إيماني 16 | إيماني بخلاص الإنسان

وصنع الله الإنسان وخلقه مستقيما ولكنه سقط واندفع في سقوطه موغلا وراء الفساد والشر والإثم والموبقة والخطية، ولكن رحمة الله تابعته بمحبته لا تموت وبعطفه لا ينتهي إذ دبرت له الخلاص الكامل الشامل الأبدي.. وها نحن اليوم سنقف من هذا الخلاص لنرى حاجة الإنسان إليه ومعناه ومدلوله الكامل بل لنرى ضرورته حتميته عند الله، وكما نعلم الطريق والسبيل إليه وكيف يمكن أن يقبله الإنسان، وما نتائج آثار هذا القبول في حياته وحاضره والأبدية… ولعلنا نصل بعد 1هذا كله إلى ما يمكن أن ندعوه النظرية المسيحية الكاملة عند الخلاص.
الخلاص وحاجة الإنسان إليه
وما من شك بان الحاجة إلى الخلاص حاجة عامة عند جميع الناس، إذ ليس شيء أسهل كما يقول كرينجي سمسون من إثبات تهمة الخطية على الجنس البشري بوجه عام،سواء كان بالحقائق أو بالشهادات الآتية من مصادر مسيحية أو غير مسيحية ولقد صدق ذلك الأديب الروماني القديم القائل: “كلنا قد أخطانا” كما صدق من قال: “إن الخطية شائعة في جميع الناس” والآداب الحديثة مملوءة بمثل هذا الاعترافات، التي تذكرها دون مواربة أو إحياء بالقول أنها تصف الحياة وتصورها كما هي ليس إلا..فالإحساس العام في جميع العصور والأجيال والمتردد في كل الطبقات والأجناس هو إن البشر اخطئوا وحاجتهم الملحة الصارخة إلى الخلاص…
1– الإحساس الفردي
على انه من اللازم أن نذكر بان هذه الحاجة ليست مجرد حاجة جماعية عامة،بل هي حاجة كل إنسان على حدة،فكل إنسان من المهد إلى اللحد في حاجة إلى الخلاص، فالملك والصعلوك والذكر والأنثى والمتعلم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير والأبيض والأسود، جميعهم في حاجة متساوية إلى الخلاص، من غير تمييز أو تفرقة أو استثناء!. من غير تمييز أو تفرقة أو استثناء!. ومن الواضح إن علاقة الإنسان بالله علاقة فردية أحادية لا يغني فيها آب عن ابنه، وأم عن ابنتها، أو أخ عن أخيه، أو صديق عن صديقه، فإذا صح إن إنسان لا يمكنه أن يتناول الطعام بدلا عن أخر،أو يستنشق الهواء بدلا عن غيره، أو يشرب أو يلبس بالنيابة عن غيره، فان احد لا يستطيع أن يأخذ مركز الأخر في الحاجة إلى الخلاص.. وإذا صح إن الطعام والشراب والهواء واللباس من أمس الضروريات للإنسان ولا يمكنه أن يستغني عنها، فان الحاجة إلى الخلاص أكثر ضرورة من جميعها.. وليس هذا من قبيل التعبير المندفع المبالغ فيه،بل هو التعبير الحقيقي الصحيح،لان هذه إذا مست شيئا في الإنسان فإنما تمس جسده أو الغلاف الذي يحتويه، بينما يمس الخلاص كيانه الجسدي والروحي معا… وإذا كانت هذه تتناول الحياة الحاضرة عنده، فان الخلاص يتناول الحياة الحاضرة والأبدية أيضا، ومن ثم صدق السيد المسيح في قوله العظيم: “28وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ.”(مت10: 27).حقا إن واجب كل فرد بالنسبة للخلاص، لا أن يتحدث عنه في صيغة الجمع أو المفرد أو المخاطب، بل في صيغةالمتكلم بالقول: ” أنا فلان – قبل وبعد إي إنسان على ظهر الأرض- في حاجة إلى الخلاص.
2– الإحساس في قوته وقمته
على إن هذا الإحساس الفردي لا يمكن أن يكون في قو واحدة في كل وقت في حياة الإنسان، إذ انه كأي إحساس أخر يتعرض للقوة والضعف واليقظة والنوم والالتهاب والخمود والنهوض والتعثر، ومرات كثيرة كما لو انه قد مات، ولكن من المثير انه مرات أخرى ينهض بقوة غلابة وبثورة عارمة لا تستريح أو تسكن أو تهدا أو تقر حتى تجد السبيل إلى معرفة الخلاص والوصول إليه، عندما يستيقظ الضمير والمنبه والحارس الإلهي الكامن في أعماق النفس البشرية،وعندما يقف الإنسان أمام مطاليب الله ووصاياه الإلهية وعندما يكشف نفسه وقصوره إزاء عدالة الله وقداسته وحقه وبره… إن ضعف الإحساس عند الناس بالحاجة إلى الخلاص مرده في الكثير من الأحايين إلى التبلد،نتيجة الإدمان أو الإغراق في الخطية،كما تفعل الخمرأو المخدرات في المدمن عليها… أو مرده محاولة القياس على الخطاة الآخرين أو المبادئ البشرية المبتورة المشوهة القاصرة الناقصة… ولعل هذا هو السر، في الفاجعة البشرية،إذ إن مقياس الله في الخلاص لا يقصر أو يطول تباعا لإدمان الناس أو اعتيادهم الشيء،أو لأنهميقيسون بعضهم على البعض، أو على ما يتبعون من نظم أو مبادئ تتلون وتتغير باختلاف محيطاتهم وميولهم وظروفهم ونزعاتهم وتطوراتهم وأوهامهم وأمالهم وثقافتهم وما إلى ذلك مما يلون العقول والمبادئ وأعمال البشر في مختلف العصور والأجيال.. ولربما نتعرض إزاء ذلك لسؤال جوهري هام إذا ما هو المقياس الصحيح والدائم لمطاليب الله ومبادئه ونظمه غير المتغيرة؟… ولا يمكن أن نجد هنا سوى جواب واحد لا غير،وهو إن المقياس الكامل لمطاليب الله،وانتظارا ته من البشر متمركز في شخص واحد هو يسوع المسيح.. ومن المسلم به في كل التاريخ إن كمالات المسيح لا يمكن أن ينازع عند المسيحيين أو غير المسيحيين على حد سواء وان تعاليمه ومبادئه ومثله وشخصه،هي القياس الكامل الذي يقاس به البشر في كل زمان ومكان،وان الإحساس العام بالحاجة إلى الخلاص يبلغ القمة والسمت، عندما يقف الإنسان من هذا الشخص العجيب موقف القرب، حتى يكشف حقيقة نفسه وحاله في ابهر نور وأكمل وضوح… ويكفي أن تضع نفسك أمام مبادئ وتعاليم الموعظة على الجبل لتعرف من أنت ومن تكون إزاء الله ومطاليب الله.بل يكفي أن تقف من شخصه الكامل في القداسة والطهارة والنقاوة والمحبة والإيثار واللطف والجمال والبذل والتضحية لتحس ذات الإحساس الذي أحس به المعمدان قديما عندما صاح: “لست أهلا أن انحني واحل سيور حذائه” ) (مر: 1: 7). أو إحساس بطرس عندما اكتشف نفسه إزاء جلال المسيح ومجده فخر عند قدميه قائلا: “اخرج من سفينتي يارب لأني رجل خاطئ” (لو5: 8) أو إحساس الطرسوسي عندما رآه في لمعانه الباهر على مقربة من دمشق، فسقط مأخوذا بجلاله وصاح: “يارب ماذا تريد أن افعل” اجل إن قياس المسيح هو القياس في كل التاريخ البشري الذي لا يخدع أو يضلل أو يكذب أو ينحرف أو يهادن أو يتراجع!1..
الخلاص ومعناه
وإذا كان الخلاص له هذا الأثر والخطورة والعمق في حياة الإنسان وأبديته، فمن اللازم أن نسال عن طبيعته ومعناه ومدلوله المحدد المنضبط، أو في لغة أخرى من الواجب أن نسال: ما هو الخلاص؟ ومما ينبغي أن نخلص؟ومن الواضح أن الديانة المسيحية بجملتها تقوم أو تسقط بقيام هذا السؤال أو سقوطه، إذ أنها هي ديانة الخلاص أولا وأخيرا، ومؤسسها وبانيها لقبه الأول والأشهر المسيح مخلص العالم!!. إن الخلاص كما هو واضح من رسالة المسيح والمسيحية هو خلاص الإنسان من الخطية إذ قال الملاك عن العذراء: “21فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». (مت1: 26).ووصف المعمدان المسيح بالقول: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” وقال هو عن نفسه : “لان ابن الإنسان قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك” (لو19: 1).وتحدث عنه الرسول بولس قائلا : “صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إلى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا.”(1تي 1: 15).ولكن السؤال ما زال يتابعنا، إذ بأي معنى يخلّص المسيح من الخطية؟.ومن الواضح إذا كان مخلّصا حقا، فلابد أن يخلص إلى التمام من جميع ما تطبعه أو تتركه الخطية في حياة الإنسان. أو في لغة أخرى لابد أن يتمم.
1– الخلاص من دين الخطية
وهذا الدين أعمق جدا مما دار بخيال أبي العلاء المعري في بيته المشهور القائل:
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على احد
ولم يكن أبي العلاء يقصد أكثر من مجيئه إلى العالم، ومن ثم امتنع عن الزواج لكي لا يرتكب جناية مماثلة في حق الذراري التي قد تأتي منه.. لكن الأمر في الواقع أكثر من ذلك كثيرا، إذ إن الإنسان لا يرث من أبويه مجيئه إلى العالم بما يحفل به هذا المجيء من شقاء أو ضيق أو الم أو تعاسة أو شدة قد يلاقيها في هذه الأرض، بل يرث أكثر من ذلك أكثر من ذلك مركز أبويه القانوني أمام الله،كما اشرنا إلى ذلك عند الحديث عن سقوط الإنسان مما لا مندوحة من التسليم به فيما يدعوه رجال اللاهوت بالخطية الأصلية، والتي تلاحق مولود كل امرأة ينص الكتاب والواقع فالكتاب يفيد بان الجنس البشري ورث الأبوين الأولين في سقوطهما الجرم وفساد الطبيعة،الم يقل داود في ذلك : “ها انذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي” (مز51: 5).وقال بولس : “12مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ إذ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ.” (رو5: 12).والواقع يشهد بذلك تماما، لان آدم ودواء أما إنهما كانا في سقوطهما نائبين عن الجنس البشري،أو إن هذا السقوط كان قاصرا عليهما دون أن يمتد إلى أولادهما،فإذا كان الأمر الأخير فمعنى ذلكإننا نولد أبرياء في استقلال تام عن كل نزعة أو ميل أو انحراف إلى الشر أو الفساد أو الخطية،أو في لغة أخرى نولد اقرب وأشبه إلى الملائكة،وهذا ما لا يستطاع التسليم به على الإطلاق!!.. فإذا أمكن التسليم بالطبيعة البشرية الفاسدة من واقع الاختبار الملموس في حياةالناس،فان النتيجة تنتهي بنا إلى الدليل العكسي إلى قبول السبب والتسليم بحقيقة الوراثة الآتية إلينا من الأبوين الأولين،فإذا أضيف إلى هذا إننا خطاة ومدينون لي على أساس الخطية فحسب، بل على أساس ما نرتكب من خطايا فعلية مستمرة دائمة أمام الله،أضحى مركز كل بشري مركز المدين أمام الله بدين الخطية الأصلي والفعلي معا.. والمسيح في أكثر من مثل عبر عن الخطية كدين، إذ قال في مثل العبد الشرير: “فلما ابتدأ في المحاسبة قدم إليه واحد مديون” (مت18: 24) وفي المثل الذي تحدث به إلى سمعان الفريسي: “كان لمداين مديونان” (لو7: 41)… وفي الواقع إن كلمة الدين ليست مشكلة نظرية،بل هي أعظم واخطر وارهب مشكلة حقيقية تواجه الإنسان،فإذا كانت الطبيعة تعلمنا إن الجزاء دائما مرتبط بأي انحراف أو خروج على النظام والناموس الطبيعي، وإذا كان المجتمع كلما خرج عن قانون الغاب وتدرج في مراقي المدنية والحضارة جعل السيادة العليا فيه للقانون والنظام، فهل يعقل أن تكون كمالات الله اقل مطلبا من ناموس الطبيعة أو قوانين المجتمع؟ لد خلق الله الإنسان وربطه بطبيعته تعالى ونظامه وناموسه الأدبي، وكل خروج على هذه الطبيعة وحكمها الأدبي وعدالتها وحقها وقداستها لابد أن ينال الجزاء. والإنسان بهذا المعنى مدين من هامة رأسه إلى أخمص قدميه، وفي حاجة إلى الخلاص من دين الخطية.
2– الخلاص من سلطان الخطية
وهذا ما يحتاجه الإنسان بكل يقين وتأكيد إلى جانب تحرره من دينها البغيض،إذ إن طبيعة الإنسان الفاسدة طبيعة مريضة، والمريض المنحرف لا يمكن أن يتصرف تصرفا سليما، وكلما أمعن وأوغل في الخطية،كلما ازدادت قسوة هذه العادات والغرائز في حياته ومنهاج سلوكه، تعف عنها أقذر الحيوانات وأوسخها بل رأيناه يصرخ فياحايين متعددة الصرخة المؤثرة المحزونة: “15لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إذ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ… لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ… 24وَيْحِي أَنَا الإنسان الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟”(رو7: 15، 18، 24).وكل هذا لأنه مريض بأقسى مرض، وعنه يقول المسيح: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت9: 12). ومن ثم فهو في حاجة لا إلى الخلاص من الخطية كدين فحسب بل كمرض أيضا. ومن ثم فان كلمة خلاص ومشتقاتها قد جاءت في الأصل اليوناني في الإنجيل كما يقول:”الأسقف مول” بما يفيد الماضي والحاضر والمستقبل، فمن جهة الماضي نسمع القول: “9لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. (رو10: 9). وهذا الخلاص يتم في الحال على اعتبار إن الخطية دين،وهناك خلاص في المستقبل عندما يتحرر الإنسان من كل رواسب الخطية عندما يصل إلى المجد الأبدي،وهذا ظاهر من القول: “فان خلاصنا الآن اقرب مما كان حين أمنا” (رو13: 11) على أن هناك خلاصا أخر مثمرا يقوم على أساس إن الخطية مرض يعالج منه الإنسان، وهي عملية مستمرة في الحاضر كالقول: (عب7: 24).
ومن كل هذا نفهم معنى ومدلول الخلاص وهو تحرير الإنسان الكامل من دين الخطية ومرضها وسلطانها واستبعادها نفسًا وروحًا وجسدًا، والأخذ بيده حتى يقف أما الله في كمال البر والقداسة والمجد والعزة والبهاء إلى أبد الآبدين.
الخلاص وضرورته في نظر الله
أما وقد فهمنا الآن حاجة الإنسان إلى الخلاص على المعنى الواضح المذكور والدقيق لكلمة الخلاص بقى أن نسأل لماذا يهتم الله بهذا الخلاص وتدبيره وترتيبه للإنسان مهما نكن مشقة هذا التدبير، والثمن الذي يبذل أو يدفع فيه؟ ولماذا لا يترك الله الإنسان الساقط ليتحمل جزاء خطيته؟!!.. من الواضح أن الله باعتباره الحاكم الأدبي كان من الممكن أن يترك الجنس البشري لينال جزاءه العادل على ما يرتكب من خطايا وآثام دون أن تكون هناك أدني شبهة من حيف أو ظلم.. ولكن المعلوم أن الله ليس هو الحاكم الأدبي فقط، بل هو الآب المحب أيضًا، فإذا كانت عدالته تحتم وتؤكد عقاب الخطية فإن رحمته وجوده وحنانه ولطفه ومحبته تحتم وتؤكد تدبير الخلاص أيضًا. فإذا كان من المسلم به أن عدالة الله كاملة، وأن محبته كاملة كذلك. وأنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض بين العدالة والمحبة، كان لنا أن نتوقع حتمًا أن العدالة تعمل حيث يكون الجزاء. وأن المحبة تعمل حيث يكون الفداء والخلاص أيضًا، ولا يستطاع على الإطلاق تصور أحد المجالين يبرز دون الآخر، وإذا كان من الواضح أنه بسبب أكلة واحدة تعدى فيها آدم أمر الله ألحقت العدالة الإلهية بالجنس البشري كله ما نرى من جزاء وعقوبة، كان لابد لنا أن نتصور أن محبة الله من الجانب الآخر تبذل كل شيء لفداء الإنسان وخلاصه!!.. والكتاب صريح وأكيد في أن الخلاص مبعثه الله: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). :” 8وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.” (رو5: 8). وهذا التوازن بين عدالة الله ومحبته هو الذي يجعلنا نرفض فكرة محدودية الكفارة، وكون الله قصد بها فقط جماعة المختارين المؤمنين، إذ أن كفارة المسيح كانت عامة عن الجنس البشري كله، وإن كان الذين ينتفعون بها، ويقبلونها، وذات فاعلية فيهم، هم جماعة المؤمنين. والخلاصة في الأمر أن الخلاص هو النتيجة الطبيعية لمحبة الله، وأن المحبة هي السبب الحتمي لخلاص الإنسان.
الخلاص وطريقته
ولا حاجة إلى القول بأن اختلاف الأفكار والأديان يرجع أولا وأخيرًا إلى الاختلاف حول كيف يتم خلاص الإنسان، وكيف يمكن له أن يشق الطريق إلى الله مرة أخرى بعد سقوطه فما هي هذه الطرق المختلفة، وأيهما هو الصحيح والحقيقي والسليم؟ أو في لغة أخرى ما هب الطرق الخاطئة والطريق الصحيح إلى الله؟
1- طريق الخلاص الظني
أن أول طريق خاطئ يمكن أن يكون هو الطريق التصوري أو الظني الذي يبنيه الناس على مجرد تصوراتهم أو ظنونهم دون سند من وحي أو كتاب، إذ يتصورون أن الله يمكن أن يعفر الخطية بمجرد الإغضاء عنها أو نسيانها، ويقولون أنه إذا صح أن الإنسان يغفر بمجرد التسامح والنسيان، فهل يكون الله أقل من الإنسان في ذلك؟ مع العلم بأن الله هو الذي يطالب الإنسان بأن يغفر لغيره بالصفح والترك والتسامح والنسيان، ولكن القياس هنا مع الفارق البعيد، إذ أن الخطية من إنسان إلى إنسان آخر هي في الواقع جزء داخل من خطية هذا الإنسان تجاه الله، إذ هي جزء من التشويش أو الانحلال ضد الناموس الأدبي الذي يمثل طبيعة الله الظاهرة، الحياة، ومهما غفر الإنسان لأخيه الإنسان دون أن ينال الغفران الإلهي الشامل تجاه الله فمن العبث أن يقال أن موقفه صحيح تجاه الله، وأنه قد نال الخلاص، وإلا لما جاء في صلب الصلاة الربانية:”12وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا.” (مت6: 12) فإذا كان الغفران من إنسان إلى إنسان آخر كافيًا، لما كان ثمة حاجة إلى طلب غفران الله بالنسبة للخطايا مع الآخرين، بل لما كانت هناك حاجة لأن يشعر الإنسان عندما يخطئ إلى أخيه الإنسان بأن الجرم في الأمر إزاء الله في هذه الخطية يبتلع ويطوي الجرم إزاء البشر حتى أن داود عندما صاح تائبًا عن خطيته الكبرى لم يقل أنه أخطأ إلى بثشبع أو أوريا أو المملكة بل قال: “إليك وحدك أخطأت والشر قدامك عينيك صنعت” (مز51: 4) وهذا كله ينتهي بنا مرة أخرى إلى تأكيد ما سبقت الإشارة إليه، أن الخطية تجاه الله هي الخطية ضد كمالات الله وطبيعته وناموسه ونظامه الأدبي، وأن هذه لا يكون فيها الغفران بمجرد التجاوز أو الإغضاء أو الإغفاء، لأن ذلك معناه في واقع الأمر هو التجاوز أو الإغفاء أو الإغضاء عن الصفات الطبيعية والأدبية في الله كالعدالة والحق والقداسة والجمال… وقد يقال: ولكن أليس من حق الله وسلطانه، وهو صاحب السلطان الأدق والأعلى، أن يعفو بكلمة عمن يريد أو يشاء، وهل يكون الله أقل من الملوك أو الرؤساء الذين يستطيعون بكلمة أن يعفوا عن المجرمين والمحكوم عليهم بأقسى العقوبات؟!. ومرة أخرى نذكر هنا أن القياس مع الفارق لأن عفو الملوك الأرضيين أو الرؤساء إذا صح أنه نبيل وعظيم ومجيد، إلا أنه مع ذلك على حساب العدالة في إطلاقها وكمالها ومجدها، وأنه إذا صح أن البشر، لأنهم ناقصون. يغفون أو يتساهلون بدافع من نقصهم أو ضعفهم عن العدالة المطلقة فإن الله لا يمكن أن يغفو أو يتساهل قيد شعرة عن العدالة المطلقة. وأن القول أن الله قادر على العفو بمجرد كلمة، أن هذا القول يفهم القدرة الإلهية فهمًا خاطئًا!. لأن الله مع قدرته اللانهائية تود أشياء نقول بكل احترام وإجلال لا يقدر عليها، فمثلا يمكن أن نقول أن الله لا يقدر أن يخطئ ولا يقدر بحال ما أن يفعل شيئًا ضد طبيعته وكمالاته، ومن ثم يمكن أن نقول بملء اليقين أن الله لا يمكن أن يغفر الخطية بمجرد كلمة إلهية تصدر منه، لأنه لا يقدر أن يكون غير عادل أو غير قدوس أو غير حق، فإذا استحال على سبيل المثال أن يقف الحجر الساقط في الفضاء لأن ناموس الجاذبية يجذبه إلى الأرض، وهذا الناموس لابد أن يعمل عمله، استحال كذلك في معنى أعمق وأكمل أن يكون هناك الغفران لآية معصية أو خطية تصطدم مع ناموس الله الأدبي، وطبيعته وكمالاته ونظامه العام، ما لم تجد عقوبتها الكاملة، ومن ثم فإن المسيحية ترفض رفضًا باتًا تصور أن الله يعفو لمجرد العفو من غير جزاء كامل تحتمه العدالة الإلهية المطلقة!!..
2- طريق الخلاص البشري
وإذ بات تصور طريق الخلاص الظني غير مفهوم أو مقبول عن طريق النص الكتابي أو القياس المنطقي، بحث الناس عن طريق آخر لعل فيه غناء، طريق يقوم على المجهود أو البذل البشري، وهذا الطريق كما تؤكد المسيحية لا يقل خطأ عن الطريق الأول، فهناك طريق الإذلال الجسدي الذي حاول به كثيرون في العصور المختلفة من التاريخ التقرب إلى الله عن طريق حرمان الجسد أو تعذيبه أو إيذائه أو فرض عقوبات مختلفة عليه، ولكن هذا الطريق خاطئ ومضلل لأكثر من سبب، أولا لأن المحكوم عليه بالإعدام لا يغير من الحكم عليه بالموت نتيجة الخطية أي تصرف يتصرفه إزاء جسده، والجنس البشري الساقط والمحكوم عليه بالموت نتيجة الخطية لا يغير من الحكم عليه أو يبدل فيه أي تصرف يقوم به الإنسان إزاء جسده.
ثانيًا: أن الجسد في حد ذاته ليس شرًا، وأن الخطية قبل وبعد كل شيء هي لوثة في الفكر والنفس والروح، وأن آدم وحواء لم يخرجا من الجنة لمجرد اقتطاف ثمرة أكلها الجسد بل لأنهما تعديا الوصية، وخانا العهد وخرجا على الحدود الموضوعة لهما، فحصر الأمر كله في الجسد وإيقاع العقوبة به، هو فهم ساذج للخطية والسقوط، وبعد أحمق عن أصل الداء وحقيقته ومستقره. وقد يمزق الإنسان جسده أو يعذبه أو يحرقه أو يوقع به أشنع وأرهب العقوبات دون أن يمزق أو يعذب أو يحرق أو يوقع العقوبة بالخطية الساكنة فيه. ألم ير الرسول هذه الحقيقة في القول: “وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً.” (1كو13: 3). في الواقع أن فكرة تعذيب الجسد للقضاء على الخطية فكرة وثنية قامت عند الوثنيين على أساس أن الجسد بطبيعته أساس الشر ومنبعه ومستودعه ومحركه، في حين أننا نعلم أن الله عندما صنع الإنسان صنعه في الأصل مستقيمًا، جسدًا وروحًا، كما أن الجسد لا يزيد عن كونه غلاف الروح والوعاء الذي تستقر فيه، وأن العقوبة التي توقع بالوعاء أو الغلاف أو الآنية لا يمكن أن تغير من طبيعة ما به من قذارة أو سم أو حال.
وثالثًا: لأن تعذيب الجسد فيه فهم خاطئ عن العدالة عند الله، وإذ أن الله الذي يهتم بأجسادنا وييسر لها سبيل الحياة والقوة والصحة لا يمكن أن يسر برؤية تعذيبها وحرمانها، بل أكثر من ذلك أن الإمعان في هذا التعذيب والحرمان هو خروج عن الرغبة والقصد الإلهي في استخدام أجسادنا الاستخدام الصحيح الحق السليم… إن كل ما يطلبه الله منا في معاملتنا لأجسادنا هو وضعها في الموضع اللائق بها، دون زيادة أو نقص، فهي لا يمكن أن تأخذ الأولوية على حساب النفس أو الروح، كما لا يصح أن تأخذ الآنية الخزفية الأولوية على الجوهر القائم بها، أو لغة أخرى أن الجسد لا ينبغي أن يكون سيد الإنسان بل عبده الطائع الصاغر له، فإذا ما حاول الجسد أن يخرج على هذا الوضع أو يتمرد كان من اللازم إخضاعه وترويضه كما يخضع ويروض الجواد الجموح، أو كما يفعل الرياضيون الذين يدخلون حلبة السباق والذين من واجبهم الأساسي للفوز في ميدان السباق ترويض أجسادهم واخصها بأسباب دقيقة من النظام والتمرين، والأمر الذي شبه به الرسول الحياة المسيحية في القول: ” ألستم تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا. 25وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أُولَئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى. 26إِذاً أَنَا أَرْكُضُ هَكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هَكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ. 27بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً.” (1كو 9 :24-27)، ومن هنا تقوم قاعدة كبح جماح الشهوات وعدم الإفراط في أي شيء، والإقلاع عن عبادة الجسد بالأكل أو الشرب أو ما أشيه من ينقله إلى المركز الأول من اهتمامنا، وبالجملة أن تصير النفس دائما وفي طول رحلتنا الأرضية في المقدمة…
فإذا ما أكدنا هذه الحقائق كلها تبين لنا إن البحث عن الخلاص عن طريق الإذلال الجسدي طريق خاطئ، مضلل، معكوس توضع فيه النتيجة موضع السبب، وتأخذ فيه الخاتمة مكان المقدمة، ويصور فيه الله تصويرا رهيبا كأنما يسر بعذابات الإنسان وآلامه، ويبعد بعدا أبديا عن الفكر المسيحي الذي يفهم الخلاص على أساس انه رفع العقوبة عن جنس بشري خاطئ محكوم عليه بالموت، وإصلاح طبيعة فاسدة في الفكر والروح والنفس والقلب الملوثة جميعا ببرص الخطية وشرها قبل أن يلوث الهيكل الجسدي في الإنسان..
وهناك طريق أخر عند الناس هو طريق الطقوس والفرائض التي يتوارثها الناس من جيل والى جيل ومن عصر إلى عصر، ومن الواضحإن هذه الطقوس والفرائض لا يمكن أن تكون سبيلا للخلاص من الخطية لأنها في حقيقتها ليست إلا رموزا أو مظاهرات أو إشارات إلى الحقائق والإسرار التي ترمز إليها وتدل عليها وتفصح عنها، والخطية لا يمكن أن تستأصل ويقضى عليها بمجرد الرموز أو الإشارات أو المظاهر. إن الخطية شيء عميق غائر، ضرب شعابه في الجنس البشري كما يضرب ويتغلغل السرطان في الجسم، وأي طقس أو فريضة لا يمكن أن يخلص منها كما لا يستطيع أي علاج ظاهري أن يستأصل المرض الخبيث المتعمق والذي مد جذوره في جسد الإنسان.
وهناك طريق ثالث يمكن أن يدعى طريق الأعمال التي يتوهم فريق من الناس أنها تخلصهم وتدنيهم من الله في اليوم الأخير. ولا نعتقد أن هناك طريقا مضللا وخدّاعا كما يضلل ويخدع طريق الأعمال. ولعل اقرب شبه له هو صدقة الزانية، وإذا صح أن هذه الصدقة يقبلها الناس فإنها مكرهة في نظر الله، وبما إن الجنس البشري ساقط وخاطئ أمام الله، فكل عمل يأتي عن الساقط أو الخاطئ لا يمكن أن يصحح وضعه أو يغير مركزه، والكتاب صريح في إن أفضل أعمال النجس نجسة مثله، ألم يصح اشعياء قائلا: “قد صرنا كلنا كنجس، وكثوب عدة أعمال برنا ” (اش64: 6).ولعل هذا يظهر بوضوح فيما ألف الناس أن يقدموه من تقدمات وعطايا وقرابين وما أشبه في هيكل الله في القديم، ومما كان يطلق عليه “الأقداس”، وطبعا هذه الأقداس هي أفضل تقدمات الناس إلى الله، ولكن رئيس الكهنة كان يضع مع ذلك على جبهته صفيحة من ذهب مكتوب عليها “قدس للرب” ليحمل هرون أثم الأقداس، أو في لغة أخرى إن أفضل قربان وتقدمة وعطايا يقدمها الإنسان إلى الله لا تخلو من شائبة الإثم والتلوث والخطية، ولا يمكن أن تقبل أمام الله إلا بشفاعة رئيس الكهنة. وهذا حق لان الإناء ينضح بما فيه، والنبع القذر لا يمكن أن يعطي ماءا صافيا، والأعمال الصالحة نتيجة للخلاص وليست سبب له، وان الثمرة الحلوة برهان على طبيعة الشجرة وليس أساسا لها أو أصلا لحياتها، والله لا ينظر إلى أفضل أعمال الخطاة والأشرار إلا كما ينظر القانون إلى الرشوة المقدمة من الراشي لنيل طلب أو مصلحة.. وإذا كان جل جلاله قد حرّم أن : “18لا تُدْخِل أُجْرَةَ زَانِيَةٍ وَلا ثَمَنَ كَلبٍ إِلى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ عَنْ نَذْرٍ مَا لأَنَّهُمَا كِليْهِمَا رِجْسٌ لدَى الرَّبِّ إِلهِكَ. (تث23: 18). فان هذا ليس إلا رمزا لتقدمات الأشرار و الخطاة أمامه مهما يكن مظهر هذه التقدمة أو شكلها أو لونها أو صورتها.
هذه هي الطرق الخاطئة المرفوضة عند الله للخلاص، ومن المؤسف حقا إن الشيطان استخدمها في صور لا عدد لها ولا حصر من أفكار ومبادئ وديانات ومذاهب ليضيع بها الملايين المتعددة من بني البشر بعيدا عن طريق الخلاص والحياة الأبدية.
3- طريق الخلاص الإلهي
أما وقد أدركنا الطرق الخاطئة التي تعثرت فيها حشود هائلة من الموكب البشري هنا وهناك، ف فترات مختلفة من التاريخ،بدأ من اللازم أن نعرف بوضوح طريق الخلاص الإلهي ونرسم معالمه وسماته، حتى يتجنب ابسط الناس وأيسرهم فهما الزلل فيه أو التنكيب عنه أو الانحراف عن خطه الصريح المستقيم الكامل المنتهي إلى عرش الله وفردوسه.. ولعل هذا الطريق يتميز على الأقل بالحقيقتين الأساسيتين التاليتين :
1- إن خلاص الإنسان من الله وبترتيبه!..وهذا أمر طبيعي بديهي لأنه لا يمكن أن يصنع هذا الخلاص ويرتبه سوى الله وحده إذ من يستطيع أن يجمع بين العدالة الكاملة والرحمة الكاملة، وبين القداسة الكاملة والمحبة الكاملة سوى شخص الله وحده، أليس الله هو اعدل العادلين وارحم الراحمين معا، وألبس هو القدوس الطاهر الذي هو نار آكلة، وفي الوقت عينه هو المحبة الكاملة، ومن يستطيع أن يصنع نظاما لخلاص الإنسان الساقط ورفعه من هذا الشر أو الخطية، وفي الوقت عينه تظهر هذه الكلمات الإلهية في أجلى بيانها واكل مظاهرها إلا الله وحده، أليس هذا ما عناه المرنم عندما قال : “إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ. 9لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ لِيَسْكُنَ الْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. 10الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. “(مز85: 10 ). أجل فان أي خلاص يتصوره إنسان أو يبتكره خياله، لابد أن يكون ناقصا كنقص هذا الإنسان عاجزا كعجز خياله، فإذا أضيف إلى هذا إن ذات طبيعة الله وصفاته في مقارنتها مع طبيعية الإنسان وصفاته تحتم صدور الخلاص من الله، إذ أن الخلاص والإنقاذ يأتي في العادة من الأكبر إلى الأصغر، ومن الأقوى إلى الأضعف، ومن الأكرم إلى الأاشح، ومن القادر على كل شيء إلى العاجز عن كل شيء!!.. فإذا بدا في الجانب الواحد الله الغير محدود في عظمته وقوته وكرمه وحبه وجوده، وفي الجانب الأخر الإنسان الحقير الملوث المجرم الخاطئ العاجز المعدم، لم يعد هناك للتساؤل أيهما يصنع الخلاص وأيهما يرتبه ويدبره!؟ ومن ثم كان من البديهي والمنطقي آن يسعى الله وهو آب جوادا إلى إنقاذ الإنسان كابن عاجز منحدرا.. وان يتبع كراع عظيم الحمل الضائع التائه، وفي مجاهل الخطية والشر.. بل كل هذا يعلل لما لم يكن الخلاص أمرا طارئا عند الله بل هو ترتيب أزلي في علم الله وحكمته ومشورته المحتومة، إذ أن الله الحكيم العالم بكل شيء لم ينتظر حتى يسقط الإنسان، وبعد ذلك يفكر في أمر خلاصه بل جهز واعد هذا الخلاص في حكمة فائقة قبل الدهور الأزلية مما جعل الرسول يلهج بالترنم إزاء : “الحكمة المكتوبة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا” (1كو 2: 7). وكل هذا تجعلنا نجزم ونؤكد أن ترتيب الخلاص من الألف والياء، ومن البداية إلى النهاية ومن الجملة إلى التفصيل، يرجع أولا وأخيرا ودائما إلى شخص الله وحكمته وجوده وحنانه وحبه وقدرته.
ثانيا: إن خلاص الإنسان يقوم أساسا على الفداء، إذ إن الخلاص ليس مجرد فلسفة بل هو الحقيقة العملية لا محيص منها لرفع الخطية كدين وكفساد عن الجنس البشري، وأي نظرية لا تقوم على تصحيح هذين الوضعين تعتبر نظرية باطلة غير سديدة أو سليمة، فإذا كان من المسلم به إن آدم سقط، وان السقوط لم يلحقه وحده بل لحق الجنس البشري بأكمله، إذ كان آدم نائبه وممثله في الامتحان الإلهي، وكان وصول الخطية إلى البشر آتيا إليهم – على خلاف الملائكة الذين سقطوا فان سقوطهم كان فرديا – عن النيابة والوراثة، إذ لم يكن أحدا من أبناء آدم هناك ليشترك مع الأبوين اشتراكا حرا مستقلا فعليا في التعدي والسقوط، كانت العقوبة أيضا أو الدين يتحتم بالطريق المقابل أن يتحملها نائب عن الجنس البشري وممثل له…ومن هنا برزت فكرة المخلص الذي يخلص العالم، وكان من المتعين أن يعبر هذا المخلص عن قدرة الله ومحبته الكاملة في إنقاذ الجنس البشري ومثل هذا التعبير الكامل لا يمكن إن يصدر عن شخص أخر سوى الله ذاته.. والصعوبة الوهمية في هذا الأمر انه من المستحيل على الله إن يتنازل مثل هذا التنازل أو يقبله، وفضلا على انه ليس في قدرتنا أو حكمتنا إن نحكم على طبيعة أعمال الله فان السؤال يبقى قائما، ولكن هذا يقلل أي عمل أو بذل يبذله الله من اجل الجنس البشري الساقط، هل يقلل هذا العمل من عظمة الله ومجده وجلاله وسلطانه، والجواب الأكيد بالنفي القاطع.. إذ انه واضح إن اعلي ما في الوجود المحبة، واعلي ما في المحبة البذل الكامل، وانه كلما تدرجت المخلوقات في السمو والترقي كلما ظهرت المحبة!!.. وكلما علت المحبة علت مراتب التضحية، فالمخلوقات الدنيا تأكل بعضها بعضا لأنها لم تصل بعد إلى مرتبة المحبة، ولكن ما تتدرج المخلوقات في السمو حتى تأخذ في التعبير عن المحبة عن طريق العناية والرعاية فتطعم أولادها، أو تدفع عنهم الخطر أو الأذى، فإذا علت المحبة أكثر وضحت بجلاء فكرة التضحية والبذل حتى تبلغ أعظم مراتبها في الإنسان كتاج الخليقة على الأرض، والإنسان في مراتبه كانسان يصعد على قدر ما يبذل من إيثار وتضحية وبذل، وأعظم رواد الإنسانية وأبطالها وعظمائها كانت تقاس عظمتهم ومجدهم على مقدار ما حادوا وبذلوا، بل كانت ألامهم ومتاعبهم وماسيهم أنبل صفحات كتبها الإنسان على الأرض، ولم يقل احد إنها قللت من شانهم أو حطت من عظمتهم، فإذا صح إن توصف محبة الإنسان بهذا الوصف فهل تكون محبة الله ادني واقل… ونحن نعلم بداهة أنها تعلو على اسمي محبة بشرية علوا سرمديا؟! كلا والى الأبد كلا! بل إن محبة الله الظاهرة في فداء الجنس البشري هي أعظم وأروع محبة تعلن عن مجد الله وعظمته السرمدية.. إن قلب الفداء في العقيدة المسيحية هو إن الله الذي هو محبة لم يتركه لمخلوق يتممه، ولم يقف منه موقف المراقب أو المحفز على إتمامه، بل أتمه وأنجزه كما يقدم المحب العظيم على فداء حبيبه وأثيره، مهما يكن الثمن الذي يبذل في سبيل المحبة.
والحقيقة الثانية في المخلص انه لكي تتم وتصبح نيابية عن الجنس البشري، لابد إن يندمج في هذا الجنس ويصبح واحدا منه، إذ إن الغريب عن الجنس لا يمكن إن ينوب عنه نيابة كاملة، ومن البداهة انه لكي يفدي هذا النائب غيره من الخطية لابد إن يكون كاملا مبررا من الخطية، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم كان من الضروري إن يتجسد المسيح ويأتي إلى العالم، والمسيح وحده بهذا المعنى هو الذي يستطيع إن ينوب عن البشر ليصبح كما أطلق الكتاب عليه “آدم الثاني” وكما أطلق هو على نفسه ما يقرب من ثمانين مرة “ابن الإنسان” وكما ناب آدم الأول عن الجنس البشري في السقوط ناب آدم الثاني عن الجنس البشري في الكفارة والفداء. ولا يمكن إن يكون الأمر بعد ذلك غريبا أو عجيبا مادمنا إن نسلم بالحقيقة الواقعة التي لا مفر منها، بأنه بخطية الإنسان الأول دخلت الخطية إلى العالم، فمن المقبول أو المعقول إذا، انه بفداء الأخر أو بره ترفع الخطية عن العالم نفسه.
والحقيقة الثالثة في المخلص انه لابد إن يدفع الثمن كاملا لرفع الخطية عن العالم، وإلا كان الأمر مجرد تمثيلية بعيدة عن الحقيقة والواقع! ومن ثم لم يكن صليب المسيح مجرد دفاع عن مبدأ يؤثر الإنسان الموت على تركه، أو استشهاده من اجل عقيدة يتمسك بها صاحبها، وإلا لما افترق موت المسيح عن موت الشهداء وأصحاب المبادئ والمثل، ولكن موت المسيح كان كفارة وفداء عن العقوبة التي وقعت عن الجنس البشري كله بسقوط وخطية نائبه الأول، وقد يتصور البعض إن هذا الكلام مبتدع وغريب ولا يسهل الإيمان به وتصديقه، ولكن الواقع يؤكد إن مبدأ النيابة هو اعم مبادئ الطبيعة والحياة وأظهرها، فأينما سرت واتجهت تجد المبدأ النيابي مرسوما في كل مكان! فالطبيعة تفت الصخر لتقدم الطمي الذي يبعث الخصوبة في الأرض، والشمعة تحترق وتذوب لكي تعطي النور والضياء، وعندما تتحول عذراء القز إلى فراشة تأخذ سبيلها إلى الموت عندما تخلف ورائها ما يمكن أن يصبح مئات مثلها! والإباء والأمهات في تعبهم وكدهم وبذلهم وتضحياتهم ليسوا إلا صورة متكررة دائمة لجيل يفنى لكي يبعث الحياة من جديد في جيل أخر. وألم يكن اوسكار ويلد على حق عندما صور لنا الأمومة في صورة ذلك الطفل الذي اخذ يصرخ طالبا وردة الحياة الحمراء، والتي قيل إنها لا توجد إلا في شجرة بعيدة يرويها الدم، وإذ بطائره العزيز يسعى حتى يبلغ هذه الشجرة ويرفرف فوقها بجناحيه، وينحني على أشواكها مغردا، والشوك ينفذ في صدره وهو يرويها بالدم حتى يحقق للصغير أمنيته الحلوة وأمله الحبيب.. وألبست إلام هي ذلك الطائر الفريد الذي يموت متغنيا وهو يحتضن صغاره تحت جناحيه.. وهذه وغيرها من صور وأمثال تجعل المبدأ النيابي هو الظاهرة العظمى في الحياة، وتجعل الصليب هو القمة العليا لهذا المنبث في أحشاء الطبيعة والحياة، بل تكشف عن الحقيقة العجيبة الجلية، وهي إن الموت على الدوام هو مفتاح الحياة، والبذل أساس الإثمار والإخصاب، ولذا لا عجب أن يقول المسيح وهو يتحدث عن الصليب : “لْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ أن مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. (يو12: 24).
والذي يجعل الصليب أمرا لا مفر منه، أو غير بديل لخلاص البشر هو إن الذبائح الدموية المعروفة والقديمة قدم الإنسان كانت ترمز إليه وتشير من اليوم الذي أعلن فيه الله لأبوينا الأولين : إن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، وصنع لهما من الذبيحة أقمصة جلدية لتغطي عريهما!!. ومن البديهي إن الذبائح الحيوانية لا يمكن أن تكون مقصودة لذاتها، لان الحيوان الذبيح لا يمكن أن يرفع خطية ارتكبها الابنان، وإنما كانت هذه الذبائح إشارة ورمزا إلى إن أجرة الخطية هو موت، وان مرتكبها كان يلزم أن يموت كما تمت الذبيحة، وتحرق، لولا أن الله نقل الحكم ووجد له فدية تأخذ مكانه الذبيحة المذكورة… وهذه العملية لم تكن ترفع الخطية عن مرتكبها فحسب بل تحذره وتدفعه لعدم ارتكابها مرة أخرى، إذ إنها تكشف له عن المصير الرهيب الذي تفعله الخطية لمرتكبها إن لم يتب ويندم، ومن ثم كانت الذبيحة تحرره من دين الخطية، وتعمل أيضا على تطهيره من فسادها ودنسها وشرها… وهذا ما يفعله الصليب أيضا إذ هو رافع العقوبة والدين، وشاف ومطهر من اللوثة والطبيعة الفاسدة التي يقترب من الصليب لا يتحرر فقط من جرم الخطية، بل لا يملك إلا أن يكرهها ويمقتها لما يراه من فعلها الرهيب وعقوبتها المخيفة. ومن ثم حق للرسول يوحنا أن يقول: “7هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. 8لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. 9كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إلى الْعَالَمِ(يو1: 7–9).
الخلاص وقبوله
ومن كل ما أشير إليه سابقا يتبن إن الخلاص منحة وعطية من الله للإنسان، وكل ما ينتظر من الإنسان قبول المنحة والتمتع بها، إذ لا يمكن أن يجبر على قبولها احد، ولقد عرض على القضاء الأمريكي ورقة عفو ضد مجرم حك عليه بالإعدام، ولكن رئيس الجمهورية عفا بقرار عنه، غير أن لشدة دهشة الناس، رفض ورقة العفو، فعرض الأمر على المحكمة العليا للولايات المتحدة، فقضت إن ورقة العفو تكتسب قوتها وأثرها بقبول من صدرت لمصلحته، واعدم المجرم لأنه رفض الخلاص المقدم له، ولقد جهز الله الخلاص للناس في المسيح يسوع الذي اخذ مكان الإثم وحمل عقوبته، وواجبي الوحيد أن اندمج فيه واقبل نيابته وأتمتع بثمرتها.
وقد عبر الرسول بولس عن هذه الحقيقة بالقول:”مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.” (غلا2: 20) وهذا هو المعنى المنسجم والمتسق مع فكرة النيابة، إذ كما أتيح لي أن اسقط في أبي الأول آدم كما لو كنت حاضرا معه، ومندمجا فيه ومشتركا في السقوط الذي سقطه، هكذا أنا بالنسبة للخلاص الأتي من المسيح، وفي المسيح، إذ يبدو، كما لو إني كنت هناك في المسيح ومعه يوم الصليب واندمجت فيه، واشتركت في تحمل العقوبة، وأخذت كل نتائج الصلب وأثارها الكاملة في حياتي. وقد يتضح هذا أكثر عندما نعلم حقيقة علاقة المسيحي بالمسيح، إذ إن هذه العلاقة ليست علاقة التابع بالسيد أو الجندي بالقائد أو التلميذ بالمعلم، بل هي أكثر من هذا كله، علاقة الغصن بالكرمة وعلاقة العضو بالجسد، أو في لغة أخرى علاقة الشركة الواحدة والاندماج الكلي، فالمسيح لذلك هو رأس المؤمنين وهو جسد الكنيسة، والمؤمنون جميعا قائمون به وفيه ومعه في اتحاد سري عجيب، ومن ثم لا يملك الرسول أن يقول: “لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (كو3:3).
على إن السائل قد يسال هذا السؤال، ولكن كيف تتحقق لي هذه الشركة وهذا الاتحاد المرموق؟ والجواب بسيط وواضح ومستقر في كلمة واحدة: “الإيمان”… وقد سال سجان فيلبي بولس وسيلا هذا السؤال عندما صرخ أمامهما :”يا سيد ماذا ينبغي أن افعل لكي اخلص؟” (اع16: 30) فجاء الجواب الوحيد الحاسم : “امن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك” (اع16: 31) ولربما يسال السائل سؤالا أخر : ولكن لماذا جعل الله الإيمان الأساس الأول والأخر والوحيد للتمتع بالخلاص؟!!
توجد أسباب متعددة لذلك أهمها:
1– سهولة الخلاص بالإيمان: إذ لا يحتاج الأمر من أي إنسان ليخلص أكثر من الإيمان القائم على الثقة واليقين والقبول والاطمئنان، وهذه جميعها يمكن للصبي الصغير والفيلسوف، الأمي والمتعلم، والمعدم والغني، والعبد والحر أن يتمموها من غير مشقة وفي ادني يسر، كما إن الخلاص بالإيمان لا يحتاج إلى زمن ووقت لمن يرغب فيه أو يمسك به، إذ انه ادني إلى الإنسان من لفتة. وقديما أوصى الله موسى أن يرفع في البرية حية نحاسية حتى إن كل من لدغته حية محرقة ونظر إلى الحية النحاسية شفي، ولم يكن هذا إلا رمز للخلاص بالإيمان بالمسيح المصلوب الشافي من سم الخطية بالصليب، ولذا قال السيد المسيح لنيقوديموس : “وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإنسان 15لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.”(يو3: 14، 15).
وقال الله على لسان اشعياء: “التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس أخر”(اش45: 22) كما إن العشار الخاطئ وجد بره وغفرانه في الحال عندما صاح في هيكل الله : “اللهم ارحمني أنا الخاطئ” (لو18: 13) وظفر اللص التائب في أخر لحظة من لحظات حياته بالفردوس المجيد وهو معلق على الصليب عندما صاح للمسيح المصلوب: “42ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». 43فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ».(لو23: 42، 43).
2-مسئولية رفض الخلاص تصبح مسئولية قاسية:إذ انه سهولة الإيمان بالخلاص تجعل مسئولية الرفض مسئولية قاسية، إذ لا يكون لأي إنسان بعد عذر في رفضه، وهل يعذر إسرائيلي في ليلة الخروج من مصر لأنه لم يضع الدم على القائمتين والعتبة العليا في بيته حتى يعبر الملاك المهلك؟ وهل يعذر أي إنسان عن الإيمان بالصليب مادام الأمر لا يكلفه أكثر من التوبة الصادقة والاتجاه الأمين إلى الثقة بالغفران في الصليب!؟ ومن المؤسف والمحزن حقا إن هذا اليسر أضحى في نظر الكثيرين عسرا، إذ أنهم لا يصدقون أن الله يمكن أن يقبل الإنسان بمثل هذه السهولة ليغفر له جميع خطاياه وآثامه، وإنهم كانوا ينتظرون أن يكلفهم الله بما يشق أو يعسر حتى ينالوا الخلاص.. وقديما غضب نعمان السرياني عندما ذهب إلى اليشع النبي ليشفيه من مرض البرص، لان اليشع طلب منه أن يذهب ويغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمه إليه ويطهر، وكاد يرفض إذ كيف يمكن أن يكون الخلاص من البرص بهذه السهولة، حتى أقنعه عبيده وغلمانه بالطاعة، الأمر الذي لما فعله شفي!!.. إن أقسى مسئولية تقع على من يرفض الخلاص هي لأنه يرفض أعظم منحة قدمها الله في أيسر سبيل وأسهل تقديم…
3– واهم من الأمرين السالفين وأعظم هو إن الله جعل الخلاص بالإيمان: لان الإنسان لا يستطيع إن يناله بطريق أخر، ولان مجد الله وكرامته وجوده في الخلاص كلها متعلقة بهذا الطريق… لقد جعل الخلاص مجانا لسبب بسيط هو إن احد لا يستطيع إن يشتريه أو يشارك فيه أو يصنعه… وأعظم هبات الله وعطاياه هي التي يقدمها لجميع الناس مجانا ومن غير ثمن، وإلا فمن يستطيع إن يعطي ثمنا للنور والماء والهواء. فإذا صح أن يقال هذا عن العطايا المادية وأشباهها، فان عطية الخلاص أعظم، بل إن مجرد عرض ثمن أي ثمن مهما كان في نظر صاحبه غاليا وكبيرا، يعرض عطايا الله للامتهان والتحقير..
وإذا صح إن الإنسان في حق إنسان مثله، إذا حاول إن يقوم المعنويات العليا كالشرف والكرامة والمحبة والإيثار والبذل بالمال، فكم هو إثم وشر ودنس إذا تصورنا انه يمكن إن نشتري الخلاص و نشارك في الحصول عليه، ويكون مثلنا في هذه الحالة كمثل امرأة فقيرة دعيت أولادها إلى حفل عشاء عظيم، وبعد إن تناول الجميع الطعام ذهبت إلى صاحب الدعوة الكريم الغني، وحاولت إن تقدم له بعض الدراهم بالقول إن هذا يوافق على وجه التقريب ثمن ما أكلته هي وأولادها!!.. هذا بالضبط حال من يتصور انه يمكن إن يحصل على الخلاص عن طريق مال يقدمه إلى الله أو أعمال يقوم ويساهم بها، أو ما أشبه من مجهود بشري.. ولعلنا نذكر هنا تقدمة أو لأخوين في التاريخ البشري عندما أرادا إن يتعبدا لله، وان يتقربا إليه، فلم يصدق قايين أو يؤمن بفكرة الذبيحة، وامن بها هابيل، فجعلهما الله مثلين خالدين للبشرية كلها، إذ رفض تقدمة قايين وقبل ذبيحة هابيل، ولعل من أجمل ما قيل بهذا الصدد كلمات دكتور أ.ب. سمسون عندما وصف الاثنين بالقول:
” إن الرجلين اللذين وقفا على أبواب عدن ليعبدا الله يمثلان الجنس البشري في انقسامه إلى مؤمنين وغير مؤمنين.. أما الرجل الأرضي فيبدو في ديانته كما لو انه أكثر طرافة وكياسة ومجالا إذ يقدم من إثمار تعبه ومن أولها وأحسنها! أو في لغة أخرى انه يقدم زهور الربيع العطرة النقية وثمار الصيف الناضجة الغنية، وربما بدا مذبحه أكثر جمالا وبهاء، إذ قورن بالمذبح الخشن غير المصقول الذي قدم هابيل عليه الذبيحة المقدمة، والتي تبدو في صفرة الموت لحمل دام محتضر ملتهب! غير إن تقدمة قايين في جملتها ليست إلا نكرانا تاما شاملا لكل ما قاله الله عن لعنته للأرض وإثمارها، وعن حقيقة الخطية والحاجة إلى مخلص مكفر، الأمر الذي أوضحه الله لأدم وحواء عندما صنع لهما اقمصة من جلد، والذي لا شك انه أكده أكثر من مرة في تعاليمه ووصاياه لكليهما… ولم تكن ذبيحة هابيل سوى اعتراف وديع متضع بكل هذه، وقبول صريح واضح لطريقة الله في الغفران والقبول”.
وغير إن هذا يقودنا بالبداهة إلى السؤال الجوهري الحيوي في الدين : إذا كان الأمر كذلك فما معنى الأعمال الصالحة وما قيمتها وما مركزها؟ ومن اللازم إن نكرر على الدوام من هنا والى الأبد، إن الأعمال الصالحة لا قيمة لها بتاتا في الخلاص، ولا يمكن إن تساعد الإنسان قيد أنملة في الحصول على الخلاص، وان الخلط والتخبط اللذين يقع فيهما عدد كبير من الناس مرجعهما عدم وضوح هذه الحقيقة وجلائها..
إن الأعمال الصالحة هي النتيجة الحتمية للخلاص، والنتيجة لا يمكن إن تكون بحال ما سببا، أو في لغة أخرى إن الإنسان يعمل أعمالا صالحة لأنه خلص، ولكنه لا يخلص لأنه عمل أعمال صالحة، إن الأعمال الصالحة هي البرهان على الخلاص، وليست القاعدة التي يقوم عليها أو يبنى.. إن الإيمان، والإيمان وحده، هو الذي يخلص، ونسبة الأعمال إلى الإيمان هي نسبة الثمر إلى الأصل، لا الإضافة إليه أو الشركة معه… وقد وضح هذا في ذهن الرسول بولس فتحدث عن كفاية الإيمان للخلاص بدون أعمال بالقول: “5وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً. (رو4: 5). وقد يتضح هذا أكثر في أذهاننا إذا ذكرنا مثلا: إن المركز القانوني للإنسان يتم حال استيفاء الشروط الخاصة المعينة من القانون، فالزواج على سبيل المثال يتم حال توقيع الزوجين العقد بعد استيفاء الشروط القانونية الخاصة بذلك، ومن اللحظة التي ييتم فيها التوقيع القانوني يأخذ كل من الزوجين مركزه القانوني، وكافة اثأر هذا المركز، بمعنى انه لو مات احد الزوجين في الدقيقة التالية للتوقيع فان الطرف الأخر يرثه رغم إن الممارسة الفعلية للحياة الزوجية لم تتم!!
كما إن العقد المعبر عن إرادة صحيحة سليمة ينتج كافة أثاره، حتى ولو مات احد المتعاقدين في الحال عقب إتمامه، دون ما حاجة إلى اشتراط التنفيذ أو البدء في العمل.. وهكذا الخلاص يتم بالإيمان الصحيح أما الله، فإذا ما مات الإنسان في اللحظة التالية لهذا الإيمان دخل في الحال إلى فردوس الله، إذ يأخذ مركز المؤمن القانوني أمام الله، رغم انه لم يتح له فرصة للخدمة أو اعمل على وجه الإطلاق.. على انه بما إن الإيمان حالة داخلية وشعور خفي، فان الله وحده هو الذي يستطيع الحكم على الإيمان المعبر عن إرادة صحيحة، والإيمان الزائف أو الصوري، والإنسان لذلك لا يستطيع مثل هذا الحكم حتى يعبر الإيمان عن نفسه بمظاهر خارجية، وهذه المظاهر وحدها هي التي تكسف عن معدن هذا الإيمان، ومبلغ ما فيه من صحة أو زيف، ومن حق أو بطل، ومن حياة أو موت.
وقد دافع الرسول يعقوب عن هذه العلاقة بين الإيمان والأعمال، ولم بكن يقصد إنهما طرفان يستقل ألواح منهما عن الأخر بدليل قوله:”18لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ!» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي. (يع2: 18). مما يبين إن الأعمال برهان الإيمان وثمرته ومظهره، وهذا واضح وابلغ وضوح في القول :”وأنا اريك بالعمالي إيماني”… وقصارى القول إن الأعمال لا شان لها على الإطلاق بإنشاء مركز المؤمن القانوني أمام الله، وان كانت تعبر عن الآثار والمظاهر لهذا المركز بعد وجوده وشانه!!.. وأما المركز نفسه فينشا بشيء واحد لا غير، ونعني به الإيمان ولا سواه على الإطلاق.
علاقة المؤمن بالناموس
وإذا انتهينا إلى هذا كله لم يبق إلا سؤال أخير كثيرا ما احدث الاضطراب أو الاختلاف في إفهام الناس في الكنيسة المسيحية وهو : ما علاقة المؤمن بالناموس، وهل هو مكلف بحفظ هذا الناموس سواء كان ناموسا أدبيا أو طقسيا، أم مكلف بحفظ الناموس الأدبي دون لطقسي، أم لا علاقة له بالناموس على وجه الإطلاق.
ولعل الإجابة على كل هذا لا يمكن إن تكون واضحة أو مستوفاة ما لم نفهم معنى الناموس وحقيقته بل ما لم نلم بتاريخه، وهل كان الناموس الموسوي هو أول ناموس وضعه الله أمام الإنسان؟
إن كلمة ناموس تعني في مدلولها العام، النظام، أو القانون كمثل ما يقال عن ناموس الجاذبية أو الكهربائية أو المغناطيسية أو الحرارة أو ما أشبه من نواميس الطبيعة، فهذه كلها تعني النظام أو القوانين الثابتة التي تعمل بها وتسير وتؤثر وتتحكم، أو كمثل ما يقال عن المجتمع أو قوانينه المتعددة التي تنظم علاقة الناس بالدولة، وعلاقتهم بعضهم ببعض فيما يصطلح على تسميته بالقانون العام، والقانون الخاص.. ومن ثم كان من البديهي إن يحكم الإنسان بناموس ينظم علاقته بالله وبأخيه الإنسان وفقا للطبيعة الأدبية في الله والإنسان معا، والناموس في الواقع ما هو إلا هذه الطبيعة الأدبية التي أودعها الله في الإنسان عندما صنعه في الأصل على صورته وشبهه… ومن ثم فقد كان هناك ناموس قديم يقدم لإنسان نفسه قبل إن يظهر الناموس الموسوي في التاريخ، وهذا الناموس هو ناموس الضمير الموجود في أي إنسان أينما وجد هذا الإنسان وفي أي حالة كان على ظهر الأرض. ولم يأت ناموس موسى إلا ليكشف وبوضوح ويحدد ويظهر طبيعة هذا الناموس، على وجه لا يسمح بالغموض أو الإبهام أو التباس المفاهيم أو المدلولات أو عدم انضباطها تماما أمام الضمير..
ومن الواضح إن العدالة الإلهية لا يمكن إن تحاكم الإنسان إلا غلى أساس ما يعي أو يفهم أو يدرك، ومن ثم فإنها لم تحاكم الذي قبل الناموس الموسوي، إلا على أساس ناموس الضمير، ولهذا يقول الرسول: “14لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ فَهَؤُلاَءِ إذ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ 15الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً (رو2: 14، 15).
وعلى أي حال فالناموس بهذا المعنى قبل أو بعد موسى لا يمكن إن يتمم الكمال، وعلى وجه اخص بعد إن يتضح هذا الكمال، ويظهر وينجلي ويكتب في الناموس الموسوي.. بل الناموس يوقف كل إنسان عاجزا أمامه، ومن ثم جاء قول الرسول عن اليهود والأمم: “فَمَاذَا إذا؟ أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ كَلاَّ الْبَتَّةَ! لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ 10كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. 11لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. 12الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.. 19وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي النَّامُوسِ لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. 20لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ. (رو 3: 9–12، 19، 20).
وقد أصاب الرسول هنا كبد الحقيقة عندما بن عجز الإنسان عن فعل الناموس كما بين في الوقت عينه في تعبير غاية في الدقة عمل الناموس إذ قال : لان بالناموس معرفة الخطية” ولعل اقرب الأمثلة إلى ذلك وأكثرها سبها القانون في الدولة، فهذا القانون هو الذي يحدد معنى الجريمة، وهو الذي يحدد عقوبتها، وهو الذي يحكم ويؤدب عند التعدي، ولكن مع ما له من حق وقوة محذرة ومرهبة فهو اعجز من إن يمنع الجريمة أو يحول دون سقوط الناس فيها.. وإذا تبين بعد كل هذا سقوط الجنس البشري أمام مطاليب الناموس، واستحالة تغاضي عدالة الله عن هذا السقوط، ثبتت حاجة الناس إلى من يحمل عنهم عقوبة الناموس ويفتديهم من لعنته.. ومن ثم جاء المسيح ليتمم كل هذا بالمعنى النيابي الذي أشرتا إليه سالفا : “16إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإنسان لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. 17فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، فالمسيح خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!.. 19لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لاحيا لِلَّهِ. 20مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. (غل 2: 16، 17، 19، 20).
والسؤال الباقي بعد ذلك : إذا لم يكن الناموس اداة للتبرير والخلاص لعجز الإنسان عن تمام مطالبيه بعيدا عن المسيح، وان الخلاص يتم بالنعمة والمنحة ليس إلا: “متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح” (رو3: 24) فما هو موقفنا كمؤمنين من الناموس!!؟.
وللإجابة الدقيقة على هذا السؤال ينبغي إن نشير إلى نوعي الناموس الموسوي، وهما الناموس الطقسي، والناموس الأدبي.. وقد كان الناموس الطقسي بجملته رمزا وإشارة إلى عمل المسيح الكفاري، وعندما يأتي المرموز إليه ويتم عمله، يسقط الرمز ولا يبقى له معنى، ولهذا انتهى وانتفى عمل هذا الناموس ولا يمكن ممارسته واستمراره، ولهذا فالذبائح والاغتسال وتناول أطعمة معينة أو أي طقوس أو فرائض جاءت في العهد القديم لم يعد لها محل أصبحت غير ذات موضوع.. وأما من جهة الناموس الأدبي فانا لا أحفظه لأني سأخلص به، بل أحفظ مطالبيه الأبدية لأتي خلصت، وأصبحت إنسانا جديدا في المسيح عاد لينسجم مرة أخرى مع أبيه السماوي ويسترد مثاله المجيد فيه.. وحفظ هذه المطاليب لا يمكن إن يكون بقوتي المجردة، بل بعمل روح المسيح فيّ واتحاده بي.
ومن كل ما ذكر يتضح إن الخلاص لا يقوم على الإطلاق بأي طريق ظني أو بشري أو بأعمال الناموس أو بالأعمال الصالحة، بل يقوم بالإيمان بخلاص المسيح ومنحته المجانية لكل خاطئ وآُثم وشرير.
الخلاص ونتائجه
وأخر ما ننهي به الحديث عن الخلاص هو ذكر نتائجه الأساسية والفعلية أثاره العميقة في الحياة البشرية.. ولعل أول هذه الآثار تعرية الخطية وكشفها ومع إننا نرى الخطية في مظاهرها المتعددة وألوانها البشعة وأثارها المدمرة في كل ركن من أركان الحياة البشرية، إلا انه ليس هناك مكان تظهر فيه الخطية في أبشع ورهب صورها كمثل ظهورها عند الصليب.. أليست هي التي صلبت رب المجد وجعلته يحمل عنا عارها ولعنتها وشرها وبؤسها وشقاءها، ويشرب حتى الثمالة كأسها المروعة المريرة في تعاسة لا تتصور وألام لا توصف وفاء للعدل الإلهي الكامل؟!.. حقا إن وجه الخطية الكالح وصورتها المفزعة لا يمكن إن يعرف على حقيقتها إلا عند الصليب، وليس من مكان تكره فيه كما تكره عند التأمل فيما فعلت مع المصلوب الحبيب..
والنتيجة الثانية للخلاص هو الحصول على وثيقة العفو والنجاة من عقوبة الخطية ودينها، ولعلنا نذكر ها إن أخر ما خلفته حكمة اليونان للعالم عقدة الملك اوديب، الملك الذي قتل أباه وهو لا يدري وتزوج أمه، وإذ أدرك بعد ذلك بشاعة عمله خرج هائما على وجهه مقاداً بإحساس الذنب بعد إن فقأ عينيه، إلى حيث لا يستقر أو يلوي على شيء.. ولم يعرف التاريخ حلا لهذه العقدة أو علاجا لهذا الذنب؟ حتى جاء المسيح ليكفر عن خطايانا على الصليب ويدفع ثمن وعقوبة أبشع خطية ارتكبها إنسان على الأرض، وكل مؤمن به يستطيع إن يصبح منتصرا في مواجهة الخطية بالقول: “ (رو8: 1) !!.
والنتيجة الثالثة للخلاص، ليست هي رفع الخطية كعقوبة فحسب، بل أكثر من ذلك التحرر منها كعادة وسرطان ومرض. وكم من أعداد لا تحصى أو تنتهي من الناس عندما وقفوا من المصلوب كانوا أشبه بالكونت زنزندورف، ذلك الفتى الارستقراطي الغني العظيم، الذي إذ أبصر في احد المعارض صورة للمسيح المصلوب والمكلل بإكليل الشوك، أخذت الصورة بمجامع قلبه واستولت على كافة مشاعره، حتى انه ظل أمامها ساعات وهو لا يدري، وإذ نبه حارس المعرض إلى انتهاء ميعاد الزيارة، خرج ليودع كل شيء من متعة ولهو وجاه ونفوذ ومجد، ليكرس حياته من اجل المسيح وفي خدمته!!.. ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن ملايين من بني البشر الذين إذ تمتعوا بالخلاص خرجوا من حياة الأوحال والقذارة والفساد والأنانية والشرور إلى حياة القداسة والبر والراحة والسعادة والمجد قائلين مع الرسول:”17إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً. (2كو5: 17). عندما دخل ” جودفري” أورشليم أيام الحروب الصليبية خلع عن رأسه إكليل الذهب وسار حافي القدمين وعندما سئل : “لماذا يفعل ذلك؟” أجاب: “وكيف البس إكليلا من ذهب في مكان لبس فيه المسيح إكليلا من شوك”. وكل إنسان يدرك معنى الخلاص وأثره لابد إن يصيح بكل جارحة فيه لله: “طهرني بالزوفا فاطهر. اغسلني فابيض أكثر من الثلج” (مز51: 7). ويكون منافقا إذا ادع الخلاص من غير تجديد، أو مخدوعا إذا ظن انه مؤمن، دون إن يتحول عن حياته القديمة وماضيه الإثم الملوث..!!
والنتيجة الأخيرة للخلاص هو فتح الطريق المسدود أمام الجنس البشري للعودة إلى فردوس الله، وقد رأى المسيح بهذا الخلاص هزيمة الشيطان وسقوطه عندما قال: “رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء” (لو10: 18).. وعندما دنى من الصليب وأوشك إن يرتفع عليه قال قوله العجيب الرائع: “31اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رئيسا هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. 32وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ».(يو12: 31، 32).. وهل من شك في إن الصليب هو القاهر الأعظم للخطية في الأرض، والجاذب الأفضل للموكب البشري في شتى العصور والأجيال تجاه المسيح والخلاص؟.. وألم يكن ذلك الكاتب الغربي على حق عندما قال: “منذ ألفي عام ارتفع على هضبة صليب في الجو الشرقي وكان على هذا الصليب المسيح يموت، فهل كان هناك فشل حسب الظاهر أو هزيمة تعدل هذه الهزيمة؟!. ولكن مع ذلك فمن ذلك التاريخ هوت إمبراطوريات شامخة إلى الحضيض والرماد، ولم يبق من أطلالها سوى أحجارا هنا أو خرائب هناك، غير إن ذلك الفرد العجيب المصلوب يعيش اليوم أسرا أفئدة الناس وضمائرهم إلى الأبد.. وفي العالم اليوم ثمانمائة مليون يعترفون به ربا ومسيحا وهو يعيش فيهم بقوة روحه، روح الحق والمحبة والتضحية، وهذا الروح هو أعظم قوة رافعة محيية مخلصة عرفها البشر في كل أجيالهم”…
هذا هو الخلاص وهذه هي نتائجه، أو في تعبير أدق بعض نتائجه. أما نتائجه الكاملة فلعلنا لا نستطيع إن ندرك عمقها ومعناها وجدواها إلا عندما نقف على الشاطئ الأبدي في حضرة الله ونبلغ المدينة المقدسة مدينة أحلام الإنسان في كل حياته المجهدة على الأرض، ونسمع الصوت الصائح: “3وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ. 4وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». 5وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً». وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ، فأن هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ».(رؤ21: 3–5).
ومن ذا الذي لا يغني بعد كل هذا هاتفا في الأغنية الحلوة الشادية:
يا عسكر الرحمن من تجندوا في موكب الرب العلي مجدوا
فزتم بنصر دائم فحمدوا مليكنا المنصور
ثم الخلاص هللويا رنموا ثم الخلاص هللويا رنموا
لربنا يسوع