إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 07 | إيماني بالروح القدس

وليس هناك من شبهة أو شك في إن العالم يحتاج إلى روح الله  بذات الصورة التي وصفها جون تيموثي  ستون عندما قال: “لقد أبصر أمامي دينامو كلي القدرة، لا يستطيع الإنسان مهما أمعن في الخيال تصور مدى قوته وقدرته، لقد رايته على يميني يمتد إلى مساحات شاسعة لانهاية لها، ورأيت في يساري في الوقت ذاته عشرات الألوف من مدن وقرى بل بني البشر في العالم.. وهذا العالم الواسع يحتاج إلى القوة المحركة واستخدام الطاقة والنور والدفء  والحرارة لإدارة المصانع والدكاكين والمخازن والمنازل والمباني الواسعة والغرف الصغيرة والمدارس الكبيرة والمنازل المتضعة وجميع أنواع واحتياجات الناس في كافة المجتمعات والأعمال  ووسائل النقل والأمور البينية الفردية. وهذا الدينامو العجيب يمكنه أن يخدم ويلبي  جميع الطلبات المتعددة لكافة الاحتياجات، وضروب النشاط المختلفة لهذا الحشد المسكوني الواسع، ويحرك ويدير جميع العجلات..  ومن هذه المؤسسات القائمة على يساري يخرج سلك لابد من توصيله للدينامو  ذي القوة الإلهية الهائلة، وليس من سبيل إلى ذلك  إلا بتدخل الإنسان نفسه.. والمسيح يسوع ابن الله قد جعل من الممكن الانتفاع بهذه القوة اللانهائية للدينامو وضبطها والربط بينها وبين الحاجة البشرية في شخصه، إذ قدم لنا روحه فأمكن أن تصبح القوة الإلهية في متناول البشر “حسب القوة التي تعمل فينا “..  فإذا أتيح لنا أدراك هذا كله، كان لابد لنا من دراسة الروح القدس  على الأقل من الجوانب الأربعة التالية:

الروح القدس وشخصيته

والروح القدس هو ذات الله وشخصه، والتاريخ الكنسي يؤكد إن اعتقاد الكنيسة في لاهوت الروح لم يتزعزع قط على الإطلاق، وان كانت قد وجدت تلك الفئة الضئيلة التي زعمت مع اريوس انه دون الله، أو ماكيدونيوس سنة361م والقائل بان قوة الله وليس شخص الله ذاته.. أو تلك التي لم تنكر لاهوته. وان كانت قد أنكرت  اقنوميته في ذات الله، كسباليوس واشياعه واذنابه من الموحدين ممن ينكرون فكرة وعقيدة الثالوث عند المسيحيين!! ولكن الرأي الثابت والدائم في الكنيسة المسيحية على مختلف العصور، هو إن الروح القدس هو ذات الله،  وهو الاقنوم الثالث في شخص اللاهوت العظيم!!..

ولعل مرجع الصعوبة في فهم الروح كشخص وكاقنوم قائم  في ذات التعبير أو اللفظ “الروح” إذ ليس من السهل على المرء  أن يتصور شخص هذا “الروح ” كما يتصور شخص الأب وشخص الابن..

فالإنسان يمكنه مثلا أن يتبع بالخيال أو الفكر شخص الله الأب  الصانع أو الخالق العظيم أو المعتني أو الحارس أو الضامن  أو الضابط الكون، كما يمكنه أن يتبع  شخص المسيح ابن الله الحي، والمتنازل والأتي إلى أرضنا والسائر معنا، والمتمشي في رحاب الحياة وضيقتها من اجلنا، والصديق الذي ولد وعاش ومات  وقام من اجلنا ومن اجل حياتنا وخلاصنا. أما الروح فلعل من الصعب تصوره بذات السهولة واليسر، سواء في شخصه أو في أعماله، ومن ثم جنح الخيال القاصر الأحمق لهذه القلة المتباعدة المتناثرة في التاريخ إلى تصور انه اله من دون الله، أو قوة من قوى الله، أو صفة قائمة في شخص الله، أو ما أشبه، مما لا يمكن أن يصمد أو يتبين عند اقل درس كتاب أو تأمل فكري أو محاجة منطقية..

وواضح أن الروح، ذات الله، ومن مختلف الأسماء التي أطلقت عليه، ونطق في العادة  على شخص الله كالقول “الروح” أو “الروح القدس” أو “روح المسيح” أو “روح الله” أو “روح الرب”   أو ما أشبه من ألفاظ أو أسماء اختص بها ذات الله وشخصه في العهدين القديم والجديد.

وقد نسب إلى الروح ما قد ينسب إلى ذات الله، كالقول انه المتكلم أو الناطق: “حسنا كلم الروح القدس أباءنا اشعياء النبي” (أع 28: 25).  أو الساكن والمستقر في المؤمن “أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3: 16)، أو المجرب من الأشرار والخطاة “لماذا ملا الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس” (أع 5: 3)، كما وصفه بذات الصفات الإلهية القاصرة على شخص الله، كالأزلية في القول: “فكم بالحري دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله” (عب 9: 14)، والعلم بالسرائر والخفيات إذ قيل: “فأعلنه لنا الله بروحه،لان الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو 2: 10)، والقدرة على كل شئ: “لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود” (زك 4: 6)،  كما نسب إليه ذات الأعمال التي لا يمكن أن يعملها سوى الله وحده، إذ قيل عنه كالخالق:” مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنَةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ. 25هَذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ.. 30تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْض” (مز 104: 24- 30)، “روح الرب صنعني ونسمة القدير أحيتني” (اي33 :4).. وكالملهم الموحي : “حل عليّ روح الرب وقال لي قل : “هكذا قال الرب”  (حز11 :5). باحثين إي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح” (1بط 1: 11) ” لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2بط 2: 21) وكالقادر على الإقامة من الأموات: “11وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أيضا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ.” (رو8 :11).. وكما انه كان يعطي من الكرامة والمجد ما هو جدير بشخص الله كالآب والابن سواء بسواء. إذ قيل :”فكم عقابا اشر تظنون  انه يحسب مستحقا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسا، وازدرى بروح النعمة (عب 10: 29).

اما اقنومية الروح فليست اقل ظهورا ووضوحا، إذ وردت في الصيغة الخاصة بالمعمودية والقائلة :”فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس “(مت28 :19)، وصيغة البركة الرسولية  :”نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الأب وشركة الروح القدس مع جميعكم. أمين “(2كو13: 14)، كما وردت أيضا في قول المسيح عن المعزي الآخر :”وأنا اطلب من الأب فيعطيكم معزيا أخر ليمكث معكم إلى الأبد” (يو14: 16).وفي الحديث الخاص عن التجديف على الروح القدس فلن يغفر للناس. 31لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. 32وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي. (مت12: 31و 32).

وقصارى القول إن الروح القدس هو الله الأزلي الأبدي الدائم،وليس مجرد صفة أو قوة أو عمل أو تأثير الهي، بل هو الروح الذي يتلاقى مع أرواحنا، والشخص الذي يتعامل مع أشخاصنا، والسيد الذي يستحق كل الإجلال والسجود والتعبد  والإكرام، شانه شان الأب أو الابن في الثالوث الأقدس العظيم، ومن ثم جاءت كل القوانين الكنسية  لتقول: ” وامن بالروح القدس”. كما جاء في القانون الرسولي “نؤمن… وبالروح القدس”كما ذكر القانون النيقوي: “ونؤمن… بالروح القدس الرب المحيي” .كما قال القانون النيتري القسطنيطيني  :”أؤمن بالروح القدس الرب والمحيي ” كما نص عليه القانون اللاتيني، وما تلاحق بعد ذلك من قوانين الشرق والغرب في التاريخ القديم أو الحديث على حد سواء.

1- الروح القدس وألقابه

ولعل من الشائق والرائع بعد إن أبصرنا هذا الروح في شخصيته وذاته، أن نتأمله في ألقابه وصفاته، وإذ كان من العسير علينا أن نلم بهذه الألقاب أو الصفات جميعا، فلا اقل من أن نذكر أظهرها وأشهرها على سبيل القياس أو المثال. وسنجد أخر الأمر إننا نعرفه معرفة أعمق وامجد واجل وأروع من خلال تعرفنا على هذه الصفات  والألقاب العظيمة الرائعة!!.

الروح القدس وهل يمكن أن نبدى هذه الصفات دون أن نذكر اللقب الأشهر أو اللقب العام الذي يطوي ويضم جميع الألقاب؟! ونعني به “الروح القدس” أو “الروح القدوس” أو “قداسة ” منسوبة إلى الروح ليس مجرد التسامي والتعالي والانعزال والتفرد والكمال الإلهي المطلق فحسب، بل المقصود منها أيضا إلى جانب ذلك علاقة الروح القدس بالناس والتاريخ البشري، إذ أن هذا الروح القدس الطاهر لا يمكن أن يقر الخطية أو يهادن الشر أو يسكت عن الإثم أو يحتمل المجون أو العربدة أو الفساد أو الإباحة أو ما أشبه مما ينضح أو يضج به التاريخ البشري ليس أدل على ذلك من إننا نراه من مطلع هذا التاريخ ينازع أو يدين في الإنسان كما جاء في سفر التكوين: ” فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد” (تك6: 3) .أو في لغة أخرى أن هذا الروح لا يمكن أن يهدا أو يستريح ما لم يثر في النفس البشرية كل نوازع القلق والاضطراب والضيق والفزع والحزن والألم والندم على الخطية والإثم والفجور والمعصية، وفي الوقت عينه يعمل على الترحيب والسعي إلى كل ما هو طاهر ومقدس وعادل ونبيل وكريم وعظيم!!.. ولا يمكن أن نغفل من ذلك انه هو المصفي والمطهر والمقدس والمكمل لجميع أبناء الله القديسين والمؤمنين في مختلف العصور والأجيال.

2- الروح المعزي

وقد جاء هذا في قول المسيح :”وأما المعزي الروح القدس الذي يرسله الأب باسمي “(يو14 :26) وقد وردت هذه الكلمة “المعزي “وفي اليونانية “بركليتس” Paraklettosخمس مرات في العهد الجديد،أربعة منها في إنجيل يوحنا (يو14: 16، 26، 15:26، 16: 7)   والخامسة في رسالة يوحنا الأولى (1يو2 :1) والمترجمة “شفيع” والمعنى الحرفي الدقيق للكلمة :المحامي أو المدافع أو الذي يقف إلى جوارك للمحاجة والإقناع والدفاع، ولعل هذا هو العزاء الأكبر للنفس البشرية، إذ ستجد نفسك في مختلف الظروف وشتى الأحوال مسنودا ومعانا من هذا الروح، وكيف لا وقد شهد المسيح نفسه بان التلاميذ المضطهدين المأسورين والواقفين في قفص الاتهام لا يمكن أن يتركوا منه –إي من الروح –حتى ولو تركهم ونبذهم جميع الناس من الأهل والأصدقاء والمحبين والإخوة والأقرباء والعشيرة: “17وَلَكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إلى مَجَالِسَ وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. 18وَتُسَاقُونَ أمام وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. 19فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أو بِمَا تَتَكَلَّمُونَ لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ 20لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. (مت10: 17 -20). كما انه سيعين ويساعد الملايين من أبناء الله في مختلف الضيقات والآلام والإحزان والأوجاع بالتقوية والتشجيع والتذكير والإنهاض، وهو يستخدم في ذلك ما لا يعد أو يحصى من الوسائل والسبل سواء عن طريق الناس أو الحوادث أو الضمير أو الكتاب أو ما أشبه، وإذ كان هنري ورد بيتشر قد رأى وسيلة واحدة من وسائل هذا الروح في المزمور الثالث والعشرين، لذا أطلق عليه بلبل المزامير، عندما قال :”انه هدا إحزانا كثيرة أكثر من كل ما صنعته  فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكارا رديئة وشكوكا سوداء وأحزانا مسرفة أكثر من الرمال التي على الشاطئ، لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، أرسل بلسانا وسكينة إلى قلوب المرضى واسري السجون والأرامل في حزنهم القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما الجنود المحتضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، والمستشفيات العابسة قد أضيئت. لقد زار السجين وكسر سلاسله، وكان له كملاك بطرس وهو يقوده من ردائه ويغني له ويعود به إلى بيته انه يجعل المسيحي الأسير المحتضر حرا أكثر من سيده، ويعزي أولئك الذين تركهم الموت ليحزنوا على الأحباء، لا لأنهم ذهبوا ورحلوا، بل لأنهم هم أنفسهم لا يستطيعون الذهاب مثلهم في ذلك الوقت، ولم ينته عمل المزمور بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال.. ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأخير أمنا، عندما ينتهي الزمان، عندئذ يطير راجعا إلى أحضان السماء،وتختلط موسيقاه بالحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي” إذ كان هذا البلبل واحد فقط من بلابل روح الله، فما أعظم ما يصنع هذا الروح من موسيقى التعزية الخالدة في كل الأجيال… وهل يمكن أخر الأمر أن ننسى أن التعزية الكاملة تأتي من أن الروح هو المدافع والمحامي العظيم عن الإنجيل وحقائقه وبركاته وأثاره. كيف لا : “وليس احد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس “(1كو12 :3).. كما أن الروح هو المحامي العظيم عن الصليب الذي كشفه للبشر وأناره للأجيال القادمة واقنع به جمهور المخلصين في كل زمان ومكان، وغير هذا وذاك مما لا يتسع المجال لذكره أو عرضه، مما يكشف عن وضع الروح كالمحامي والمدافع والشفيع والوسيط والمعزي العظيم في الأرض.

3- روح الحق 

وقد وصف المسيح الروح المعزي بأنه روح الحق إذ قال: “16وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إلى الأَبَدِ 17رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ. (يو14 :16و 17). والروح القدس هو روح الحق في أكثر من معنى، إذ هو جوهر الحق وأساسه، وهو المقنع والمسبع به،فليس حق بعيدا عن  الله، ولذا دعي المسيح “الحق ” وكل من يبحث عن الحق بعيدا عن الله إنما يبحث في الواقع عن روح الضلال والكذب.. وكل الفلسفات أو النظم أو الأفكار السياسية أو الاجتماعية أو المذهبية أو ما أشبه مما يبعد عن الله وسياسته ومجده لا يمكن أن يكون على حق، لان روح الله هو “روح الحق” بكل ما في كلمة الحق من معنى ومدلول!!..

على أن الروح لا يكتفي بالإعلان أو الكشف عن الحق، بل يعمل أكثر من ذلك على الإقناع به وقبوله. إذ كل واحد منا أشبه بهرقل القديم الجالس على قارعة الطريق- في الأساطير اليونانية- تمر به الفتاتان الجميلتان وتقول الأولى: “إلا فاسمعني أيها الرجل العظيم واقبل مني المشورة فتسعد ولا تعرف في حياتك طعم المشقة والإجهاد والتعب والألم والضيق والماسي والدموع بل على النقيض، ستجرع أشهى الكؤوس وتتناول ما لذ وما طاب من الطعام المهنئ المرئ وتنام على الفراش الوثير من الدمقس والحرير..

وتستمتع إلى أروع وأبهج ما يمكن أن تسمعه الأذن البشرية من موسيقى وأنغام ” وإذ لم يصدقها هرقل وسألها من أنت، أجابت : “أنا السعادة وان كان المبغضون يطلقون علي الاسم الأخر :”الرزيلة”.. وعندئذ تقدمت الأخرى وقالت: “ليس من السهل أن أعدك بما وعدتك الأولى، فانا اعلم أن الطريق البشري متعب منكوب  مؤلم، وليس من الحق  أن أقول لك أن لا الم لك فيه، إنما أعدك أنا أسندك مؤازرة إياك في الطريق لتعيش نبيلا عظيما شجاعا خيرا مقداما، تصادمك الصعاب فتقهرها، وتتألب عليك الخطوب فتنتصر عليها، ولا يمكن أن نفعل هذا من غير الرضي الإلهي الذي يحوزه كل من امسك بي”.وعندئذ سألها هرقل: “ومن تكونين إذا؟”:

أجابت: “أنا الفضيلة”.. وسار هرقل في الطريق مع الفضيلة ليكون البطل الذي تتحدث عنه الأساطير القديمة!!.. وما قصة هرقل في الواقع إلى قصة الصراع الدائم بين الحق والباطل، والنور والظلمة، في النفس البشرية، ولا يمكن للإنسان أن يفضل الحق ويتبع النور، إلا إذا عمل فيه روح الله، روح الحق، بالإقناع والفاعلية والتأثير !!.. على أن الروح القدس يفعل أكثر من ذلك أيضا، إذ لا يكفي بالإقناع لقبول الحق والتمشي في أثره، بل بالإشباع والبهجة بهذا الحق العظيم. عندما غزا هتلر باريس صاح: لقد غزوتك أيتها المدينة الجميلة بالقوة وسأغزوك بالمحبة أيضا “. ولكنه لم يكن يستطيع السيطرة عليها، سواء بهذا أو بتلك!. أما الروح فانه يأتي إلى النفس البشرية ليسيطر ويسود بالإشباع بمعنى الحق الذي هو يسوع المسيح، عندئذ لا يمكن إلا أن نهتف:”أحب الحق وكل الحق ولا شيء غير الحق”.

4- الروح المبكت:

والروح القدس هو الروح المبكت، أو كما قال سيدنا وهو يتحدث عنه: “8وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. 9أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. 10وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إلى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أيضا. 11وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ.” (يو16: 8-11) أو في لغة أخرى أن هذا الروح هو المسيطر على الضمير البشري، والمحرك له والمشتكي والمحتج بواسطته على كل ما يمكن أن ينشا من الضعف أو الخلل  أو القصور في العلاقة بين الله والإنسان.. ومن ثم فهو يبكت على الخطية، إذ يقنع العالم انه خاطئ، وأكثر من ذلك يوبخه على الخطية حتى يحزن عليها ويتركها، ومن الملاحظ أن العالم لا يستطيع أن يدرك بعيدا عن روح الله شر الخطية وخبثها وسمها وعموميتها، كما لا يستطيع أن يدرك في المعنى الخاص أن خطية الخطايا هي عدم الإيمان بالمسيح ورفضه !!..

والروح لا يبكت على الخطية فحسب بل يبكت أيضا على البر ! إذ لا يكتفي بان يظهر للإنسان خطيته، بل يكشف خلوه من كل بر، وحاجته إلى بر المسيح الكامل والسيد في ذلك يقول: “وإما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا “، وفي هذا نكشف بر المسيح الغائب بالجسد، ومن الخطأ أن يظن البعض أن المسيح لو كان على الأرض لأحبه الناس أكثر ومجدوه تمجيدا أعظم و أكمل من العلاقة التأملية الروحية، إذ أن اوغسطينوس لم يعرف محبته لصديقه العزيز وحبيبه الأثير إلا بعد أن مات هذا الصديق والحبيب، والإسرائيليون لم يمدوا موسى أو يدركوا شخصيته العظيمة الخالدة إلا بعد أن قضي بقبلة من الله، كما ألف أن التقليد اليهودي يقول!!. وهكذا نحن ندرك بر المسيح بتأملنا فيه واتصال أرواحنا بروحه، أكثر من الذين عاشروه ولازموه بالجسد!!.

وأكثر من هذا وذاك فان الروح يبكت على دينونة: “وإما على دينونة فلان رئيس هذا العالم قد دين، أي أن المسيح قد كشف الشيطان ودانه وهدم سلطانه وقوته، والروح القدس يبكتنا على الخوف منه، أي من الشيطان، والفزع من شره وأحابيله وقسوته وبطشه وأعماله،  حتى لا تشل قوانا أو تجفل في الصراع معه، وحتى نعلم أن الذي معنا على الدوام اقوي من الذي علينا، وان المعركة في النهاية لابد أن تتوج لمجد الفادي والسيد والمخلص العظيم!!..

5- روح المشورة:

وألوح بذلك هو الشريك لنا في كل الإحداث والحوادث في الحياة، وسعيد من يستمع إلى مشورته الحكيمة العظيمة الواعية، ليس في اكبر الأمور وابسطها فحسب، بل في أدقها وأصغرها أيضا. وقد وصف المسيح الممتلئ بالروح في النبوة بالقول: “ويحل عليه روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب” (اف1: 17) وقد ارشد الروح الكنيسة الأولى في جميع الخطوات التي سارت فيها، ففي أنطاكيا :” 2وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ». (اع13: 2). وقد تم بهذا الإرشاد الإلهي أعظم خطوة دافعة للكنيسة المسيحية في العصر الأول بل في جميع العصور المسيحية التالية في التاريخ المسيحي، إذ دعي بولس للعمل العظيم الخالد الذي قام به في خدمة كنيسة الرب يسوع المسيح على هذه الأرض!!. كما أن هذا الإرشاد كان له أعمق الآثار وأبعدها في تاريخ المسيحية والحضارة في أوربا،إذ منع الروح بولس من الانطلاق تجاه أسيا الصغرى ليأخذ طريقه إلى أوربا، بعد أن ظهر له في الليل في تلك الرؤيا الخالدة ذلك الرجل المكدوني القائل :”اعبر ألينا وأعنا ” وعبر بولس إلى مقدونية ليضع قدم الفادي في الأرض الأوربية العظيمة، وليسجل أعظم سجل عرفه التاريخ للمدينة والحضارة بهذه الخطوة العظيمة المجيدة الرائعة.. حقا أن الروح يرشد ويقود كالأب الحكيم الناصح أبناءه المحبين الطائعين.

6- روح الشفاعة:

إذ ورد عنه في زكريا: “وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات (زك12 :10) وجاء في رومية: ” وَكَذَلِكَ الرُّوحُ أيضا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا. (رو8 :26). ومن هنا نعلم أن الروح القدس هو الذي يصلي فينا ويتضرع ويتشوق ويئن ويشفع، وهذه حقائق رائعة مثيرة، يكاد الكثيرون من المؤمنين لا يعلمون أو يدرون عنها شيئا لقصورهم عن الصفات والألقاب الواسعة العظيمة عن هذا الروح.. أن روح الله يعلم ضعف الإنسان تماما في الصلاة، إذ أن هذا الإنسان لا يمكن أن يصبر على الصلاة دون كلل أو ملل أو إعياء، كما لا يمكنه أن يصلي على الدوام  دمن تحرر من الزلل والضعف والنقص والخطأ والتراجع، ولو تركه الله لذاته لتخبط دون توفيق أو نجاح أو ارتقاء أو تقدم، وهنا يتدخل روح الله إذ يعين ضعف لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي وهنا يجتهد الروح في إصلاح أحوالنا وسبيلنا، فيثير فينا بالأنات الصامتة التي لا ينطق بها الشعور بالقلق والندم والألم والغيرة والتأثر والحزن، كما يوحي ألينا في أعماق السيرة بما ينبغي إن نكون عليه أو نرجوه أو نطلبه، وهكذا يوجهنا على الدوام تجاه الكمال و الله،  وما أكثر ما يشفع فينا الروح ونحن لا ندري!!..

7- روح الإلهام:

وإذا كان هذا الروح هو روح الوحي والإعلان للأنبياء والرسل وكتبة الوحي: “21لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. (2بط1 :21 ). “16كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، 17لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ. (2تي3 :16). فانه روح الإلهام والإبداع للفنان العظيم والكاتب المبدع.. عندما سئل الموسيقار هايدن عن سر ما في موسيقاه من روعة وترانيمه من سحر وعذوبة أجاب :اذكر الله فقط، الهي وسيدي وملكي العطوف، فيرقص اللحن أمامي قبل أن توقعه أناملي أو تعزفه موسيقاي”.

في متحف وندرسور هناك صورة رائعة جميلة لداود ومعه بعض المرنمين، وقد امسك الجميع بالقيثارات ووضعوا أيديهم عليها، ولكن الإلحان استعصت عليهم فجلسوا ينتظرون الإلهام الأتي من السماء، وعندما جاءوا غنوا ألحانهم الخالدة الرائعة التي اجتازت الزمن، وعبرت القرون، ورنت أصداؤها الحلوة في قلب التاريخ والأجيال. وهل استطاع الفنان القديم بصلئيل أن يبدع ما أبدع من فن ورسم واختراع وجمال من غير هذا الروح؟ ” اُنْظُرْ! قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ بْنَ أُورِي بْنَ حُورَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بِاسْمِهِ 3وَمَلَأْتُهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ 4لاِخْتِرَاعِ مُخْتَرَعَاتٍ لِيَعْمَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ 5وَنَقْشِ حِجَارَةٍ لِلتَّرْصِيعِ وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ. لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ.(خر31: 2-5).

8- روح القوة:   

    والروح القدس هو روح القوة أيضا إذ قيل: ” ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل” (لو4:14). “13وَلْيَمْلَأْكُمْ إِلَهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَانِ لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ.(رو15 :13). “16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، (اف3: 16). والروح القدس هو روح القوة بكل ما تشتمل عليه هذه الكلمة من معنى، إذ هو روح القوة في الخلق وفي الطبيعة وفي الجسد وفي النفس وفي الروح وفي كل المظاهر والصور التي يمكن أن تكون عليها هذه القوة.. ففي القوة المادية هي الروح الخالق الذي رف على وجه المياه، وخلق السموات والأرض، وهو الروح الذي استولى على شمشون فصنع منه القوة المعجزية التي تتحدث عنها جميع الأجيال.. وفي القوة العقلية هو روح الحكمة والذكاء الذي إذ سيطر على سليمان، أعطاه القلب الحكيم المميز”حتى انه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظير” (امل3: 12)..  وفي القوة الأدبية والروحية هو الذي صنع امثل الناس وأعظم الأبطال، إذ كان لهم روح الشجاعة والبسالة والجمال والنبل والحق والعظمة والشمم والعلو والكرم والغيرة والحماس والمحبة والوداعة وما أشبه من اعلي المثل الأخلاقية وأروعها.. أو هو في لغة أخرى روح الحياة في اعلي واسمي ما يمكن أن يكون عليه هذه الحياة بين الناس، كيف لا وهو وحده الذي يرفع هذه الحياة ويعتقها من مهدة الخطية والإسفاف  والانحدار إلى اعلي القمم التي يمكن أن يصل إليها القديسون والأبطال!!.. الم يقل الرسول: “2لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ” (رو8: 2)؟ اجل فما وصل إليه إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع وصموئيل وداود والأنبياء وبولس وبطرس وسائر التلاميذ وغيرهم من القادة والزعماء  والمصلحين الذين صنعوا أعظم الآثار في التاريخ البشري، كان من المحال أن يصلوا إليه أو يبلغوه دون هذا الروح العظيم المقوى، الذي صنعهم وجعلهم على مثل ما كانوا عليه من روعة وجلال وعظمة وسمو وجمال وخلود وسؤود ومجد!.

هذه هي بعض الألقاب والصفات لروح الله ذكرناها على سبيل القياس لا الحصر، ولعلنا ندركها وندرك نظائرها وغيرها من الألقاب والصفات في المعنى الأعمق والأجل، إذا ما تابعنا الدراسة عن الروح من الجانبين الآخرين الباقيين.

الروح القدس وأعماله

وأعمال الروح القدس متعددة ومختلفة، وبعضها متصل بالماضي، والبعض الأخر متصل في الحاضر، وبعضها لابد من حدوثه في المستقبل أيضا، ولعلنا نستطيع متابعة هذه الأعمال التي نهجنا نهج من قسموها إلى ثلاثة أقسام: الأعمال المنظورة.الأعمال الخفية.الأعمال التي لابد من حدوثها في المستقبل.

أعمال الروح المنظورة

1- الخلق:

 والروح القدس هو الله الخالق، ولعل من المناسب أن نذكر بهذا الصدد اشتراك الاقانيم الثلاثة في الخلق. فالأب هو الآمر، والابن هو المبدع، والروح القدس هو الصانع والمنفذ، فإذا قيل :”في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1: 1). تبين عمل الروح على الوجه الأخص في القول: “2وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.” (تك1 :2). إذ إن الروح احدث إذ “رف” هذه الحركة والذبذبة التي هي أساس المادة ونواة الحياة!!.. ومن ثم قيل أيضا: “بنفخته السموات مسفرة ويداه أبدأتا الحية الهاربة” (اي26 :13). كما قيل: “25هَذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. 29تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ. 30تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ.(مز104: 25، 29، 30).

2- التحرير:

وليس ثمة شك في إن الروح هو أساس كل حركة تحريرية عظمى ضد الظلم والطغيان والفساد والشر، في المجتمع البشري، في جميع الأجيال والحقب والعصور التي مرت بالإنسان على هذه الأرض، وما عصر القضاء إلا الشاهد الأول العظيم على هذه الحقبة التاريخية الكبرى، وهل كان من الممكن أن تحدث حركات التحرير العظمى في ذلك العصر من غير روح الله، الم يكن الشعب أية في الذل والإسفاف والانحطاط والتعاسة والهزيمة والخنوع، وكان القواد أنفسهم ابعد ما يكونون عن القيام بأي حركة من حركات الخلاص والتحرير، فجدعون مثلا قبل حلول الروح القدس عليه كان أشبه بالبطل المقهور اليائس الذي إذ يعوه ملاك الرب جبار البأس، لا يكاد يصدق أذنيه ونفسه، إذ كيف يتفق هذا الجبروت على ما هو عليه من الخوف والفزع، لقد قتل المديانيون أخوته في “تابور” (قض8: 18). ولم يستطيع نجدتهم أو إنقاذهم، كما انه هو لا يكاد يجد طعامه وطعام أولاده إذ نهب المديانيون كل شيء، وهو إذ يخشى الحركة والنور يخبط الحنطة في الظلام، في المعصرة ليهربها من الغزاة. ولكن دعون هذا بعد حلول الروح عليه، هو القائد المظفر والبطل العظيم، الذي يقود المعركة العظمى بثلاثمائة من الجنود العزل من كل سلاح. وما قيل عن جدعون يمكن أن يقال أيضا عن أي قاض من القضاء الآخرين أمثال عثنئيل وشمجر ودبورة وباراق ويفتاح وشمشون  وغيرهم من سائر القضاة الأبطال المعروفين والمذكورين في كتاب الله!. وإذا تركنا هذا العصر إلى عصر أخر هو عصر الملكية في يهوذا وإسرائيل، رأينا كيف قاد روح الله شاول  الملك وسيطر عليه فحوله إلى الرجل الأخر الذي يمكن أن ينهض بشعبه  ضد الاستبداد  والظلم والطغيان!. الم يقل صموئيل له: “بعد ذلك تأتي إلى جبعة الله حيث أنصاب الفلسطينيين وَيَكُونُ عِنْدَ مَجِيئِكَ إلى هُنَاكَ إلى الْمَدِينَةِ أَنَّكَ تُصَادِفُ زُمْرَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَازِلِينَ مِنَ الْمُرْتَفَعَةِ وَأَمَامَهُمْ رَبَابٌ وَدُفٌّ وَنَايٌ وَعُودٌ وَهُمْ يَتَنَبَّأُونَ. 6فَيَحِلُّ عَلَيْكَ رُوحُ الرَّبِّ فَتَتَنَبَّأُ مَعَهُمْ وَتَتَحَوَّلُ إلى رَجُلٍ آخَرَ. (1صم10 :5و 6). وإذ أبصر ذات يوم محنة يابيش جلعاد المبكية القاسية لم يطق صبرا: ” فحل روح الله على شاول  عندما سمع هذا الكلام وحمى غضبه”  وحرر المدينة المحاصرة من طغيان الظالمين المستبدين !. وبعد مئات من السنين وفي عصور مغايرة أخرى نجد النبي ميخا يقع تحت سلطان وتأثير هذا الروح  فيندد بالظلم ويصرخ ضد الطغيان فيقول: “8لَكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقّاً وَبَأْساً لِأُخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ. 9اِسْمَعُوا هَذَا يَا رُؤَسَاءَ بَيْتِ يَعْقُوبَ وَقُضَاةَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ وَيُعَوِّجُونَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ. 10الَّذِينَ يَبْنُونَ صِهْيَوْنَ بِالدِّمَاءِ وَأُورُشَلِيمَ بِالظُّلْمِ. 11رُؤَسَاؤُهَا يَقْضُونَ بِالرَّشْوَةِ وَكَهَنَتُهَا يُعَلِّمُونَ بِالأُجْرَةِ وَأَنْبِيَاؤُهَا يَعْرِفُونَ بِالْفِضَّةِ وَهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى الرَّبِّ قَائِلِينَ: «أَلَيْسَ الرَّبُّ فِي وَسَطِنَا؟ لاَ يَأْتِي عَلَيْنَا شَرٌّ!» 12لِذَلِكَ بِسَبَبِكُمْ تُفْلَحُ صِهْيَوْنُ كَحَقْلٍ وَتَصِيرُ أُورُشَلِيمُ خِرَباً وَجَبَلُ الْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ. (مي3: 8-12).وفي كل عصور التاريخ لا يمكن أن تحدث حركات التحرير العظمى في أي جانب من جوانب المجتمع ما لم يكن الروح القدس هو القائد الأعلى لهذه الحركات. وفي أوائل القرن الماضي هاجم خادم من خدام الله واسمه دكتور أكرز تجارة العبيد، وكانت هذه التجارة في ذلك الحين يبيحها القانون، ولا يرى فيها اغلب الناس ضررا أو شرا، على إن دكتور أكرز وأمثاله من المسيحيين روا فيها وصمة عار في جبين المسيحية والإنسانية معا، وانه بجدر بهم أن يعبئوا كل جهودهم للقضاء عليها والتخلص منها، وتحرير العبيد المضطهدين البائسين من يد العبودية الشنيعة القاسية المروعة، وفي يوم من أيام الآحاد وعظ الدكتور أكرز عن الرق فندد به وأعلن بأنه لابد أن يسقط ويقضى عليه قريبا، وكان هناك شاب في الاجتماع ينصت بكل جوارحه إلى كلمات الواعظ إذ مست العظة شغاف قلبه وأعماق مشاعره، فما أن خرج من الاجتماع حتى قال لصديق له: “لقد خيل إلي كأنني انتقل مع الزمن وأسير مع الأيام فأبصر هذه الرؤية المجيدة الحية التي حدثنا عنها الراعي، وخيل لي إنني بكيفية ما لا أدريها سيكون لي نصيبي في إبرازها وتحقيقها، كان هذا الشاب هو الرجل العظيم الذي عرفناه فيما بعد بالرئيس: “أبراهام لنكولن” محرر العبيد بأمريكا!. أن أكرز ولنكولن وأشباههما لا يمكن أن ينبعث فيه هذا الإحساس وهذه الرؤى من غير روح الله، الم يقل الكتاب : “17يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً.(اع2 :17). وما يصح قوله عن الرق يمكن أن يقال عن غيره من الشرور والمفاسد والعيوب التي تمس المجتمع البشري، وعن الأبطال من الرجال والنساء الذين جندهم الروح وسيطر عليهم لمكافحتها، والقضاء عليها وتحرير الناس من وطأتها وشدتها!!.

3- قيادة الكنيسة:  

  والروح القدس هو القائد الأعلى لكنيسة الرب يسوع على هذه الأرض، فهو الذي يعين ويفرز لها القادة الأرضيين، ويعين لهم مكان العمل ونوعه ومجاله وزمنه وأسلوبه، ولا يترك شيئا مهما صغر أو كبر، دون إعداد وترتيب وتنسيق وتنظيم!. فالروح هو الذي افرز برنابا وشاول للعمل العظيم والخدمة الواسعة التي قاما بها: “2وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ». 3فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. (اع13: 2و 3) ومن الملاحظ إن الروح لم ينهج منهج البشر أو يسلك  سبيلهم أو نظامهم أو منطقهم، وهو بصدد هذا التعيين  الذي وصفه بازل ماثيوس بالقول: “من الوجهة التاريخية تعد هذه اللحظة بدء العمل الحقيقي للإرساليات الأجنبية، ومسيحيتنا نحن ترجع إلى تلك الطاعة السماوية التي دفعت بهؤلاء الرجال إلى السفينة الصغيرة، إذ اخذوا معهم شجرة المسيحية الناشئة ونقلوها من مشتل اليهودية إلى ارض الإنسانية في كل العالم. وقد يبدو هذا العمل من أول وهلة عملا صغيرا جدا، ولكنه في الواقع هو العمل الحاسم الذي غير تاريخ الأرض في الأجيال المتعاقبة”. ومع ذلك فعندما اختار روح الله من الخمسة قواد الذين كانوا في كنيسة أنطاكيا لم يختر أظهرهم من الوجهة الاجتماعية، إذ لم يختر مناين الذي من الطبقة الارستقراطية، إذ تربى مع هيرودس رئيس الربع،ومع إن شاول جاء في ترتيب الأسماء المدونة في الكتاب الخامس والأخير، إلا إن الروح اختار هذا الأخير حتى على برنابا نفسه، ويصل إلى المرتبة الأولى في الخدمة العظيمة الناجحة. ومع إن مدينة أنطاكيا تعد في ذلك الوقت نيفا وخمسمائة ألف نسمة وكانت من أجمل مدن العالم القديم، ولم يكن يتفوق عليها في الجمال والعظمة سوى روما والإسكندرية، وكان الشارع الرئيسي فيها يمتد إلى خمسة أميال، ويزدان على جانبيه بالبواكي والأعمدة الرخامية، وقد تغنى بها الشعراء كمدينة الأشجار والزهور والنافورات، والمدينة التي شيد خارجها تمثال رائع لابولو وكانوا يدعونها روما الشرق، إذ كانت مثل عاصمة الرومان في الجمال والشر،حتى أنهم كانوا يقولون إن الاورنتس السوري يصب في التيبر، وقد كان من الممكن إزاء كل هذه الاعتبارات كلها إلا تفرط كنيسة أنطاكيا في أفضل رجلين عندها، إذا ما أعلمت إن الحكمة البشرية، وتبقي برنابا وشاول للخدمة المحلية، ولكن روح الله قاد الأمور بكيفية أخرى إذ أرسل أفضل الخدام للعمل المرسلي العظيم في قارتي أسيا وأوربا.. وأكثر من هذا فان قيادة الروح القدس ترافق الرسول والخادم وتوجه أينما ذهب وتوجه، وعندما أمر فيلبس أن يذهب إلى البرية ليقابل وزير كنداكة: “فقال الروح لفيلبس تقدم ورافق هذه المركبة “(اع8: 29) وبعد أن أتم رسالته: “خطف الروح فيلبس فلم يبصره الخصي  أيضا ” (اع8: 29). وألم يفكر بولس وسيلا في رحلتهما التبشيرية بعد إن أخذا معهما تيموثاوس وتوغلا في أسيا الصغرى: “6وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. 7فَلَمَّا أَتَوْا إلى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إلى بِثِينِيَّةَ فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ. 8فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَانْحَدَرُوا إلى تَرُوَاسَ. 9وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «اعْبُرْ إلى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!». 10فَلَمَّا رَأَى الرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إلى مَكِدُونِيَّةَ مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ. (اع16: 6-10).

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الروح يسيطر سيطرة كاملة على الخدمة أثناء الخدمة كما قيل عن بولس في كورنثوس: “5وَلَمَّا انْحَدَرَ سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ كَانَ بُولُسُ مُنْحَصِراً بِالرُّوحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْيَهُودِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ.(اع18: 5). وفي لغة أخرى أن روح الله استولى عليها استيلاء كليا، فانحصر تحت تأثيره وسلطانه بكيفية لم يعد يملك بعدها من أمره شيئا، إذ هو خاضع تماما للروح في فكره وشعوره وإرادته وكل مقوماته لجسدية والعقلية و الأدبية والروحية على حد سواء. عندما سال صموئيل ماي صديقه وليم لويد جرسون: لماذا يبدوا على الدوام ملتهبا، ولماذا لا يحتفظ بهدوئه فلا يكون في كل وقت نار!؟ أجاب الرجل العظيم: “أيها الأخ ماي، ينبغي أن يكون كلي نار فان حولي جبالا من الثلج  ينبغي أن تذوب وتتلاشى !”. وهل يستطيع قائد أو مصلح أو زعيم أو خادم ديني أن يكون كذلك ما لم يعمد بالروح القدس والنار!؟.

وقيادة الروح تظهر من جانب أخر في الكنيسة في مواجهة الصعاب وحل المشكلات التي يمكن أن تعترض سبيلها أو تقف في طريق سلامها ونموها وتقدمها، وخير شاهد على ذلك ما حدث في مطلع التاريخ الكنسي عندما اجتمع أول مجمع مسيحي في التاريخ في مدينة أورشليم، إذ كانت المسيحية قد بلغت في ذلك الوقت مفترق طريقين خطيرين، وكان عليها أن تختار احدهما، وفي هذا الاختيار سيتقرر مصيرها النهائي وشكلها الدائم، أتكون جزءا من اليهودية وفرعا منها تحتفظ بشكلها وطقوسها وعادتها وفرائضها، أم تصبح دينا حرا واسعا سمحا للإنسانية جمعاء!؟. وهل من الواجب على المقبل عليها من الأمم أن يتهود أولا فيختن ويحفظ الناموس الطقسي الموسوي، أم يدخل في الإيمان دون مراعاة لهذه الطقوس والفرائض والعادات، وإذا اختلف في الأمر حدث أول مجمع في التاريخ المسيحي، وهنا يتعلق – كما قال احدهم- مصير المسيحية في ميزان ولكن شكرا لله، فان الروح القدس كان يقود الاجتماع، وإزاء هذه القيادة وبسببها أمكن أن يصلوا إلى القرار الصحيح السليم الذي أطلق عليه البعض “ماجناكارتا” أو دستور الحرية المسيحية: “28لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ غَيْرَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْوَاجِبَةِ: 29أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ وَعَنِ الدَّمِ وَالْمَخْنُوقِ وَالزِّنَا، الَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ». (اع 15:28و29).وهكذا نرى قيادة الروح القدس للكنيسة في كل جانب.

4- الولادة الجديدة

 كان ولد صغير يقرا الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا الذي يتحدث عن الولادة الجديدة، وإذا ساله احدهم: “ولكن ما  هي الولادة الجديدة  يا ولدي؟” أجاب مشيرا إلى قلبه :”مهنئه تغيير عظيم هنا”!.

اجل فهذا هو المعنى الدقيق للولادة، إذ إنها تغيير الحياة وتحولها من الفساد والشر إلى الله. وقد قيل انه في صيف عام 1951م عين مستر والتر أندرسون مديرا لأحد السجون في نورث كارولينا الأمريكية، وإذ كان أندرسون يعتقد إن السجن ليس عقابا للمجرم بل هو بالأحرى وسيلة لعلاجه، شجع على قيام خدمات دينية منظمة للمسجونين. وقد قام بهذه الخدمات عدد من العلمانيين أو المؤمنين، وقد أتت هذه الخدمات بثمار عجيبة إذ إن سبعين سجينا من ست وثمانيين من المحكوم عليهم بمدد طويلة أصبحوا مسيحيين، ويسعى هؤلاء المجددون بالإتيان بالست عشر الآخرين للمسيح، وقد كتب احدهم إلى أمه يقول: “لم يعد السجن سجنا بعد،  إني احبك وأحب كل واحد في العالم، لقد كنت قبلا اكره كل واحد في العالم، لقد كنت قبلا اكره كل إنسان، أما ألان فاني لن افعل خطا، وتستطيعي أن تفخري بي لأني سأعيش حياتي للمسيح”

فكيف أمكن أن يتحول هؤلاء من الإجرام إلى القداسة، ومن الأوحال إلى القداسة، ومن الظلمات إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى سلطان الله!.

ليس قطعا بمجرد الإرشاد والوعظ الذي تحدث به العلمانيون الوعاظ إليهم!. فالولادة الجيدة لا يمكن أن تأتي بالإقناع البشري أو الفصاحة أو البلاغة التي يمكن أن يكون عليها الإنسان، إذ أن الفصاحة والبلاغة قد يكون لها القدرة على أن تبكي وتضحك وتحسن وتهدئ، ولكنها لا يمكن أن تجدد وتغير، إذ إنها قد تجذب الأذن لكنها لا تمتلك القلب، إنها قد تخضع المشاعر لكنها لا تغير الحياة. إن القلب سمكة قد أتعبت صياد إنجيل، ومن القديم قالوا إن رجلا واحدا يستطيع أن يقود حصانا إلى الماء، ولكن مائة رجلا لا يستطيعوا أن يجعلوا الحصان يشرب.. هكذا الولادة الجديدة، لا يمكن أن تتم بمجرد إقناع الناس، بل بتأثير وفاعلية وقوة وسلطان الله  على النفس البشرية ومن ثم قال  المسيح: “لا تتعجب إني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو3: 7)؟ الحق الحق أقول لك إن كان احد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5). “الريح تهب حيث  تشاء وتسمع صوتها ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح” (يو3: 8). فإذا كان السيد قد ذكر هذا لنيقوديموس في ليلة من ليالي الربيع،  وربما هبت في ذلك الوقت الريح الهادئة الوادعة على وادي قدرون، وداعبت في طريقها أوراق التين الخضراء، وهفت على أوراق  الزيتون، ولمست أنوار المشاعل، من الشرق البعيد تجري حتى أقصى الغرب وراء التلال والجبال، فمن المتصور أن يرى المسيح في كل هذه صورة لما يفعله  روح الله في كل مكان على هذه الأرض، إذ يهب على البشرية كلها ليخلق من الموت حياة، ومن الجمود شعورا، ومن النوم يقظة وتنبها، ونحن  لا نعرف كيف  يتم هذا أو يكون، ولكننا يمكن أن نلحظه وندرك أثره في ذلك التحول العجيب والتغيير المذهل الذي يطرأ على الإنسان  وينقله من النقيض إلى النقيض ليصبح ابنا لله وعضوا في الكنيسة، وجسد الرب يسوع، بفضل الروح واختبار الميلاد الثاني العجيب!!..

5- توزيع المواهب

والروح يوزع – إلى جانب عملية التجديد لكل عضو في الكنيسة – المواهب الروحية المختلفة المتعددة على الأعضاء جميعا، إذ لا يصح أن يكون خناك عضو واحد من غير موهبة أو عطية أو خدمة أو عمل على الإطلاق. كما إن الروح لا يعترف بأولئك الذين يضمون إلى الكنيسة من غير تجديد أو غير خدمة أو إنتاج أو مجهود. إذ هم أشبه بذلك الشاب الذي جاء إلى راعي احد الكنائس الأسقفية في مدينة نيويورك وطلب الانضمام إلى الكنيسة، وعندئذ ساله الراعي: “ولكن في أي قسم أو عمل تريد أن تشتغل وتخدم “؟ فأجاب الشاب :”إني لا أريد أنا عمل في شيء،ولكني أرجو فقط الانضمام إلى الكنيسة  “فقال الراعي: “عندنا الأعضاء لابد أن يعملوا،هناك مدارس احد، وهناك الفردي، وهناك زيارة المرضى والمحتاجين، ففي أي من هذه تريد أن تبذل مجهودك وعملك؟”. فأجاب الشاب متململا:”أنا لا ارغب في الانضمام إلى واحد من هذه الأقسام!” فقال له الراعي :”يأبني اخشي أن تكون قد أخطأت في المجيء إلى الكنيسة، ولعلك تقصد الكنيسة التي في أخر الشارع!.. وهي الكنيسة المضافة إلى المقابر، والتي تقام فيها في العادة صلاة الجنائز عند دفن الموتى.. أما كنيسة الإحياء فلابد أن يشتغل ويعمل فيها  كل عضو على وجه التحديد والتخصيص”.

ومن ثم فان الروح القدس لا يمكن أن يترك عضوا واحد دون عطية أو موهبة : “وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ قَاسِماً لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ. (1كو12 :11). ومن الملاحظ أن الكلمة “كما يشاء “تفيد الحرية والحكمة عند الروح في التوزيع، إذ انه لا يوزع كيفما اتفق أو من غير نظام أو ترتيب، بل على العكس ينظم ويرتب ويوزع المواهب حسب الحاجة، ووفقا للحكمة العليا، والغرض الإلهي العظيم. ومن توزيع الروح نلاحظ انه قد يعطي البعض المواهب والوزنات العقلية. “8فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ.” (1كو12 :8).. كما قد يعطي البعض الأخر المواهب المتصلة بالإدارة:” 9وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. 10وَلآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ (1كو12 :9و10). وقد يعطي لغيرهم المواهب المتصلة والمرتبطة بالشعور والعاطفة:” وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ وَلآخَرَ أَنْوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ.(1كو12 :10) والكنيسة تحتاج ولا شك إلى هذه المواهب جميعا، على وجه التناسق والتكامل، فلا يقال عنها ما قيل عن احد المسيحيين أن له قلبا من ذهب وعقلا من ريش، أي انه ذهبي القلب صغير العقل، إذ إنها في حاجة إلى العقل والقلب معا، بل والإرادة أيضا.

كان الإصلاح في حاجة إلى عقل ارزامس، وقلب ملانكتون، وإرادة لوثر. وعندما وزع الروح عطاياه على اخوين.أعطى يوحنا ويسلي بلاغة الوعظ وسحر المتكلم، وأعطى تشارلز رنين الموسيقى وعظمة الترنم. والكنيسة في حاجة إلى الأخوين معا، بل في حاجة إلى العقول الجبارة التي يمكن أن تخرج روائع الفكر، وتنسق المبادئ، وتدافع عن الحق القويم، وفي حاجة إلى القلوب الذهبية التي عمرت بالحق اليقين واتسعت للحق، وأكثر من هذا وذاك هي في حاجة إلى الإرادة الصلبة  التي لا تهدأ أو تسكن  حتى تحول كل شيء لمجد الله  وخير الجميع!. هذا هو المعنى المستفاد من القول :” 6وَأَنْوَاعُ أَعْمَالٍ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ الَّذِي يَعْمَلُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ. 7وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إظهارا الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ. (1كو12: 6 و 7).

6- الإثمار:

 ثمة أمر يفعله الروح القدس في حياة الأعضاء في الكنيسة، إلا وهو الإثمار:” 22وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ 23وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.” (غلا5: 22 و23). والفرق البين بين المواهب والثمر هو أن المواهب توزع على الأعضاء فيأخذ منها الفرد الواحد البعض دون الكل، على قدر ما تتسع له قابليته، وما يستطيع أن يقوم به من عمل أو مجهود أو خدمة أو إنتاج أو ما أشبه ذلك في الكنيسة.وأما الثمر فعلى العكس من ذلك، إذ هو في المعنى المنشود والدقيق من الكل وفي الكل على حد سواء، وواضح أن الرسول لم يقل أثمار الروح القدس،كأنما هي أثمار متفرقة يأخذ المرء بعضها دون البعض الأخر، إذ أن للروح ثمر واحد لا غير، وان تعددت وتنوعت مظاهره، ول مؤمن حقيقي لابد أن توجد فيه  هذه لابد أن توجد فيه هذه المظاهر والصفات  وان برز بعضها عن البعض الأخر في ذات الشخص الواحد، وقد قسم بعضهم هذه الصفات التسع في المؤمن إلى ثلاثة أقسام فالثلاثة الأولي تتصل بالله،والثانية بالآخرين، والثالثة بالنفس.. فعلاقتنا بالله علاقة المحبة والفرح والسلام، فالمحبة هي الربط القوي الذي ربطنا بالله به، ويشع عنها حياة الفرح والسلام، فرح التحرر من الخطية وسلام الضمير الذي يفوق كل عقل.. أما علاقتنا بالآخرين فتبدو في طول الأناة واللطف  والصلاح وهي عواطف تتناول الجانبين السلبي والايجابي من الحياة، أما الجانب السلبي فيبدو طول الأناة واضحا للآخرين، أما اللطف فهو المعبر الذي ننتقل به من الجانب السلبي  إلى الجانب الايجابي، أو هو مزاج من الأناة والصلاح معا، أما الصلاح فهو المعاملة الايجابية الصالحة مع الآخرين، أما علاقتنا بأنفسنا فتبدو في الإيمان والوداعة والتعفف، ولا يقصد بالإيمان هنا على الأغلب الإيمان ألخلاصي، بل لعل المقصود منوه طريق السير ونهج السلوك في الحياة بأكملها، الطريق الروحي غير المادي الذي يتشدد فيه المرء كأنه يرى من لا يرى وأما لوداعة فأمرها معروف، إذ هي السير المتحرر من الزهو والتعظم والخيلاء والكبرياء، أما التعفف فهو الحياة المرتفعة عن الأوحال والإسفاف والدنايا. وهذه كلها لا يمكن أن تتم من غير عمل الروح القدس وإثماره في حياة كل مؤمن وعضو حقيقي في جسد المسيح وكنيسته المجيدة المباركة  المقدسة المفدية على  هذه الأرض.

7- القوة الدائمة في الكنيسة:

قال احدهم أن شيئا ما حدث في القرن الأول قلب وجه التاريخ، شيئا ما جاء بعد صليب المسيح غير دائرة الكون. ولكننا نحن نقول أن هذا الشيء لم يكن قوة من قوى الأرض، فالناس ألفوا أن يتم التغيير متى وجد المال أو العلم أو السيف أو ما أشبه من قوى العالم، ولكن كلها لم تكن العناصر التي غيرت الحياة البشرية وافتتحت صفحة جديدة في تاريخ الإنسان. أن القوة التي ظهرت في القرن الأول لم تكن قوة “شيء” بل قوة “شخص” حل في قلوب مستعدة، وحرسها وحكمها وأعانها وقواها ودفعها فصنعت العجائب، وفتنت المسكونة. وهذا الشخص هو الاقنوم الثالث  روح الله الذي انشكب بغزارة في يوم الخمسين. ولعل دراسة هذه القوة تكشف عن أعظم مصدر واغني ينبوع أعطي للكنيسة من وقت صعود المسيح حتى المجيء الثاني المبارك العتيد. ويمكن دراستها على الأقل من النواحي التالية.

(أ) الحاجة إلى هذه القوة

وهل من شك في هذه الحاجة، وقد وضع التلاميذ على عاتق تلاميذه أضخم مهمة يمكن أن توضع على عاتق الناس في الأرض :” 8لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ». (اع1: 8) كيف لا وهي الرسالة النبيلة. ربما لو كنا مع المسيح في ذلك الوقت لاعترضنا محتجين بالقول: كيف تطلب منا أيها السيد أن نذهب إلى أورشليم، وأورشليم هي المدينة ألاثمة التي صلبتك؟!. كيف تطلبا أن نسعى إلى اليهودية، واليهودية كانت على الدوام تهملك؟ وكيف نطلب منا أن نأخذ السبيل إلى السامرة وهي التي رفضتك وأبت أن تقبلك؟. وكيف تطلب منا أن نذهب إلى الأمم وما هم في واقع الحال إلا مجموعة قذرة حقيرة من الخنازير؟. لا!. لن نذهب لهؤلاء جميعا، إذ لا يستحقون أن ننادي برسالة الإنجيل ومجد المصلوب، ولكن المسيح إذ يعد تلاميذه بالروح إنما يعدهم بالقوة النبيلة الغافرة التي ترفعهم إلى فوق الحقد والنقص والضعف والشر والإساءات البشرية.

فيبدءون رسالتهم بالمدينة ألاثمة التي ارتكبت أعظم جريمة سجلها التاريخ، إذ صلبت سيدهم، ويتحولون منها إلى اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض، ليقوموا بخدمتهم العظيمة السامية الممتلئة بالمحبة التي لا تموت وبالعطف الذي لا ينتهي. كما أن رسالتهم ليست الرسالة  النبيلة فحسب السامية فحسب، بل الرهيبة أيضا، إذ أن كلمة شهودا يمكن أن تترجم حسب الأصل “شهداء” فالشهادة والاستشهاد في معنى واحد. وهؤلاء التلاميذ لن يشهدوا للسيد بالأقوال والأفعال فحسب، بل قد يستشهدون إذ يسفك دنهم أيضا. ومن يستطيع أن يقوم بهذا كله، ما لم تكن له قوة اعلي من مجرد قوة الإنسان وشجاعته وجسارته. إذ إنها الرسالة التي تندرج من أورشليم، أي إرسالية البيت. إلى اليهودية والسامرة، أي إرسالية الوطن. إلى أقصى الأرض، أي الإرساليات الأجنبية البعيدة.

إنما في الواقع تنادي كل ما في الإنسان من قوة وحكمة وشجاعة وطاقة وبعد نظر ونظام. إذ تبدأ بالبيت الأهل والعشيرة، ثم تندرج إلى الجار والصديق والمواطن، وتأخذ أخر الأمر سبيلها إلى الغريب  والبعيد والقاصي والمجهول، في أي بقعة من بقاع الأرض، وبين أي جنس من أجناس الناس ومن ثم كانت حاجة  التلاميذ ولا شك إلى القوة الإلهية العلوية حاجة صارخة قاسية ملحة رهيبة!.

(ب) الحصول على هذه القوة:

والأمر الثاني الذي لابد من التأمل فيه: كيف حصلوا على هذه القوة؟. وكيف يمكن في المعنى العام أن تأتي إلى الكنيسة والنفس البشرية؟. في الواقع أن هذه القوة لا يمكن أن تأتي إلا إذا توافرت في المستقبل لها أو المنتظر الملء بها بعض الشروط أو الأوضاع، إذ لا بد أول الأمر أن يكون مستعدا لمجيئها منتظرا إياها، ومع أن مجيء الروح حدث يوم الخمسين بغتة، ولكن التلاميذ كانوا يتوقعون مجيئه منتظرين، وهذا هو التجاوب الدائم بين عمل الله واستعداد الإنسان، وهل نادى الله موسى من العليقة إلا بعد أن رآه يميل ليرى منظرها العظيم!؟.

وقد كان استعداد التلاميذ لمجيء الروح بالارتفاع إلى العلية، ولم تكن العلية بالنسبة لهم مجرد ارتفاع جسدي مادي، بل كانت أكثر منذ لك صعودا علويا نفسيا وروحيا، إذ كانت نفوسهم في العلية مرتفعة متعالية سامية بعيدة عن العالم المنخفض الذاتي، تسعى إلى الصعود والارتفاع والسمو والانطلاق والارتقاء في الشركة المقدسة العليا مع الله. لقد طرحوا عن حياتهم كل الضعف والاثة والمشاجرة والحقد والانقسام والتنابذ، فكان الجميع كما يقول الكتاب “بنفس واحدة ” كما إنهم كانوا من المتعذر عليهم أن يصلوا إلى هذه القوة من غير الإيمان، إذ لم يكونوا يعلمون على الإطلاق متى أو كيف تأتي، ولكنهم كانوا يؤمنون إنها آتية من دون ريب أو شك إذ وعدهم السيد بذلك، وهم ينظرون في مدينة أورشليم وفي العلية تحقيقا لهذا الوعد الأمين الجليل المبارك. والى جانب هذا كله كان لابد من للحصول على هذه القوة من الصلاة ومن عجب أن وعد المسيح لهم لم يصيرهم كسالى سلبيين أو متهاونين في الطلب والإلحاح والصلاة !. لقد علموا أن الصلاة هي الجانب البشري المؤكد لحلول الروح القدوس وهطول البركات السماوية. كيف لا وقد سمعوا من سيدهم من قبل : “11فَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ أَبٌ يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزاً أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أو سَمَكَةً أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ 12أَوْ إذا سَأَلَهُ بَيْضَةً أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ (لو11 :11- 12).

 (جـ) مظاهر هذه القوة:

وقد ظهر هذا الروح في يوم الخمسين في ثلاثة مظاهر تحمل معنى عميقا جليلا، مباركا، إذ ظهر أول الأمر في مظهر الريح :” 2وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ (اع2:2):ونحب أن نذكر انه لم تكن هناك ريح بل “صوت كما  من هبوب ريح عاصفة”. والعلامة قائمة بين الروح والرياح في أكثر من معنى ومظهر، إذ هو مثلها يأتي من السماء من الأعالي، ويتمشى في كل منطقة ومكان من إرجاء العالم والمعمورة، ويتحدث عند الهدوء بالرقة، وعند القوة بالاكتساح والقدرة والنصر. والمظهر الثاني للروح النار، والنار كما نعلم ترسل النور الذي يكشف أستار الظلام، وفي حضرتها تهرب الأشباح والمخاوف والمعاثر، والنار تبعث أيضا الدفء وتوقد الحركة والانطلاق والنشاط، كما تقتل الميكروبات والجراثيم، وتقضي على الأوبئة والقاذورات والفساد، وهي أخر الأمر تمتحن المعادن وتنقيها من الزغل والخيل والغريب، وهكذا يفعل روح الله على الدوام بقوته المنيرة والمحركة والمطهرة والمنقية لأبناء الله، ليصبح الكل أواني صالحة مستعدة مقدسة مجيدة للخمة العظيمة المباركة. أما المظهر الثالث للروح فهو الألسنة، فاللسان كما نعلم هو أداة التخاطب وإعلان الحقائق الخفية العميقة المكنونة، وقد شاء الله أن يشير إلى عمل روحه بلسان ناري متقد، ليعلن بجلاء رغبته في استخدام الإنسان القوي الغيور الشجاع لإذاعة حقه الواضح الصريح بشجاعة لا تخزي، وبغيره لا تعف أو تموت. هل عرفت إذا من هذه المظاهر الثلاثة كيف جاء روح الله يوم الخمسين بقوة علوية منير محركة مطهرة متكلمة مقنعة ملتهبة متحمسة غيورة

(د) أثار هذه القوة:

وكم لهذه القوة من أثار لا تعد ولا تحصى في حياة المؤمنين والكنيسة، إذ كانت بادئ ذي بدء قوة الشجاعة والبسالة، كيف لا وقد كانت العلية قبل الروح علية مغلقة على التلاميذ المجتمعين بسبب الخوف من اليهود، ولكنها يعد الروح في يوم الخمسين أضحت مركز الانطلاق والقوة والاندفاع. وأين بطرس الهارب الخائف الجبان يوم الصلب من بطرس الجسور والمقدام والمندفع يوم الخمسين، أو كما قال احدهم: ” أن بطرس الممتلئ من الروح القدس ليس بطرس واحد بل هو ألف بطرس، انه بطرس المضاف إلى ذاته. أن بطرس بنفسه قصبة تهزها ريح السخرية، ولكن بطرس الممتلئ من الروح القدس رجل حرب وقائد مقتدر، وجندي لا يسقط إلى الأرض، انه المتسربل بعظمة السماء، والفصيح برعد السماء، واللطيف بمحبة السماء. أن المسيحيين الأوائل لم ينفردوا في طبائعهم بما يخالف طبيعتنا نحن في هذه الأيام، بل إنهم شركاء لنا في الطبيعة والآلام، ولكن تفردهم يرجع إلى درجة امتلائهم بالروح القدس، الروح الذي إذ استولى على الرعديد حوله إلى الجسور الفذ المقدام، وها نحن نرى بطرس قبل الامتلاء بالروح وبعده. أن شجاعة المسيحيين الأوائل لم تكن في الواقع شجاعة أصيلة بقدر ما هي شجاعة مكتسبة ترجع أولا وأخيرا إلى روح الله… كما كانت أيضا قوة الشهادة الأمينة القوية المنتصرة، وإلا فمن علم ذلك الصياد البسيط الساذج بطرس أن يعظ ويشهد بمثل ما وعظ به و شهد أمام الجمهور والسنهدريم. لقد كانت عظته الأولى التي كسبت ثلاثة آلاف من الأنفس في وقت واحد خير مثال ونموذج للعظات القوية العظيمة الرائعة، لقد كان مطلعها دقيقا يستهوي الآذان اليهودية، ويميل بها إلى التسمع والإنصات، انظر إليه وهو يقود المستمعين إلى رؤيا يؤيل عن الروح القدس، ثم يسير بهم بعد ذلك إلى المسيح المصلوب، ولو أن هذا الصلب كان بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق. ثم يناشدهم في الختام بالتوبة والرجوع إلى الله.

وأخر الأمر فان هذه القوة كانت قوة إقناع وربح للنفوس الثمينة الآتية إلى الرب يسوع وكنيسته المجيدة، إذ كان الرب يضم كل يوم إلى الكنيسة الذين يخلصون!. هل من سبيل إلى أي نهضة تحدث في التاريخ من غير القوة المؤثرة المقنعة لروح الله !.

كتب ج. هـ. مرجان يصف إحدى النهضات الهائلة التي حدثت في كنيسة من كنائس ويلز فقال: كان راعي هذه الكنيسة واعظا ممتازا موهوبا، وأمير من أمراء المنابر بلا منازع، ولكن سحر عظاته وقوة بلاغتها لم يجيدا في الناس شيئا، فاضطرب وجزع، وضاق به الأمر، غير انه اعد عظة واحة خلصت المئات من الناس، وإذ تاق واحد من زملاءه أن يعرف سر العظة وسأله قائلا: “من أين جئت بهذه العظة الرائعة يا أخي؟”.وعندئذ أخذه الراعي إلى غرفة حقيرة، بها نافذة تطل على الجبال، وفرش على أرضها سجادة قديمة بالية!. وأشار إلى جزء من السجادة وقال: “هنا في هذا المكان جئت بعظتي .. لقد ضاق قلبي بالناس وشرورهم وآثامهم وخطاياهم، فانحنيت في هذا المكان قريبا من النافذة وظللت اضرع إلى الله أن يعطيني قوة لم أعهدها أو اعرفها في كل تاريخ حياتي وخدمتي وجهادي، وظللت على هذا الحال طوال الليل دون أن أنال هذه القوة العظيمة الموعودة، حتى أشرق الفجر وانساب نور الشمس أتيا من وراء الجبال وغامرا الطبيعة والكون بالحياة والقوة والجمال، وعندئذ أبصرت نورا ابهر واقوي وأعظم يغمر أعماق نفسي، فسكنت وهدأت  ونمت، ثم استيقظت لأعظ العظة التي كانت سببا مباركا في تغيير المئات من الأشرار والآثمة والخطاة والفجار”. حقا أن قوة روح الله العجيبة ما تزال في متناول الكنيسة والمؤمنين في كل جيل وعصر!”.

أعمال الروح الخفية

وإذا كانت هذه الإعمال التي اشرنا إليها آنفا تظهر بهذه الصورة أو تلك في حياة الناس فإنها تخفي خلفها عمل الروح العجيب  الداخلي الخفي في النفس البشرية. ويمكن أن نتابع هذا العمل إذ ذكرنا الخفيات التي يخضعها الروح في حياة الناس… ولعل أولها تأثير الروح في الفكر البشري.

وما أكثر ما يفعل الروح في هذا الميدان بتطهير المنبع الذي تنبع منه هذه الأفكار، ونعني ب القلب البشري: “21لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ 22سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ. 23جَمِيعُ هَذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ».(مر7: 21-23)

. فإذا كانوا قد زعموا أن هرقل – كما تروي الأساطير اليونانية القديمة –قد استطاع أن ينظف حظائر البقر التي للمك اوجياس في يوم واحد، الحظائر التي لم تنظف مدة ثلاثين عاما، وذلك بان حول عليها نهري الفيوس ويبنيوس، فجرف الماء كل ما فيها من اوخام وتركها نظيفة!!.فان روح الله يفعل كما في عالم الواقع والحقيقة، ما هو أجمل وابرع من كل ما جاءت به هذه الأساطير، إذ ينظف كل يوم قلوبا لا عد لها ولا حصر فيطهرها من الأوحال والمفاسد والأفكار النجسة المتراكمة المتزايدة التي لم تنظف على الإطلاق عشرات السنين مرة واحدة!..

وما يقال عن الفكر يمكن أن يقال عن العواطف والميول والنزعات والمشاعر والشهوات وما أشبه مما تنضح به الحياة البشرية، كلها يطهرها الروح ويبدلها في حياة الإنسان، إذ يصنع فيه كل شيء جديدا.. وأكثر من الأمرين يبدل ويغير إلى الحد العجيب إرادة الإنسان، واتجاه حياته بأكملها، فيفعل في هذه الإرادة ومعها، ما فعله مع ذلك العامل الماهر، الذي قيل انه كان يشتغل في شركة من شركات الصلب، وكان امهر العمال في الشركة، ولكنه للأسف كان عبدا للخمر حتى اضطرت الشركة إلى فصله، وكانت مع ذلك تحتاج إليه بين الحين والأخر، فتعيده إلى العمل، وقد جربت كل الوسائل ليتخلص من نقطة الضعف القاسية المحيطة به دون جدوى!!. والخيرات لجأت إلى إحدى الكنائس المشيخية في أمريكا وهناك سلمه الراعي لاثنين من امهر مساعديه وأكثرهم دراية واختبارا، وظل الاثنان يقودانه بالعمل الفردي إلى معرفة المسيح والإيمان بروح الله، حتى تجدد وتغير وانتصر على العادة الشريرة، وعاد مرة أخرى إلى الشركة، لا ليعمل هذه المرة في الصلب فحسب، بل ليكون هو بنفسه بقوة الروح وبالطاعة للحق قويا كالصلب.. حقا أن روح الله يصنع من اضعف إنسان قوة هائلة وإرادة فولاذية صلبه هيهات أن تلين أو تقهر!!

أعمال الروح في المستقبل

وثمة أمر أخر نختم به الحديث عن أعمال الروح، إلا وهو أعمال الروح في المستقبل، ونقصد بالمستقبل هنا مستقبل المؤمن ومستقبل الكنيسة أيضا..وأما عن المؤمن فان الروح يظل مصاحبا لهمن التجديد حتى النفس الأخير، ولا يمكن أن يهدا أو يسكن حتى يعبر به أمنا من الأرض إلى المجد، أو في لغة أخرى أن الروح القدس لا يمكن أن يمسك بالحاضر في حياة المؤمن، وهو يكافح الخطايا والمتاعب والآلام والتجارب فحسب، ولكنه أكثر من ذلك يضمن له المستقبل والنصرة، حتى ينتهي من رحلته المجهدة القاسية المتعبة على الأرض، ويصل به إلى المجد السماوي العتيد أن يكون: ولعل هذا التاريخ- تاريخ الحاضر والمستقبل عند المؤمن – هو المستفاد من القول: “9أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لاَ تَضِلُّوا! لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ 10وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شتامون وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. 11وَهَكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا. (1كو6: 9-11). أي أن الروح يتولانا ونحن نسير في موكب الحياة ليخلصنا من الماضي ألاثم الشرير الممتلئ بالمفاسد والأوحال، ويحفظنا في الحاضر بالغسل، ويضمننا في المستقبل وما يأتي من أيامنا بالتقديس والتبرير !!. وما امجد أن يضمن روح الله، لا كفاحنا الحالي المضني القاسي فحسب، بل مستقبلنا المجهول الخفي المخبأ غير المعروف أيضا.. ومثل هذا الأمر يمكن أن يقال عن الكنيسة كذلك، فان الروح لا يضمن هذه الكنيسة في عصر دون عصر. أو فترة دون فترة، أو تاريخ دون تاريخ، بل سيظل ضامنا لها على الدوام. في كل التاريخ والأجيال، حتى تهتف هتافها الأخير المنتصر، وتبلغ مجدها الأبدي العظيم.

ولعل هذا يبدو في أجمل واجل وضوح متى ذكرنا أن الروح الذي صاحب الكنيسة منذ يوم الخمسين هو بعينه الذي نراه في صحبة هذه الكنيسة، ويوجه معها دعوة الخلاص لكل إنسان، على أخر صفحة من صفحات الكتاب في سفر الرؤيا بالقول: “الروح والعروس يقولان “(رؤ22 :17).. وما أجمل أن تذكر الكنيسة أن الروح الذي تمشى معها في أيام الرسل وفي العصور الوسطى وعصر الإصلاح، هو هو بعينه الذي يتمشى معها في هذه الأيام، والذي سيضمن بقاءها وقوتها ومجدها حتى أخر الدهر، ما أكثر ما فعل، وما يفعل، وسيفعل روح الله في حياة المؤمنين كإفراد وجماعات على توالي العصور وامتداد الحقب والقرون والأجيال!!..

الروح القدس وحلوله

والأمر الأخير الذي لابد من دراسته، والتأمل فيه هو كيفية مجيء روح الله إلى الإنسان، والحلول فيه والسكنى والملء والمعمودية وما أشبه من مترادفات وصور جاء ذكرها في الكتاب !! ولعل من اللازم قبل كل شيء أن نبين الفرق بين الحلول في العهد القديم والحلول في العهالجديد.. فعندما قال المسيح لتلاميذه: “7لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. 8وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ.” (يو16: 7 و 8). عندما قال المسيح هذا تساءل الكثيرون: ولكن الم يكن الروح القدس في العالم قبل ذلك!؟. الم يأت إلى إبراهيم في أو الكلدانيين، الم يحل على ملكي صادق ملك ساليم؟. وألم يسكن في أيوب في ارض عوص؟. بل الم يعمل على خلاص المفديين في العهد القديم، فكيف يقول المسيح: “ومتى جاء ذلك”؟…

الحق أن روح الله في العهد القديم كان يحل على البعض حلولا وقتيا ولغاية معينة، ثم يفارقهم بعد انتهاء هذه الغاية، وقد يسقطون في الشر بعد ذلك ويهلكون!. الم يحل الروح على بلعام بن بعور، فبارك الشعب الذي دعي ليلعنه، وتنبأ بنبؤة من أعظم وأروع النبوات التي جاءت في العهد  القديم عن المسيح عندما صاح: ” وَحْيُ بَلعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ الرَّجُلِ المَفْتُوحِ العَيْنَيْنِ. 16وَحْيُ الذِي يَسْمَعُ أَقْوَال اللهِ وَيَعْرِفُ مَعْرِفَةَ العَلِيِّ. الذِي يَرَى رُؤْيَا القَدِيرِ سَاقِطاً وَهُوَ مَكْشُوفُ العَيْنَيْنِ. 17أَرَاهُ وَلكِنْ ليْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ ليْسَ قَرِيباً. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيل فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ وَيُهْلِكُ كُل بَنِي الوَغَى.” (عد24: 15-17).

وألم يحل روح الله على شاول الملك فتنبأ وقاد شعبه في أول الأمر قيادة رائعة، ثم لم يلبث أن فارقه فتخبط في الظلام والضلال والهلاك!؟.

والى جانب هذا الصنف من الناس حل روح الله في غيرهم من المؤمنين “كإفراد أيضا” ليؤدوا رسالة معينة وخدمة خاصة، فكان فيهم النبي والمرنم والكاتب والمصلح والمنقذ وما أشبه، واستقر فيهم الروح حتى النهاية دون أن يبارحهم، ولكنه تعامل معهم على حدة وبكيفية فردية خاصة، وكانت صرخة واحد منهم عندما أخطا خطيته الكبرى وتاب عنها   :”لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني “(مز51: 11). وكان الروح إلى جانب هذا كله يحل على كل فرد من المخلصين والمؤمنين في كل جيل وعصر ممن يقبلون دعوة الخلاص إذ لا يمكن أن يأتي احد إلى اله من دون الولادة من الروح القدس :” الحق الحق أقول لك أن كان احد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3 :5( وكان الآتون إلى الله في العهد القديم من غير شعبه من الأفراد الذين مستهم نعمة الله، إذ تعامل الله معهم فرديا، مثل راحاب الزانية وراعوث الموآبية، واتاي الجتي، واوريا  الحثي وغيرهم وغيرهم!!.  على أن الله قد انحسر عمل روحه ما خلا ذلك في شعبه المعين المختار، ثم جاء بعد ذلك العصر المبارك المجيد  الذي من يوم الخمسين وقيل فيه :” 17يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً. 18وَعَلَى عَبِيدِي أيضا وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ.” (اع2: 17 و 18) وفي العصر لا يكون روح الله قاصرا على كل فرد دون فرد، أو جنس دون جنس، أو طبقة دون طبقة!!.. بل سيسكب منه ” على كل بشر” ذكرا كان أم أنثى، شابا كان أم شيخا، عبدا كان أم حرا!. إذ هو للجميع دون تحديدا أو تفرقة أو تمييز أو استثناء!!.. ومن هنا كان الفرق بين الحلول في العهد القديم والحلول في العهد الجديد، إذ هو في الأول وقتي وخاص وعلى نطاق محدود، وفي الأخير دائم وعام وشامل ومستمر وفي أوسع المظاهر وأكمل الأوضاع!!.

وقد أطلق على هذا الحلول في العهد الجديد أسماء متعددة وأوصاف كثيرة، بحسب المظاهر أو الأوضاع أو المناسبات أو الغايات التي قصد الروح إن يعلن ذاته فيها أو يتميز بها. وها نحن أولا سنقف ونتعرف عليها، لعلنا ندرك بذلك الفرق بينها بعضها البعض، والمعاني الغنية العميقة الخصبة التي تحتوي عليها!!. ولعل أشهرها وأظهرها ما يلي:

1- سكنى الروح

وقد جاء في الكتاب في أكثر من موضع عن هذه السكنى إذ ذكر السيد المسيح حقيقتها في القول : ” 16وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إلى الأَبَدِ 17رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.” (يو14: 16و 17).كما ذكرها الرسول عندما قال: “11وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أيضا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ.” (رو8 :11)  “أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله ساكن فيكم” (1كو3: 16) وقد ألف القديس اغناطيوس إن يدعو نفسه “حامل الروح” !! وألبست هذه هي حقيقة من أعظم واجل واخطر وارهب ما يمكن إن يصل إليه الخيال الإنساني!؟. إن الله لم يعد في السموات فحسب، ويستقر في، ويسكن في جسدي ونفسي وروحي، بكل ما فيه من جلال وعظمة وقوة ومجد! فإذا صح زيارة ملك أو رئيس أو قائد أو زعيم – مجرد الزيارة – لمسكن إنسان ما تكسب هذا الإنسان المجد والفخار والعزة والعظمة التي لا تطاول أو تدانى، بل ليسكن ويستقر هناك !. وفي الوقت عينه كم هو رهيب وخطير ومفزع إن اعلم إن الله القدوس فيّ لا يمكن إن يسير بالفكر الملوث وبالشهوة الشريرة وبالعمل الرد على الإطلاق!!. ومن ثم فان هذه كلها متة حدثت تحزن الروح وتقاوم إرادته وتطفئ رغبته القوية وأشواقه الكاملة في إن يصنع منه الشخص المبارك القوي العظيم الذي يريدني الله إن أكونه في هذه الحياة !. وقد جاءت لذلك تحذيرات الرسول القائلة: “ولا تحزنوا روح الله الذي به ختمتم ليوم الفداء” (اف4 :30). “لا تطفئوا الروح” (1تس5: 19) لتؤكد واجبنا في الخضوع والامتثال والتحذر والطاعة والمتجاوبة مع هذه السكنى الإلهية المقدسة !!.

2- ختم الروح   

والروح القدس لا يسكن فينا فحسب ولكنه أكثر من ذلك يضع ختمه علينا.. وهذا الختم يشير أول ما يشير إلى الملكية، إذ لم تعد بعد ملكا للعالم أو الشيطان أو الخطية أو النفس. بل أضحينا ملكا لذلك الذي افتدانا بدمه ومات من اجلنا وقام، وإذ امتلكنا ختمنا الروح بهذا الختم، الذي يفيد الملكية التامة الكاملة الشاملة الناجزة، وهذه الملكية ترفع أي يد عن التصرف في حياتنا وتجعلنا لله جملة وتفصيلا، وأي اعتداء على هذه الملكية اعتداء على الله ذاته وحقه فينا، سواء كان هذا الاعتداء من الخارج عنا أو من أنفسنا!!.

كما إن الختم يفيد القيمة أيضا، إذ لا تساوي أي وثيقة الورقة البيضاء التي كتبت عليها ما لم تختم بأختام المتعاقدين عليها، وقيمتها عند الله كمفديين ومخلصين مستمدة من هذا الختم الإلهي العظيم المبارك!!.

كما إن الختم يفيد الضمان أيضا، وكما كان الضامن قويا ومليئا، كلما كان الختم باعثا على الثقة واليقين والاطمئنان التام الكامل!!. وقد ختمنا الروح إلى يوم الفداء، أو في لغة أخرى ختمنا حتى نهاية رحلتنا على هذه الأرض، وبلوغنا المجد السماوي، عندما يتم خلاصنا من كل إثم وشر وخطية وفساد وتجربة وكفاح ودموع وتعب!!.  وما امجد هذا الضمان من حيث موضوعه  العظيم وهدفه القوي المبارك.. إذ يصل بنا أخر الأمر إلى ذاك الذي له وحده كل السجود والإجلال والمجد والتعظيم.

3- مسحة الروح القدس

وثمة أمر آخر من بركات الروح القدس وحلوله في المؤمن ألا وهو مسحة الروح: “وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس” (1يو 2: 20)، وهذه المسحة لازمة وهامة وحيوية في حياة كل مؤمن، كما أنها كانت لازمة للسيد في مطلع خدمته الجهارية: “روح الرب علي لأنه مسحني” (لو 4: 18). والسؤال الجوهري الهام، ما معنى هذه المسحة في المدلول الواسع بالنسبة لكل مؤمن ومسيحي؟.

لقد كان هناك خمسة أنواع وأصناف من الناس في العهد القديم يدهنون بالزيت الطيب ودهن المسحة، ولعل المسيحي في المعنى العام يأخذ امتياز هؤلاء الخمسة مجتمعين معا، بفضل هذه المسحة المباركة التي يأخذها من الروح القدس!!. إذ له الو كل شيء امتياز التحرر والتطهر والشفاء من برص الخطية، وقد كانت شريعة الأبرص المتطهر، إن يمسح بالزيت بعد الحكم بتطهيره أو التكفير عنه بالدم (لا14: 1-32). ومسحة الروح تشهد بطهارتنا وشفائنا من مرض الخطية ولوثتها!!.

وكان الزيت دليل الترحيب والإكرام إذ درجت العادة على دهن الضيف به، وقد قدر المسيح ما فعلته به مريم في هذا الشأن، كما عاب على سمعان الفريسي تقصيره فيه. والمسحة من الروح تتحدث عن مبلغ ترحيب الله بنا وقبوله لنا على مائدته العظيمة الشهية المباركة !!.

وكان الزيت إعلانا عن الرفعة والمقام والسلطان والسيادة، إذ كان يمسح به الملك، وإذ مسحنا الله بالروح إعطانا هذا المركز الجليل  فجعلنا ملوكا وكهنة وأصحاب مجد وسعادة وسلطان في الحياة الحاضرة والعتيدة أيضا!!.

وكان الزيت لكاهن تكريما وتخصيصا لخدمته الدينية، والمسحة في حياتنا هي التي تكسبنا هذا الجلال والوقار والنعمة والصفاء والقدسية المتصلة على الدوام بالحياة والتكريس لله.

وكان الزيت أيضا يمسح به النبي المرسل لخدمة الله وإعلان رسالته للناس، ولعل هذا هو المستفاد من ذات التعبير الذي قاله الله لإيليا  وهو يطلب منه تنصيب ملكين ونبي: “15فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: [اذْهَبْ رَاجِعاً فِي طَرِيقِكَ إلى بَرِّيَّةِ دِمِشْقَ، وَادْخُلْ وَامْسَحْ حَزَائِيلَ مَلِكاً عَلَى أَرَامَ، 16وَامْسَحْ يَاهُوَ بْنَ نِمْشِي مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَامْسَحْ أَلِيشَعَ بْنَ شَافَاطَ مِنْ آبَلَ مَحُولَةَ نَبِيّاً عِوَضاً عَنْكَ.” (1مل19: 15 و 16).والمسحة التي تعطى من روح الله، هو أخر الكل، الأمر والإعلان إن نذهب إلى العالم ونقوم بالخدمة والرسالة التي كلفنا بها من الله!!..ما أكثر منا تثير هذه المسحة في حياتنا من المدلولات والمعاني…

4- الملء من الروح

ولعل من أهم ما ينبغي التنبيه والتركيز عليه ونحن بصدد الحديث عن الحلول هو الملء من الروح القدس، وثمة  أمور أساسية ورئيسية ينبغي الإشارة إليها حتى نفهم معنى هذا الملء ومداه وجلاله وأثره في حياة المؤمنين والكنيسة هي على الأقل:

1-   الملء يختلف عن الولادة،إذ أن الملء يتكرر، أما الولادة فتحدث مرة واحدة. وقد يولد الإنسان من الروح دون إن يحصل على اختبار الملء إطلاقا، كما قد يولد الإنسان الطبيعي ويعيش لكن ضعيفا هزيلا طوال حياته على الأرض.. وهكذا قد يولد الكثيرون من المسيحيين ويعيشون في الحياة الجديدة، ولكن في السفوح والوديان، دون إن يصعدوا إلى جبال الشركة العليا مع الله، ودون إن يحصلوا على القوة التي تؤهلهم للتغلب على الكثير من الصعاب والمتاعب والمشكلات في الحياة.. على إن الكثيرين أيضا قد يحصلوا على القوة التي تؤهلهم للتغلب على الكثير من الصعاب والمتاعب والمشكلات في الحياة.. على إن الكثيرين قد يحصلون على اختبار الملء بعد فترة تطول أو تقصر من الولادة الروحية. ومن المؤكد إن التلاميذ الذين امتلئوا بالروح يوم الخمسين كانوا وبلا شك قد حصلوا على اختبار الميلاد الثاني قبل ذلك، ولكن الملء جاءهم بعد ذلك في العلية التي كانوا فيها مصلين منتظرين.. على إن هذا لا يمنع أبدا حدوث الولادة والملء عند البعض الأخر من غير هؤلاء وأولئك في وقت واحد، إذ من يستطيع إن يحدد عمل الروح أو يعين أسلوبه وغاياته واتجاهاته؟.

2-   إن الملء مقترن على الدوام بالقوة،حتى لتستطيع إن تضع الكلمتين “ملء” و “قوة” كل منهما موضع الأخرى دون إن يغير المعنى في شيء!!.ولعل ميجا النبي قد عبر عن ذلك في العهد القديم عندما قال: ” نِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقّاً وَبَأْساً لِأُخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ.”(مي3: 8).فحيث الحاجة إلى القوة هناك الحاجة الدائمة إلى الملء، وعندما كان على التلاميذ إن ينطلقوا في رحاب الأرض ليفتنوا المسكونة، أو ليقلبوا أوضاعها رأسا على عقب كما يفيد في المعنى الأصلي  اللغوي “فتنوا” في القول :”إن هؤلاء الذين فتنوا المسكونة حضروا إلى هنا أيضا” (اع17: 6).كانوا في حاجة صارخة قاسية لهذه القوة التي تحققت لهم بالملء الذي عرفوه  واختبروه في يوم الخمسين إذ: “امتلأ الجميع من الروح القدس” (اع2 :4) وكان بولس بعد التجديد في ذات الحاجة إلى هذا الملء ليطلق إلى خدمته العظيمة الخالدة، ومن ثم قال له حنانيا :” 17فَمَضَى حَنَانِيَّا وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الأَخُ شَاوُلُ قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ يَسُوعُ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جِئْتَ فِيهِ لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ».(لع9 :17). وعندما كان عليهم أن يشهدوا الشهادة الجريئة أو ينتصروا على الصعاب القائمة، أو يقوموا بعمل عظيم كانوا يحتاجون إلى هذا الملء، كما احتاج إليه بطرس وهو يشهد أمام السنهدريم بعد أن القس عليه القبض مع يوحنا: “8حِينَئِذٍ امْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَقَالَ لَهُمْ: «يَا رُؤَسَاءَ الشَّعْبِ وَشُيُوخَ إِسْرَائِيلَ” (اع4 :8). أو كما قيل عن استفانوس وهو يحاكم :” 55وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إلى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ.” (اع7 :55). أو كما واجه بولس باريشوع الذي كان يقاوم كلمة الله والإيمان: “9وَأَمَّا شَاوُلُ الَّذِي هُوَ بُولُسُ أيضا فَامْتَلأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ “(اع13: 9).

3-   أن الملء تباعا لهذا كل يتكرر،فالقوة في الإنسان تستنفذ وتستهلك حسبما يواجه من حوادث وظروف ومتاعب ومشقات، كما تستهلك الكهرباء المشحونة المختزنة في البطارية بالاستخدام، أو كما ينفذ الماء المخزون في الجب أو البئر من كثرة الاستعمال. ومن ثم فنحن في حاجة دائمة ماسة إلى تكرار الملء من الروح كما تحتاج البطارية المستخدمة إلى شحنة جديدة من السيال الكهربي أو كما يحتاج البئر الفائض إلى المزيد من الينبوع.

شكا احد الخدام لمستر مودي حياة الفراغ والضعف التي يعانيها في خدمته الدينية، وعندئذ قال له الواعظ العظيم: “هل تستطيع يا صديقي أن تتنفس الزفير دون أن تملا صدرك بالشهيق؟! “. وإذ أجابه الخادم بالسلب، قال له مودي: “كذلك لا تستطيع أن تقوم بأعباء الخدمة وما تتطلبه من كفاح ومشقات وجهاد دون أن تأخذ ملئا من الروح الله من الأعالي”.. اجل وفي الواقع أن أي حاجة تواجهنا على الأرض لا يمكن تحديا أو التغلب عليها إلا بالملء من روح الله، بل هذه الحاجة هي الصرخة المستمرة القائلة لنا على الدوام  :أن امتلئوا بالروح.

4-   أن الملء لا يمكن أن يتم من غير تفريغ!!.إذ من المعرف بالبداهة مثلا أن الوعاء لا يمكن أن يملا بالماء والهواء في وقت واحد!!. وان لابد من طرد احدهما حتى يمكن ملئه بالأخر ! وهكذا الملء بالروح لا يمكن الوصول إليه والتمتع باختباره ما لم يفرغ تماما من كل ما لا يتفق ويتواءم  من مشيئة إلهنا الصالحة .وقد وصل التلاميذ كما اشرنا سابقا آنفا إلى هذا الاختبار يوم الخمسين، بالانعزال عن العالم والارتفاع الروحي في العلية والخضوع الكامل لله والانتظار اليقيني الممتلئ من الإيمان والصلاة!!. ولي سهناك من سبيل أخر لنوال هذا الاختبار العظيم غير هذا السبيل.

5- معمودية الروح

وأخر ما نختتم به الحديث عن حلول الروح و المعمودية، إذ جاء هذا في قول المعمدان عن المسيح: “11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. ” (مت3 :11). وقد أثرنا أن نضع الحديث عن المعمودية من الروح في النهاية لاختلاف الآراء والتفاسير والشروح المتعددة حولها.. فمن قائل ا هذه المعمودية هي التي حدثت يوم الخمسين، وعمدت به الكنيسة الأولى الناشئة، وكانت بمثابة الإعلان عن مجيء الروح القدس، وان كل مؤمن ينال الحياة الجديدة،له في هذه الولادة الجديدة شيء واحد، وان أي بركة من بركات الحلول ليس علينا أن نطلبها ننتظرها كأنها أمر خارجي وبعيد عنا، بل علينا أن نقبلها ونأخذها، إذ هي في متناول أيدينا.. ومثل هذا الرأي يبني حجته إلى أن الروح القدس قد جاء إلى العالم حسب وعد المسيح!!. وجاء ليمكث معنا إلى الأبد، وحاجتنا في الواقع إلى “القبول” لا إلى “الطلب” والى “التمتع” لا إلى “الانتظار” والى “الاغتراف” من الينبوع لا إلى “الصراخ” ونحن بجواره في طلب الماء.. ولئن كان هذا الرأي مجيدا ورائعا من ناحية الكشف عن بركة وجود الروح فيا ومعنا واستعداده لمدنا بكل ما نحتاج إلي من بركات، إلا انه ما يزال قاصرا  عن التفرقة بين الولادة والمعمودية، كانوا قد نالوا بالتأكيد قبل ذلك اختبار الولادة الجديد المبارك المجيد، فكيف يمكن أن يقال بعد ذلك أن المعمودية والولادة شيء واحد بالضرورة لا غير!!… وهناك الرأي الثاني القائل أن المعمودية  والملء، وإنها لذلك تتكرر في حياة ألمؤمنين مرات ومرات، لتعلن عن حضور الروح وقوته وعمله ومجده وانتصاره فيهم، ولكن هذا الرأي يغفل على أن يبين، وهو بصدد المقابلة بين معمودية الماء  ومعمودية الروح، لاذا لا تتكرر الأولى وتتكرر هذه والأخيرة كما يتصورون ويفكرون !؟.. وهناك الرأي الثالث والذي يربط بين المعمودية والتكلم بالالسنة إذ يقول أصحابه أن التكلم بالألسنة هو العلامة  الخارجية الظاهرة لمعمودية الروح !. ولعل الدراسة الدقيقة الصائبة لهذا الرأي تقتضيا أن ندرس أولا ظاهرة التكلم بالألسنة وما مدلولها ومعناها، وما غايتها والحكمة منها؟ وهل انتهين بنهاية العصر المسيحي الأول واستقرار الكنيسة المسيحية، أم ما تزال باقية إلى اليوم يؤدي ذات الرسائل والعمل القديم  الأول؟.

وفي الواقع أن الدراسة الكتابية الدقيقة لهذه الظاهرة تكشف على الأقل عن هذه الخواص التالية:

  1. أن التكلم بالألسنة لم يأتي بحسب طلب الناس أو انتظارهم بل جاء مفاجأة وبغتة، سواء كان هذا في يوم الخمسين حيث: “2وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ 3وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. 4وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. (اع2: 2-4). أو حيث اندهش المؤمنون الذين هم من أهل الختان كل ما جاء مع بطرس إلى بيت كرنيليوس: “45فَانْدَهَشَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِتَانِ كُلُّ مَنْ جَاءَ مَعَ بُطْرُسَ لأَنَّ مَوْهِبَةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ قَدِ انْسَكَبَتْ عَلَى الْأُمَمِ أيضا – 46لأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَيُعَظِّمُونَ اللهَ. “(اع10: 45 و46). أو حيث رأى بولس هذه الحقيقة أيضا في التلاميذ الذين عمدهم في افسس: “5فَلَمَّا سَمِعُوا اعْتَمَدُوا بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. 6وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ” (اع19: 5 و 6).
  2. أن التكلم بالألسنة موهبة ليست للجميع، إذ يقول في هذا الرسول:” 1وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا… 8فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ… 10وَلآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ وَلآخَرَ أَنْوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ. 11وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ قَاسِماً لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ…30أَلَعَلَّ لِلْجَمِيعِ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ؟ أَلَعَلَّ الْجَمِيعَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ؟ أَلَعَلَّ الْجَمِيعَ يُتَرْجِمُونَ؟.(1كو: 12: 8 و10 و11 و30).
  3. أن التكلم بالألسنة آية ولكنها ليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين إذ إذ يقول الرسول:”إذا الألسنة أيه. لا للمؤمنين. بل لغير المؤمنين ” (1كو14 :22). وقد ظهر هذا بوضوح في يوم الخمسين إذ كان التكلم بالألسنة برهانا لليهود المستمعين لها، على أن هؤلاء الجليليين المتكلمين بها تسيطر قوة لا يمكن أن تكون قوة بشرية أو انفعال محمود أو هذيان وهمي، بل هي قوة الله ذاته التي لا تجادل ولا تنكر :” 6فَلَمَّا صَارَ هَذَا الصَّوْتُ اجْتَمَعَ الْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ. 7فَبُهِتَ الْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هَؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟ 8فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا: “(اع2 :6-8). وفي الواقع أن هذا التكلم إنهاء وقضاء على العقوبة التي أوقعها الله على البشرية في بابل، لأنه إذا كان الله قد بلبل السنة الناس هناك، وفرقهم في الأرض، فانه عاد في يوم الخمسين ليجمعهم من السنة متعددة في الوحدة المسيحية الكاملة المجيدة المباركة.
  4. أن التكلم بالألسنة موهبة واحدة من بين المواهب الكثيرة المعطاة للكنيسة فليس فيها ما يرفعها أو يميزها عن سائر المواهب الأخرى، بل العكس قد يكون صحيحا في بعض المواطن والظروف، وليس أدل على ذلك  من أن الرسول عندما قارنها بالنبوة اثر هذه الأخيرة عليها بكلمات واضحة صريحة في القول: “1اِتْبَعُوا الْمَحَبَّةَ وَلَكِنْ جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ وَبِالأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. 2لأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بَلِ اللهَ لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ. وَلَكِنَّهُ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ. 3وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيُكَلِّمُ النَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ. 4مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي الْكَنِيسَةَ. 5إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَلَكِنْ بِالأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ إِلاَّ إذا تَرْجَمَ حَتَّى تَنَالَ الْكَنِيسَةُ بُنْيَاناً… 18أَشْكُرُ إِلَهِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِكُمْ. 19وَلَكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أيضا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ.” (1كو14: 1-5 و18 و19).
  5. أن التكلم بالألسنة يأتي عندما يشاء الله، وفي الوقت الذي يريده، ولا يستطيع الإنسان أن يستعجل هذا الكلام أو ينشئه أو يبتدعه، ولكنه يستطيع أن ينظمه في الكنيسة تنظيما دقيقا وفقا للياقة والبنيان، شانه شان النبوة سواء بسواء!. وهذا كله ظاهر واضح بين من قول الرسول: “26فَمَا هُوَ إذا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟ مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ لَهُ تَعْلِيمٌ لَهُ لِسَانٌ لَهُ إِعْلاَنٌ لَهُ تَرْجَمَةٌ: فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ. 27إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ فَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أو عَلَى الأَكْثَرِ ثَلاَثَةً وَبِتَرْتِيبٍ وَلْيُتَرْجِمْ وَاحِدٌ. 28وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَرْجِمٌ فَلْيَصْمُتْ فِي الْكَنِيسَةِ وَلْيُكَلِّمْ نَفْسَهُ وَاللهَ… 32وَأَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ.” (1كو14 :26 -28 و 32).فإذا لم يسر الأمر بهذا النظام والترتيب في الكنيسة، فيخشى أن يكون في الأمر نوع من الزيف أو التقليد أو الخداع أو التضليل البعيد عن روح الله وعمل شركته وقوته  في كنيسة المسيح.
  6. أن التكلم بالألسنة موهبة معجزية فيها كل السمات والصفات الخاصة بالمعجزات، فإذا ماتت المعجزة كما اصطلح عليها، هي الحادث المحسوس الخارق لمجرى الطبيعة المعتادة، والمصنوع بقوة الله لإثبات تعليم الهي، أو لإثبات أن الذي صنعه مرسل من الله، ويشترط فيها أن تكون مما يدرك بالحواس، وان تتم بالقوة الإلهية المجردة، وان تكون خارقة لمجرى النواميس الطبيعية، وان تصنع للغايات الدينية كإثبات رسالة صانعها، أو تعليم الهي، أو نحو ذلك .فإذا كانت هذه هي المعجزة، فان التكلم بالألسنة معجزة ولا شك لها كل سمات وصفات المعجزات !!. فإذا ما ثار بعد ذلك السؤال: هل ما تزال موهبة التكلم بالألسنة قائمة مستمرة إلى اليوم في الكنيسة؟ تعين أن نسال هذا السؤال بعينه بالنسبة لكافة المعجزات التي ظهرت في الكنيسة في العصر الرسولي!؟. ومع أن يوحنا فم الذهب يعتقد أن عصر المعجزات المادية بهذا المعنى قد انتهى، إلا انه يمكننا أن نقول في معنى أدق أن التكلم بالألسنة أو المعجزات كانت الغاية الأساسية الظاهرة منها، تثبيت الديانة الناشئة في ذلك الوقت والكشف عن مصدرها الإلهي، وإيضاح مجدها وجلالها وقوتها، وان هذه هي الظروف أو البيئة التي تعمل فيها قوة الله بهذه الخوارق!!. فإذا ما وجدت – بحسب التدبير الإلهي لا البشري- مثل هذه الظروف، فانه في هذه الظروف وحدها يمكن القول بأحداث المعجزات بهذا المعنى، ومنه معجزة التكلم بالألسنة !!. ولعل مناقشة موضوع المعجزات بكيفية أوفى وأعمق ستتاح لنا عندما نفرد لها بابا خاصا لاحقا بمشيئة الله.
  7. وأيا كان الأمر فان المعمودية من الروح لا يمكن أن ترتبط بالتكلم بالألسنة، إذ إن هذه الموهبة – من دون ما حاجة إلى البحث في بقائها أو انقطاعها بانقطاع العصر الرسولي الأول- ليست للجميع، على العكس من المعمودية التي هي من حق كل مسيحي ومؤمن، إذ إن الوعد بها شامل عام للكل من غير تفرقة أو تمييز أو استثناء.

فإذا لم تكن المعمودية على الأصح هي الولادة الجديدة، إذا كان التلاميذ الذين يتعمدوا بالروح القدس ونار في يوم الخمسين، قد سبق ونالوا اختبار الميلاد الثاني المبارك. وإذا لم تكن من الناحية الأخرى هي الملء من الروح، إذا الملء كما تبين لنا يتعدد ويتكرر. وهي كما يفهم من لفظها وبالمقارنة مع المعمودية بالماء لا تتكرر أو تتجدد. وإذا لم تكن في الوقت عينه مرتبطة أو مقترنة بفكرة التكلم بالألسنة كما شاع الأمر عند البعض ممن يؤمنون ببقاء ظاهرة التكلم لليوم. فماذا تكون إذا وما معناها ودلالاتها في حياة المؤمنين ألمسيحيي ممن نالوا اختبارهم المجيد المبارك؟ إن الأمر يتضح لنا جليا فيما نعتقد لو أتيح لنا ألان نمعن النظر في قول المعمدان، ونرى بالفعل كيف تحقق في يوم الخمسين؟ وكيف تحقق أو يمكن أن يتحقق في حياة الكثيرين والكثيرات من أبناء الله في مختلف العصور والأجيال ولعلنا نستطيع ملاحظة ما يأتي:

1- إن المعمودية بالروح القدس ونار هي في الواقع المعمودية في الروح  القدس ونار إذ إن الترجمة الحرفية للقول “بالروح القدس” هي “في الروح القدس” كما يذهب الكثيرون من ثقاة المفسرين وعلى رأسهم المفسر المشهور ماير الذي يقول : “إن حرف الجر هنا يمكن أن يفهم على أساس المقابلة بفكرة التغطيس في المعمودية، فهو لا يشير إلى الأداة التي يتم بواسطتها الأمر بل يعني “في” ويشير إلى العنصر الذي يتم فيه التغطيس، أو في لغة أخرى أن الإنسان كما يغطس تماما في ماء المعمودية يفعل معه أيضا كذلك في المعمودية بالروح، إذ يوجد هو بنفسه داخل الروح وفي الروح، أي إن الروح يستولي تماما على الإنسان ويسيطر عليه ويحاصره حصارا لا منفذ منه. فإذا أضيف إلى هذا إن الكلمة “ونار” ترمز وتشير إلى الروح ذاته كان لنا أن نتصور المؤمن محاصرا بروح الله كما تحاصر شعلة النار أنسانا من كل جانب وركن.

2- إن نار المعمودية هذه تشير على الأقل الحضور الإلهي في المؤمن كما كان تشير نار الشكيمة إلى حضور الله في قدس الأقداس كما إنها ترمز في الوقت عينه إلى التنقية والتطهير وهي تتحدث أخر الأمر عن الإنهاض والآثار والتحريك والتقوية وهذه كلها يفعلها روح الله، ويحققها المؤمن بالمعمودية المقدسة المباركة! إذ يعطيه أن يحس إحساسا قويا حيا بحضور الله، كما يعمل فيه بروح القضاء والإحراق والتطهير والتصفية، ويشعل فيه إلى جانب هذا كله كل حماس ونشاط وغيرة !

3- هذه المعمودية قد تحققت في صورتها الباهرة في يوم  الخمسين، وبالكيفية المجيدة الرائعة التي اشرنا إليها من قبل، كما أنها حدثت في حياة الكثيرين من رجال الله وقديسيه، في عصور التاريخ المختلفة مما كان وادعين هادئين عاديين ساكنين حتى جاءتهم اللحظة الحاسمة العجيبة في تاريخهم، وإذا بهم يلتهبون بنار الروح ويتحولون تماما إلى الصورة الأخرى المختلفة المغايرة التي أذهلت الأجيال قاطبة كما حدث مع وليم كاري وهدسيون تايلور ودوايت مودي وتشارلس فيني وغيرهم وغيرهم، مما قدموا أعظم الخدمات لمجد الله.

من هذا كله نعلم ما هي معمودية المقابلة لكلمة هي الاختبار الحي الناري والملتهب والذي إذ يحدث مرة واحدة في حياة المؤمن، يحوله من الإنسان العادي الفقير في الاختبار إلى البطل مع الله و القائد المنتصر، والرسول الموفق المظفر، في خدمة يسوع المسيح على هذه الأرض !! أو في لغة أخرى أن المعمودية هي المقابلة لكلمة “التكريس” الشامل التام الكامل في حياة المؤمن ! والتكريس، كما نعلم بهذه الصورة وعلى هذا الوضع، هو الذي يفرق بين المؤمن العادي والمولود من روح الله، وبين المؤمن المنتصر والممتلئ من روح الله، أو في تعبير أخر هو الذي يفرق بين الولادة والملء !!. والتكريس لا يمكن أن يتم أو يحدث دون من غير الامتلاء بروح الله، وهكذا المعمودية لا يمكن أن ينالها إلا من امتلأ من هذا الروح  ! والتكريس كالمعمودية لا يتعدد ولا يتكرر، إذ انه يحدث في اللحظة القوية الحاسمة التي يقطع فيها الإنسان كل صلته بضعفات الماضي وعيوبه ونقائصه وقصوره، ويسلم تسليمه الكامل الشامل التام لله، وعندئذ يستخدمه الله ويصنع به أروع صور الآيات والعجائب !!. ولعل هذا هو الوجه الوحيد الذي يختلف فيه التكريس أو المعمودية عن الملء، إذ الملء يتكرر تباعا للحاجات المتعددة المختلفة التي يواجهها الإنسان كل يوع على الأرض، على العكس من التكريس أو المعمودية الذي إذ وضع الإنسان فيه يده على المحراث فلا يمكن أن يلتفت إلى الوراء !! فإذا ما سئلنا بعد ذلك ما هي المعمودية؟ وما هو التكريس؟ لأجبنا على الفور أن المعمودية بالروح القدس هي العملية التي يكرسنا بها الله لذاته تكريسا كاملا شاملا تاما منجزا، والتي بها يحولنا من الولادة إلى البلوغ، ومن حداثة الإيمان  إلى النضوج ومن فقر الحياة إلى الخدمة العظيمة المجيدة المباركة !

واحسب بعد ما عفنا كل هذه الحقائق العظيمة المجيدة عن روح الله أن من واجبنا أن نعيد النظر والتأمل في شركتنا معه، لتطلب العمق بعد أن عرفنا السطحية، ونطلب القوة بعد أن مسنا الهزال، وتأخذ الحياة بعد أن تربص بنا الموت.. إلا ليتنا نصرخ ونقول من الأعماق حقا:”هب علينا يا روح الله فنحيا ولا نموت”..

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى