إيماني 05 | إيماني بلاهوت المسيح

هذا هو السؤال الذي طرحه المسيح على تلاميذه عند قرى قيصرية فيلبس منذ ما يقرب من ألفي عام. وما يزال هذا السؤال حتى اليوم من أهم وأعظم الأسئلة التي طرحت على بساط التاريخ، والتي تركت وما تزال تترك أدق واخطر الآثار في المجموع البشر يكله!
وغير خاف أن المسيح عندما القي هذا السؤال، لم يلقيه في هيكل أورشليم أو في كفر ناحوم أو الناصرة أو إحدى مدن أو قرى الأرض المقدسة، بل ألقاه في أقصى الشمال عند الخط الفاصل بين اليهودية والوثنية عند قرى قيصرية فيلبس وقد كانت هذه البقعة التي وصل إليها المسيح من أجمل بقاع الدنيا، وأكثرها إثارة وإغراء ،حتى أن البعض يقارن بمناظر تيفولي الايطالية الساحرة .غير أن المسيح لم بهذا المنظر الساحر، بقدر ما أثير بمنظرين أو ثلاثة هناك. فقد كان هناك معبد يوناني أقامه اليونانيون الأقدمون ممن جاءوا إلى الأرض المقدسة حول مغارة قائمة عند أقدام جبل حرمون، وقد ظل المعبد بأغصان الشجر،وكرست العبادة فيه للإله”بان “اله الرعاة عند الإغريق . وإلى جوار هذا المعبد بنى هيرودس الكبير معبدا رومانيا أخر من الرخام الأبيض باسم مولاه وحاميها أغسطس قيصر وجاء ابنه فيلبس ووسع المدينة الصغيرة المشادة هناك وجملها وأطلق عليها قيصرية فيلبس تيمنا باسم الإمبراطور طباريوس قيصر. وجاء المسيح إلى المكان ليقف على الخط الفاصل بين الوثنية – ممثلة في وجهيها التقليديين التاريخيين الكبيرين القديمين، الوجه اليوناني والوجه الروماني – وبين اليهودية وهنا ألقى سؤاله العظيم الخالد.
وما يزال هذا لسؤال العشرين قرنا من الزمان، وسيظل إلى الأبد، الفيصل الحاسم بين مختلف الديانات والعقليات والمدنيات والحضارات وعلى الإجابة عليه يتحدد موقف كل إنسان تحديدا قاطعا أبديا.
الآراء المختلفة حول شخص المسيح
ومن السمات المسيحية الواضحة واعتدادها بعظمتها ويقينها وثباتها إنها لا تفزع ولا تضطرب يوما ما، مما يمكنان يقال عن المسيح سيدها. كيف لا والمسيح نفسه قد شجع الحرية والفكرية على الدوام في أقصى مداها، ولم يعرف عنه يوما ما انه أرغم أنسانا على الإيمان به، أو أمر أنسانا أن يعتنق أو يفعل شيئا لم يرده هذا الإنسان أو يرغب فيه، وذات سؤاله لتلاميذه يفيد هذا المعنى بكل جلاء ووضوح . كما أن المسيحية لا تقبل أن يكون إيمان الناس بشخص المسيح مبنيا كما يقول كرينجي سمسون على أسنة الرماح بل منتزعا من اليقين الكامل المسيطر على الفكر والقلب معا. وكم ثم فليس ارغب إلينا أو أحب منان نتبع هنا أسلوب ديكارت الذي إذ أراد الوصول ذات يوم إلى الإيمان بوجود الله حتى طرح سلفا كل فكر ورأي، وشك في كل شيء، إذ بدا في الشك بوجود الله وشك في الكون بأسره وشك في حواسه وقدرته على التمييز، وظل متدرجا في الشك حتى بلغ النقطة الأولى، انه لا يشك انه يوجد إنسان يشك!! ومن سلم الشك عاد إلى الإيمان بالله!! وبذات المعنى نريد أن نقول إننا لا نرغب أن يؤمن الناس بلاهوت المسيح قسرا وعنفا، وان يعتنقوا سلفا، رأيا يصرون عليه ويتعصبون له، ويبغضون أن يسمعوا إي رأي أخر سواه، بل سنضع بين أيديهم شتى الآراء والأفكار التي قيلت عن المسيح، وسنناقشها جميعا غثها وسمينها، بكل هدوء وأناة وروية وصبر حتى نصل أخر الأمر إلى الرؤى الصحيح والفكر السديد..
اللاهوت الكامل
ولعل من أقدم الآراء ذلك الرأي الذي نادي به الغنوسيين ممن أنكروا فكرة التجسد بالمعنى الشائع الموجود عند جمهور المسيحيين، واقروا لاهوت المسيح دون ناسوته ومهم “الدوستيون” والكلمة من الأصل اليوناني يترائي أو يظهر . وقد قالوا أن المسيح ظهر فقط في هيئة إنسان دون أن تكون له حقيقة جسد الإنسان، وهو لم يولد بالحقيقة أو تألم أو مات، إذ كان جسده طيفا أو خيالا منظورا. وقد اعتنق هذا المذهب في القرن الخامس احد أساقفة الإسكندرية المدعو كيرل، ممن قال في معرض أحاديثه ذات مرة :”من اجل فائدة سامعيه تظاهر المسيح انه لا يعرف “… ومن الغنوسيين من قال أن المسيح كان ذا جسد ولكنه لم يكن جسدا ماديا، كباقي أجساد الناس ولكنه من جوهر خاص سماوي . ولعل الذي شجع مثل هذه الآراء عند هؤلاء وأولئك هذه الظهورات المتكررة في العهد القديم والأتي كان يظهر فيها الله على شبه صورة إنسان ،واعتقادهم إلى جانب ذلك أن الجسد شر في أصله مناف لجلاله وعظمته ومجده . ولكن الكنيسة من فجر تاريخها قاومت الغنوسيين وأفكارهم واعتبرتهم رسل زور وبهتان ،وفي ذلك يقول الرسول يوحنا: “1أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إلى الْعَالَمِ. 2بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، 3وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهَذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ. 4أَنْتُمْ مِنَ اللهِ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ. (1يو4 :1-4) وضعف هذه الآراء إنها أراء عاطفية تفتقر إلى الدليل ،والمنادون بها على الأغلب ظنوا أنهم يمجدون المسيح، بنفي خضوعهما يخضع له سائر الناس جميعا، مع أن لغة الكتاب ضدها على خط مستقيم، كما أن الذين راو المسيح وعاشوا معه، وعاصروه ولمسوا حياته كانسان ينفونها نفيا قاطعا جازما باتا أكيدا.
وقريب من هذه الآراء مذهب الابوليناريين، ممن ابتدعوا فكرا عن المسيح من غير سند، متأثرين بآراء أفلاطون في الإنسان وقوله انه مكون من الجسد والنفس والروح الناطقة، وأن المسيح يختلف عن البشر إذ حل فيه اللاهوت محل الروح البشرية الناطقة، ومرجع الضعف في هذا الرأي انه امن بالرأي الأفلاطوني كحجة من غير جدال وفي الوقت عينه قبله جزئيا مبتورا ناقصا، إذ رفض وجود الروح الناطقة في المسيح كانسان، ولم يبين كيف يتفق هذا مع قول المسيح على الصليب : “يا أبتاه في يدك استودع روحي” (لو23: 46) . ومناجل هذا رفضت الكنيسة جميع هذه الآراء وعدتها ضلالات في مجمعي القسطنطينية عام 381م وخلقدونية 451م واعتبرت مبدعيها هراطقة لا يمكن أن يعبروا عن الوحي والعقيدة المسيحية.
2- الإله من دون الله
وهذا يعود بنا إلى ما سبقت الإشارة إليه ونحن في صدد الحديث عن الوحدانية والثالوث إلى بدعة اريوس القائلة أن المسيح القائلة أن المسيح اله،ولكنه من دون الله، إذ هو والروح القدس مخلوقان في البدء قبل إي خليقة أخرى وطبيعتهما تشبهان طبيعة الله، وان المسح بهذا المعنى ليس إلها بذاته، ولكنه صار بمنزلة إلها نظرا إلى ارتقاء طبيعته . وان الله أوكل إليه خلق العالم وهو كخالق وملك يستحق العبادة اللاهية. أما المذهب الشبيه بالاريوسي، فهو وان كان يرد المسيح والروح القدس إلى بدء اسبق مما يعتقد اريوس،إلا إنهما لا يشبهان الله بل جوهرهما اقل من جوهر الله وطبيعتهما ادني من طبيعته.
وكلا الرأيين في الواقع ظاهر البطلان من غير ما حاجة إلى الدخول في الجدل،حول بعض الآيات التي التبس أمرها على اريوس وإتباعه . بل كلا من الرأيين نوع من الوثنية أشبه بوثنية اليونانيين التي كانت تؤمن بتعدد الإلهة وتجعل من زيوس أباها وكبيرها، وبقية الآلهة أبناءه وإتباعه!!. والضعف القاتل للرأيين إنهما –في لغة رجال القانون- مشبوبان بالقصور والتناقض بهدم أولهما فيه أخره وتقضى النتيجة فيهما على القاعدة والأساس ،لان فضلا عن وحدانية الله عند المسيحيين القاعدة التي لا تحتمل ادني شك، أو مجادلة، فان اتجاه الرأيين يقود إلى نوع من التعدد المناقض للوحدانية، كما أن الاستطراد في المنطق يوقع الرأيين في حرج لا يمكن التخلص منه :”للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد “(مت4 :10) .
3- الناسوت الكامل
وقد وجدت هذه الآراء جميعا عند البعض الرأي المضاد، وهو الإيمان بناسوت المسيح دون لاهوته، إذ قالوا أن المسيح هو”الإنسان الكامل” الإنسان الذي في عرف البض :”قد يكرم كأعظم قائد وأروع بطل وامجد شهيد ولكنهم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يربطوا أنفسهم به أو يتأصلوا فيه أو يخضعوا حياتهم له بدون قيد أو شرط .وبالتالي لا يمكن أن يجعلوه مركز عقيدتهم وأساسها “… ولكن لمثل هؤلاء جميعا لا نجد جوابا أفضل من جواب دكتور أ. . . كونراد عندما قال :”أنهم مخطئون تماما فيما انتهواإليه من قرار ،إذ لا يمكن أن نجعل المسيح حتى قائدا أو بطلا بعد أن رفضوا واحتقروا ما اقره لنفسه، إذ لا يعدو المسيح في هذه الحال إلا أن يكون واحدا من اثنين، أما المخادع الأكبر أو المخدوع الذي يحتاج إلى الرثاء. ومن السخف أن نعطيه بعد ذلك ادني مركز من الكرامة أو الامتياز، إذ هو أكثر من مجرد إنسان بشري. فإذ لم يكن المسيح مستحقا للعبادة، فهو لا يستحق ادني حظ من الاحترام . كيف وقد طلب لنفسه العبادة والإجلال، وهو ما لا يمكن أن يبرره ما لم يكن هو ذات الله؟”.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى الرأي النسطوري، الذي حاول به نسطور وإتباعه التوفيق بين هذه الآراء المتعارضة وانتهى به التفكير إلى أن المسيح بين، فلا هو بالإنسان الكامل ولا بالإله الكامل، إذ فصل نسطور بين الإنسان في المسيح وبين اللاهوت، إذ لكل منهما شخصية مستقلة متميزة عن الأخرى، والمسيح هو ذلك الإنسان الذي يختلف عن جميع البشر، الذي حل فيه لاهوت الله حلولا كاملا، فبينما يحل الله في غيره من البشر حلولا جزئيا حل فيه وحده حلولا كاملا. ولعل الذي دفع نسطور إلى ذلك، أو في تعبير أدق ورطه،هو انه لم يكن يبحث أصلا في العلاقة بين الناسون واللاهوت، بل جاء بحثه وليد النزاع الذي شب بينه وبين غيره حول “مركز العذراء من المسيح ” وهل يجوز تسميتها والدة الإله أم لا، وكان راية أن المسيح بالمعنى المشار إليه شخصيتين متميزتين كل منهما تستقل عن الأخرى، وانه إذا صح أن ندعو العذراء أما للمسيح كانسان، فليس من الحق أن ندعوها أم لله، إذ أن الله منزه عن أن يولد أو يموت وأوغل نسطور في هذا الأمر فخرج من الدفاع الأساسي كله، وتورط في معتقده عن المسيح ، فخرج رأيا مسخا مشوها قبيحا، لفظته الكنيسة مع غيره من الضلالات !. وعيب عليه ما اغفل من أزلية المسيح السابقة على التجسد . كما نظريته في الحلول الذي حل به الله في المسيح جاءت شواء دميمة متسمة بالكثير من الغموض والإبهام والقصور والتناقض.
4-اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح
أما الرأي الذي عاش في الكنيسة وكتب له الغلبة والانتصار والسيادة والعمومية، ونادت وما تزال تنادي به القوانين الكنسية جمعاء في الشرق والغرب معا، في كل الأجيال والعصور فهو ما سبقت الإشارة إليه أنفا في القانون الاثناسي والقاضي بالاتحاد الكامل بين اللاهوت الكامل والناسوت الكامل في شخص المسيح .وهو أن المسيح ذو طبيعتي تامتين كاملتين، إذ هو اله تام وإنسان تام اتحد في شخصه الواحد بالتجسد وإذ ترجئ الكلام عن ناسوت المسيح ومدلوله ومعناه إلى الفصل التالي يبقى أن نسال ههنا : ما هي الدوافع والأسباب التي حدت بالناس والمجامع الكنسية إلى الإيمان بلاهوت المسيح ؟ وكيف أتيح لهذه الدوافع أن ترقى وتتأصل في الذهن حتى تبلغ مبلغ العقيدة التي يحيا الناس من اجلها ويعيشون بل ويكافحون ويستشهدون من غير تردد أو إحجام . أو في لغة أخرى يعود السؤال السالف ذكره أو المطروح على الأجيال:من هو المسيح ؟يعود لينهض مرة أخرى في تحديد خاص: لماذا يؤمن الناس بلاهوته، وما هي الأدلة الدامغة القاطعة التي عليها يستندون، وفيهم من أعظم جبابرة الفكر البشري بل وخلاصة عباقرة الناس في كل جيل ودهر وعصر !!؟ بل ويمتد الأمر إلى أكثر من ذلك أو بالأحرى يشتق من السؤال سؤال أخر، إلا وهو : كيف يمكن أن نفسر هذا الاتحاد بين الله والإنسان في ذات شخص واحد !؟ ثم يبقى بعد ذلك ثمة سؤال أخير : هل يقبل عقلا أن يتخذ الله جسدا بشريا دون يبدو في هذا مجافاة للمنطق، أو لجلال الله وعظمته ومجده!؟
هذه هي الأسئلة التي لابد من الإجابة عليها قبل أن نؤمن أو نقنع الناس بالإيمان بلاهوت المسيح وتجسده.
ما هي الأدلة القاطعة على لاهوت المسيح؟
ولعله من اللازم والحيوي قبل أن نسال: ما هي هذه الأدلة القاطعة على لاهوت المسيح، أن نحدد تحديدا دقيقا كاملا مدلول ومعنى الدليل القاطع!!.. الدليل القاطع في لغة القانون هو الدليل الذي لا يقبل العكس. فما هي سمات أدلة لاهوت المسيح ولم لا تقبل العكس؟
أن سماتها ترجع إلى النص والعرف والقرينة مجتمعة معا، فالنصوص المتوافرة فيها تغني عل الاجتهاد، كما أن العرف – وهو العادة التي تجري في حياة الناس، وتتأصل فيهم وتجتاز امتحان الزمن – يساند النص لإلفي عام في الإيمان بلاهوت المسيح ،كما أن القرائن الثابتة الأكيدة ي هذا الصدد أوفى من أن تعد وتحصى : فما هي الأدلة القاطعة إذا، بعد أن فهمنا مدلول القطيعة ومعناها!؟
أولا – الدليل المستمد من النبوات في العهد القديم
وهل من ريب أو شك في هذه الدليل والنصوص المتواترة فيه بلا عد أو حصر، وقد امتدت من أول التاريخ البشري حتى أخر سفر في العهد القديم أو قرابة أربعة ألاف عام.هذه النصوص لا يمكن أن يتهم المسيحيون باصطناعها أو تأويلها، ما دامت هي أيضا في يد اليهود إلى اليوم ، وقد تب أخرها قبل مجيء المسيح إلى الأرض بأربعمائة عام على الأقل!. ممل ما تذكر أو تصح أن خصا إلهيا سيأتي من السماء، لابسا الطبيعة البشرية ليكون مخلص الناس والعالم، وان ذلك الشخص يكون من نسل امرأة، ويجيء من نسل إبراهيم، وعلى وجه التحديد من سبط يودا وبيت داود، مولودا من عذراء بلا عيب أو دنس، وهو في الوقت ذاته الإله القدير السرمدي الأبدي . وكيف يكن أن يتم هذا دون التجسد واتحاد الناسون باللاهوت !؟ . وإذا كان من المتعذر جمع كافة النصوص في هذا المجال، ـفلا اقل من الإشارة التي أظهرها وأوضحها، على سبيل المثال لا الحصر ! . وأية عبارة أوضح أو أصرح من قول اشعياء النبي :”6لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ. (اش9 :6) ودعي ذات الشخص في موضع أخر من سفر اشعياء، عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا إذ قيل: ” ها العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعو اسمه عمانوئيل”(اش7: 14) . وما قول اليهود فيما ورد في سفر المزامير – وهم أول دعاة التوحيد وحماة التاريخ: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موضع قدميك” (مز110: 1) وكيف يمكن أن نجد لهذا التعبير حلا، من غير الإيمان بالمخاطبة الأزلية بين الأب والابن. واليقين بان الله الناطق هو ما تسلما به كافة الأديان – كان يكلم ذاته الإلهية !؟ بل ما قول فيما جاء في سفر الأمثال من كلام اور بن متقية مسا: “2إِنِّي أَبْلَدُ مِن كُلِّ إِنْسَانٍ وَلَيْسَ لِي فَهْمُ إِنْسَانٍ 3وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْحِكْمَةَ وَلَمْ أَعْرِفْ مَعْرِفَةَ الْقُدُّوسِ. 4مَن صَعِدَ إلى السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ الرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ الْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ الأَرْضِ؟ مَا اسْمُهُ وَمَا اسْمُ ابْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟ (أم 30: 2-4) أو ما جاء على لسان النبي ميخا : “2«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ». (مي5: 2) .وهذه غيرها من النبوات المتعددة لم تتحدث فحسب عن مجئ المسيح الموعود به للعالم، بل قطعت في الحديث بتجسده ولاهوته أيضا.
ثانيا –الدليل المستمد من أقوال المسيح ذاته
فإذا ما تركنا العهد القديم، واتيا إلى إقرارات المسيح وأقواله ذاتها لانتهينا إلى واحد من أمرين لا ثالث لهما على الإطلاق، أما أن يكون المسيح اكبر مدع ومضلل ومخادع على هذه الأرض، أو هو الحق الكاملة الذي لا شائبة فيه أو مراء!. فإذا كان من المتفق عليه حتى عند أولئك الذين لم يتعبدوا له أو يقبلوه، أن حياته لم يمكن أن تداني أو تباري وانه: “لم يتكلم قط إنسان كذا مثل هذا الإنسان” (يو7: 46) . وانه المقياس الذهبي للأخلاق في كل جيل وعصر، وانه بدون جدال أو شك كما قال سرجون : “الحقيقة المركزية العظمى في تاريخ العالم، إذ يبدو وإزاء كل شيء إلى الأمام أو الخلف . وكل خطوط التاريخ تلاقى عنده وكل مواكب العناية تسير وفق إرادته، وكل أغراض الله العظيمة تتم في شخص بل ا حقيقة ميلاده أعظم واخطر حقيقة عرفها التاريخ كله” فإذا أضيف إلى هذا كله عظمة معجزاته وروعة إعماله الشاهدة على صدق كل حرف أو كلمة فاه بها أو نطق،تعين التسليم بالدليل القطعي والحجة الثابتة المستمدة من أقواله. قد نسب المسيح إلى نفسه عشرين حقيقة على الأقل، لا يكن أن تنسب سوى لله ذاته وهاكم هي على التوالي واحدة فواحدة .
1- الأزلية
ولعل هذا هو ما أخر ما صرح به المسيح وفاه إذ قال لليهود : “قبل إن يكون إبراهيم إنا كائن” (يو8: 58 ) ولا يغرب عن البال إن التعبير “إنا كائن” هو ذات التعبير الذي أطلقه الله على ذاته، عندما سأله موسى قائلا: “ها إنا أتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم : “اله إباءكم أرسلني إليكم فإذا قالوا لي ما اسمه فمإذا أقول لهم؟ ” فقال الله لموسى : “اهيه الذي اهيه ” (خر3: 12و 14) . أو كائن الذي كائن” مما يفيد إن المسيح يرى في شخصه ذات الإله القديم، الذي ظهر لموسى في العليقة في جبل حوريب . كما إن المسيح قال في مناسبة أخرى: وهو يخاطب الأب السماوي:”وألان مجدني أيها الأب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم. لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو17: 5و24). . مما يقطع انه كان يتحدث عن ذاته الأزلية القائمة في شخص الله قبل كون العالم، أو إنشائه.
2- المجيء من السماء
وقد تحدث المسيح بهذا عندما قارن بين نفسه واليهود في القول: “انتم من أسفل، أما إنا فمن فوق. انتم من هذا العالم، أما إنا فلست من هذا العالم” (يو8: 23) وقد أوضح هذا مرة أخرى في قوله لنيقوديموس: “وليس احد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو3 :12) . وهو هنا لا يتحدث عن مجيئه من السماء فحسب، بل عن وجوده في السماء وهو على الأرض. ومن يجرؤ إن يقول هذا القول إلا الله وحده المالئ السموات والأرض.
3- العصمة
والعصمة لله وحده كما يقولون ولكن المسيح نسب لنفسه هذه العصمة في القول: “من منكم يبكتني على خطية” (يو8: 46) . وهل نطق نبي أو رسول أو قديس بمثل هذا القول أو شيء قريب منه؟. كلا وألف كلا، بل جميعا يصرخون مع أيوب في حضرة الله :”اخطأ ماذا افعل لك يا رقيب الناس . ولماذا لا تغفر ذنبي ولا تزيل إثمي؟ لأني الآن اضطجع في التراب تطلبني فلا أكون” ( 7:20 و21 ). ويفزعون مع داود :”4إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ. 5هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. (مز51: 4و 5) . ويهتفون مع اشعياء : “5فَقُلْتُ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ».(اش5: 5). ويقولون مع بولس: “20فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. 24وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟ (رو7: 20و 24). ويرددون مع يوحنا في لغة البشر أجمعين :”أن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” (1يو1:8) . فمن يكون المسيح إذا، فقد انفرد عن جميع البشر بعصمته وخلوه ن الخطية؟
4- العمل المستحيل على غيره من الناس
والعمل الذي أنجزه المسيح على الأرض، فريد في ذاته ومتعذر على النبي والرسول، إذ ليس في قدرة مخلوق إن يحمل خطية العالم وآثام الورى، وقد صرح هو ذلك في قوله الشهير : “16لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 17لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إلى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. 18اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. 19وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إلى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً.(يو3: 16-19).وواضح إن الفرق بين هذا العمل وعمل أي نبي أو رسول هو إن الخلاص متحقق في ذات عمل المسيح كابن الله الوحيد المتجسد، بينما مهمة أي نبي أو رسول هو توصيل رسالة الله أو إعلانها للبشر، وشتان بين “محقق” الرسالة و “المخبر” بها. وفي الواقع أن هذا الفاصل الحسم بين المسيح وأي نبي أو رسول.
5- الألقاب الإلهية
لقد لقب المسيح نفسه بالكثير من الألقاب التي لا يمكن إن تعطى سوى لله ذاته، وإلا فمن من الأنبياء والرسول أطلق على نفسه ما أطلق هو على ذاته عندما قال: “إنا هو الخبز الحياة إنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء ” (يو6: 48، 51) “إنا هو نور العالم . من يتبعني لا يمشي في الظلمة، بل يكون له الحياة الأبدية (يو8: 12) “إنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا” (يو11: 25) “إنا هو الطريق والحق والحياة ” (يو14: 6) “إنا هو الإلف والياء البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء . إنا هو الأول والأخر والحي، وكنت ميتا وها إنا حي إلى ابد الآبدين، لي مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ1 :17و 18). ومن ذا الذي يجرؤ أن يعطي لنفسه معاني، ومدلولات السرمدية والنور والحق والحياة والقدرة والقيامة والمجد والسيادة وما أشبه، سوى الله ذاته جل جلاله وعظمت قدرته.
6- العلم بالخفيات السرائر
وقد نسب المسيح إلى نفسه العلم بالخفيات والسرائر!. إلي هو القائل لنثنائيل :”هوذا إسرائيلي حقا لا غش فيه” (يو1 :47) وإذ يسأله الرجل من أين تعرفني ؟ يأتي جواب المسيح على الفور” قد إن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رايتك” (يو1: 48) ومن ذا الذي يعرف السرائر فيحكم بالقول: “لا غش فيه” ويرى الغيب إذ يقول: “وأنت تحت التينة رايتك” . إلا ذات الله الذي يخترق عينيه أستار الظلام؟. بل من ذا الذي يطوي علمه الحاضر والمستقبل معا، فيقول بطرس قبل سقوطه: “حيث اذهب لا تقدر ألان أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرا”. وقال له بطرس يا سيد لماذا لا اقدر إن اتبعك ألان إني أضع نفسي عنك “. أجابه يسوع “أتضع نفسك عني؟ الحق الحق أقول لك لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات ” .بل من ذا الذي يمتد علمه إلى جميع المعنويات الغائرة في قلب الإنسان كما جاء في الأقوال المدونة في سفر الرؤيا لملائكة الكنائس السبع ومنها: ” 2أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كاذبين. 3وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ. 9أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ وَضَِيْقَتَكَ، وَفَقْرَكَ (مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ) وَتَجْدِيفَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ. 13أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ، وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي حَتَّى فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ. 18وَاكْتُبْ إلى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي ثِيَاتِيرَا: «هَذَا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ. 19أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ الأُولَى. (رؤ2: 2و3و9و13و18و19) .ومن يكون هذا إلا ذاك الذي وصفه موسى بالقول :”السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا لبنينا إلى الأبد” (تث29: 29) . والذي صلى له دانيال بالقول:” 20فَقَالَ دَانِيآلُ: [لِيَكُنِ اسْمُ اللَّهِ مُبَارَكاً مِنَ الأَزَلِ وَإلى الأَبَدِ . هو يكشف العمائق والإسرار، يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور” (دا2: 20و 22) .والذي اعترف به نبوخذ نصر بالقول أمام دانيال : “حقا أن إلهكم اله الإله ورب الأرباب وكاشف الإسرار” (دا2: 47) .
7- القوة والقدرة على كل شيء
وواضح إن المسيح نسب إلى نفسه القوة والقدرة على طل شيء وإلا لما أمكنه إن يقول لتلاميذه : “لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا “(يو15 :5) . وقد تكشفت هذه القوة والقدرة للتلاميذ في كل شيء . ففي الطبيعة قال للبحر الهائج والريح المزبدة :”39فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. أبكم». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خائفون هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» 41فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أيضا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!».(مر4:39-41). وفي مواجهة التعاسات والآلام والإمراض سأقول لبرثليماوس الأعمى: ” ماذا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى: «يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ». 52فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذهب. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ. (مر10: 49-52). وللمفلوج المطروح في فراشه منذ ثمانية وثلاثين عاما “قم احمل سريرك وامش فحالا برئ ومشى” (يو5: 8و9) . وفي مواجهة الاحتياجات المادية يسال تلاميذه أن يطعموا الجماهير الجائعة، وإذ فيلبس يقول: ” لا يكفيهم خبز بمائتي دينار حتى يأخذ كل واد منهم شيئا يسيرا ” وإذا بالمسيح يطعمهم جميعا، وكان عدد أكثر من خمسة ألاف رجل فيما عدا النساء والأطفال، بخمسة الأرغفة شعير وسمكتين . وفي مواجهة الموت يقول لابنة يايرس: “طليثا قومي الذي تفسيره يا صبية أقول لكي قومي . وللوقت قامت الصبية ومشيت لأنها كانت ابنة اثنتي عشرة سنة، فبهتوا بهتانا عظيما” (مر5: 41و42).وعندما يمس نعش ابن أرملة نايين يقول للميت: “أيها الشاب لك أقول قم، فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه” (لو7: 14و 15) . وأمام قبر العاز يهتف :” 43وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً» 44فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ». (يو11 :43و44) . هذه بعض مظاهر القوة والقدرة البادية في أقوال المسيح وأعماله!. فمن يون إذا هذا الشخص العجيب.
8- غفران الخطايا
وقد نسب المسيح إلى نفسه شيئا ليس في نطاق الإنسان أو من حقه وقدرته القيام به، ونعني به غفران الخطايا والآثام. وقد كان اليهود يوقنون على الدوام إن لا احد يملك غفران الخطايا إلا الله وحده، ومع ذلك فقد وقفوا أمم عجيبة من عجائب المسيح منذهلينعندما قال للمفلوج: “5فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 6وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: 7«لماذا يَتَكَلَّمُ هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟» 8فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: «لماذا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ 9أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ 10وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» – قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: 11«لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ واذهب إلى بَيْتِكَ». 12فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللَّهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!».(مر2: 5-12) .
وفي بيت سمعان الفريسي قال للمرأة الخاطئة :” مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». 49فَابْتَدَأَ الْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: «مَنْ هَذَا الَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أيضا؟». 50فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اذهبي بِسَلاَمٍ». (لو7: 48-50).
9- إعطاء الحياة الأبدية
والمسيح لا يمنح غفران عن الخطايا فحسب، بل وأكثر من ذلك ينسب إلى نفسه إعطاء الحياة الأبدية السرمدية الدائمة المحررة من كل إثم وفساد وخطية ومن ثم جاء قوله: “27خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. 28وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إلى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي.(يو10: 27-28) . وإذا كانت هذه الحياة هي حلم البشرية الأعظم، وقد تطلع إليه أفلاطون في “جمهوريته ” الخيالية، وحن إليها توماس مور في”اليوتيبا” أو عالم الكمال. وغرد لها فرانسيس بيكون فيما اسماه “المدينة الفاضلة” . فمن يكون إذا هذا القادر الذي في قدرته أن يعطي لأتباعه وأشياعه هذه الحياة الأبدية فيسكنهم في جنة الخالدين!؟ . ومن هذا إلا ذاك الذي غنى له دانتي في الكوميديا الإلهية، وترنم أمامه ملتون في الفردوس المفقود والمردود، شخص المسيح الإله العجيب!؟.
10- المساواة بالآب
وفي ذلك يقول المسيح: “أنا والآب واحد” (يو10 :30) وليس هناك تعبير اقطع أو احسم من هذا التعبير عن لاهوت المسيح . بل لعله التعبير الذي يطوي أو يغني عن أي تعبير أخر. بل و التعبير الذي في ضوئه يتيس تفسير سائر العبارات أو الأفكار أو التعاليم الأخرى المختصة بشان المسيح وطبيعته ولاهوته!. ومع ذلك فقد فسره المسيح بما لا يدع مجالا للشك من أمرين على حد سواء، وهما: ” الوحدانية” و “المساواة القائمة الأزلية بين الآب والابن في الإله الواحد” إذ قال في مناسبة أخرى عندما سال فيلبس : “أرنا الآب وكفانا، قال له يسوع أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس ؟ الذي راني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟ الست تؤمن إني أنا في الآب والآب فيّ . صدقوني إني في الآب والآب فيّ، وإلا فصدقوني لسبب الإعمال نفسها(يو4: 8-11).
11- الحضور الدائم في كل زمان
وهذا واضح بكل بجلاء في قول المسيح قبل صعوده إلى السماء لتلاميذه: “19فَإذهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ ألآب وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. 20وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إلى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». (مت28: 19و20) .أو في لغة أخرى إن المسيح الذي كان مع تلاميذه في القرن الأول هو أمسا واليوم وإلى الأبد، والذي يتمشى في موكب العصور، والذي صاح له جورج ماثيسون بالقول: “يا ابن الإنسان عندما اشك في الحياة دعني أفكر فيك إذ لا يمكن أن تضحى قديما بالنسبة لي. إن القرن الماضي قد أضحى قديما، والعام الفائت أصبح منتهيا، إما أنت فلا يمكنان تنتهي، بل تتمشى على الدوام في موكب العصور ولم آت إليك إلا لأجدك جديدا كما أنا”.
12- الحضور الأكيد في كل مكان
وإلى جانب الحضور في كل زمان يؤكد المسيح حضوره في كل مكان حيثما دعي، أو طلب من احد تلاميذه أو إتباعه في القول: لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت18 :20) . ومن ذا الذي يجرؤ على هذا القول غير ذات الله جل وعلا!؟.
13- الحضور في كل قلب
وابلغ من هذا الحضور داخل القلب والنفس البشرية، حيث يبقى ويستقر هناك في المؤمن وقد جاء هذا في قوله : “إن أحبني احد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلا “(يو14: 23). “هاأنذا واقف على الباب واقرع إن سمع احد صوتي وفتح الباب ادخل إليه وأتعشى معه وهو معي” (رؤ3: 20) .
14- الحامي والحارس للمؤمنين
وقد أضفى المسيح على نفسه مركز الحامي والحارس لجميع المؤمنين على اختلاف العصور والأجيال، إذ هو راعي الخراف الذي تنطلق في أثره وتتبعه :”ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها احد من يدي “_يو10: 28) . ومن ذا الذي يمكن أن يعلق على به هذا الوصف إلا ذاك الذي غنى له داود قديما بالقول: ” اذهب مِنْ رُوحِكَ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ 8إِنْ صَعِدْتُ إلى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. 9إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ 10فَهُنَاكَ أيضا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. (مز139: 7-10) .
15- سد جميع الإعواز والاحتياجات
ومن أعجب ما صرح به المسيح قدرته الكاملة على سد جميع الإعواز والاحتياجات من غير تحديد أو شرط إذ قال: “تعالوا اليّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وانأ أريحكم ” (مت11: 28) وقال :”13أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أيضا. 14وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إلى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إلى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».(يو4 :13-14) .كما قال أيضا: “«سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.(يو14: 27) . ومن ذا الذي له القدرة على سد جميع إعواز الناس واحتياجاتهم كيفما تكن هذه الإعواز والاحتياجات إلا القادر على كل شيء!؟.
16- جمع جميع المؤمنين في شخصه
والمسيح يعلن بوضوح لا ريب فيه أو شبهة،انه يجمع في شخصه جميع المؤمنين ليربطهم معا بكيفية موحدة سرية، شبهها هو بارتباط الأغصان بالكرمة في القول: “أنا الكرمة وانتم الأغصان، الذي يثبت فيّ وانأ فيه هذا يأتي بثمر كثير” (يو15 : 5) كما ذكرها في الصلاة الشفاعية أمام الآب السماوي بالقول: ” 21لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أيضا وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. 22وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. (يو17 :21-22) .
17- السلطان الآمر على جميع المؤمنين
وفي هذا يختلف المسيح تماما عن كل نبي أو رسول، إذ إن الأنبياء أو الرسل كانوا لا يملكون على الإطلاق إلا أن يطلبوا من الناس الامتثال لأوامر الله وإطاعة وصاياه أو نواهيه.
أما المسيح فقد كان يطلب من الناس مباشرة إتباعه بدون تردد أو إحجام،وفي ذلك يقول: “هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس “(مت4 :19) . “ومن أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني” (مت10: 37) “أن أراد احد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني “(مت16 :24) . “أن أرادت أن تكون كاملا فاذهب وبع أمولك وأعط الفقراء فيون لك كنز في السماء وتعال واتبعني “(مت19 :21) . وَقَالَ لِآخَرَ: «?تْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاًوَأَدْفِنَ أَبِي». 60- فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ» (لوقا 9: 59-60). مثل هذه الأوامر الحاسمة، كان من المستحيل على المسيح أن يتلفظ بها لو انه يرى في نقسه مجرد نبي أو رسول!.
18- قبول السجود والتعبد
وليس من شبهة أو شك في أن المسيح قبل السجود والتعبد، مما لا يجوز لمخلوق على الإطلاق أن يقبلها أو يرضى بهما. هذا واضح من قصة ذلك الرجل المولود من بطن أمه اعمي،وشفاه المسيح، إذ شهد له أمام مجمع اليهود فحكم عليه بالطرد، وإذ سمع يسوع أنهم طردوه وجده يسوع وقال له :” 35فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟» 36أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لِأُومِنَ بِهِ؟» 37فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». 38فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ. (يو9 :35-38) . وعندما طلب منه اليهود أن يزجر تلاميذه والجموع الهاتفة له عند دخول أورشليم في الموكب ألانتصاري رفض وقال: “أقول لكم أن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ” (لو19: 40).كما لم يزجر توما عندما قال له بعد القيامة “ربي والهي “(يو20: 8) . بل على العكس قال له :”لأنك رأيتني يا توما أمنت، طوبى للذين امنوا ولم يروا “(يو20 :29) .
19- الديان العادل
وقد اخذ المسيح لنفسه الديان العادل. كيف لا وهو الذي يصرخ بان القيامة ستتم بأمره عند مجيء الساعة المعينة لذلك إذ يقول “لا تتعجبوامن هذا فانه تاتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة الذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة “(يو5: 29) كما إن محاكمة جميع البشر تتم أمامه يوم الدين إذ يقول: “1«وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. 32وَيَجْتَمِعُ أمامه جَمِيعُ الشُّعُوبِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ 33فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. (مت25: 31- 33). وهل في مقدرو مخلوق أن ينهض بكلمة واحدة جميع الموتى، في لحظة وطرفة عين، ليدعوهم إلى الحساب الأبدي والدينونة الأخيرة .ومن ذا الذي يملك هذا الأمر إلا الله الديان العادل والحاكم الأبدي!؟
20 – الملك الأبدي
ولم يتردد المسيح قط في أن ينسب لنفسه مركز الملك الأبدي وحتى في أقسى اللحظات وظلال الصليب تترامى عليه قال لتلاميذه: “إني لا اشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حين اشربه جديدا في ملكوت أبي “(مت26: 29) وفي المحاكمة أمام بيلاطس يسأله ذاك: أفانت إذا ملك؟ وعندئذ يجيبه المسيح بالقول :”أنت تقول لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق كل من هو من الحق يسمع صوتي” (يو18: 37) . عندما كتب ابسن روايته العظيمة “الإمبراطور والجليلي” تخيل فيها الإمبراطور جوليان ينظر من كوكب أخر إلى الجليلي ويقول “ولكن بدا أمامي في الأرض موكب حيث كنت أقف هناك. كان في مقدمته جنود وقضاة وجلادون . وكان في الخلف نساء باكيات يتبعن، وفي وسط الموكب المتحرك ببطء كان هناك الجليلي حيا،يحمل فوق كتفه الصليب، فناديته: إلى أين أيها الجليلي، فالتفت اليّ مبتسما وقال: إلى مكان يدعى الجل جثة” ومن عجيب أن يظفر المسيح بملكه الأبدي من هناك!.
ومن الواضح إن بعد كل هذا إن لا مفر من الإيمان بلاهوت المسيح مادام يتبين من ذات أقواله انه الأزلي، الأتي من السماء، المعصوم من الخطية، صاحب الألقاب الإلهية، القادر على كل شيء، غافر الخطايا والآثام، مانح الحياة الأبدية، المساوي للآب السماوي، الحاضر في كل زمان، الموجود في كل مكان، المستقر في كل قلب، حارس المؤمنين وحاميهم، المتكفل بسد الاحتياجات والإعواز، الجامع الشامل للمؤمنين، صاحب السلطان الآمر، الذي يليق له السجود والتعبد، الديان العادل، والملك القوي.
ثالثا: الدليل المستمد من شهادة التلاميذ
وغير خاف إن هذه الشهادة كانت من اقوي وأروع الأدلة على لاهوت المسيح، وحجيتها لا يمكن أن تجادل أو تنازع إذ هي:
أولًا: وقبل كل شيء حجية الشهادة المعاصرة، الشهادة التي جاءت من أناس عاشوا مع المسيح وتتلمذوا على يديه. ومن الثابت إنهم كانوا يدركون إلى ابعد حد معنى شهادتهم وقوتها وخطورتها على الكيان البشري كله، ومن ثم نجدهم يسجلون هذه الشهادة بكل ما هو معروف من صدق وتدقيق وتمحيص وتعمق.وهذا لوقا يطالعنا في استهلال إنجيله بالقول “1إذ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ 3رَأَيْتُ أَنَا أيضا إذ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ “(لو1 :1-4) . وهذا بطرس الرسول يقول في أوائل رسالته الثانية “16لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إذ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ.” (1بط11: 16). هذا يوحنا يقول في مطلع رسالته الأولى ” َلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. (1يو1: 1)
وثانيًا: كانت حجيتها حجية الشهادة اليقينية، إذ أن التلاميذ أنفسهم كانوا أول المؤمنين بلاهوت المسيح. وقد سجلوا تباعا لذلك جميع أقوال المسيح وأعماله مما تفصح عن لاهوته العظيم، ونحن لم نعرف هذه الأقوال أو الأعمال، بل كان من المتعذر أن تصل ألينا، لولا إنهم دونوها وسجلوها بالهام الروح القدس في الوحي العظيم.
ومن اللازم أن نبين في الوقت نفسه إن هؤلاء التلاميذ لم يؤمنوا فجأة أو دفعة واحدة بلاهوت المسيح . فهما كيهود كانت فكرة التجسد من ابعد الأمور تماما عن أذهانهم وخيالاتهم. إذ ليس في العالم كله كما يقول هنري فان ديك، كاليهودي، مما يعتقد إن الله اله سام متعال مرتفع، لا يجوز أن يدنو منه الإنسان، كما إن الإيمان بلاهوت المسيح لو أدركوه من أول الأمر لكانوا كمن يفتحون عيونهم على قرص الشمس ونورها الوهاج، بدون سابق تمهيد أو تجهيز أو أعداد . اجل لقد انسكب هذا الإيمان في قلوبهم بعد التأمل النفاذ والرؤية الكاملة والفهم العميق والاختبار الشامل. فإذا أضيف إلى هذا كله فان هؤلاء التلاميذ كانوا من الكثرة ومن اختلاف الطباع والأفكار والأمزجة مما يستحيل اتفاقهم على وهم، أو تواطؤهم على ضلال. وان بولس وهو واحد من أهم وابرز شهودهم، لم يأت إلى المسيحية الأبعد إن اضطهدها وقاومها فترة غير قصيرة من الزمان. وإنهم جميعا شردوا من اجل هذه الشهادة واستشهدوا في سبيلها، تبين. –بعد هذا كله – إن لا مناص من التسليم بقوتها وعمقها وأصالتها وثباتها ومجدها.
وثالثًا: كانت حجيتها حجية الشهادة الموحي بها إذ أوضح لتلاميذه بكل جلاء ونقاء إنهم في جميع أقوالهم وكتاباتهم لم ينطقوا بالهوى أو يصدروا عن الخيال أو التصور، بل كانوا مسوقين بالروح القدس، ومدفوعين بالوحي الإلهي وعقيدتهم الراسخة إن الإيمان بلاهوت من حديث طبيعة مصدره أو قوة تأثيره لا يمكن أن يتم بدون عمل الله وفاعلية الروح القدس، وفي ذلك يقول الرسول بولس :”وليس احد يقدر إن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس ” (1كو12: 4).
أما وقد تبينا قوة هذه الشهادة وحجيتها، تعيين علينا الإلمام بطبيعتها ومضمونها ويمكن متابعتها فيما يلي:
1- الشهادة الباتة الناجزة:
وشهادة التلاميذ عن لاهوت المسيح شهادة باتة واضحة صريحة ناجزة، لا شبهة فيها أو غموض أو إبهام أو قلق , ويكفي الإلمام و الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر. الم يقل توما للمسيح في الأسبوع التالي للقيامة: “ربي والهي” (يو21 :29). وألم يهتف يوحنا في رسالته الأولى : “ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو: 4:20). الم يكرز بولس في أكثر من موضع و مكان : “المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد “(رو9: 5) . “وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ.( اتي3:16) “5فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أيضا: 6الَّذِي إذ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. 7لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. (في2: 5-7) . وأية نصوص أوضح أو أصرح أو اقطع من هذه النصوص الدالة على لاهوت المسيح؟.
2- الشهادة المأخوذة من ألقاب المسيح الإلهية
ولعله من اللازم أن نقف من بعض هذه الألقاب لنرى معناها ومدلولها، وكيف اخذ منه التلاميذ حجتهم القوية في إثبات لاهوت المسيح ولعل من اظهر هذه الألقاب
(أ) المسيح كلمة الله:
وقد استهل يوحنا إنجيله بهذه الحقيقة إذ قال: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (يو1 :1).ولفظ الكلمة كان تعبيرا شائعا أيام يوحنا، فقد استعمله أفلاطون بمعنى “عقل الله” واستعمله فيلو السكندري بمعنى “حكمة الله”. ولعل فيلو في ذلك الوقت كان موزع الرأي بين ثقافته اليونانية الناهجة نهج أفلاطون، وبين إيمانه العبري الآخذ فكرة “الحكمة” من سفر الأمثال، فلا يكاد يبين تماما معنى “الحكمة” عنده، أهي “صفة مجردة “، في الله كما يرجح أفلاطون، أم هي “طبيعة الله وذاته” الظاهر في سفر الأمثال والتي هي منذ الأزل” (ام8: 33) . وبها خلق الله العالم وابدأ المسكونة. وأوضح إن الرسول يوحنا امسك باللفظ، وحدد معناه ومدلوله وعقيدته فيه من أول سطر في إنجيله. وعقيدة يوحنا في “الكلمة” انه أولا وقبل كل شيء “شخص” وليس “شيئا” أو مجرد “فكرة” أو “صفة” عند الله. وهذا الشخص له ذاتيته السرمدية القائمة في الله، إذ هو الاقنوم الثاني في اللاهوت. و “الكلمة عند الله” ..
وقطعا لكل لبس يمكن أن ينشا في الذهن حول كون “الكلمة” شخصا وليس شيئا، وحول كونه “ذات الله ” وليس أخر قال يوحنا: “وكان الكلمة الله”. ولعله أوضح بعد هذا إن هذه الآية من أدق وأعمق الآيات الكاشفة عن فكرة “الاقنومية” في ذات الإله الواحد.
ولا يرب عن البال أيضا إن “الكلمة”، هذا عند يوحتا ليس إلا المسيح يسوع بعينه، لهذا نجده يردف بالقول: “والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب مملوء نعمة وحقا” (يو1: 14). وهي كلمات رائعة ممتلئة فياضة بالقوة والغنى والجلال، إذ إن اللفظ “صار ” يفيد إن المسيح لم “يظهر” فقط في صورة إنسان بشري دون أن يأخذ حقيقة الجسد وطبيعته بل”صار جسدا” أي اخذ “الجسد” البشري بكل ما فيه من معنى، كما إن الكلمة “حل” مشتقة من الأصل اللغوي من كلمة “خيمة” وفي هذا إشارة لا تخفى عن البال، إذ كما كان الله يأتي قديما إلى شعبه ويحل في خيمة الاجتماع، رمز لحضوره الإلهي، هكذا اتخذ المسيح جسدا سويا ليحل به بين الناس.
وفي قصة لأحد الروائيين الانجليز إن ولدا صغيرا ماتت أمه أثناء ولادته، وكان أبوه يعمل في بلاد أجنبية بعيدة، ومن ثم ادخل الولد إلى مدرسة داخلية، ولم يرى الابن أباه منذ صغره. ومع إن صورة أبيه كانت معلقة في غرفته، وخطاباته تملا أدراج مكتبه، إلا إن الولد كان يحن إلى أكثر من ذلك.. يحن إلى رؤية أبيه بالذات . وإذ خطر ذات يوم إن أبيه آت سارع إلى الميناء ينتظر الباخرة التي تقله، وما إن رست إلى البر وظهر الأب حتى اندفع الولد وارتمى إلى حضن أبيه هاتفا بكلمة واحدة “أبي!!” ولقد أصاب احدهم إذ علق على هذه القصة بالقول “إن البشرية كانت تعرف الله قبل مجيء المسيح عن طريق الأنبياء والكتب المقدسة، كما كان هذا الولد يعرف أباه عن طريق الصور والخطابات لكنها في المسيح رأته في الكلمة عندما صار جسدا”.
(ب) المسيح ابن الله:
واللقب الثاني للمسيح هو “الابن” ومرادفاته “الابن الوحيد” “ابن الله الحي” “ابني الحبيب” والفحص الدقيق لهذه الكلمات في كتاب الله يكشف عن عدة خواص أساسية في المسيح لعل أهمها: الانفراد والأزلية والمساواة والمجد.
(1) الانفراد:
وفي هذا ينفرد المسيح عن غيره من الناس قاطبة، إذ إن كلمة “ابن” أطلقت في القديم على الأمة كمجموع القول: “انتم أولاد للرب إلهكم” (تث14: 1) . “لو قلت احدث هكذا لغدرت بجيل بنيك” (مز73 :15) كما نطلق على “أبناء الله” كمؤمنين، لكن المسيح وحده هو “الابن الوحيد” ولعل هذا شبيه بكلمة “رب” عندما تضاف إلى غيرها، فتنصرف في الذهن إلى ما يربطها بالمضاف إليه كالقول: رب البيت وما أشبه، وعندما ترد مستقلة مضافة إلى التعريف فتشير إلى “الرب” ذاته وبهذا المعنى يكون المسيح هو “الابن الوحيد ” الذي قيل عنه: “الله لم يره احد قط، الابن الوحيد الذي في حضت الأب هو خبر” (يو1: 18) .
(2) الأزلية:
هذا ثابت في قول المسيح وفهم اليهود معا عندما قال: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». 18فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْيَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أيضا إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ.(يو5: 17 و18) . كما انه واضح من اعتراف بطرس الشهير “أنت هو المسيح ابن الله الحي” ومن اعتراف بطرس وشهادة المسيح يتبين إن هذا القول لم يكن يقصد به إن المسيح هو مجرد المسيا،وإلا لما زاد عن قول نثنائيل “أنت ابن الله أنت ملك إسرائيل” (يو1: 49) . إذ يبدو واضحا أن الله أعلن للرسول عن طبيعة المسيح وجوهره الأزلي.
(3) المساواة:
على إن كلمة “ابن” قد تشير اضطرابا ذهنيا عند كثيرين، إذ يتصور على الفور بمقارنتها بكلمة”أب” إن الأب اسبق زمنا من الابن، وان هناك فارقا “زمنيا ومركزيا” بينهما. ولكننا نحب إن نؤكد ههنا إن كلمة “ابن” لا يمكن إن تشير في قليل أبالدليل المقابل”عدم المساواة” أو “التلاحق الزمني” . وذلك لان كلمة “الأب” نفسها عندما تطلق على الله لا يمكن إن تقوم بالدليل المقابل إلا إذا وجد “الابن” . فأما انه كان هناك وقت لم يكن فيه الله “أبا” وبالتالي لا يكون هناك “ابن” أو انه منذ الأزل هو “الأب”.
وضرورة اللفظ تقتضي وجود “الابن” من الأزل أيضا. ولعل منشأ الخلط والتخبط الذي يقع فيه الناس هو اعتيادهم فهم أسبقية الإباء على الأبناء، على أساس إن الإباء هم السبب في مجيء الأبناء، وعلى أساس الفارق الزمني بين الاثنين، ولكن التعبير الأدق والأصح هو إن الرجل لا يصبح أبا إلا من اللحظة التي يوجد فيها الابن، فالفارق الزمني هو في الواقع فارق خيالي موهوم، فإذا أضيف إلى هذا إن الله لا يلد ولا يولد كما يفهم الناس معنى الولادة في الأرض، كان علينا إن نعرض؟، بل إن ندفع عن الله جل جلاله هذا المعنى لنتصور معاني أخرى ادني إلى الفهم واقرب إلى التصوالنور.ن مثلا نقول: هذا ابن الحق، أو هذا ابن النور، إشارة إلى التماثل التام بينه وبين الحق أالنور. .. وبهذا المعنى دعي المسيح “ابن الله” للتماثل الأزلي القائم التام بين “الأب” و”الابن” في ذات الله الواحد. ودعي كذلك لأنه هو الإعلان الوحيد الكامل الأزلي عن ذات الله للناس، أو كما قيل: “الله بعدما كلم الإباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في الأيام الاخيره في ابنه” وقيل: “هو صورة الله غير المنظورة” (كو1: 5) و” بهاء مجد الله ورسم جوهر” (عب1: 3).
(4) المجد :
والأمر الأخير الخاص بهذا اللفظ هو المجد، إذ انه أعلن عن مجد الله في محبته للعالم والخلاص الذي أعده للبشر والمجد العتيد إن يصير لهم ولهذا قيل: “ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب” (يو1: 14) . ومن الملاحظ إن الأب كان يعلن عن هذا المجد مقترنا باسم الابن في شتى المناسبات الخاصة المقترنة به، فعند المعمودية حيث دخل المسيح إلى خدمته الجهارية المجيدة جاء: “صوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت: (مت3: 17) . وفوق جبل التجلي حيث تغيرت هيئته أمام التلاميذ وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وظهر موسى وايليا يتكلمان معه، جاء الصوت أيضا: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا” (مت17: 5). وعند القيامة وإزاءها قيل أيضا: ” تعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4). أي انه ظهر أمام العالمين كابن الله، إذ صدق الله بالقيامة على رسالته أمام الناس، كما كشف بهذه القيامة أيضا عن قوته السرمدية المنتصرة على الموت، والهازمة الشر والصانعة لذلك المجد العتيد السرمدي الأبدي. وقد كان هذا عين ما تحدث به بولس في أنطاكيا بيسيدية عندما عرض للمزمور الثاني وشرحه وهو يتحدث إلى اليهود عن قيامة المسيح المنتصرة من بين الأموات (اع13: 33).
(ج) المسيح رب الكل:
وهناك أيضا الكثير من الألقاب الأخرى التي أطلقت على المسيح مثل “رب الكل” (اع10: 36) “ربنا يسوع المسيح” (1كو2: 8) وغيرها من الألقاب التي تشير بجلاء إلى إن التلاميذ لم يترددوا قط في إعطاء المسيح ذات ألقاب الله ومما يفيد يقينهم الكامل في انه هو ذات الإله الأزلي الأبدي السرمدي القديم.
3- الشهادة المأخوذة من صفات المسيح وكمالاته الإلهية
وإلى جانب هذا كله نسب التلاميذ إلى المسيح جميع الكمالات والصفات الإلهية، ومنها انه الأزلي الأبدي السرمدي: “الألف والياء الأول والأخر” (رؤ1 :11). وغير المتغير: “يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8). “والعارف بكل شيء” (عب21: 17) “الفاحص القلوب والكلى” (رؤ2: 23) .والملك الأبدي.
4- الشهادة المأخوذة من نسبة أعمال الله إلى المسيح
فإذا ما أضيف إلى ما سبق نسبة جميع أعمال الله إلى المسيح إذ هو “الخالق” الذي وصفه يوحنا بالقول: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو1: 3) وقيل أيضا: “16فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أم سِيَادَاتٍ أم رِيَاسَاتٍ أم سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ.(كو1: 16). وهو الحافظ والمعتني بكل شيء: “وحامل كل الاشياء بكلمة قدرته” (عب1 :3) .وهو الديان العادل : “أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً. (2كو5 :10). هذه وغيرها من الصفات التي نسبها التلاميذ إلى المسيح وهي لا تعطى على الإطلاق إلا لله وحده، ولا يمكن نسبتها إلى شخص المسيح دون الإيمان البات بلاهوته.
5- الشهادة المأخوذة من عبادة المسيح والسجود له
وأخيرا وليس أخرا، لا شبهة في إن التلاميذ درجوا على الصلاة للمسيح وعبادته والسجود له مع علمهم بان العبادة والسجود لا يجوزانسوى لله وحده. فاستفانوس الشهيد صلى له وهو يجود بأنفاسه الأخيرة: “أيها الرب يسوع اقبل روحي” (اع7: 56) . وبولس صرخ له عند أبواب دمشق بالقول “يارب ماذا تريد إن افعل” (اع9: 6). ويوحنا وهو عالم انه سامع الصلاة سجل وعده لتلاميذه باستجابة صلواتهم بالقول :”إن سألتم شيئا باسمي فاني افعله” (يو14: 14) .
والخلاصة من كل ما ذكر إن شهادة التلاميذ عن لاهوت المسيح شهادة قاطعة تعلو على كل إبهام أو جدل أو منازعة.
رابعا: الدليل المستمد من صوت التاريخ
وأخر ما نشير إليه من الأدلة على لاهوت المسيح شهادة التاريخ ولعله من المناسب تأمل هذه الشهادة فيما يلي:
1- نشأة المسيحية وانتشارها
ونشأة المسيحية وانتشارها خير شاهد على شخص المسيح وقوته ولاهوته. ويكفي أن نشير هنا إلى أن المسيح وهو يرد على اعتراف بطرس العظيم بالقول: “أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (مت16:16) لم يكن يقصد على الإطلاق إن يقول إن بطرس هو الصخرة، وإلا لما استعمل المسيح تعبيرين مختلفين أولهما “بطرس” وباليونانية Petros”” ويعني حجر أو قطعة من الصخر كما استعملها هوميروس في الإلياذة عندما رمى اجاكسي حجرا على هكتور : “إلياذة 9″ ص270” ،والثاني “صخرة” Petraوقد جاءت في “الأوديسة 9ص 243” حيث قيل إن بوليفيموس جعلها على باب مغارته، وكانت من الضخامة في الحجم بحيث إن اثنين وعشرين عربة – كما كانت تقول الأساطير – لا تستطيع تحريكها . ولعله من الواضح إن المسيح وهو يرد على بطرس كان يقصد إن إيمان بطرس بلاهوت المسيح هو الصخرة الصلبة القوية التي تبنى عليها الكنيسة وتثبت وتدوم . إذ لو كان المسيح مجرد إنسان لما أمكنه إن يبنيها أو يحرسها من قوات الجحيم التي تحف بها وتحاول القضاء عليها . ولعل خير ما يقال ههنا ما جاء في الفصل الثالث من كتاب الإنجيل في عصر الشك لهنري فان دايك عن لاهوت المسيح إذ قال ما ملخصه: “يعلل المؤرخ الكبير ادورد جيبون في الفصل الخامس عشر من كتابه الكبير “انحلال الدولة الرومانية وسقوطها” سبب انتصار المسيحية وقوتها واكتساحها للوثنية بخمسة أسباب هي: 1 – غيرة المسيحيين المحررة من الروح اليهودية التي كانت تجنح إلى التزمت والعزلة . 2 – عقيدة الحياة بعد الموت والمجملة بالظروف التي أحاطت بالمسيحيين مما اظهر جمال هذه العقيدة وفاعليتها ؟. 3- القوة المعجزية التي صاحبت الكنيسة الأولى 4- المبادئ الرائعة والأخلاق المجيدة التي كانوا عليها المسيحيون . 5- الاتحاد الرائع والنظام المثالي للجمهورية المسيحية والتي جمعت المسيحيين على التدريج تحت راية متضامنة في قلب الإمبراطورية الرومانية. هذه هي المظاهر اللامعة المجيدة التي اعتقد جيبون أنها الأسباب الأصيلة التي ناشات المسيحية ولكننا لو تحرينا الدقة لرأينا شخص المسيح ولاهوته يقف خلف هذه المظاهر جميعا. فما غيرة المسيحيين الرائعة إلا صورة من صور الإيمان بشخص المسيح. ما تحررهم من التعصب والتزمت إلا دليلا على عمل المسيح بقوته العجيبة فيهم، كما إن الإيمان بحياة آتية لم يبع من نشوة خيال محموم أو فلسفة سقيمة، بل يرجع أولا وأخيرا إلى ذاك الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل .إما القوة المعجزية فلم تكن مبنية على خداع أو أوهام وإلا لما ثبتت وانتصر أثرها الرائع في حياة الكثيرين،بل كانت قوة حية تنبع من مصدرها الأصيل. كما إن حياة المسيحيين وأخلاقهم كانت في حد ذاتها إعجازا في عصر نضح بالشر وامتلأ بالفساد، ولابد إن تكون راجعة إلى قوة اعلي من قوة الإنسان نفسه . كما إن هذه الوحدة الاجتماعية العظيمة التي كونت جمهورية في قلب الإمبراطورية القديمة، ليست إلا برهانا على قوة المبادئ التي أوجدها المسيح، المبادئ التي تعمل على توحيد النفوس البشرية وتضع للعالم نظاما يتغلب على كل عامل الانحلال. وفي الواقع انه يستحيل علينا إن ندرك نشأة المسيحية وانتشارها عل مثل هذه الأسس دون إن نرى خلفها شخص المسيح ولاهوته!
وفي الحقيقة انه لا مناص من التسليم بان المسيحية التي لم تعتمد في نشأتها أو انتشارها على أية قوى من القوى البشرية التي تسيطر على عقول الناس أو حياتهم كقوة المال أو السيف أو السلطان أو العلم أو ما أشبه، إذ تأسست على يد جماعة من الصيادين الفقراء المغمورين الذين لا حظ لهم من مال أو جاه أو علم أو قوة، والذين حاولوا منهم إن يرفع سيفه دفاعا عن سيده فجاءه الصوت الآمر : “رد سيفك إلى مكانه لان الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون (مت26 :52) . هذه المسيحية لا يمكن إلا إن تكون مستندة على قوة خارقة جبارة. ولعل شهادة نابليون وهو من أعظم قواد التاريخ وعباقرة الحروب . هي خير ما يقال على الإطلاق في هذا الصد، فعندما نفي نابليون إلى جزيرة سانت هيلانة وكان معه الجنرال برتران أول هذا الجنرال ذات يوم إن يرفع من قدر سيده مشبها إياه بالقواد الأقدمين وصناع الأديان والمسيح! وعندما استمع نابليون إلى اسم المسيح لم يطق صبرا وصاح على الفور قائلا: “إنني اعرف الناس، واستطيع إن أقول لك إن المسيح يسوع لم يكن مجرد إنسان، والعقول السطحية وحدها هي التي تحاول إن تجعل شبها بين المسيح والهة الأديان الأخرى! وهذا الشبه منتف وغير موجود على الإطلاق. إذ كل ما في المسيح يسحرني، ولا يمكن إن يقارن به احد في العالم كله إذ هو كائن بذاته، فميلاده وتاريخ حياته وسحر وروعة تعاليمه، التعليم التي تجابه أضخم المشكلات بأروع الحلول وإنجيله وإمبراطوريته وتمشيه في موكب العصور، كل هذه تستولي علي بسحر أخاذ لا استطيع تجنبه. وهنا لا أرى شيئا بشريا! ولثلاثة قرون من الزمان نشب صراع رهيب بين الروح والعواطف الوحشية، بين الضمير والطغيان، وبين النفس والجسد، وبين الفضيلة والرزيلة، وسالت دماء المسيحي، انهارا ولكنهم كانوا يموتون وهو يقبلون اليد التي تذبحهم. وفي كل مكان سقط المسيحيون، وفي كل مكان انتصروا أيضا! انك تتحدث عن قيصر والإسكندر، وعما لهما من غزوات وفتوحات، وعما كانا يسيران في قلوب جنودهما من الحمية والحماس، لقد شهد قيصر والإسكندر وشارلمان وأنا إمبراطوريات عظيمة. ولكن علاما كانت عبقرياتنا جميعا تعتمد؟ . على القوة . أما يسوع فقد شاد إمبراطوريته العظيمة على المحبة، وإلى هذا اليوم يموت الملايين من اجله. وأية هوة واسعة بين بؤسي العميق وحكمه الخالد .الكم الذي ينادي به ويحب ويمجد وينتشر في الأرض كلها” ولعله من تحصيل الحاصل بعد هذه الشهادة إن نقول إن سجل الكنيسة المسيحية حافل بما لا يحصى أو يعد من أعظم من عرفتهم الأرض من الملوك والعلماء والفلاسفة والزعماء والقادة والإبطال ممن توجوا المسيح على حياتهم ربا والها وفاديا.
2- ترانيم التعبد للمسيح
وثمة دليل تاريخي أخر ظاهر في الترانيم والإلحان الكنسية التي حملتها الأجيال ألينا عبر العصور القديمة، والتي غنت أعذب الإلحان للاهوت المسيح. فهناك الكنيسة اليونانية القديمة في أغانيها: “تقديم الشكر وقت إشعال المصباح” و “راعي الشباب الغض” و “لحن للمسيح بعد الصمت” وما أشبه من أغاني كرست للرب يسوع للمسيح. وهناك الكنيسة السريانية حيث غنى شاعرها العظيم ومرنمها الخالد افرام السرياني بألحانه الرائعة التي لا يمكن إن تموت. ثم الكنيسة اللاتينية حيث غنى امبروز وغريغوري العظيم وبرنارد كليرفوا وبرنارد كلاتي وغيرهم، أناشيد التعبد والهتاف للسيد المسيح . هذه وغيرها من أناشيد وترانيم تقطع بما درجت عليه الكنيسة في الشرق والغرب من التعبد والسجود للرب يسوع المسيح.
3- شهادة الوثنيين القدماء
والثابت من شهادة الوثنيين القدماء ممن عاصروا المسيحية في مطلع تاريخها إن إيمان المسيحيين كان شائعا ومعروفا للجميع وغير خفي على احد، فالحاكم “بليني” الصغير كتب إلى الإمبراطور تراجان يصف المسيحيين الذين يجتمعون فجر كل يوم ليغنوا ألحانهم وأناشيدهم للمسيح معتبرينه إلههم . كما إن الإمبراطور هادريان كتب إلى سرفيان يقول: “إن سكان الإسكندرية يعبد بعضهم سيرابيس وآخرون المسيح”. ولسيان الشاعر الوثني القديم سجل قوله: “إن المسيحيين يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي صلب في ارض فلسطين ” . هذه الشهادات وغيرها تبين مما ليدع مجالا للشك تأصل عبادة المسيحيين لسيدهم في مطلع التاريخ المسيحي
3- شهادة الشهداء
ولعل هذه الشهادة هي اقوي أصوات التاريخ جميعا، وهل في ذلك من شك. وقد كتب هؤلاء الشهداء شهادة الولاء والتعبد للسيد المسيح بمداد من دم؟ وفي الواقع إن انهار الدماء التي سالت من المسيحيين صيغت شهادتهم عن لاهوت المسيح بصيغة هيهات إن ينال منها أو يعلى عليها.
كيف يفسر اتحاد اللاهوت بالناسوت؟
وإذا انتهينا من الآلة القاطعة الناجزة على لاهوت المسيح يبقى أمامنا هذا السؤال الجوهري وهو: كيف يمكن تفسير اتحاد اللاهوت بالناسوت ؟وهلا يتنافى هذا مع عظمة الله ومجده وجلاله ؟ وفي الواقع إن السؤال حيوي وضروري، لا لان الإجابة عليه تحل صعوبة من أضخم الصعوبات التي تواجه الذهن البشري، ولان هذه الإجابة تعيين في الوقت نفسه على فهم بعض الآيات الكتابية عسرة الفهم والبادية كما لو أنها متباينة. وهي في الحقيقة شديدة التناسق والتكامل والترابط! إن مرجع الصعوبة أمام الفكر هو هل يمكن إن يكون هناك اتحاد بين للاهوت والناسوت المحدود في شخص واحد؟
وقبل التعرض للإجابة على السؤال من الواجب إن نذكر إننا أمام سر من أعظم الإسرار الإلهية، السر الذي صاح إزاءه الرسول بولس بالقول: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد” (اتي3: 16) وليس في قدرة احد على الإطلاق إن يجرد هذا السر، عن كونه سرا إلهيا عظيما. وان الفكر إذ يتقبل هذا السر، إنما يتقبله كما يليق بأي سر الهي، بكل هيبة وخشوع وإجلال ووقار، موقنين بان اتحاد الناسون باللاهوت ليس من ابتداع الفكر المسيحي أو من مبتكراته، بل هو من ذات إعلان الله وترتيبه.
على انه إذ لم يكن في مقدورنا إن نجرد هذا السر من كونه سرا، إلا انه من الممكن الاقتراب إليه وتناوله كما يقترب من أي سر أخر عن طريق المقابلة والقياس والمثال.
1- القياس المستمد من اتحاد الجسد بالروح
ولعل أول واقرب مثال على اتحاد الناسوت واللاهوت في شخص المسيح الواحد هو اتحاد الجسد والروح في شخص الإنسان الواحد، وكما إن الجسد يتميز عن الروح في ذات الإنسان الواحد، ولكل منهما خواصه الذاتية المستقلة تماما عن الأخر، ومع ذلك،فما متحدان في شخص واحد، ولا يمكن أن يقال عن هذا الشخص انه اثنان، كما انه يمكن إن يوصف بالصفات الخاصة بكل منهما دون إن يظهر ثمة تناقض أو اضطراب، فهو قصير في الجسد مثلا وعملاق في الروح، عادي في المظهر ورائع في النفس، ضعيف في البنية قوي في الأخلاق. فإذا قيل بعد ذلك انه قصير وعملاق. وعاديا ورائع وضعيف وقوي، لم يكن هناك ثمة قلب للحقائق أو الأوضاع. فإذا أضيف إلى ذلك أن الجسد اقل واضعف وأضأل وخادم للروح دائما. تعين إن نفهم إن الروح في ذات الإنسان اعلي من الجسد واقوي وأكمل وان الجسد إذ يخدم الروح ويحيا بها وينشط ويعيش ويتحرك، لم يكن ثمة مبرر إن نقول إن عدم المساواة بينهما تمنع اتحادهما في شخص واحد.
فإذا صح إن يقال هذا كله عن الإنسان،فانه ادني إلى إن يصف طبيعة اتحاد الناسوت واللاهوت في شخص المسيح، إذ يمكنك إن تصفه بجميع صفات الناسوت أو اللاهوت دون إن يبدو في هذا سمة تناقض أو غرابة. ومن ثم لا عجب إن يصفه غريغوري ناستيزن بالقول: “لقد اشتد جوعه ولكنه اطعم الجماهير في البرية، وكان هو الخبز الحي النازل من السماء .. حقا قال:أنا عطشان، ولكنه صرخ بصوت عظيم، إن عطش احد فليقبل لي ويشرب، لقد تعب ولأنه نادى المتعبين والثقيلي الأحمال، لقد نام ولكنه قام ليسكت الموج ووبخ الرياح ويدع بطرس يمشي على الماء. لئن شهدت تلك عن كمال إنسانيته، فان هذه تشهد عن كمال لاهوته”.
وبهذا المعنى جاء القانون الاثناسي ليقول: “انه مساو للأب بحسب لاهوته ودون الأب بحسب ناسوته وهو وان لم يكن إلها وإنسانا، إنما هو مسيح واحد لا اثنان” .
2- القياس المستمد من الكلمة
وهناك أيضا القياس المأخوذ من الكلمة “كمعنى” ومن الكلمة “كلفظ”. وما من شك إن الكلمة كلفظ دون الكلمة كمعنى وان يكن كلاهما تعبيرا واحدا. فالحروف التي تكون كلمة الله ادني ولا شك من المعنى الذي تعنيه هذه الكلمة، إذ إن الحروف المحدودة والتي قد تتسع لها مساحة لا تزيد عن السنتيمتر الواحد، اقل بما لا يقاس من المعنى اللانهائي للفكرة التي تنهضها وتثيرها هذه الحروف، مع العلم بان الفكرة كلها تتجسم في هذه الحروف المحدودة. “وبهذا المعنى يكن القول إن “الكلمة” “تجسد” أو في ذات التعبير الكتابي. “والكلمة صار جسدا” (يو1: 14).
2- القياس المستمد من الكتاب
ومثل هذا الرأي يمكنان يقال أيضا بصدد “المساواة” و”المعنى” في أي كتاب. فمادة الكتاب المكونة من الغلاف والورق والحروف المطبوعة هي “الجسم ” “بالنسبة لمعنى” الكتاب، والفكرة المجسمة فيه. ومن الغريب إن المعنى يمكن إن يحتوي داخل المادة رغم انه أعظم واجل، بل إن هذه المادة تغطي قوة “الفكرة” وعظمتها، عندما يطوى الغلاف عليها. فإذا صح أن يقال هذا عن الكتاب كمادة وكمعنى، فانه يدينا من كلمة الله المتجسد، ومنه نفهم لماذا يقول بالناسوت : “لان أبي أعظم مني” (يو14: 18) . ومما يصوره الرسول بولس بفكرة التنازل والإخلاء في القول: “الذي إذ كان في صورة الله . اخلي نفسه آخذا صورة عبد ” (في2: 6 و 7).
هل يستساغ ويقبل عقلا اتحاد اللاهوت بالناسوت؟
والسؤال الأخير الذي لابد من التعرض له والذي قد يعن ذهان كثيرة هو: هل يستساغ ويقبل عقلا هذا الذي نقوله عن الله ؟ وهل لا ينافي جلاله ومجده وعظمته؟ وهو سؤال يرد في الواقع على نفسه، إذ من ذا الذي يستطيع الحكم على ما يوائم العظمة الإلهية أو يتنافى معا ؟ هل للإنسان من المميزات والاستعداد والقدرة والفهم حتى يحدد معاني الجلال أو العظمة أو الحكمة عند الله !؟ وإذ صح أن له هذا كلها وان في إمكانه أن يحكم على ما يستساغ مما ينسب إلى الله، فأيهما ادني إلى الاستساغة أن يظهر الله في “شيء ” أم في ” شخص” فإذا كان من المسلم به عند الغير المسيحيين أن الله رضي بان يظهر في “عليقة ” لموسى، ولم يقل احد أن هذا قلل مما له من مجد أو إجلال أو هيبة أو عظمة، فكيف يمكن أن يقال : حاشا لله أن يظهر في “الجسد ” . وألبس من الغريب كما قال احدهم أن يجمع الناس على حقيقة أن الإنسان عاجز عن إدراك شخصية الله وإغراضه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يقال عن التجسد يتنافى مع عظمة الله وقدرته، فإذا كنا لا نقدر أن تعرف الله، فكيف نعرف انه لا يمكن أن يعلن عن نفسه بالصورة التي يشاء ؟ لقد أعلن الله ذاته في الطبيعة وفي الضمير وفي الكتاب، ثم أعلن نفسه أخر الأمر في التجسد الذي هو مجد الإعلانات الإلهية.
فإذا قيل بعد هذا كله ما غاية الله وحكمته في الموضوع كله؟ اجبنا أن غاية الله، وان كانت أعمق جدا وابعد من أن يفحصها الإنسان، إلا أن التجسد يرينا الله في المسيح في اعلي وأكمل صورة يمكن أن يصل إليها الإنسان . كما أن الكتاب المقدس يؤكد بأنه الطريق الوحيد في تدبير الخلاص الإلهي للإنسان . وعندما سئل دانيال وبستر ذات مرة، وكان يتحدث مع جماعة من المسيحيين وتطرق الحديث إلى لاهوت المسيح وسأله احدهم : ” ولكن يا مستر وبستر أتستطيع أن تدرك كيف يكون المسيح ألها وتنسانا في وقت واحد؟ ” فأجاب وبستر: “إنني لا استطيع أن أدرك كنه سيدي، ولو أمكني ذلك لما كان هو أعظم مني، غير إنني اشعر على الدوام بحاجتي إلى مخلص أغلى من إن يكون مجرد إنسان “. اجل من لا يهتف بعد هذا كله مع القانون النيقوي القديم: “أؤمن باله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور ،اله حق من اله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كل شيء كان، الذي من اجلنا نحن البشر ومن اجل خلاصنا زل من السماء وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء وتأنس، وأيضا صلب عنا على عهد بلاطس البنطي، وتألم وقبر وقام أيضا في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب وسيأتي أيضا بمجد ليدين الإحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء”.