازير كانوا يهوداً لا يجوز لهم أن يتجروا بالخنازير، فعاقبهم المسيح بعدل وأهلك خنازيرهم. لكن لا دليل على ذلك. وردَّ البعض بأن هلاك الخنازير كان نتيجة عمل الشياطين لا عمل المسيح. ولو كان المسيح سبباً لذلك لأقام أصحابها الدعوى عليه. وحتى إن سلمنا أن المسيح كان العلة في ذلك فإن للمسيح الإله كل الحق أن يميت الخنازير بأي طريق أراد، كالوباء أو الصواعق أو الغرق. وتجسد المسيح لا ينقص حقه في أن يتصرف كيف شاء بخليقته. والنظر في شفاء المجنونين من سلطة الشيطان أفضل من البحث عن موت الخنازير. ففي كل يوم تُذبح ألوف من البهائم لمنفعة أجساد البشر، فلا اعتبار لتلك الخسارة القليلة بالنسبة إلى نفع النفوس الخالدة. ومن حسب الله مسؤولاً عن كل شر في العالم وقع في خطية التجديف!

٣٣ «أَمَّا ٱلرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَنْ أَمْرِ ٱلْمَجْنُونَيْنِ».

هرب الرعاة خوفاً مما حدث، وليخبروا أهل المدينة وأصحاب الخنازير، وليبرروا أنفسهم من تلك الخسارة. فرووا الخبر كله مبتدئين بموت الخنازير، ومنتهين بشفاء المجنونين. ولا نعلم كيف عرفوا علاقة الأول بالثاني. الأغلب أنهم مرّوا بالمسيح وتلاميذه فعرفوا سبب الأمر كله.

٣٤ «فَإِذَا كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ قَدْ خَرَجَتْ لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ. وَلَمَّا أَبْصَرُوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ».

أيوب ٢١: ١٤ و٢٢: ١٧ وأعمال ١٦: ٣٩

كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ أي أكثر سكانها حسب اصطلاح اللغة.

لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ ليمنعوه من التقدم إلى مدينتهم خوفاً من خسارة أخرى بقوته الغريبة. ولا عجب أن خافوا من مجيء المسيح لأنهم كانوا من الأمم، ولم يعرفوا من أمر المسيح سوى تلك المعجزة، النافعة للمجنونين لكنها أضرَّت بهم. فطلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم. وفي هذه الطلبة خسارة لهم، لأن قدومه ينفع أجسادهم وأرواحهم. أما هو فاستجاب لهم في الحال، فكان ذلك من أعظم مصائبهم، لأنه لا مصاب للإنسان أشر من أن الله يستجيبه إذا طلب أن يتركه وشأنه. قال الله «وَيْلٌ لَهُمْ أَيْضًا مَتَى انْصَرَفْتُ عَنْهُمْ!» (هوشع ٩: ١٢). وجهل أولئك الجدريين لا يزال جهل ألوف من الناس، فإن المسيح يقرع أبواب قلوبهم بروحه القدوس، وهو مستعدٌ أن يمنحهم أفضل البركات. أما هم فلعدم فتحهم له يكونون كمن يلتمس منه الانصراف. ومحبة العالم تمنع من قبول المسيح، لأن المجنونين المسكونين بالشياطين كانا مستعدين لقبول المسيح أكثر من الجدريين الدنيويين.

طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ يسوع غير مرغوب فيه لأنه يعطي ربحاً روحياً وأحياناً خسارة مادية. وما أكثر الماديين الذين يعيشون للخبز فقط ولو عفروا الجباه في سبيل تحصيله، فبئس ما فعلوا، وبئس ربحهم من خسارة حقيقية!

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى