إنجيل متى | 02 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الثاني
١ «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ».
لوقا ٢: ٤ – ٧، تكوين ١٠: ٣٠ و٢٥: ٦ و١ملوك ٤: ٣٠
وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ حدثت الحوادث المذكورة هنا بعد زيارة الرعاة، والإتيان بالطفل إلى الهيكل، لأنه بعدما هاجت وساوس هيرودس لم يعد ممكناً ليوسف ومريم أن يأتيا به إلى الهيكل آمنين. وكانت نتيجة هذه الوساوس أن أمر هيرودس بقتل أطفال بيت لحم، فهربت العائلة المقدسة إلى مصر. ثم ذكر متّى الرجوع إلى الناصرة بدلاً من الرجوع إلى بيت لحم، وقصَّ بالاختصار حوادث أخرى تتعلق بميلاد المسيح (ذُكرت مفصلة في لوقا ٢: ١ – ٢١) منها خبر ولادته، وسكنى مريم ويوسف قبلاً في الناصرة. فإن متّى اقتصر على توضيح يُثبت أن يسوع هو المسيح. من ذلك إتيان نوَّاب من العالم الوثني ليؤدّوا له السجود باعتباره ملك اليهود. وقد ذكر الرحالة «ماركو بولو» عن قرية فارسية يدَّعي أهلُها أن المجوس خرجوا منها وجاءوا إلى اليهودية.
بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّة ضيعة صغيرة في الجنوب الغربي من أورشليم، وتبعد عنها نحو ثمانية كيلومترات. ظنَّ بعضهم أنها سُمِّيت بذلك لخصب أرضها. وأُضيفت إلى اليهودية تمييزاً بينها وبين بيت لحم أُخرى في الجليل (يشوع ١٩: ١٥). وسُميت بيت لحم اليهودية أفراتة (تكوين ٣٥: ٩، ميخا ٥: ٢) وسميت مدينة داود (لوقا ٢: ٤) لأن داود وُلد فيها (راعوث ١: ١ – ١٩). وقد أشار النبي ميخا إلى الفرق بين حقارتها وعظمتها (ميخا ٥: ٢) وهو ما اقتبسه الكتبة في جوابهم على هيرودس (متّى ٢: ٦).
وقد جاء يوسف ومريم إلى بيت لحم وقت الاكتتاب طاعةً لأمر أوغسطس قيصر (لوقا ٢: ٢ – ٧).
مَجُوس ويمكن إبدالها بالمنجِّمين. أُطلِق هذا الاسم أولاً على بعض كهنة بين مادي وفارس كانوا قد عكفوا على درس الفلك والطب وعلوم أخرى طبيعية، ثم أُطلق على كل العلماء والفلاسفة في الشرق. وكان دانيال ورفقاؤه منهم (دانيال ٢: ٤٨). وقصد الله بمجيء المجوس تنبيه أفكار اليهود وتهيئة عقولهم لقبول المسيح، وتقوية إيمان ورجاء يوسف ومريم مع أتقياء آخرين بالملك المولود جديداً، وتقديم وسائط النعمة لأولئك المجوس، ولأمم أُخرى تؤمن بالمسيح بمجرد شهادتهم له.
وخبر زيارة المجوس واسطة نعرف به وقت ولادة يسوع، لأنها حدثت قبل موت هيرودس الكبير سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية، أي قبل بدء التاريخ المسيحي بأربع سنين. والمرجَّح أن النجم ظهر للمجوس في الوقت الذي وُلد فيه المسيح. وإن كان المقصود من «المشرق» أرض الكلدانيين يكون سفرهم نحو أربعة أشهر (عزرا ٧: ٩). وإن كان من بلاد الفرس فأكثر من ذلك.
هِيرُودُس ويُلقَّب غالباً في التاريخ بـ «الكبير» وهو ابن أنتيباتر الأدومي. كانت عائلته يهوداً دُخلاء، وعُيّن بأمر السناتوس الروماني ملكاً على اليهودية، فملك ٣٧ سنة. كان شجاعاً قوياً مولعاً بإقامة الأبنية الفاخرة، قاسياً غيوراً كثير الوساوس والهواجس، قتل امرأته مريمني وابنيه إسكندر وأرستوبوليس. وقبل وفاته بخمسة أيام قتل ابنه أنتيباتر، وتوفي في سن السبعين. وقبل وفاة هذا الذي عيَّنه الرومان ملكاً وُلد آخر عيَّنه الله ملك اليهود وفقاً للقول «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين ٤٩: ١٠). فقد زال حينئذ قضيب السلطة من يهوذا، وصار الوقت لإتيان «شيلون» إذ ملك أوغسطس قيصر إمبراطور روما وخضع له أكثر العالم. وكان الناس وقتها في غاية الأمن والراحة، وامتدَّت اللغة اليونانية حتى صارت لغة الجميع. وصار كل شيء مناسباً لدخول الإنجيل وامتداده.
مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قد تعني بلاد العرب أو الفرس أو الكلدانيين، لأنه في كل هذه الأماكن كان مجوس وأُناس ينتظرون مجيء رئيس عظيم أو منقذ.
إِلَى أُورُشَلِيمَ أتوا أورشليم لأنها عاصمة اليهودية والمكان الذي فيه يمكن لهم أن يفحصوا بأكثر تدقيق عن مطلوبهم، أو لأنهم ظنوا أنه فيها يولد المسيح ملك اليهود.
٢ «قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».
لوقا ٢: ١١، عدد ٢٤: ١٧ وإشعياء ٦٠: ٣
قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ؟ يدل قولهم على انتظارهم ملكاً، وهو انتظار مبني إما على نبوَّة دانيال الذائعة بينهم (دانيال ٧: ١٤) وتعليمه الذي كان أثرهُ باقياً بينهم، أو على تعليم اليهود الباقين بينهم منذ سبيهم، أو على نبوَّة بلعام (عدد ٢٤: ١٧) لأن هذا النبي كان من بلاد الشرق (تثنية ٢٣: ٤).
ويظهر من سؤالهم أنه كانوا واثقين بميلاد المسيح، فتجشموا مشاق السفر الطويل. ولا بد أن اعتقادهم لم يكن عن حدس أو ظن، والأغلب أنه كان إلهاماً إلهياً. لأن الذي ألهم بلعام أن ينطق بهذه النبوة الغريبة يقدر أن يلهم هؤلاء المجوس أن يأتوا ويسجدوا له عند ظهوره.
ولا دليل لنا على تعيين عددهم أو أسماءهم أو أنهم ملوك. ولكن نستنتج من هداياهم أنهم كانوا أثرياء. وسهَّلت وفرة معارفهم لهم أن يتكلموا بلغة اليهود، مع أنها تختلف عن لغتهم.
ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ توصَّل كثيرون من الملوك إلى عروشهم بفتوحاتهم وخداعهم ومكرهم، وأما هذا الملك فقد عيَّنه الله ملكاً منذ ولادته.
فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ أي رأوا نجمه وهم في المشرق، فهداهم. ولا نعلم ما هو ذلك النجم، هل سياران مقترنان، أم نجم من ذوات الأذناب، أم نيزك؟ والذي نعلمه أنه كان علامة معينة من الله كالنجم منظراً ليدلهم إلى حيث يولد المسيح. وقد يكون نوراً غير عادي. ولا شكَّ أنهم انتظروا أن يجدوا أهل أورشليم عارفين بولادة المسيح ومسرورين بها.
و من هذا نرى أن الله يهدي الناس إليه بما اعتادوه أو بما يحتاجون إليه، فهدى المجوس بواسطة نجم، وبطرس بصيد السمك، والمرضى بشفاء أمراضهم.
وَأَتَيْنَا لِنَسْجُد لا يدل هذا التعبير دلالة قاطعة على تقديم عبادة دينية، فقد يُقصَد به إكرام سامٍ لملك أو لذي مكانة، بالركوع أو الانطراح على الأرض. ولكن القرينة تدل على أن السجود الذي قدمه المجوس كان أسمى من السجود الذي يقدَّم لملك من البشر. ومنه نرى أن الله يهدي الذين يريدون أن يجدوا المسيح ولو كانوا بعيدين عنه، وكانت معرفته به قليلة. وأن أقرب الناس إلى المسيح قد يجهلونه، وأن البعيدين عنه يطلبونه ويكرمونه ويخدمونه. وعمل المجوس هذا مثال واضح لنا في الاجتهاد الروحي لنقتدي بهم، فما كان أطول سفرهم، وما كان أشد الأتعاب والأخطار التي قاسوها. فعلى المسيحي أن يظهر الغيرة وإنكار الذات في اتباع المسيح كما أظهر هؤلاء.
٣ «فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ».
لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَب بلغ هيرودس في الحال خبر المجوس وسؤالهم، فاضطرب وهو في السبعين من عمره من ولادة طفل. لا بد أنه ظنَّ ذلك الطفل سيكون ملكاً زمنياً. ولعل ضميره بكَّته لأنه قتل امرأته وبعض أولاده، وحصل على المُلك بالظلم وسفك الدماء، فخاف جداً. ونبأ ظهور النجم واعتبار الناس ظهوره علامة لولادة ملك جديد لليهود والاعتقاد أنه حان زمن ظهور المسيح، جعله يخاف من أن ملكه على وشك الانقراض.. ويُحتمل أنه خاف من أن يثور اليهود عليه، رغبةً في ملكهم الجديد، وكرهاً له لأنه أجنبي لا حقَّ له في ميراث الملك.
وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَه ولا سيما أصحابه الملازمون له المشاركون له في الانفعالات. وخاف كل الشعب لأنهم كانوا قد تعبوا من الحروب والفتن وقتل بعضهم ومظالم هيرودس العديدة، وخافوا تولُّد حركات ومذابح جديدة ناتجة عن وساوس الملك. والقول إن «جميع أورشليم» اضطربت لا ينفي وجود مَن فرح بعلامات مجيء المسيح في أورشليم. فقد كان مجيء المسيح الأول لاضطراب الأشرار وفرح الأبرار. وهكذا سيكون مجيئه الثاني.
٤ «فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟».
٢أخبار ٣٦: ١٤، ٢أخبار ٣٤: ١٣، ملاخي ٢: ٧
رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ هذا يشمل رئيس الكهنة حينئذ، وجميع الذين بلغوا هذه الرتبة قبله ثم عُزلوا، وكل رؤساء فرق الكهنة وعددها أربع وعشرون ( انظر ٢أخبار ٢٣: ٨ ولوقا ١: ٥).
وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ هم خلفاء عزرا، ووظيفتهم نسخ الكتب المقدسة وتفسيرها، وجمع تقاليد اليهود وهم علماء الشعب، ولم يكن غيرهم وغير رؤساء الكهنة أكثر أهلية لإجابة سؤال هيرودس. وكان أكثرهم من حزب الفريسيين، وليس واضحاً إن كانوا من أعضاء مجلس السبعين (السنهدريم).
أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟ اتخذ هيرودس سؤال المجوس سؤالاً له. وبهذا أقرَّ أن المسيح موعود به من الله، وتظاهر بالاشتراك مع الآخرين في الرجاء. والظاهر من سؤاله أنه كان يجهل كتب اليهود الدينية. فقد جمع هذا الحشد العظيم ليسألهم سؤالاً يستطيع كلٌّ منهم أن يجيبه عليه. وكانت غايته العظمى من السؤال معرفة المكان الذي عيَّنه الأنبياء مولداً للمسيح لكي يقتله ويطمئن.
٥ «فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بِٱلنَّبِيِّ».
ميخا ٥: ٢ ويوحنا ٧: ٤٢
فِي بَيْتِ لَحْم وهي قرية جنوب أورشليم وتبعد عنها نحو ثمانية كيلو مترات. ويدل قول اليهود في يوحنا ٧: ٤٢ بعد ذلك بثلاثين سنة أنهم بقوا على هذا الاعتقاد من حيث مكان مولد المسيح. ولا شكَّ أن اليهودية كانت سعيدة بأن يولد المسيح فيها. وأسعد منها القلب الذي يولد هو فيه. ومع أن شرف ولادته الجسدية انحصر في مكان واحد، إلا أن كل نفس تقدر أن تحصل على هذا الشرف روحياً.
لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بهذا أظهروا أن كلام النبوة فصل الخطاب الذي ينفي كل شك. وقد عرف هؤلاء الرؤساء حرفية النبوة، ولكنهم جهلوا روحها. فاجتهاد المجوس كان توبيخاً لهم على توانيهم. فقارن جوابهم الآن مع قولهم بعد ذلك «وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (يوحنا ٧: ٢٧).
ٱلنَّبِيِّ هو ميخا، ولم يُذكر متّى اسمه لأنه معلوم للجميع (ميخا ٥: ١، ٢). ونرى مما قيل هنا أنه يمكن أن يعرف العقل الكتاب المقدس معرفة دقيقة، بينما يخلو القلب من النعمة. فما أسرع رؤساء الكهنة في جواب سؤال هيرودس، وما أحسن معرفتهم بالنبوات. ولكن لم يطلبوه في بيت لحم وقتئذٍ، ولم يؤمنوا به بعدئذٍ لما علَّم في أورشليم وصنع عجائب هناك. فما أعظم دينونة الذين يعلمون ولا يعملون!
٦ «وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ ٱلصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».
رؤيا ٢: ٢٧
ما كُتب هنا هو معنى النبوَّة لا لفظها، وذكر متّى جواب المجلس، ولا يقول إنه نقل كلام النبوة تماماً، فإن فيها نقابل بساطة المكان مع عظمة ما جرى فيه. فولادة المسيح جعلت له إكراماً لم تحصل عليه المدن العظيمة بسلطتها وغناها وبهائها وكثرة سكانها. وولادة عظيم في مكان تجعله شهيراً. ولذلك تخاصمت سبع مدن في آسيا بأن ادَّعى كل منها أن هوميروس وُلد فيها.
ذكر الكتبة جزءاً من نبوءة ميخا، وتركوا جزءاً، هو قوله «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل». لم يذكروه إما لعدم رغبتهم في أن يوجِّهوا أفكار هيرودس نحو صفة من صفات المسيح المنتظر، أو لأنهم لم يريدوا أن يتأملوا فيه. وقد أوحى الله بهذه النبوة لدينونة عظماء الكهنة بعد ذلك، ولتعزية أتقياء بني إسرائيل، ولتعليم المجوس وبقية الأمم.
٧ «حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ ٱلْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ ٱلنَّجْمِ ٱلَّذِي ظَهَرَ».
حِينَئِذٍ أي حين حصل على الجواب من العلماء. والمرَّجح أنه من حين سمع سؤال المجوس عزم على قتل الولد.
سِرّاً لأنه خجل من أن يظهر مخاوفه علانية، أو لخوفه من أن يحدث شيءٌ يمنع إنجاز قصده الخبيث، أو لظنه أنه إذا أظهر اجتهاداً زائداً في الوقوف على المسألة تتولد الشكوك في أحد منهم فينذر المجوس أقرباء الولد بالخطر. إن الأشرار يحبون كتمان أعمالهم لأن ضمائرهم تجعلهم جبناء.
وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ ٱلنَّجْمِ ليعرف عمر الولد على فرض أن ولادته صارت وقت ظهور النجم، فينفذ قصده الرديء. لقد عرف من علماء اليهود المكان، فأراد أن يعرف من المجوس الزمان.
٨ «ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: ٱذْهَبُوا وَٱفْحَصُوا بِٱلتَّدْقِيقِ عَنِ ٱلصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ».
أَرْسَلَهُمْ عرف المكان من جواب العلماء فوجه المجوس وأرسلهم ليشاهدوا المسيح عياناً، ويرجعوا ليخبروه، فيحصل على الخبر اليقين بالمسيح الذي هو سبب خوفه. ولكنه تظاهر بالاشتراك معهم في غاية زيارتهم.
ٱفْحَصُوا بِٱلتَّدْقِيق أظهر رغبة كأنه أراد أن يكرم الطفل.
فَأَخْبِرُونِي كانت كل تحرياته ليخدع المجوس الذين كانوا يجهلون هدفه. ولكن خداعه لم يخفَ على الله. وكثيراً ما يتخذ الأشرار الدين ستراً لهم لإجراء مقاصدهم الشريرة، ولكن مهما أظهروا من الحكمة في تدبير الوسائل للحصول على غاياتهم فالله يعرف نواياهم ويحبط مساعيهم.
٩ «فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ ٱلْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا ٱلنَّجْمُ ٱلَّذِي رَأَوْهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ ٱلصَّبِيُّ».
يظهر أن هيرودس دعاهم ليلاً ليكون الأمر مخفيَّاً، وأنهم سافروا بعد مقابلتهم له لأن المسافة لم تكن أكثر من ساعتين. من الغريب أنه لم يرافقهم أحدٌ من بلاط الملك، ولا من الهيكل، ولا من المدينة.
وَإِذَا ٱلنَّجْم إذا حسبناه نوراً عجيباً أي غير عادي بهيئة نجم، سهُل علينا فهم هذا القول. ووقوفه يحتمل أن يكون فوق القرية، أو فوق نفس البيت حيث كان الطفل مضطجعاً. ولا يهدينا اليوم إلى المسيح نجمٌ ماديٌ أبكم بل كلامه (٢بطرس ١: ٩). وكل من يطلب المسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة بكل قلبه، يجدهُ. فكان نجم بيت لحم رمزاً للمسيح «كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ» (رؤيا ٢٢: ١٦).
وليس جميع الذين امتازوا بنوال الوسائط الدينيَّة يسبقون غيرهم في تقديم الإكرام للمسيح، فكنا ننتظر أن رؤساء اليهود الدينيين يسبقون الكل إلى بيت لحم عند سماعهم خبر ولادة المسيح. ولكن العكس حدث، فقد أتى الغرباء من بلاد بعيدة لاستقباله، وأولئك لم يذهبوا. فمن هذا نتعلم أنه يجب أن نطلب المسيح ونتبعه ولو كنا وحدنا ولم يتبعنا أحد.
١٠ «فَلَمَّا رَأَوُا ٱلنَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً».
فَلَمَّا رَأَوُا ٱلنَّجْم يظهر من هذا أنهم لم يروه مدَّة، ويحتمل أنه ظهر لهم في بدء سفرهم ليوجِّههم إلى أورشليم، ثم اختفى عنهم.
فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّا هذا يُظهر فرط اجتهادهم في أن يجدوا الولد. وظهور النجم ثانيةً فرَّحهم لأنه كان علامة صدق انتظاراتهم وبلوغ غايتهم، وبرهاناً على الإرشاد الإلهي لهم، علاوة على الإرشاد البشري. وإذا كان فرحهم بالنجم الهادي عظيماً، فكم كان فرحهم أعظم عندما رأوا الطفل الملكي نفسه. فكل علامة إرشاد إلهي فرح للذين يحبون الله، ولا سيما العلامة التي تأتي بهم إلى المسيح. فيجب أن تمتلئ قلوبنا فرحاً عظيماً باهتدائنا إلى المسيح، إذ ليس بدونه طريق إلى الحياة.
١١ «وَأَتَوْا إِلَى ٱلْبَيْتِ، وَرَأَوُا ٱلصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً».
مزمور ٧٢: ١٠، إشعياء ٦٠: ٦
ٱلْبَيْت الأرجح أن ذلك ليس المذود الذي وُلد فيه المسيح بل منزلٌ استأجره يوسف ومريم بعد انصراف الجموع التي أتت للاكتتاب.
فَخَرُّوا وَسَجَدُوا يُرجَّح أن ذلك السجود كان أسمى من السجود الذي يقدَّم عادة للملوك. فإنهم لم يقدموا مثل هذا السجود لهيرودس في أورشليم، مع أن جلالته الملكية كانت في غاية العظمة. ولم تجعلهم حالة يوسف ومريم الفقيرة يشكُّون في أهليته لسجودهم، ولم يرتابوا قط مع أنهم شاهدوا فتوراً زائداً في الكتبة ورؤساء الكهنة.
سَجَدُوا لَه لأنه هو وحده موضوع سجودهم. ولو كان سجودهم للمولود خطأً لكان الله أرشدهم إلى الصواب، كما أرشدهم في أمور أخرى.
فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ أي الصناديق أو الأكياس الحاوية كنوزهم
ذَهَباً يُقدَّم غالباً للملوك وللآلهة.
لُبَانا صمغ عطر الرائحة يستخرج من شجرة في بلاد العرب والهند، ويستعمل غالباً وقت الذبائح والعبادة الهيكلية (خروج ٣٠: ٨ ولاويين ١٦: ١٢ ورؤيا ١٨: ١٣).
وَمُرّاً صمغ آخر عطر الرائحة مر الطعم، يستخرج من بعض مناجم بلاد العرب والحبش (إشعياء ٢: ١٢ ومزمور ٤٥: ٨)، ويستعمل بخوراً، ويُتخذ منه شراب مسكن للوجع (مرقس ١٥: ٢٣)، ومُصلح لطعم الخمر، ويدخل في مواد تحنيط الموتى (يوحنا ١٩: ٣٩) وفي تركيب نوع من المراهم. وهو غالي الثمن (خروج ٣٠: ٢٣).
فهذه الهدايا كلها ثمينة يليق أن تُهدى إلى الملوك على يد السفراء، فقد قدَّمت ملكة سبا مثل هذه الهدايا لسليمان. وتنبأ إشعياء (٦٠: ٦) بتقديم الذهب واللبان للمسيح. وكان إيمان المجوس عظيماً لأنه قدَّرهم أن يروا مجداً إلهياً في ذلك الطفل وهو على ذراعي مريم في منزلها الفقير. لقد حصلت هذه العائلة المقدسة بعناية الله على لوازم السفر إلى مصر، إذ أرسل الله أجانب وثنيين من بعيد ليقدموها. فعلينا أن نقدم للمسيح أفضل الهدايا: قلوبنا وكل ما لنا.
١٢ «ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، ٱنْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ».
ما أحسن القدوة التي نراها في إيمان المجوس. لقد آمنوا به أولاً قبلما رأوه (والكتبة والفريسيون لم يؤمنوا). وآمنوا به ثانية وهو طفل على ذراعي أمه لا يلوح على وجهه شيءٌ من علامات السلطة الملكية، وسجدوا له كملك وإله. فباتِّباعهم النجم وجدوا المسيح شمس البر ونور العالم. والله يقود جميع الذين يتبعون أقل أشعة من النور الروحاني ليوصِّلهم إلى النور الكامل.
إذ أوحي إليهم في حلم: هذا الحلم كان لجميعهم، أو لواحد منهم أفاد به الآخرَيْن.
أَنْ لاَ يَرْجِعُوا لم تخطر مقاصد هيرودس الخبيثة على بالهم، ولم يكن لهم أدنى معرفة بها حتى أفادهم هذا الحلم. فلولاه لرجعوا وأخبروه بما رأوا، وأرسل حالاً من يقتل الولد. ولا يظهر أنهم وعدوه بالرجوع. ويُرجَّح أن الله حذرهم بهذا الحلم ليلة وصولهم إلى بيت لحم وسجودهم فيها. وفي صباح الغد رجعوا في طريقهم. والموجب لهذه السرعة نجاة الولد من يدي هيرودس الذي كان يشتعل حسداً.
فِي طَرِيقٍ أُخْرَى رجعوا إلى وطنهم بغير مرورٍ بأورشليم. وبعد انصرافهم لا نسمع من أمرهم شيئاً في الإنجيل. ولكن من يقول إن الإله الذي هداهم إلى بيت لحم ليسجدوا للمخلص الطفل في اتضاعه لم يهدِ نفوسهم إلى المدينة السماوية لكي يسجدوا له في مجده وارتفاعه؟
١٣ «َبَعْدَمَا ٱنْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ ٱلصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ».
متّى ١: ٢
ذكر متّى وحده حادثة الهروب إلى مصر، لأنه أراد أن يثبت تحقيق إحدى النبوات عن بالمسيح.
إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ لأن يوسف رأس العائلة. وظهوره في الحلم كما سبق وظهر. ولا شك أن المجوس أخبروه بحلمهم، فاستعدَّ ولم يتعجب عندما بلغه الخبر.
ٱهْرُب في هذا إشارة إلى الخطر ووجوب السرعة. إن الله يعرف كل مكر أعدائه وأعداء كنيسته، فقال لسنحاريب «ولكنني عالم بجلوسك وخروجك ودخولك وهيجانك عليَّ» (إشعياء ٣٧: ٢٨). لقد ابتدأت ضيقات المسيح وهو في سريره بعد زمن قصير من ولادته.
إِلَى مِصْرَ لأنها قريبة إليهم، فلا تزيد المسافة إليها عن سفر ثلاثة أيام (نحو ٦٠ ميلاً). ولأنها لم تكن تحت سلطة هيرودس بل تابعة للرومان، ولأن عدداً كبيراً من اليهود كانوا يسكنونها وكان لهم هيكل في مدينة ليونتوبوليس بُني قبل ذلك بنحو ١٦٠ سنة. وفي الإسكندرية التي هي من أمهات مدن مصر تُرجم العهد القديم من العبرانية إلى اليونانية. وكانت مصر ملجأ للناس في ضيقاتهم، فلجأ إليها إبراهيم ثم يعقوب وبنوه، ثم يربعام (١ملوك ١١: ٤٠) ويوحانان ورفقاؤه (إرميا ٤٣: ٧). ولا شك أن يهوداً كثيرين هربوا إليها في زمن هيرودس خوفاً من مظالمه. ولا نعرف المكان الذي استوطنت فيه العائلة المقدسة. ويُظن من التقاليد أنه كان قرب القاهرة.
١٤ « فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَٱنْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ».
فَقَامَ وَأَخَذَ هذا يبرهن ثقة يوسف الكاملة بإعلان الله، وسرعة طاعته، لأنه حالما استيقظ تهيأ للسفر.
ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ ذكر الصبي أولاً إجلالاً له.
لَيْلاً المرجَّح أنه ليلة الرؤيا ذاتها، وكان السفر ليلاً لكيلا يعلم هيرودس. وبما أن يوسف ومريم كانا غريبين في بيت لحم لم يحتاجا إلا إلى استعداد زهيد للسفر.
وَٱنْصَرَف هي نفس الكلمة التي أُسندت إلى المجوس. ولم تُذكر مدَّة سفرهم لأنه لم يكونوا محتاجين إلا لاجتياز الحدود بين اليهودية ومصر فيبلغوا محل الأمان.
١٥ «وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ٱبْنِ».
هو ١١: ١
وَكَانَ هُنَاكَ ظهرت طاعة يوسف حينئذ بمكثه في مصر كما ظهرت قبلاً في سفره إليها.
ٱلنَّبِيِّ هوشع ١١: ١. كان هذا القول (١) إشارة إلى بني إسرائيل الذي كان بمنزلة ابن الله (خروج ٤: ٢٢، ٢٣). و(٢) إشارة رمزية إلى المسيح. وبقاء ذلك الشعب مدة في مصر كان رمزاً إلى مكث المسيح هناك، وبه جعل حياته مطابقة لحياة شعبه.
ينسب كتبة العهد الجديد إلى المسيح أكثر نبوات العهد القديم كأنها تمَّت به أكمل إتمام. فإن إسرائيل كان جسداً رأسه المسيح. وكما أن وجود إسرائيل كأُمةٍ ابتدأ وقت الخروج من مصر، هكذا كانت أوائل المسيح الذي كان إسرائيل رمزاً له. إلاَّ أن الأرض التي كانت لليهود أرض تنهُّد وعبودية صارت لملك اليهود المولود جديداً أرض ملجإٍ وراحة. وعين المحبة التي جعلت الله يُخرج إسرائيل من مصر جعلته أيضاً يُخرج يسوع من ذلك المكان. والكلمات التي نطق بها هوشع يصح أن تستعمل من جهة كلٍّ من الحادثتين.
مِنْ مِصْرَ إن لتلك البلاد مقاماً عظيماً في تاريخ شعب الله، فمنها خرج بنو إسرائيل وذلك المخلص الذي كانوا رمزاً إليه. ومنها نشأ التمدن والعلوم، واستعدَّ العالم بها لقبول الإنجيل.
مؤامرة الأشرار باطلة! فعلى قدر ما اجتهد هيرودس في أن يحصل على غايته كانت زيادة العقاب الشديد عليه, ولم تنفعه تلك المؤامرة. إن عناية الله في حفظ محبيه تملأ قلوب المؤمنين فرحاً وتعزية عظيمة، فانظر كيف كانت حال كلٍّ من هيرودس والطفل في بدء هذا الأصحاح، وتأمل كيف بدل الله حال كلِّ من المرتفعين والمتضعين بسرعة.
١٦ «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ ٱلْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ ٱلصِّبْيَانِ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ٱبْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ ٱلزَّمَانِ ٱلَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ ٱلْمَجُوسِ».
ما ذُكر هنا بدء اضطهادات المسيح التي انتهت بتعليقه على الصليب.
لَمَّا رَأَى رأى عدم رجوعهم إليه.
سَخِرُوا بِه هذا ما اعتبره هيرودس، لا المجوس. وبعدما أكمل متّى نبأ الهرب إلى مصر والبقاء هناك عاد يخبر بأحوال هيرودس بعد رجوع المجوس إلى وطنهم بدون أن يخبروه.
غَضِب لأنه لم يجد الولد، ولأنه أُهين بعدم طاعة المجوس له. وكانت بعض أسباب غضبه سياسية، وبعضها شخصية، وكلها نتيجة شدَّة غيرتِه.
وَقَتَلَ جَمِيعَ ٱلصِّبْيَان فالذي قتل امرأته وبعض أولاده لا يصعب عليه أن يقتل أولاد الآخرين عند احتدام غضبه. وروى عنه يوسيفوس المؤرخ أنه عندما مرض مرضه الأخير جمع إليه كثيرين من وجوه اليهود وأعيانهم وسجنهم في مكان واحد، وأمر بقتلهم ساعة موته لكي تكون مناحة في كل أنحاء المملكة بدل الفرح. ولا يذكر يوسيفوس مذبحة بيت لحم: إما لأن الأمر بها كان سراً لم يبلغ مسامعه، أو لأنه عدَّ ذلك قطرة من بحر أعمال هيرودس الشنيعة. فإن فرضنا عدد سكان بيت لحم ألفين فلا يزيد عدد الذكور الذين لهم من العمر سنتان فما دون عن الثلاثين طفلاً. فلا عجب إذا لم يشر يوسيفوس إلى هذه الحادثة التي جرت قبل كتابة تاريخه بثمانين أو تسعين سنة.
تُخُومِهَا ادخل التخوم تحت الأمر الذي أصدره لكي يوصد كل باب دون نجاة المسيح.
مِنِ ٱبْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ لا نستنتج من هذا أنه قد مضى سنتان من ظهور النجم للمجوس، بل أن هيرودس زاد على الزمان كما زاد على المكان (بقوله تخومها) حتى لا يمكن أن ينجو يسوع بطريقة من الطُرق. وذلك لأنه خاف أن المجوس لم يدققوا في الحساب، أو أن عساكره يخطئون في تقدير عمر الأولاد. وكان يفضِّل خطأه في تكثير عدد القتلى على تقليله.
لاحظ قوة سلطة الغضب، فلا يشفق الغضوب على الأطفال الأبرياء، ولا يهمه حزن أمهاتهم، ولا يبالي بصوت ضميره. وهكذا كل من سلَّم نفسه إلى سلطان الغضب لا يعلم أين مصيره. ويسوع كان رجل الأوجاع منذ طفولته، فهو المخلص الذي نحتاج إليه في ضيقاتنا.
١٧ «حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ».
إرميا ٣١: ١٥
إِرْمِيَا ٣١: ١٥. هذه النبوة منقولة عن الترجمة السبعينية، وهي وفق الأصل معنىً لا لفظاً، أُريد بها أولاً الإشارة إلى سبي بابل، لأن اتخاذ نبوَّة واحدة للدلالة على حادثتين أو أكثر هو وفق عادة العلماء اليهود وكتبة العهد الجديد.
١٨ «صَوْتٌ سُمِعَ فِي ٱلرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ».
ٱلرَّامَةِ قرية على الحدود بين سبطي بنيامين ويهوذا، شمال أورشليم، على بعد ساعتين منها (قضاة ١٩: ١٣). وهي المكان الذي أَخذ إليه نبوزردان الأسرى وقت سبي بابل، وقتل الذين تعينوا للموت، ونقل الباقين للسبي (إرميا ٤٠: ١). وكان ذلك وقت ضيقة عظيمة وحزن شديد للأسرى. فتصوَّر النبي أن راحيل إحدى أمهات إسرائيل التي دفنت بالقرب من بيت لحم (تكوين ٣٥: ١٩) اضطربت في قبرها، وقامت واشتركت في الحزن. فمتَّى يشير إلى حوادث السبي كأنها تكرَّرت ثانية، وكأن راحيل جدَّدت حزنها وبكاءها على الأولاد المقتولين، كما حزنت على الأسرى قبل ذلك بنحو ٦٠٠ سنة. وقد تكون الرامة وطن يوسف الرامي الذي طلب جسد المسيح ليدفنه (متّى ٢٧: ٥٧).
لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ يعني ليسوا أحياء. مات أطفال بيت لحم بضربة كان الغرض منها قتل المسيح، فهم الشهداء الأولون. ولا شكَّ أنه ليست مسرَّة المسيح أن تهلك نفس أحد منهم، فما خسروه على الأرض ربحوه في السماء. وقد مات لأجله في زمن الاضطهاد ألوف من أولاد المسيحيين. ولا نشك في رحمة الله بالمسيح في أن جميع الذين يموتون في الطفولية يخلصون.
١٩ «فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ».
لَمَّا مَاتَ هِيرُودُس المرَّجح أنه مات في أريحا بعد المذبحة بأشهر قليلة، في ربيع سنة ٧٥٠ لبناء رومية، أي ٤ ق م، لأن الناس كانوا يؤرخون من يوم تأسيس رومية ولم يبدأوا الحساب المسيحي إلا بعد المسيح بخمس مئة سنة، فجعلوا السنة الأولى للميلاد سنة ٧٥٤ لتأسيس رومية. فلا عجب إذا وقع خطأ أربع سنين مع طول المدَّة. وملك هيرودس ٣٧ سنة ومات في سن السبعين.
فِي مِصْر حيث قيل له أن يبقى حتى يبلغهُ خبر. فظهور الملاك كان إتماماً للوعد (ع ١٣). ولا نعلم كم بقوا في مصر، والأغلب أن بقاءهم لم يزد عن السنتين، وقد يكون أقل.
٢٠ «قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ ٱلصَّبِيِّ».
الأمر هنا كالمذكور في ع ١٣ سوى أنه قيل هناك «اهرب» وقيل هنا «اذهب» لأن السفر هنا ليس هرباً بل رجوعاً إلى الوطن.
أَرْضِ إِسْرَائِيلَ إشارة إلى الأرض المقدسة بجملتها.
ٱلَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ ٱلصَّبِيِّ قيل هذا بصيغة الجمع، بمعنى هيرودس ومشيروه الذين رغبوا في مرضاته، أو هيرودس وابنه أنتباتر الذي كان في مثل أخلاق أبيه الفاسدة ومشاركاً في طلب قتل من يدَّعي حق المُلك على إسرائيل، وهو الذي قتله أبوه قبل وفاته بخمسة أيام. أو أن متّى كتب بصيغة الجمع بقصد التعظيم كالعادة في ذكر الملوك.
مات جميع هؤلاء وبقي الصبي حيّاً. وكثيراً ما يبقى المسيحيون المضطهدون ليدوسوا قبور مضطهديهم، فإن للموت سلطاناً على الملوك كما على غيرهم.
قاتل الأطفال مات، وغلبة الأشرار وقتيَّة. أما الرب فباقٍ إلى الأبد. فقد صحَّ القول قديماً «مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ» (متّى ٢: ٢٠) وسيبقى صحيحاً إلى النهاية. تآمر كثيرون على المسيح وديانته ولكن كان كل ذلك عبثاً (مزمور ٢). قوة الأشرار للضرر لا بد أن تنتهي مع نهاية حياتهم القصيرة (أمثال ١٤: ٢٢).
٢١ «فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ».
فَقَام إشارة إلى طاعته للأمر.
٢٢ «وَلٰكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، ٱنْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي ٱلْجَلِيل».
ص ٣: ١٣ ولوقا ٢: ٣٩
لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُس سمع الخبر وهو في الطريق، أو عندما وصل اليهودية. وأرخيلاوس هذا ابن هيرودس الأكبر من امرأته السامرية ملثاسي. وهبه أبوه مملكته ولقبه، ولكن أوغسطس قيصر لم يعترف بذلك إلاَّ جزئياً، فأعطاهُ اليهودية وأدومية والسامرة فقط، وأبى أن يلقبه بملك قبل أن يُظهر ما يجعله مستحقاً لذلك. وانقسمت بقيَّة المملكة بين أخويه فيلبس وأنتيباس. وملك أرخيلاوس سنتين على رأي البعض وتسع سنين على رأي آخرين، ثم دُعي إلى رومية للمحاكمة بسبب قساوته، ونُفي إلى فيان في بلاد الغال حيث مات. فتولى شئون الحكم على اليهودية والٍ روماني.
خَافَ يعني خاف أن أرخيلاوس ينفذ مقاصد أبيه الشريرة، لأنه كان قاسياً مكاراً مثله. وأرسل عساكره في الفصح الأول بعد جلوسه لكي يشتت الجموع في أورشليم، وقتل منهم عدداً لا يقل عن ثلاثة آلاف نفس.
أوحي إليه في حلمٍ: هذه مرة رابعة علَّمه الله بالحلم. وسياق القصة يدل على أن هذا الكلام جواب سؤال.
ٱنْصَرَفَ أي حاد عن الخطأ. فإنه كان يقصد الرجوع إلى اليهودية إلى بيت لحم أو المرور بها. ولعلهُ ظنَّ أن المسيح الذي من سبط يهوذا يسكن في أرض يهوذا، للاعتقاد أنها أكثر قداسة من غيرها ولقربها من الهيكل، فيقدر أن يخالط الكهنة وعلماء الدين.
نَوَاحِي ٱلْجَلِيل هي القسم الشمالي من أرض إسرائيل التي كانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اليهودية جنوباً، والجليل شمالاً، والسامرة بينهما. فنظراً لبُعد الجليل عن أورشليم، ولكونها تحت رياسة أنتيباس ظهرت ليوسف أنها أكثر أمناً، لأن أخلاق أنتيباس كانت ألطف من أخلاق أرخيلاوس، ولأنه كان بينهما اختلاف فلا خوف أن يسلم أحدهما بطلب الآخر.
وكان سكان الجليل يهوداً مختلطين بالأمم، فحسبهم سائر اليهود أقل شرفاً وطهارة منهم.
٢٣ «وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَـهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً».
مزمور ٢٢: ٦ و٦٩: ٩ وإشعياء ٥٢: ١٤ و٥٣: ١، ٢ وزكريا ١١: ١٢، ١٣ ويوحنا ١: ٤٥، ٤٦ وأعمال ٢٤: ٥
أَتَى وَسَكَنَ النَاصِرَةُ أي استقر في سكنه السابق. والناصرة بلدة في الجليل قرب سهل يزرعيل (أي مرج ابن عامر). فلا يذكر متّى ما ذكرهُ لوقا من أنها كانت مسكناً لمريم ويوسف سابقاً. ولكن عدم ذكر ذلك لا يبرهن عدمه، لأن تاريخه بدأ بولادة يسوع في بيت لحم، فلم تكن هناك حاجة إلى ذكر ما حدث قبل ذلك. فيسمي متّى الناصرة وطن يسوع (متّى ١٣: ٥٤ و٥٧).
لِكَيْ يَتِمَّ إشارة إلى قصد الله في إتمام النبوة وليس إلى قصد يوسف. وهذه هي النبوة الخامسة التي ذكر متّى أنها تمت بالمسيح.
ٱلأَنْبِيَاءِ بصيغة الجمع لأن الكلام إتمام نبوات كثيرة، وليس كلام نبي واحد.
سَيُدْعَى نَاصِرِيّا هكذا دُعي في أعمال ٢٤: ٦ وفي العنوان على الصليب. وهذه الكلمات ليست بحروفها في نبوات العهد القديم، بل في ما يتضمن معناها، وهو أن المسيح يكون مهاناً ومحتقراً مثل أهل الناصرة. ومن هذه النبوات إشعياء ٥٣ وزكريا ١٢: ١٠ ومما يدل على أن أهل الجليل كانوا محتقرين ما ورد في يوحنا ١: ٤٧ و٤: ٤٦ و٧: ٥٢. فالناصرة لم تكن مشهورة، وكان سكانها أشراراً جهلاء.
ظنَّ البعض النبوءة المذكورة في سفر إشعياء ١١: ١ وهي قوله «ويُخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله» قد تمت حرفياً بأن تسمَّى المسيح «غصناً» أي «ناصراً» في الأصل العبراني. فيحتمل أن متّى لاحظ الأمرين (أي اسم المكان وحقارته في عيون الجميع) مطابقة النبوءة. ورأى أن كل النبوات التي تشير إلى المسيح كناصري تمت حقيقة ومجازاً.
ع ٢٣: سيرة المسيح في الناصرة مثالٌ لنا في التواضع، فلم يطلب المدن الكبيرة لتكون مسكناً له، بل سكن تلك القرية الحقيرة حيث شبَّ وبقي حتى بلغ الثلاثين من عمره. ولا نعرف إلا القليل من أخبار حياته في هذه المدة. والمرجح أنه اشتغل بالنجارة، وصرف خمسة أسداس حياته في الانفراد ومسكن الفقر. وهذا يعلمنا التواضع والقناعة. فلا يحسن أن يستحي شعب المسيح بالفقر ولا يصعب عليهم تعيير الناس ما دام معلمهم صرف حياته فقيراً وسُمي ناصرياً.
السابق |
التالي |