إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 12 | إيماني بمعجزات الله

هذا هو ما أردنا أن نضعه أمام عيوننا ألان آملين أن نصل إلى الحق الصراح. ولعلنا نستطيع أن تتبين الرأي الثواب والأصح فيما يلي

المعجزات ومعناها

ولعل هذا أول ما يتجه إليه الفكر إذ ما معنى “المعجزة” وما مدلول هذا التعبير  ومرادفاته الموجودة  في الكتاب المقدس؟ هناك ثلاث عبارات رئيسية ترادف معنى المعجزة وهي العجائب والقوات والآيات كما جاء في قول الرسول بطرس وهو يتحدث عن برهان رسالة المسيح :  “قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ.” (أع2: 22) أو كما تحدث الرسول بولس عن صحة رسالته بالقول: “12إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ.” (2قو12: 12) .ومن هنا ندرك أن المعجزة هي تلك الأعجوبة التي تثير الدهشة، ولكن هذه الدهشة ليست المقصودة بذاتها، إذ أن الأعجوبة  هي “الآية” أو العلامة التي تشهد وتتحدث عن حضور الله ووجوده وتخله في صنع المعجزة، وهذه الآية لا يمكن أن تتم إلا “بالقوة” الخارقة اللالهية، القوة التي لا يمكن أن تكون من صنع البشر أو من حيلة الإنسان.. فإذا ما قارنت هذه كلها معا أدركنا أن المعجزة هي ذلك الحادث الإلهي الذي يصنعه الله مباشرة، أو يصنع عن طريق واحد من رسله وأتباعه وقديسيه على كيفية تعلو وترتفع على كل نظام أو ترتيب أو مقدرة بشرية، وان هذا الحادث لا يمكن أن يكون المقصود منه اللهو أو الإمتاع أو إثارة الفضول أو المشاعر الرخيصة، إذ أن الله في ذلك ضن       ضنين بمعجزاته قاصد فيها محترم لها.. بل المعجزة هي الحدث الذي يقصد منه الختم على صحة الدعوة ونسبتها إلى الله وتأييد النبي أو الرسول المرسل بها، أو الكشف عن معدنها وأسلوبها، أو في لغة أخرى أن المعجزة كما يقولون برهان وبيان، فهي برهان على صحة الدعوة وفي الوقت عينه بيان أو كشف عن طبيعتها وأسلوبها.. هذه هي المعجزة في معناها الدقيق الضيق المحدد المنضبط، أما المعجزة في معناها الواسع فهي كل تدخل خارق للعادة ونادر وغير مألوف والذي قد تستخدم فيه وسائل طبيعية، ولكن هذه الوسائل ما كانت لتستخدم لولا التدخل الفعلي الحقيقي لله، فإذا كانت المعجزة في المعنى الأول المقصود الأهم والرئيسي فيها، تثبيت وتقوية الشهادة للدين.. فان المعجزة في المعنى الأخر قد تنصرف إلى هذه كلها، كما قد تنصرف إلى معنى المعونة والإغاثة والمساعدة والإنقاذ التي تعز فيها الوسائل العادية الطبيعية، أو تكون موجودة وميسورة ولكنها غير مكتشفة حتى يكشف الله عنها ويوضحها ويستخدمها على الوجه ألمعجزي العجيب!!فإذا كانت معجزات الضربات العشر، ووقوف الشمس والقمر بكلمة يشوع، وإقامة ابن أرملة صرفة من الموت، وابن الشونامية وضرب 185٫000 من جيش أشور في ليلة، وعدم الاحتراق في وسط الأتون، وإقامة ابنة ياريرس وابنة أرملة نايين ولعازر من الموت، والمشي على الماء، وإطعام خمسة آلاف بخمسة أرغفة شعير وسمكتين، وشفاء الإمراض المستعصية بكلمة أو لمسة، وإخراج بطرس من السجن، وإقامة افتيخوس من الموت.. إذا كان هذه وغيرها هي المعجزات في المعنى الأول المنضبط الدقيق، فان فتح عين هاجر في الصحراء لتبصر بئر الماء، وتحول قلب عيسو من الانتقام إلى القلب الحار، وقلق احشويرش من اجل نجاة شعب الله، ونجاة بولس في زنبيل عندما كان مهددا بالموت في مدينة دمشق. هذه وأمثالها هي المعجزات في معناها الواسع المنبسط، والذي كان من المستحيل أن تتم دون التدخل الفعلي لله!! وقد عرف أصحابها بان شيئا خارقا للعادة قد حدث، ولولا هذا لما تمت لهم نجاة، أو حدث لهم إنقاذ، حتى أن بولس الذي برهن على أن دعوته بالمعجزات في المعنى الأول كما سلفت الإشارة إلى ذلك (2كو12: 12). هو هو  الذي رأى في نجاته من دمشق معجزة، وإلا لما كان هناك معنى على الإطلاق لان يجمل كافة الأخطار التي تعرض لها كرسول ثم يذكر على وجه خاص ومحدد القول: “32فِي دِمَشْقَ وَالِي الْحَارِثِ الْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ الدِّمَشْقِيِّينَ يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي، 33فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيلٍ مِنَ السُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ.”(2قو11: 32، 33). لما كان معنى هذا التخصيص والتفصيل ما لم ير في هذه الحادثة معجزة تستحق كل امتنان وشكر أمام الله.. رغم الم العملية في حد ذاتها من الوجهة المادية عادية وطبيعية، وكان من الممكن إلا تثير أي تفكير لولا الظروف الدقيقة التي أحاطت بالرسول وجعلته حياته كلها في خطر، ليس من السهل أن يفلت منه أو يتجنبه!!..

ولعله من اللازم ونحن بهذا الصدد أن نخرج من دائرة المعجزات كل ما يمكنه أن يصنعه الإنسان عن طريق الحيلة أو الإيحاء أو أساليب التنويم أو الخداع العملي، إذ أن أساس المعجزة يبدأ من حيث تنتهي كل مقدرة بشرية على الإطلاق كما انه من اللازم أن نذكر بان الشيطان، وهو بحسب الطبيعة ملاك ساقط، وفي قدرته أن يصنع عجائب قد أعطى أو يعطي مرات متعددة، بالطريق المقابلة لمعجزات الله فرصة لا لإظهار قوته فحسب، بل لإظهار مجد الله المنتصر عليه، وهذا واضح من لغة الكتاب، إذ يقول موسى : “إذا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلماً وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً 2وَلوْ حَدَثَتِ الآيَةُ أَوِ الأُعْجُوبَةُ التِي كَلمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا 3فَلا تَسْمَعْ لِكَلامِ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَوِ الحَالِمِ ذَلِكَ الحُلمَ لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ يَمْتَحِنُكُمْ لِيَعْلمَ هَل تُحِبُّونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِكُمْ.”(تث13: 1-3). كما أن السيد المسيح قال: “    22كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ.”(مت7: 22،23 ). وقال: “24لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً.” (مت24: 24). كما أن الرسول بولس تحدث عن إنسان الخطية: “9الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ.”(2تس2: 9).كما أن الرائي تحدث عن الوحش قائلا:” 13وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الأَرْضِ قُدَّامَ النَّاسِ.”  (رؤ 13: 13). وعن النبي الكذاب : “20فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصَّانِعُ قُدَّامَهُ الآيَاتِ الَّتِي بِهَا أَضَلَّ الَّذِينَ قَبِلُوا سِمَةَ الْوَحْشِ.”(رؤ19: 20)… فإذ قيل بعد ذلك، وكيف يمكن أن نفرق بين المعجزة الصحيحة والكاذبة تعين علينا أن ندرس المعجزة من حيث الصانع والوسيلة والهدف.

أما من حيث الصانع فكل شخص ادعى المعجزة أو حاول صنعها وهو شرير آثم خاطئ مدعي أو رسول الشيطان، وعمله لا يمكن أن يصدر بحال ما عن شخص الله القدوس المبارك، كما أن الوسيلة المستخدمة تنبأ أيضا عن طبيعة المعجزة المزعومة أو الكاذبة، فالسحر أو العرافة أو التعاويذ أو ما أشبه ليس إلا وسائل شيطانية لا يمكن أن تصدر بحال ما عن إرادة الله أو قداسته أو كماله، كما أن الهدف أو الغاية المقصودة من المعجزة تكشف إلى حد كبير عما إذا كانت من الله أم من الشيطان فكل معجزة أو أعجوبة تبعد بالإنسان عن الله، أو عن الحياة المقدسة أو تقوده إلى الخرافات أو الحماقات أو الضلال، لا يمكن أن تكون أعجوبة من عند الله، وبئس من يتعلق بها أو يبحث عنها أو يسر بوجودها. وإعانة محتاج أو سد عاجز على النحو السالف الذكر

المعجزات والاعتراض عليها

والآن نعود إلى السؤال: ولكن لماذا يعترض البعض على المعجزات وإمكانية حدوثها!!؟  تتلخص اعتراضات المعترضة في ثلاثة أمور هم على التوالي: اللياقة، والمضادة، والإثبات!!.. أما اللياقة فالمقصود بها صنع المعجزات غير لائق، أما لأنهم لا يعتقدون  بوجود اله يصنعا، وليس من اللائق في نظرهم أن يقال صدرت عرضا، أو لأنه لا يليق بالله أن يصنعها عند من يعتقدون بوجوده، لان الله قد صنع نواميس دقيقة منظمة في للكون، ولا يجمل به أن يغير هذه النواميس أو يبدلها، كما انه لا يليق بالمعجزات أن تكون سببا للإيمان لان في ذلك تصغيرا للعقل البشري الباحث عن الحق أو امتهانا لله أو احتيالا – عند البعض – على وصول الحقيقة إليه… ولكن هذه المزاعم جميعا مردودة، فاليقين بوجود الله اثبت واقوي وأعظم من أي زعم يتخيله أو يتصوره أو يتوهمه الكافرون!! أما الزعم بأنه لا يليق بالله أن يتدخل في الناموس الذي أبدعه ونظمه، فهو قول أن خلا من شيء فإنما هو ذاته يحني على كل لياقة في التعبير… لان معنى ذلك أن هذا الناموس المذكور قد أضحى إلها أخر مستقلا معادلا أو متكافئا مع الله، يفلت من كل إشراف أو يعلو على كل رقابة، ولا يجوز بحال ما التدخل في إطلاق سيره!! كما أن معناه أن الله صنع هذا الناموس، ليقف منه موقف المتفرج أو العاجز عن صنع امرأ أو شيئا ما!! أن مثل هذا القول كمثل من يقول أن صانعا صنع آلة ضخمة كبيرة وحركها ووقف أمامها يتطلع إلى حركتها دون أن يملك من أمر إيقافها أو الإقلال من حركتها أو زيادة هذه الحركة شيئا!! وكل ذلك عبث غير كريم أو غير لائق بشخص الله.

ثم نعود إلى السؤال: ولكن هل كل ناموس في الكون يسير سيره الدقيق غير المنحرف أو المتخلف؟ قد يسير الناموس الماد سيره الدقيق المنتظم الرتيب؟ ولكن من قال أن هذا الناموس هو وحده الموجود في الكون وليس غيره!1؟ ومن قال انه لا يوجد ناموس أخر قد انحرف، ونعني به وليس غيره!!؟ ومن قال انه لا يوجد ناموس أخر قد انحرف، ونعني به الناموس الأدبي عند الناس!!؟ وان هذا الناموس اعلي وأعظم عند الله والناس من الناموس المادي، وعلى قدر ارتفاع الروحيات أو الأدبيات على الماديات. وان قصة الدين في جوهرها ليست إلا تدخل الله في شتى العصور والأجيال، لإصلاح ما طرا على هذا الناموس من خلل أو انحراف أو خطا!! ومن اللياقة أن يستخدم الله شتى النواميس أدبية ومادية في سبيل هذا الإصلاح وخير الإنسان ومجده. أما الزعم بان الالتجاء إلى المعجزات امتهان أو تحقير أو تحايل على العقل لإدخال الحقيقة إليه، فهو في الواقع الزعم غير المعقول أو المناقض للحقيقة والتاريخ. وإلا فمتى كان العقل وحده فيصلا في الكشف عن الحقيقة او البرهان عليها في أي عصر من عصور التاريخ،  وعند أي جماعات أصابها السمو أو العلو الفكري العظيم؟ ومتى استقر الفلاسفة أو العلماء على رأي أو حجة أو منطق أو برهان!1؟ ومن يسلم اليوم مثلا برأي أفلاطون القائل أن للكواكب نفوسا!1؟ أو بألوهية الكون التي استساغها عقل هيجل واسبينوزا وغيرهم من فلاسفة الألمان!!؟ فالقول – بعد ذلك – أن المعجزات يمكن أن تكون أدلة على البرهان في لحظات أو فترات الانحطاط العقلي فقط قول مردود تاريخيا وعقليا على حد سواء؟! ثم من قال أن الله قد جعل البرهان في الدين أو الحق فقط قاصرا على الخاصة من الناس ممن هم من أصحاب العقول الجبارة المميزة دون العامة ممن أوتوا حظا يسيرا محدودا في التفكير أو المحاجة، مع أنهم في كل جيل وكل عصرهم الأغلبية الساحقة بين الناس!!؟ ومن قال أخر الأمر أن العقل هو ميدان أو مجال المخاطبة الوحيد في الإنسان، أليس الحس في رأي عدد كبير من الفلاسفة هو الأساس الأصلح للمناقشة أو الاستيعاب، حتى أن “عمانؤيل كانط:” هاجم العقل هجومه المشهور في كتابه ” نقد العقل الخالص” ومع انه ليس المجال هنا أن ندخل في ترجيح هذا الرأي أو ذاك أو غيره، إلا إننا نود أن نخرج بالنتيجة إلى أن الله لا يخاطب في الإنسان مجرد عقله دون مشاعره أو إرادته!! فالقول بعد هذا كله أن صنع المعجزات أمر لا يدخل في باب الموائمة أو اللياقة قول غير سديد وغير لائق على وجه الإطلاق!! أما القول بان هناك مضادة أكيدة بين المعجزات والنواميس الطبيعية في الكون، وانه لا يمكن أن يستقيم وجود المعجزة مع وجود هذه القوانين، فقول غير صحيح ويحتاج إلى شيء من الفهم والإيضاح لعمل النواميس، وعمل المعجزة.. فمن الحق أن النواميس تعمل بنظام دقيق رتيب حكيم، فناموس الجاذبية في الأرض يعمل بكل سلطانه في جذب ما يسقط من الفضاء على الأرض مثلا أو في تحديد أو تعيين الوزن أو الثقل تباعا لوجود المادة في دائرة تأثيره أو سلطانه، فإذا ما خرج الشيء لسبب ما عن دائرة هذا الناموس انعدم الوزن أو امتنع عن السقوط أو تعلق بناموس أخر غير ناموس الجاذبية الأرضية! ومن هنا نفهم أن الناموس باق في حدوده الخاصة، حتى تعمل إرادة قوية حرة على التخلص من جزء من تأثيره، أو كل هذا التأثير، دون أن يقال أن هناك تحطيما أو قضاء على هذا الناموس!! وقد استطاع الإنسان بإرادته الحرة أن يصنع ما يشبه العجائب والمعجزات دون أن يقال انه حطم ناموس الجاذبية أو قضى عليه، إذ أمكنه أن يبعث بالصواريخ الموجه لتدور حول القمر، كما استطاع أن يتحكم فيها أو يرجعها أو يحدد أو يحدد مناطق سقوطها. ولو أتيح “لديفيد هيوم” أن يبصر كل هذا عمليا لغّير ولا شك تفكيره بان المعجزة لا يمكن أن تحدث لأنها المضادة التي لا تستقيم مع ثبات النواميس أو نظامها، ولعل مثلا أخر مبسطا يوضح هذا الأمر إذ إننا لو امسكنا بمسمار وتركناه من بين أصابعنا لسقط ولا شك بتأثير الجاذبية إلى الأرض، لكننا لو أخذنا بعد ذلك مغنطيسا قويا وسلطناه على المسمار من اعلي لانجذب إليه صعودا إلى فوق، متخلصا من تأثير الجاذبية الأرضية.  فإذا أمكن للإرادة البشرية الحرة أن تعلو على الناموس في حدود متفاوتة من الضعف أو القوة تباعا لما يمكن أن  نملك من مقدرة ووسائل أو أساليب، فهل يمكن بعد ذلك أن إرادة الله لا تملك في قدرتها الكاملة أن تعلو أو تسود على أي ناموس معروف أو غير معروف… أن أي معجزة بالنسبة لله هي السيطرة البسيطة العادية على أي ناموس. والأمر كله يتعلق في الفرق بين حكمة وقدرة الإنسان، وحكمة وقدرة الله العلي، إذ ما يعتبره الإنسان خارقا إنما هو بالنسبة لمجال حكمته وقدرته على العكس من الحكمة الإلهية وقدرتها، إذ كل شيء بالنسبة لها يسير عادي بسيط، أو كما شبه احدهم الأمر بهذا المثل : ربطت الضفدعة في كنف حجر ضخم وهي تظن انه من الجبال الرواسي، وجاء رجل وحمل بين يديه الحجر وذهلت الضفدعة، إذ من يستطيع أن يحمل هذا الجبل الكبير!! لا شك أنها معجزة وكان الأمر بالنسبة للرجل شيئا يسيرا عاديا.. وهكذا نحن على الدوام فيما يبدو من أمامنا من معجزات وخوارق إلهية، إذ المسافة بين حكمتنا وقدرتنا وبين حكمة وقدرة الله العظيم، ابعد بما لا يقاس بالمسافة القائمة بين الضفدعة والرجل! والنتيجة الخالصة انه ليست سمت مناقضة أو تحطيم للنواميس في صنع المعجزات، بل علوا عليها أو تسخيرها بيد من معه أمرنا وأمرها.. أما الاعتراض على المعجزة الناشئ من أنها تفتقر إلى الشهادة الثابتة، أو كما يقول بأنه يشترط في معجزة إقامة ميت صنعها بمحضر جمهور من الأطباء أو العلماء، وإلا فلا يمكن التسليم بها، فهو اعتراض مقلوب، لان الأساس في المعجزة لا أعمال الفكر العلمي، ولعل لا يعنيه “رينان ”  ليست معجزة الإقامة في نفسها، بل الخوف من إلا تكون الوفاة قد حدثت، وأن يكون الأمر مجرد إغماء أو ما أشبه، وقد يصح هذا في الوفاة الحديثة، أما إذا حدثت الوفاة وظلت الجثة أربعة أيام في القبر فإننا نكون إزاء افتراض مستبعد!! فإذا أضيف إلى هذا فإننا لسنا في حاجة في كثير من المعجزات على هذه البرهنة العلمية، فالذي يولد أعمى من بطن أمه ويظل هكذا حتى الرجولة لا يحتاج إلى شهادة طبيب من أطباء العيون حتى يثبت ما إذا كان قد أبصر أم لا!! كما أن إطعام خمسة آلاف بخمسة أرغفة وسمكتين لا يحتاج إلى علماء أو مفكرين للشهادة بصحة الأمر من عدمه!! أن  الأمر كله كان متوقفا على أخلاق الشهود وعددهم وتنوع المعجزات وكثرتها، فإذا ما صدرت الشهادة في أوقات مختلفة من التاريخ، ومن أناس عاشوا طوال حياتهم صادقين أمناء، وكانوا من الكثرة بحيث لا يوجد مجال للانخداع أو التضليل، وكانت المعجزات نفسها بكيفية باتة حاسمة تعلو على كل ما يمكن أن يوصف بالتوهم أو الغش أو سيطرة الإيحاء، أو ما أشبه، كانت هذه كلها برهانا على ثبات المعجزات وصحتها، والقول بعد هذا بأنه لا يمكن تصديقها ما لم يرها الإنسان بنفسه أو يختبرها بشخصه، كالقول برفض كل حقيقة تاريخية لمجرد إننا لم نرها بعيوننا أو نلمسها بأيدينا أو نختبرها بحواسنا!! ولا مناص في الواقع من أن نقبل اليقين بهذه المعجزات، ونقبل أيضا الذين قاموا بها أو صنعوها، إذ ليس يعقل أن نقبل أشخاصهم وتعاليمهم، ونسلم بها دون أن نقبل ما قاموا به من معجزات، إذ في هذه الحالة لا يمكن إلا أن يكونوا مدعيين مضللين، ومثل هذا المعدي أو المضلل لابد أن يكون ضعيف الأخلاق أو  معدومها، وهيهات أن يقبل من مثل هذا تعليم أو حقيقة!! ومن ثم فجميع الاعتراضات التي أثيرت حول المعجزات أو مدلولها أو معقوليتها أو لزومها اعتراضات غير صحيحة وقاصرة، ولا سند لها من عقل أو منطق أو واقع أو كتاب!!

المعجزات وهل ما تزال باقية إلى ألان؟؟

وقد اختلف في هذا الأمر، فهناك  من يؤكد بان عصر المعجزات قد انتهى على اعتبار أن المعجزات كانت لها رسالة معينة أدتها، إذ رسالتها تثبيت دعائم الحق والدين والإقناع بصحة نسبة الرسالة إلى الله، أو كما قال نيقوديموس: “يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ».(يو3: 2) وقد سجل يوحنا هدف الآيات في القول: “30وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. 31وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إذا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.(يو20: 30،31). أو كما ذكر بولس أن الآيات التي صنعها كانت لبرهان رسوليته بين الأمم كما قال عن الألسنة: إذا الألسنة أية لا للمؤمنين، بل لغير المؤمنين” (1قو14: 22) فإذا ما انتهيت الرسالة الموضوعة لهذه المعجزات لم يعد ثمة حاجة إليها، إذ أن القصد الأساس عند الله لا أحداث المعجزة للمعجزة نفسها بل للغاية الخاصة المعينة لها. ومن ثم قال هؤلاء أن عصر المعجزات انتهى بنهاية العصر الرسولي أو العصر التالي له باستقرار الديانة المسيحية وقبول الناس لها والتمسك بعقيدتها .. غير انه وجد من لم يسلم بهذه النتيجة أو يقبلها، إذ لم يوجد في الكتاب نصا يعين أو يحدد زمنا للمعجزات بل على النقيض من ذلك قال السيد: «ﭐذْهَبُوا إلى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ». (مر16: 15- 18).

وفي الواقع إننا نستطيع الوصول إلى الرأي الأصح متى أمكن أن نعود إلى ما سبقت الإشارة إليه من الفرق بين المعجزة في المعنى الضيق أو المعنى الواسع، وحيث أن المعجزة في المعنى الضيق برهان صحة الرسالة أو الرسول، وقد صنعها الله على أيدي أتباعه وخدامه لهذا القصد  الخاص المحدد، فهي ادني إلى البرهان منها إلى البيان، ومن ثم كان وجودها على الدوام مرتبطا بهذا الإعلان أو البرهان عن صحة الدين.. ولهذا كانت الضربات العشر أكثر من مجرد انتقام أو تأديب من الله، إذ كان المقصود منها إعلان مجد الله إزاء آلهة المصريين، إذ كان المصريون يعتبرون أن النيل إلههم المفضل، فتحويل مائه إلى دم إعلان عن بطل عقيدتهم وفسادها، كما كان الأمر بالنسبة للضفادع والذباب أو الثيران أو الأبقار، إذ كانت ترمز عندهم لهذه الإلهة أو تلك، فكان رأس الضفدع يشير إلى اله، كما كان العجل أبيس يشير إلى اله أخر. فإذا ما جاءت الضربات على هذه جميعا فإنما يقصد منها الإعلان عن صدق الله الذي يتحدث عنه موسى إزاء هذه الإلهة الوثنية الباطلة.

ولعل هذا يتضح أكثر إذا ذكرنا بان عبادة البعل أيام إيليا كانت تقدس النار، ومن ثم تحدها النبي القديم عن طريق مقدساتها، لكي يثبت بطل البعل بالنسبة للإله الحي… ويزداد هذا الأمر وضوحا في العهد الجديد متى ذكرنا ألن الرسول الذي يصنع المعجزات في شفاء المرضى، كان هو مصابا بشوكة لم يستطع التخلص منها!!.. كما انه لم يشف تيموثاوس بل نصحه بعلاج معدته وأسقامه الكثيرة بالصورة التي يتمنع فيها عن شرب الكثير من الماء واستعمال القليل من الخمر كوسيلة طبية، مما يجزم بان المعجزة في معناها المادي الضيق كان المقصود منها إثبات صحة المسيحية والبرهنة عليها، فمتى ثبت هذا البرهان لم تعد هناك من حاجة لاستغلالها في غرض أخر… ومن ثم فعلى بولس المتألم  وتيموثاوس السقيم أن يحتملا مرضهما، لان هذا جزء من ترتيب الله الخاص لهما دون الاستنجاد بالمعجزة الخارقة للقضاء على العلة، والتي وجدت أصلا للشهادة المسيحية. وعلى هذا يكون عصر المعجزات بالنسبة للمعجزات الطبيعية المادية في المعنى الضيق كإقامة الموتى وفتح أعين العمي أو شرب السم دون ضرر أو ما أشبه غير باقية، إذ هي تتبع المؤمنين فقط متى وجدت ظروف حتمية حاسمة في نظر الله لشهادة الحق الإلهي في المجالات الوثنية، لان المسيح لم يقل إن الآيات تتبع المؤمنين إلا للجماعة التي أرسلها للعالم اجمع لتكرز بالإنجيل للخليقة كلها، ومن ثم كانت هذه الآيات المرتبطة بالكرازة وثبات مركز الإنجيل في العالم، ومتى تحقق هذا الثبات كان القول بضرورتها غير صحيح أو غير سديد!!.. على إن المعجزة في المعنى الواسع باقية ما بقي على الأرض إنسان أو مؤمن، إذ إنها للمعونة والمساعدة والإنقاذ والتشجيع والعناية، وستبقى ما بقي الإنسان في حاجة إلى واحدة من هذه أو إلى جميعها.

وبشيء قليل من التقصي نجد إن اختبار كل مؤمن يشير إليها، إذ إن حياة كل مؤمن تبدى بمعجزة التغيير والولادة الروحية، الم يقل السيد: “يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ.” ( يو3: 7). وهل يمكن أن يتم هذا دون معجزة عمل روح الله في النفس البشرية؟ كما إن عبادة المؤمن لا يمكن أن تخلو من عنصر المعجزة إذ قال المسيح: “لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت18: 20). فإذا أضيف إلى هذا كله إن في اختبار الكثيرين من المؤمنين هذا الاختبار الذي أحس به الملك القديم يهوشافاط عندما جاء إليه العمونيون والموآبيون بجيش ثقيل قاس محاصر فصاح إلى الله : “ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا” (2 أخ20: 12). إذ كثيرا ما تأتي عليهم أوقات من الشدة والضيق والتعب والألم والمرض بالكيفية التي يسقط معها كل سلاح ارضي وكل معونة بشرية فهل يمكن أن يقال ههنا بان معونة الله تعز أو إن معجزاته لا تجيء؟ أن القول بذلك معناه ضياع أجمل صفحات التاريخ والاختبار البشري. اجل! ومن الجائز أن نقول أن معجزة شق البحر الأحمر وعبور الإسرائيليين في اليابسة معجزة مادية في المعنى الأضيق لا يمكن أن تتكرر أو تعود، ولكن من ذا الذي لا يمكنه القول أن تحطيم الارمادا في البحر الانجليزي في الواقعة المشهورة في التاريخ لم يكن بعمل معجزة إلهية، في المعنى الواسع والشامل والصحيح لكلمة معجزة!!؟ ومن ذا الذي ينكر أن هزيمة نابليون في موسكو حيث قتل الشتاء الروسي قرابة نصف مليون جندي وهزيمته في وترلو لم تكون بعمل الله ألمعجزي العظيم!!؟ ومن ذا الذي يتردد في القول أن هناك معجزات لا تعد ولا تحصى كل يوم من معجزات الشفاء تمت بعد أن القي الطب كل سلاح في المعركة مع المريض!!؟

هذه وغيرها من الأنواع المتعددة المختلفة للمعجزات اليومية والمتكررة في حياة الأفراد والجماهير والشعوب، تعلن بما لا يدع مجالا للشك أن اله المعجزات ما زال يعمل إلى اليوم كما كان يعمل في العهد القديم أو الجديد على حد سواء، إذ هو هو أمس واليوم والى الأبد، الإله الذي يقول: “1 وَالآنَ هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ خَالِقُكَ يَا يَعْقُوبُ وَجَابِلُكَ يَا إِسْرَائِيلُ: «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي. 2إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ وَفِي الأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إذا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ.(أش43: 1، 2). “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في4: 13(.

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى