إيماني | القس إلياس مقار

إيماني 22| إيماني بالأبدية

وواضح إن هذه الأسئلة الخطيرة كانت وما تزال من أعمق واهم الأسئلة التي تلون الفكر البشري وتحدد مصائر الناس في كل التاريخ، بل واضح أنها تقف في المقدمة بين أعظم الأسئلة التي تدع الحياة البشرية بطابع لا ينتهي أو يموت.. ومن ثم كان لزاما علينا أن نتعرض لها جميعا لنرى، لا جواب العقل أو الفكر الإنساني المحدد فحسب، بل جواب المسيحية الراسخ المنير أيضا، ولعلنا نصل إلى كل هذا اثر متابعة الحقائق التالية:

أولا – ماذا يحدث للإنسان اثر الوفاة؟

عندما يجود الإنسان بأنفاسه الأخيرة ويضحي جثمانا هامدا، ماذا يحدث له اثر الوفاة حالا!؟ أما الجسد فواضح انه يأخذ سبيله إلى التحلل، حتى يضحى رمسا وترابا، ولا صعوبة في تصور هذه الحقيقة إذ هي ملموسة للجميع، لكن الصعوبة تبدى عندما نتساءل. هل انتهى الإنسان بالوفاة أم بدا حياة جديدة!!؟

ولعل الإجابة الدقيقة على هذا السؤال تقتضي إن نسال سؤلا أخر: هل الجسد هو كل ما في الإنسان، أم إن له روحا تصاحب جسده وتستقر فيه، وهي سر حياته وحركته، وإنها تبارحه بالوفاة!!؟ وقد دفعنا في أكثر من موطن في هذا الكتاب الشبهة القائلة بان الإنسان  جسد أو مادة فحسب، دفعناها عندما أنكرنا إلوهية الكون عند القائلين بان الإنسان جزء من الكون كما إن الغصن جزء من الشجرة،أو كما إن قطعة الأثاث جزء من البيت، ودفعناها عندما أنكرنا الفكر المادي المجرد عن الإنسان عند الحديث عن الخليقة والعلم والخليقة والمعنى والإنسان ووجوده فلا حاجة بعد ذلك إلى مزيد من التكرار، ويكفي أن نشير إلى ههنا إلى أعظم أساتذة علم النفس في القرن العشرين كوليم جيمس في جامعة هارفارد، وهايسلوب في جامعة كولومبيا، وهدجسون في جامعة كامبردج، وغيرهم يشهدون بما لا يدع مجالا للشك بان ما وقع تحت أيديهم من ملاحظات ودراسات، يلزمهم بالإقرار ببقاء الروح بعد مفارقة الجسد، وهل يمكن أن ننسى في هذا المضمار أقوال الدكتور فردريرك مايرز في بحثه الهام ” الشخصية وبقائها بعد الموت الجسدي” عندما قال عام 1906م في لندن “يمكنني إن أقول بجراءة بالغة إن نتيجة للأدلة الحديثة سيؤمن كل إنسان عاقل لهذا السبب بعد قرن من الزمان بقيامة المسيح من الأموات، الأمر الذي لم يكن ميسورا منذ قرن سلف، لغياب هذه الأدلة، وأساس هذا التنبؤ واضح بيّن، فأدركنا المتزايد يمكننا أن نرد كل حادثة إلى علتها المحتومة، وما يزال يتضح أكثر وأكثر أمام عصرنا العلمي بان أي علاقة قائمة بين عالم مادي وعالم روحي لا يمكن أن تكون مجرد علاقة أدبية أو عاطفية، إذ يلزم أن تنشأ عن قوة بناءة عظيمة في الكون، تتضمن في نطاقها نواميس ثابتة ومنظمة، وهي تنتقل من عصر إلى عصر كتلك النواميس التي نعرفها في الحركة والطاقة، وهذا يبدو على وجه اخص في المعتقد الأساسي، والخاص بحياة النفس بعد مفارقة الجسد، إذ يمكن إقرار هذه الحقيقة، لا بمجرد الأفكار التقليدية وحدها، بل بما يتزايد يوما بعد يوم من الاختبارات والأبحاث الحديثة”

على إن شهادة العلم بالخلود مهما تكن قيمتها لا يمكن أن تكون الشهادة الوحيدة في الأمر، إذ هناك أيضا شهادة الوجدان، مما هو ثابت من عقيدة البشر العامة في الخلود، العقيدة التي تصاحب على الدوام وجود الأديان، بل مما هو ثابت أيضا من الإحساس الدائم في الإنسان بغض النظر عن الأديان، من إن المرحلة بين المهد واللحد لا يمكن أن تكون المرحلة الوحيدة في الحياة البشرية، كما عبرت ذات مرة ليدي فيوليت بوناهم كارت في إذاعة لندن عندما قالت: “إني أؤمن أولا وبادئ ذي بدء بالحياة، ولا يعني هذا إني أحس الفرح الغريزي بالبقاء فحسب، بل إني أؤمن بالحياة،  وان كنت لا اعرف كافة المعلومات القاطعة التي تكشف لي من أين أتيت، أو إلى أين أذهب، إلا إني اعلم إن حياتي كالمجرى الذي يندفع دون أن اعلم من أي منبع من أي منبع يأتي، أو في أي بحر يصب، ومع ذلك أثق بتيار وجودي، وأؤمن انه لا يمكن أن يضيع فيّ الطريق، وان كان من المتعذر عليّ أن ارسم نهج سبيلي أو احدد غرضه، ولكن ثقتي لا تتزعزع في أنهما كليهما مرسومان”. بل مما هو ثابت، كذلك من الخواص الخلقية والأدبية، والتي يتميز بها البشر عن سائر المخلوقات الأرضية، والتي تنزع بها على الدوام التي تصور وجود الله، والحياة الأبدية وفكرة الجزاء والدينونة وما إلى ذلك، مما لا يمكن أن ينشا في الإنسان على الإطلاق مستقلة أو مفترقة عن نزعة الخلود فيه!!..

غير إن العلم والوجدان في شهادتهما عن الخلود لا يمكن أن يعطينا صورة محددة واضحة كاملة عن الموضوع، وانه لا غنى للإنسان بتاتا عن الوحي والإعلان في ذلك، ومن ثم جاء الكتاب المقدس ليكشف بأكثر من صورة ومظهر عن الحقيقة العظمى، إذ حدثنا عن أولئك  الذين ماتوا وتأكد موتهم ثم عادوا إلى الحياة مرة أخرى، كابن أرملة صرفة صيدا، وابن الشنومية، والذي مس عظام اليشع وابنة يايرس، وابن أرملة نايين، ولعاز، والذين قاموا مع قيامة المسيح، وطابيثا، وافتيخوس، مما يقطع بعدم نهاية الحياة بعد الموت، كما  تحدث عن عودة موسى وايليا على جبل التجلي بعد قرابة إلف  وخمسمائة عام من موت موسى ، وتسعمائة عام من صعود إيليا. على إن الحجة الكبرى عن الخلود تكمن في شخص المسيح الذي أنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل(2تي110)الذي لم يحدثنا فقط عن الله اله أحياء وليس اله أموات كما ذكر للصدوقيين، بل كشف لنا كيف تبدى الحياة بعد الموت كما في مثل العازر والغني، والي أرانا البرهان الأكبر، لا فيمن أقامهم من الأموات فحسب، بل في قيامته هو التي هي سيدة الأدلة وبرهان البراهين.. فإذا ما سلمنا بحقيقة الروح التي أفردنا لها أبحاثا واسعة سابقة في دراستنا في هذا الكتاب، وإذا سلمنا بصدق الوحي كما جاء في الكتاب المقدس مما أشبعناه درسا وبحثا في الصفحات الخاصة به وإذا سلمنا قبل وفوق الكل بشخص المسيح وصدق حجته الكاملة التي لا تنازع، كان إيماننا بدوام الروح بعد مفارقة الجسد أمرا لا محيص عنه أو شبهة فيه!!..

فإذا سلمنا ببقاء الروح بعد مفارقة الجسد، وإنها لا تتلاشى أو تبيد، تعين أن نسال بعد ذلك: أين تذهب الروح بعد الموت!!؟

ولعلنا لسنا في حاجة إلى أن ندفع فكرة التقمص أو تناسخ الأرواح، إذ فضلا على أنها فكرة وثنية غير كتابية يقف ضدها الكتاب على خط مستقيم، فإنها تقوم أساسا على اندماج الأرواح وتلاشيها بعد تطهيرها في الروح الأعلى. ومع أنها دعوة بغير دليل، فان فسادها اظهر من أن يناقش، إذ كيف يمكن التسليم بذلك دون إهدار الفكر العام من كمال الله، كما انه لا معنى لتصور تناسخ الروح  من جسد إلى أخر لتطهيرها ما دام لا ينتهي بنا هذا إلى أجيال أرقى من سابقتها روحا وجسدا، الأمر الذي يمكن اكتشافه بسهولة من دراسة الطبيعة البشرية الفاسدة في أي جيل وعصر، فإذا أضيف إلى ذلك إن فكرة الجزاء فيها مبهمة وغير عادلة، إذ تجعل عدة أجساد متباينة الشكل والتكوين والطبيعة في خدمة روح واحدة، مع تفاوت حظ هذه الأجساد من الراحة أو الشقاء، وهي في خدمة ذات الروح الواحدة.. الحق إن الفكرة من الضعف والإسفاف ما لا تحتاج معه إلى مزيد من تفكير أو نقاش!!؟

وإذ نستبعد تلاشي الروح أو تناسخها بقي أن نعرف ما حالها بعد الموت!!؟ هل تنام حتى يوم القيامة!!؟ أم تذهب إلى ما يطلق عليه المطهر!!؟ أما تعطى لها فرصة أخرى للتوبة والمناجاة!!؟ أم تذهب في الحال إلى السماء أو الجحيم!!؟

هل تنام الروح حتى يوم القيامة؟

يذهب البعض ومنهم السبتيون إلى إن الإنسان يبقى بعد الموت في حالة نوم لا يستفيق منها بارا كان أم شريرا إلا في يوم القيامة، ويبنون رأيهم هذا على إن الموت كثيرا ما يدعى رقادا أو نوما، وان الدينونة الأخيرة والحساب يوم القيامة، ولكن هذا الرأي باطل بطلانا مطلقا، إذ تنفيه النصوص الكتابية الصريحة، إذ كيف ينسجم هذا مع القول: “5بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ – إذ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ.” (عب115). ومن الملاحظ إن الكلمة “نقل” ذكرت ثلاث مرات، وليس فيها ما يشير من قرب أو من بعد إلى النوم المزعوم فإذا تركنا اخنوخ إلى إيليا، عرفنا إن هذا الأخير صعد إلى السماء في مركبة نارية : “11وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إذا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إلى السَّمَاءِ.”(2مل211) ونحن نسال هل يمكن أن ينام الإنسان في مركبة من نار، أو هل ذهب إيليا لينام في السماء!!؟ فإذا أضيف إلى ذلك إن موسى وايليا ظهرا مع المسيح على جبل التجلي، فهل اخذ هذان النبيان يقظة موقوتة من النوم، ليعودا بعدها إلى نومهما حتى يوم القيامة، ثم ماذا يمكن أن يقال عن قصة الغني ولعازر،  بعد أن ماتا كلاهما، وذهب لعازر محمولا من الملائكة إلى حضن إبراهيم، وذهب الغني إلى الهاوية، وكيف يمكن تصور افتراق الاثنين حالا وان احدهما يتعزى، والأخر يتعذب، وان المعذب يطلب من أبينا إبراهيم تحذير أخوته الذين لم يأتوا إلى الهاوية بعد، حتى يوم القيامة!! وحتى افتراض السبتين إن القصة رمزية، لا يخرجهم من المأزق إذ أن الفرض ذاته لا يستطيع إيجاد تفرقة لم توجد بعد، ثم كيف يتصور مع هذه الرمزية المفترضة، التفرقة بين عزاء وعذاب لم يختبرا بعد، أو يتذوق منهما شيء على الإطلاق!!؟ ثم إذا كان المؤمنون لا يذهبون إلى السماء بعد الموت، فإذا ما معنى قول الرسول بولس: “23فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاِثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً.”(في123) وأي معنى لهذه الكلمات إذا لم يكن قائلها المشوق إلى سيده والذي هو باق في الأرض، ملزما لغرض الخدمة، يعتقد انه سيذهب حالا إلى ربه بعد الموت!!؟ فإذا تركنا هذه الكلمات إلى كلمات أخرى جاءت في قوله: “6فَإذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ.. 8فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأولَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.”(2كو56، 8) فهل يعقل بعد هذا أن يقال انه يوجد فاصل بين التغرب والاستيطان اسمه نوم الموت، وان هذا قد يستمر في حياة الكثيرين من القديسين إلى ألاف السنين حتى تأتي القيامة ولما لم يشر الرسول في قليل أو كثير إلى هذا الفاصل، وهو بصدد الحديث عن قصة الحياة والموت حتى الوقوف أمام كرسي المسيح ليعطي كل إنسان حسابا عما فعل خيرا كان أم شرا!!؟.ثم ما معنى قول المسيح للص التائب: “ الحق الحق أقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو2342) ثم ماذا يمكن أن يقال عن استقبال المسيح القائم عن يمين العرش لاستفانوس وهو يجود بأنفاسه الأخيرة “أيها الرب يسوع اقبل روحي” (اع759).

وهل يقصد أن هذا القبول هو النوم حتى يوم القيامة!؟ ثم ما هي هذه النفوس التي استشهدت، ورآها يوحنا الرائي في المجد، وهي تصرخ إلى الله بان يقضي وينتقم لها من الساكنين على الأرض، وأعطوا ثيابهم البيض، وقيل لهم أن يستريحوا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضا العتيدون أن يقتلوا مثلهم؟ إذا كانت كل نفس تنام مع الجسد إلى يوم القيامة؟.. في الواقع إن هذه النصوص الصريحة جميعا تبدد وتقضي على كل فكر ينادي بنوم النفس وغفوتها حتى يوم القيامة!!..

هل يوجد مطهر قبل دخول السماء؟

وعلى نقيض فكرة النوم حتى القيامة يوجد ما يسمى المطهر عند الكاثوليك وقد قسم الكاثوليك عالم الأرواح إلى أقسام متعددة، وأهمها لمبوس الآباء الأقدمين الذين ماتوا قبل المسيح ونزل إليهم السيد بعد الصلب وخلصهم من سجنهم ورفعهم إلى المجد السماوي، ولمبوس الأطفال غير المعتمدين في الكنيسة حيث يبقون هناك بعد الموت للأبد، والمطعم وه مكان العذاب للذين يموتون في الكنيسة الكاثوليكية، دون أن يكون قد أوفوا قصاص خطاياهم الزمني حسب قانون سر التوبة، ويقال أن العذاب في المطهر ينار رمادية، وغايته التكفير والتطهير، ومدته غير محددة حسب الخطايا التي يقترفها الخاطئ، ويمكن تقصير وتخفيف العذاب بواسطة صلوات القديسين، ولرؤساء الكنيسة البابوية ولاسيما البابا القدرة على رفع العقاب عن النفوس من المطهر، ويمكن الانتفاع في هذا الشأن بنوافل القديسين أو زيادة برهم التي يمكن أن تحسب للآخرين، ثم الجحيم وهو مكان العذاب الأبدي لإبليس وملائكته، ومن لا يدخلون فيه نطاق الكنيسة الكاثوليكية أو يرتكبوا لخطايا، المميتة، بحسب تعريف الكنيسة لهذه الخطايا، أو لا يعتمدون وهم بالغون، وأخيرا السماء وهي مكان المجد الأبدي،  ولا يدخلها قبل القيامة إلا المطهرون تماما عند الموت، والذين يطهرون في المطهر بعد الموت.. هذه هي خلاصة معتقدات الكنيسة لهذه الخطايا، أو لا يعتمدون وهم بالغون. وأخيرا السماء وهي الذي لا يذكره الكتاب أو يسنده الوحي، بل في الواقع تقف ضد مجموعة من الحقائق الكتابية:

أولا– هذا اللمبوس سواء للأطفال أو الآباء القديسين قبل المسيح لا يعرفه الكتاب المقدس، بل تقف ضده محبة الله، وعدالته، فقد اشرنا فيما يتصل بالأطفال غير المعمدين إن خلاصهم مؤكد بدم المسيح الذي رفع عنهم خطية أبوينا الأولين الوراثية، ولا يمكن أن يحاسبهم الله بعد ذلك عن ذنب لم يقترفوه، وخطية لم يفعلوها، وليس في الكتاب المقدس كله أية واحدة تحجز عنهم باب رحمة الله العظيمة.. وذات القول يمكن أن يقال عن لمبوس الآباء القديسين قبل المسيح، فاخنوخ وإبراهيم واسحق ويعقوب وموسى وايليا وجميع القديسين  وأنبياء العهد القديم  انتقلوا إلى المجد السماوي، لا إلى اللمبوس الذي تصفه الكنيسة الكاثوليكية بأنه المكان الذي كانت تذهب إليه أنفس القديسين، حيث كانوا يتمتعون بسكينة هادئة، مطمئنين من غير إحساس وجع، حتى جاءهم المسيح بعد الصلب إذ هبط إلى الجحيم حيث هم، واعتق نفوسهم المسجونة لتصعد معه إلى المجد. وإلا فكيف نفسر صعود إيليا إلى السماء دون أن تمر نفسه بهذا اللمبوس المزعوم!!؟ وكيف يمكن أن يوصف نزول المسيح إلى الجحيم بأنه نزول إلى لمبوس هادئ مريح، والجحيم في الفهم العام مكان للعذاب لا راحة فيه أو هدوء؟!!.. الحق أن اللمبوس سواء للإباء أو الأطفال ابتدع من غير حق أو أساس كتابي!!..

ثانيا– فإذا انتقلنا إلى المطهر تبين انه مثل صاحبيه، وانه ابتداع لا ظل له أو أساس من الحق أو كتاب الله، وان الأخذ ه ليس منافيا أو مضادا لكتاب الله فحسب، ولكنه إهدار بشع محزن لكفارة المسيح وعملها الكامل، واليكم الأسباب:

1- إن عقيدة المطهر لم تكن معروفة في الكنيسة الأولى على الإطلاق، إذ كانت غريبة على الرسل والأنبياء الأولين، وإنها لم تأخذ في الانتشار والذيوع إلا في القرن السابع حيث دعمها وأيدها غريغوري الكبير، واقرها مجمع فلورنس عام 1439م ومجمع التريدينتيني عام 1445م وقد جاء هذا الإقرار، لا عن البحث أو الدرس الكتابي بل عما يقال، من حق الكنيسة أو سلطانها في إقرار العقائد والتقاليد.

2– إن الكتاب لا يعرف بتاتا هذه الحالة الوسطى بين السماء والجحيم، فإما سماء يصعد إليها الإنسان حالا، أو هاوية يتردى فيها كما تردى الغني الذي أشار إليه المسيح، وان الهوة قائمة بين المكانين مما يستحيل ملؤها أو إيجاد معبر أو نقطة ارتكاز فيها: “26وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا.”(لو1626).

3– الاعتقاد بالمطهر فيه مناقضة صريحة لقول المسيح للص التائب: “الحق أقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو2342) فإذا كان المسيح قد نقل في لحظة واحدة هذا الإنسان الذي وقفت قدماه على أبواب الجحيم إلى الفردوس دون تعريج على المطهر، فكيف يصح القول بلزوم المطهر لتطهير النفوس وتحريرها، مادام قد ثبت انه من الممكن للتوبة الصحيحة أن تنقل اشر الخطاة في الحال بعد الموت إلى فردوس الله؟

4- أن خلاص المسيح  لا يمكن أن يجزا إذ هو خلاص شامل كامل من كل الخطايا، كما في القول: “فمن ثم يقدر أن يخلص أيضا إلى التمام” (عب725) “ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (1يو17) وقد حدث أن كاهنا كاثوليكيا اسمه جوزيف زيكلو كان يستمع عام 1944م إلى عظة في الإذاعة لأحد الرعاة المعمدانيين، وقد هزت هذه ا لعظة عقيدته في المطهر من الأساس، إذ قال: “أن أية ذكرها الراعي هزت تفكيري من أساسه عندما قال: “امن بالرب يسوع فتخلص” وقد استولت علىّ هذه الآية بكيفية رهيبة عنيفة فجعلتني ارتعد إذ ذكرت كيف آخذ كثيرا من الفقراء ما بين خمس دولارات وثلاثين دولارا يوميا نظير مجموعة من الطقوس التي أقوم بها لتحرير أرواح موتاهم من نار المطهر، وخيل إلى أن الصليب الكبير الذي على المذبح يستذنبني على ما افعل، كما أنصتت نفسي إلى الصوت السماوي القائل في سفر الرؤية : “طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ – نَعَمْ يَقُولُ الرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ».(رؤ1413) وليس في هذا ادني تعريج على المطهر أو تصوير له، وعندئذ أدركت كأنما المسيح يقول لي: أنا لست في حاجة بان تكرر ذبيحتي على الصليب، فان ذبيحتي كاملة وعملي تام: “لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين”.. وإذا كنتم انتم الكهنة ترون انه توجد حاجة لازمة للمطهر فلماذا تنتظرون أن يدفع لكم في سبيل عمل هذه الطقوس؟ إذا رأيتم كلبا يحترق فهل تنتظرون خمس دولارات لتنقذوه من الحريق. كانت نفسي تعذبني وأنا أقف في ولائي بين التقليد والكتاب، وأخيرا أنصت لصوت الله في المسيح والكتاب”..

5– أن تعليق تخفيف نار المطهر أو الخروج منها على صلوات القديسين أو كهنة الكنيسة ينتهي إلى نتائج غريبة وشاذة، إذ يفقد الفكرة الأساسية للمطهر ومعناه، إذ أن أساس التطهير في المطهر، هو الألم ومتى أدى الألم رسالته المصفية للخطية لم تعد ثمة حاجة إلى بقاؤه في المطهر،فإذا لم يكن قد تصفى بعد، فهل تصفيه هذه الصلوات أو الطقوس المرفوعة؟ أم تخرجه قبل التصفية؟ وإذا صح إن الطقوس تفعل كل هذا فهل يجوز أن يعلق خلاص إنسان على نشاط وإهمال ذويه أو من له، إن لم نقل على ثروتهم أو عدمها، أو في لغة أخرى، هل يجوز أن يعلق هذا الخلاص على نشاط خارجي، بل وبعيد تماما عن إدراك أو وعي صاحبه، ثم ما الحكم فيمن ليس له ثروة أو أهل يمكن أن يتابعوا هذا الخلاص؟ وهل يعد هذا في حد ذاته ذنبا يضاف إلى كافة ذنوبه فلا يتمتع بما يتمتع به المحظوظون من أصحاب الثروات أو الأهل؟!! ثم ما علاقة هذه الطقوس، قبل وبعد كل شيء بإيمان المطهر وتوبته؟ وهل تعمل مستقلة عنهما؟ كما هو البادئ من عقيدة المطهر، فيكون من الجائز انتقال الإنسان إلى السماء بصرف النظر عن كمال إيمانه أو توبته، فيصبح عملها مشروطا بهما، فيناقض بذلك ما يقال من قدرة رؤساء الكهنة أو البابا على إعتاق النفوس بلا توقف أو معقب؟!!.

6– لا يمكن التسليم بفكرة المطهر دون التسليم بفكرة أخرى خطيرة تناقض تمام المناقضة الإيمان المسيحي، إلا وهي إمكانية وجود فرصة ثانية للخلاص بعد الموت… وهذه الفكرة فضلا على أن المسيح قد قضى عليها عندما تحدث عن الهوة التي لا تعبر بين السماء والجحيم في قصة الغني ولعازر، فان النصوص الكتابية المتعددة ضدها على خط مستقيم، ومنها تكرار قول السيد المسيح لليهود: “بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ… 5كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ أن لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ».(لو133، 5) دون أن يشر في قرب أو بعد إلى الفرصة الثانية، وقول المعمدان: “     10وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 12الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إلى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ». (مت310، 12) وقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “وكما وضع للناس أن يموتوا مرة وبعد ذلك الدينونة” (عب927).  “فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا، 27بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ.” (عب1026، 27). وأين في هذا جميعا يمكن أن نجد الإشارة إلى فرصة ثانية للخلاص أو المطهر؟!..

فإذا ما بدا لأحدهم أن يتساءل وما معنى إذا قول المسيح: “32وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي.” (مت1232).اجبنا أن هذه لا تفيد بحال ما الفرصة الثانية، لأنه لو كانت الإشارة إلى ذلك لما كان ثمة مبرر للتفرقة بين الخطية ضد الابن والخطية ضد الروح القدس، ولكن التفرقة منشؤها انه لا يرتكب الإنسان الخطية ضد الروح القدس إلا وهو فاقد تماما للتوبة التي هي من عمل الروح القدس، ومتى فقد الإنسان التوبة فقد مبرر الغفران، وقد يخطئ الإنسان ضد الابن، ومع ذلك لا يكون قد فقد التوبة، وعندئذ يكون مجال الغفران مفتوحا أمامه، أما إذا أخطا ضد الروح القدس فقد اقفل أمامه مجال الغفران في أي وقت من الزمان الحاضر والعتيد أيضا.. فإذا قيل وما معنى وما معنى قول الرسول: “13فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِراً لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. 14إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. 15إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ وَلَكِنْ كَمَا بِنَارٍ.(1كو31315). اجبنا أن الكلام هنا منصب على الأجرة والجزاء والفرق بين مجد ومجد، والامتحان قائم في ذلك “اليوم” يوم الحساب، والاحتراق  أو عدمه منصب على العمل، لا على ذات الشخص الذي يخلص في الحالتين، مع هذا الفارق مع شخص يؤسس في للحياة الأبدية فضة ذهبا حجارة كريمة، وأخر يؤسس خشبا عشا قشا كما يقول، وليس في هذا ادني إشارة إلى فرصة ثانية أو إلى مطهر، إذ الحساب كله قائم في اليوم الأخير لا عن فترة سابقة لهذا اليوم كما هو المتصور في المطهر. فإذا ما قيل أخر الأمر، ولكن ما معنى قول الرسول: “18 فَإِنَّ الْمَسِيحَ أيضا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إلى اللهِ، مُمَاتاً فِي الْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، 19 الَّذِي فِيهِ أيضا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ.” (1بط318– 20). اجبنا أيضا أن الإشارة هنا لا تفيد الفرصة الثانية أو المطهر، لأنه إذا صح هذا فلماذا تكون الكرازة فقط للأرواح التي عاصرت نوحا ليس إلا؟ ولماذا اختصهم المسيح دون غيرهم بهذه الكرازة؟ إن المعنى واضح وصريح في القول: “ولكن محيى في الروح الذي فيه أيضا ذهب!” وهذه إشارة على إن روح المسيح في نوح هو الذي كرز للنفوس وأرواح العاصية في تلك الأيام السابقة للفلك، ولما لم تفلح الكرازة خلص ثماني “أنفس” هي نفوس نوح وعائلته!!..

7– وأخيرا فان من المؤكد أن هناك جماعة من المؤمنين لا يمكن أن تمر بالمطهر لسبب صغير بسيط، هو إنها ستكون في الحياة عند البوق الأخير كقول الرسول: “لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ 52فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ. 53لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. 54وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إلى غَلَبَةٍ».(1كو155154). والسؤال هنا، هل هؤلاء هم الاستثناء الجماعي “للمطهر”، وهل لا يوجد بينهم من هو في حاجة إليه؟ أم أنهم يجوز أن يلبسوا الجسد الروحاني غير الفاسد كالذين سبقوهم من الموتى سواء بسواء، دون المرور بعملية أو مرحلة المطهر!!.. الحقيقة أن ملايين علامات الاستفهام يمكن أن توضع هنا أمام المطهر!!..

من كل ما ذكر يتبن أن الكتاب لا يعرف على  الإطلاق  هذا الذي يطلق عليه الكاثوليك “المطهر” أو “لمبوس الأطفال”أو “لمبوس الإباء” أو ما إلى ذلك من عقائد وتقاليد غير كتابية تناهض روح المسيح وخلاصه المجاني العجيب، وانه لا يوجد سوى مكانين للأرواح، السماء للمؤمنين، والجحيم للأشرار، وان الاثنين يبقيان هناك حتى يوم القيامة!!..

ثانيا – القيامة العامة وكيف تكون؟

والسؤال القائم بعد كل ما ذكرناه عن الروح.. وماذا عن الجسد؟ وهل ينتهي ويتلاشى؟ أم يعود فيقوم؟ وإذا قام فكيف تعود الصلة بينه وبين الروح؟

ومن الواضح أن المسيح إذ فدى الإنسان إنما يفديه جسدا وروحا، إذ لا يمكن أن يشطره شطرين ليفدي جزءا منه دون الأخر، أو يمكن أن يستغني في الأبدية عن عنصر منه دون العنصر الأخر، ومن ثم كان فداء الجسد محتوما كالروح سواء بسواء. ولهذا قال الرسول: “21لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أيضا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إلى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أولاَدِ اللهِ. 22فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إلى الآنَ. 23وَلَيْسَ هَكَذَا فَقَطْ بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أيضا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا.” (رو821– 23) وهكذا كان مرهون بالقيامة في اليوم الأخير عندما تعود الأرواح لتلبس أجسادها، ويصبح الإنسان بعنصريه كاملا أمام الحساب أو الدينونة الأخيرة!!..

وليس من شبهة في هذه القيامة على الإطلاق، إذ يقول السيد المسيح: “فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ 29فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إلى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلى قِيَامَةِ والدينونة.”(يو528، 29).. ويقول الرسول بولس : “ولي رجاء بالله فيما هم ينتظرونه انه سوف تكون القيامة للأموات الإبرار والآثمة” (اع2415) ط الذي يغير كل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (في321)  “لان هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت” (1كو1554). ولعل العالم لم يعرف في كل تاريخه الطويل دفاعا عن عقيدة القيامة كذلك الدفاع الرائع الذي سجله هذا الرسول في الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأول حيث ناقشها في كافة النواحي الدينية والتاريخية  والمنطقية والعلمية والفلسفية والأبدية معا، ولعلنا لا نجد برهانا أو حجة أوفى أو أدق من براهينه أو حججه التي ساقها هناك وهاكم هي كما جاءت بذات ترتيبها وتلاحقها معا:

1- القيامة وبرهانها الديني

لم تكن القيامة عند الرسول مجرد حادث يمكن أن يلم بالبشرية نتيجة صدفة أو عارض أو تطور مادي أو اجتماعي، بل هي الحادث المحتوم في ترتيب الله الازلى  للقضاء على الخطية وتحرير المؤمنين منها إلى الأبد، ووضع الحد النهائي من أعمال الشر والخطية في الأرض، ومن ثم لم يكن غريبا أن  يرى فيها الرسول قلب الإنجيل ولبابه ولذا استهل حديثه عن القيامة بالقول: “1وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ وَقَبِلْتُمُوهُ وَتَقُومُونَ فِيهِ 2وَبِهِ أيضا تَخْلُصُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إذا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً! 3فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأولِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أيضا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ 4وَأَنَّهُ دُفِنَ وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ 5وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لاثني عَشَرَ.”(1كو15:!-4) وهنا نلاحظ كيف لم يقف الرسول عند موت المسيح كما لو هذا الحادث من الحوادث التي تنتهي بها حياة الكثيرين من الأبطال والقادة والعظماء الذين يموتون دفاعا عن المبادئ التي عاشوا لها، ولكن المسيح مات لان هذا هو الترتيب الأزلي والمشورة المحتومة والعلم الإلهي السابق، ولقد مات المسيح لأجل غاية واضحة ظاهرة: “من اجل خطايانا” وقد  تحدث الله عن هذا الموت في الكتب المقدسة بالنبوات التي لم يشر إليه جملة فحسب بل بالتفصيل الدقيق أيضا، فإذا كان الرسول يذكر هذا الموت لأجل الخطية فانه يذكره لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، هذه هي سياسة الله الثابتة المنبثقة من طبيعته وجوهره وكمالاته تجاه الخطية، وإذا كان المسيح يقوم بعد الموت، فإنما يقوم لتحسب قيامته أيضا لمن يؤمنون به ويندمجون فيه، ومن ثم نجد الرسول يسارع إلى القول : “20وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. 21فَإِنَّهُ إذ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ أيضا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ.”(1كو152022).

2– القيامة وبرهانها التاريخي

على أن الرسول وهو يتحدث عن القيامة لم يتحدث عنها كعقيدة ذهنية أو تصورية أو شعورية، تنازع،قة تاريخية يمكن أن تحس أو تلمس، وبما أن القيامة العامة لم تحدث بعد، فقد اتخذ الرسول حجتها العظمى من قيامة المسيح الذي قام من بين الأموات : “وصار باكورة الراقدين”. وقد ذكر الرسول كيف ظهر المسيح بعد القيامة لتلاميذه ورسله بكيفية لا يمكن أن تجادل أو تنازع، إذ ظهر مثلا:

أولا:   الظهور غير المتوقع لبطرس الذي أنكره، وكان يستبعد ولا شك أن يظهر له المسيح، ولكن السيد ظهر له خصيصا على انفراد ليعيد إليه مركزه الضائع، ويقينه المبعثر، وثقته المفقودة!!..

ثانيا: الظهور الذي لا يمكن الشك في حقيقته أو صدقه، إذ ظهر للاثنا عشر ثم لخمسمائة أخ، ولا     يمكن أن يجتمع عدد مثل هذا على وهم أو خيال!!..

ثالثا: الظهور المتردد وهو الظهور الخاص ليعقوب أخيه، وقد كان يعقوب حتى القيامة مترددا غير مؤمن بحقيقة يسوع كالمسيا المنتظر، ولكنه بعد القيامة امن به إيمانا ثابتا غير مزعزع!!..

رابعا: الظهور للعدو المحارب للمسيحية إذ ظهر بعد سنوات لبولس الذي كان بطبيعته عدوا ومحاربا للمسيحية، الذي تحول من تلك الساعة إلى خادم المسيح ورسوله العظيم!..!

فإذا كانت قيامة المسيح قد ثبتت هكذا على النحو التاريخي، ولذلك لا عجب أن يرى الرسول فيها صورة القيامة العامة ومثالها فيقو: “12وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟(1كو1512).

3– القيامة وبرهانها المنطقي

بعد أن تحدث الرسول عن القيامة من الوجهة التاريخية عالجها منطقيا، فتساءل كيف يمكن لإنسان بعد هذا البرهان أن قول أن قيامة الأموات لا يمكن حدوثها، وتابع الرسول في سلسلة من المنطقيات حقيقة قيامة المسيح، فبين انه إذ لم يكن قد قام، فلا معنى للكرازة ولا معنى للإيمان ذاته.. وإذا لم يكن قد قام فان أولئك الذين يشهدون لقيامتهم شهود زور، ويشهدون بهذه الشهادة من اجل الله، والله منطقيا لا يدعوهم لهذه الشهادة.. وانتقل الرسول إلى منطقة الوراثة فبين أن ما انحدر إلى البشرية انحدر إليها عن أبيها ادم، فإذا كان قد مسها الموت من هذا القبيل، وإذا كان لابد للخلاص من هذا الموت، فلابد أن يتم الأمر عن طريق الوراثة أيضا: “لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ.”(1كو1522).. ثم تحول الرسول من منطق الوراثة إلى منطق التطور، فبين أن البشرية تسير مع التاريخ في طريق التطور، وإذا كان هذا التطور يتبع خطة إلهية دقيقة: “! (1كو152426)وقد أفصح الرسول كيف يقبض المسيح بيد قوية على هذا التطور ويدفعه دفعا إلى الأمام حتى يقضي على الموت نفسه وتتم سيادة الله الكاملة على الخليقة!!..

4– القيامة وبرهانها العملي

انتقل الرسول في حديثه عن القيامة من المنطق المجرد إلى الحقيقة العملية، فقال أن  بعض الكورنثيين درجوا على أن يعتمدوا بالنيابة عن الأموات الذين امنوا بالمسيح، ولم تكن لهم فرصة المعمودية فماتوا فجأة أو استشهدوا في سبيل المسيحية، واعتمد أهلهم بالنيابة عنهم اعتقادا منهم بضرورة المعمودية، وتلك كانت  عدة قديمة، والرسول لا يناقش هذه العادة في حد ذاتها، بل يقول أن الآخذين بها يؤمنون بالقيامة، وإلا لما فكروا أن يقوموا بهذه الفريضة نيابة عمن ماتوا، كما انه هو لو لم يكن له يقين بالقيامة لما خاطر وحارب في افسس أناسا كانوا كالوحوش في قسوتهم وعدائهم له.. بل لتحولت حياة المؤمنين كلها إلى حياة من يأكل ويشرب، ولا شيء عنده أكثر من ذلك لأنه غدا يموت، ولكن المتاعب والكفاح والجهاد والآلام التي يعانيها المؤمنون في كل جيل وعصر ترجع أولا وأخيرا إلى يقينهم الثابت بالقيامة من الأموات!!..

5– القيامة والبرهان الفلسفي

فإذا وجد بعد كل هذا من يعثر في القيامة ويتساءل: كيف يقام الأموات وبأي جسم يأتون؟ يأتي جواب الرسول مؤكدا بان السائل لابد أن يكون غبيا، إذ أن الطبيعة ذاتها يمكن أن تعطيه الجواب من خلال مصنوعاتها ومخلوقاتها من أحسن التأمل والتفكير، إلا ومن ذا الذي يغفل كل يوم عن أن يرى ظاهرة الموت والقيامة في المزروعات المختلفة التي يزرعها الإنسان؟ فالبذرة إذ تدفن في الأرض تتحلل لتتحول إلى شجرة، والبذرة بهذا المعنى تموت، ولكنها تقوم بحلة أبهى وأعظم وغنى وأكمل، ويمكنك أن تقول أن هناك ارتباطا لا ينتهي بين البذرة والشجرة، فالبذرة أصل الشجرة وجوهرها ومبعثها ومعدنها، ولكن الشجرة مع ذلك تختلف بوضوح عن البذرة في حجمها ومظهرها وأثرها وعظمتها.. والبذرة إلى جانب ذلك تختلف عن غيرها من البذور، وكل نوع منها يحمل في اطوائه الكيان الخاص بنوعه، والذي يختلف عن غيره من الأنواع، وعلى هذا القياس يمكن رؤية الإنسان في موته وقيامته، فهو إذ يموت ويتحلل لا ينتهي أو يبيد، بل ينبعث بصورة أخرى، وتكون العلاقة القائمة بين حياته قبل الموت وبعد القيامة كالعلاقة بن البذرة والشجرة سواء بسواء. ولعل هذا يساعدنا على أن نفهم كيف يختلف جسد القيامة عن جسدنا الحالي، فهذا الجسد الحالي، الفاسد، جسم اللحم والدم هو البذرة الذي ينبعث منها الجسد الروحاني الممجد المنزه عن اللحم والدم والهوان والضعف، وعلى قدر الفرق بين البذرة وهوانها وضالتها، وقوة الشجرة وجلالها ومجدها، يكون الفرق بين الجسد الحيواني والجسد الروحاني في ذات الإنسان. وقد صور احدهما الفرق بين الجسدين في تلك القصة الخيالية الطريفة التي تصور فيها توأمين في بطن أمهما يقول احدهما للأخر: “هل تعلم إننا عما قريب ننتهي إلى عالم عجيب واسع منير نجري فيه على أقدامنا ونسعى ونلعب ونستنشق الهواء ملء صدورنا، ونأكل بأفواهنا أطعمة وأطايب كثيرة؟ “فيجيبه الأخر: “لا استطيع أن اصدق، وكلانا معلق ومحبوس في ظلمة ونطاق ضيق صغير”. ونزلا كلاهما ليجد هذا العالم العجيب الذي يختلف كل الاختلاف عن بطن أمهما الضيق.. وعلق الرجل على القصة بالقول انه إذا كان كل واحد فينا يختبر هذا الاختبار  عينه، م وحياته كجنين عربون لحياته التي سيعيشها بعد أن يولد، فان حياتنا في الجسد الأرضي الحيواني هي بذات المعنى والشبه عربون للحياة السماوية المجيدة التي ستكون عليها في الجسد الروحاني الممجد!!..

ومنن الثابت بعد هذا كله أن الجسد الروحاني وان كان يحمل في ذاته أصل الجسد الحيواني في شخصيته وذاتيته إلا انه يختلف عنه تماما، إذ لن يكون فيما بعد من لحم ودم يخضع لما يخضع له هذان من ضعف أو احتياج بل سيكون كامل  المعرفة والحيوية والقوة مثل الملائكة في كونه لا يقبل الزواج وان كان أعلى من الملائكة وأكثرها بهاء ومجد بقدر ما سيكون للإنسان من عظمة وارتفاع أعظم  منه!!..

6– القيامة والبرهان الأبدي

وثمة برهان أخير ختم به الرسول الحديث عن القيامة إذ انتقل إلى العالم الأبدي حيث تتم النصرة على الموت وحيث تغلب الهاوية، وحيث يقضى على الخطية بربنا يسوع المسيح، وفي ضوء هذا كله ينبغي للإنسان أن يعيش وهو ينظر إلى القيامة وينتظرها : “58إذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ.”(1كو1558).

ومن البديهي وقد انتهينا من كافة البراهين الخاصة بالقيامة أن نشير إلى أن الرسول عندما كان يتحدث عن الجانب المنير فيها كان يقصد ولا شك قيامة الإبرار، أما قيامة الأشرار، فان كانت تتم في اليوم الأخير، أو تلبس كل روح جسدها الذي لا يموت أيضا، إلا إنها مع ذلك تبقى عاطلة خاوية خربة في حياتها التعسة وشقائها المقيم!!..

ثالثا- الحساب والدينونة والأخيران

والحساب والدينونة الأخيران يأتيان في الحال اثر القيامة العامة كقول المسيح ” وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ.”(مت2531) والمحاسب والديات شخص المسيح الملك المستقر على كرسي مجه، والذي لم يعد ينازعه احد في سلطانه كرب وسيد وفاد، ومن الواضح انه لا مهرب لإنسان ما من هذا الحساب أو تلك الدينونة : “لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً.”  (2كو510). والحساب يقصد منه بالنسبة للإبرار المكافأة، أما الدينونة فتتحدث عن العقوبة العادلة التي تقع على الفريق الأخر من الأشرار!!..

1- مكافأة الإبرار

ومكافأة الإبرار واضحة أكيدة وهي ذات أساس، ودقة، ومجد.. أما أساسها فقائم في مثلث: “الإيمان والرجاء والمحبة” أو كما قال الرسول للتسالونكيين: “متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجاءكم” (اتس13) فإذا كان الرسول وهو إنسان لا يكف عن تقدير هذه الثلاثة وتذكرها بلا انقطاع، فهل يكون الله اقل اهتماما أو تقديرا أو مكافأة عليها في اليوم الأخير؟ حاشا وكلا، إذ ليس عمل واحد يصدر عن الإيمان إلا وله المكافأة والجزاء العظيمان، وفي ذلك اليوم الأبدي، وقد حق للأسقف العظيم باشفورد والذي كان مرسلا في الصين إذ يجيب على من سأله ذات يوم قائلا: “لماذا وفي إمكانه أن يكون أسقفا عظيما في أمريكا، اختار أن يدفن نفسه في الصين؟” فجاء الجواب السريع: “لأني أؤمن بقيامة الأموات”.وهل يمكن أن ينسى الله خدمة المحبة المجهدة الباذلة من اجله، الم يرها المسيح موجهة إليه شخصيا : “35لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَأويْتُمُونِي. 36عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ.. 40فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ.” (مت2535،  36، 40)؟. وهل يتصور أن الله يغفل عن صبر المتألمين من اجله، الراجين إنصافه، الم يقل الرسول لذات التسالونيكيين : “4حَتَّى إِنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا نَفْتَخِرُ بِكُمْ فِي كَنَائِسِ اللهِ، مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فِي جَمِيعِ اضْطِهَادَاتِكُمْ وَالضِّيقَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا، 5بَيِّنَةً عَلَى قَضَاءِ اللهِ الْعَادِلِ، أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ اللهِ الَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أيضا، 6إذ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً، 7وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ.”(2تس147).

أما دقة المكافأة فظاهرة من إنها ليست  العظائم الأمور وأكبرها فحسب بل لأبسطها وأصغرها أيضا، إذ تشمل إطعام الجائع وإرواء العطشان وإيواء الغريب وكساء العريان وزيارة المريض وزيارة المحبوس وما أشبه أما مجدر العادية التي نسيها أصحابها مع الزمن، ولكن المسيح لم ينسها البتة، بل ادخرها لهم يوم الحساب، وإذ صح أن مكافأة الأرض قد تكون مقلوبة، فتعطي جزاء سنمار، إذ تعطي أو تحرم على غير أساس، أو قد تكون ناسية أو مقصرة لهذا السبب أو ذاك، فان مكافأة السماء هيهات أن تغفل أو تنسى أو تقصر على وجه الإطلاق!

أما مجد المكافأة فيجل على كل وصف أو خيال، إذ يكفي أن نعلم انه “الملكوت” الذي سينتهي إليه أولئك الذين عاشوا على الأرض مجهولين أو شبه مجهولين، بل أولئك الذين: “عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ. 36وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أيضا وَحَبْسٍ. 37رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، 38وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ الأَرْضِ.(عب113538). وهو “الملكوت المعد” المرسوم والثابت في قصد الله الأزلي منذ تأسيس العالم أو في لغة أخرى هو الملكوت غير المحدث أو الطارئ، بل هو الملكوت الذي تسبق فيه “المكافأة” ذات “العمل” الذي ستكافأ عليه، ولا يمكن أن يحدث له هذا إلا من أبوة الله ومحبته العظيمة التي تفكر في مكافأة الأبناء قبل أن يقوموا بذات الأعمال التي سيكافئون عنها ويثابون!!..

3– دينونة الأشرار

ومن الجانب الأخر هناك دينونة الأشرار والآثمة، ومن سمات هذه الدينونة إنها:

أولا: تتناول جميع من عجزت الأرض أن يدينهم أو تقضي عليهم، فافلتوا من هذا أو ذاك من أي عقوبة أرضية، وفي مقدمتهم إبليس وملائكته، الذي كان من المحال أن تعاقبه الأرض، والملوك والطغاة وغيرهم ممن عجزت يد الناس من الوصول إليهم وبقوا أخر الحياة فوق متناول السلطان البشري!!..

وثانيا: تحضر كل عمل قام به كل مولود امرأة، خفيا كان أم منظورا، أمام عدالة الله العظيمة الكاملة كما يقول الجامعة: “14لأَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَلٍ إلى الدَّيْنُونَةِ عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ إِنْ كَانَ خَيْراً أو شَرّاً.”(جا 12 : 14) أو كما يقول الرسول:”10لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً.  (2كو510). وإذا جاز للجرائم البشرية أن يمتنع عن تقديمها للمحاكمة أو تسقط عقوبتها بمضي المدة، فان أية معصية بشرية تأتي للدينونة مهما طال عليها الزمن أو طوتها العصور والأجيال!!..

وثالثا: تتناول هذه الدينونة أكثر من ذلك، الأفكار والسرائر، إذ يقول الرسول بولس أيضا : “16فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.”(رو216). وإذا كان من المسلم به في القوانين الأرضية إن أية أفكار تفلت من العقوبة مادامت لا تظهر في المجتمع بمظهر عملي على أسلوب ما، إلا إن القوانين الإلهية تحاسب على الفكر الملوث النظر الشرير، والنية السيئة، حتى ولو لم يحس بها احد إطلاقا من الناس.

ورابعا: وبالإضافة إلى هذا كله تحاكم هذه الدينونة على السلبية إزاء الواجب، إذ لا يكفي أن يعاقب المسيح المسيحي على كل عمل شرير ارتكبه، بل أكثر من  ذلك يعاقب على كل واجب مهمل أو متروك، ومن ثم نجده يكشف الأشرار يوم الدين، الواجبات  التي امتنعوا عنها ولم يفعلوها: “ لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تسقوني، كنت غريبا فلم تأوني، عريانا فلم تكسوني، مريضا ومحبوسا فلم تزوروني” (مت2542-43) ولا يجديهم القول: “: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أو عَطْشَاناً أو غَرِيباً أو عُرْيَاناً أو مَرِيضاً أو مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟.”(مت25: 44)كما لم يجد صاحب الوزنة الواحدة التي أخفاها دون أن يعمل بها أو يتجر أو يربح!

وأخيرًا فإن هذه الدينونة تسير سيرا طرديا مع مدى ما للإنسان من معرفة ونور وامتياز، أو كما قال السيد المسيح: “48وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.”(لو1248) أو كما ذكر الرسول بولس: “12لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ.”(رو212). وهذا حق إذ ليس يعقل أن يطالب الله الإنسان البدائي الساذج المحدود المعرفة أو النور، بما يطال به الأخر المتحضر الواسع الإدراك والفهم.. ومن هنا يتفاوت العذاب ويختلف، كما يحدث بين أي شخصين مختلفي الحياة والإدراك والطباع والتربية ويرتكبان جريمة واحدة أو أثما واحدا!!..

هذه هي السمات العامة للدينونة وهي عل أي حال مخيفة ورهيبة، ومن ثم فلا عجب أن يواجهها الخطاة صارخين: “16وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، 17لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟» (رؤ 616، 17).. حقا “مخيف هو الوقوع بين يدي الله الحي” (عب1031).

رابعا -أبدية السماء والجحيم

هذا أخر ما ينتهي به الحديث عن الأبدية، وهذا واضح من النص الصريح للمسيح: “46فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إلى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إلى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». (مت2546)ولعله من اللازم الإشارة إلى الحياة الأبدية والعذاب الأبدي كل على حدة!!..

1- الحياة الأبدية في السماء

وقبل أن نسال عن الحياة الأبدية وكيف تكون بالنسبة للمؤمنين، جدير بنا أن نتوقف قليلا لنسال: ما هي السماء؟ هل هي حالة أم مكان؟ والواضح إن السماء لابد أن تكون الاثنين معا، إذ هي أولا وقبل كل شيء “حالة” وهذا مستفاد من ذات اللفظ “السماء” مما يشير إلى الارتفاع، وبالمقابلة مع الانخفاض الذي يحمله لفظ الدنيا في الأرض، ولا يمكن أن يؤهل الإنسان للسماء ما لم يتغير إلى تلك “الحالة” عينها، ومن ثم يستحيل على الجسد المادي والحيواني الصعود أغليها والوصول إلى مراقبها ما لم يصبح جسدا وروحا ممجدا، إذ لا يرث الفساد عدم فساد.. على إنها إلى جانب ذلك هي ” مكان” ولا يمكن إلا أن تكون مكانا، وإلا فإلى أين ذهب اخنوخ أو موسى أو إيليا أو المسيح عندما صعد بجسده العظيم الممجد، ثم إلى أين ذهب بولس عندما اختطف إلى السماء الثالثة إلى الفردوس، ليسمع “كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كو12:!-3)!!؟. ولئن كان من العسير مع ذلك أن نفهم معنى السماء الأولى، والأرض الأولى في قول الرائي: “1ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأولَى وَالأَرْضَ الأولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ.”(رؤ21:!). إلا انه يبدو إن كل شيء سيتغير بتمام الفداء وتحرر المؤمنين إلى الأبد من الخطية، وما خلفت أو تركت من اثأر، وان الإنسان المفدي سيحيى ما يطلق عليه ” الحياة الأبدية “.. وسمات هذه الحياة:

أولا: إنها “حياة” وهذا ما يفرق بينها وبين معيشة إنسان على الأرض، إذ نحن لا نعيش في الحاضر “الحياة” بل نعيش على هامش الحياة على “هامش الحياة” أو في “ظل الحياة”.. أما “حقيقة الحياة” فلا يبدؤها الإنسان إلا  بتمام الفداء في المجد، ولهذا  السبب تأتي الإشارة إليها مرات كثيرة مجردة كالقول: وخير لك أن تدخل الحياة” (مت18:8)  “إن أردت أن تدخل الحياة فأحفظ الوصايا” (مت1917) “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى الحياة” (يو925).. وهكذا.. في الواقع أننا لن نتذوقها إلا هناك.. وهذه الحياة أيضا كما هو ظاهر “حياة أبدية” لا تنتهي إذ لفظها مرادف للخلود، ولا يمكن أن تتعرض للوقتية أو القصر أو الضعف أو الذبول.. وهي حياة الكمال في كل ما للكمال من بهاء وجلال، إذ هي حياة كمال المعرفة أو كما يقول الرسول: “الآن اعرف بعض المعرفة لكن حينئذ  سأعرف كما عرفت” (1كو1312) وكمال القوة إذ يضحى الإنسان يومئذاك اقوي من الملائكة بما لا يقاس وتنطلق فيه طاقة مذهلة عجيبة يعجز كل خيال عن إدراكها أو تصورها، كالقول انه يستطيع الانتقال من أقصى السماوات إلى أقصاها في لمح البصر، كما تستطيع عيناه أن ترى إلى أبعاد  وآماد لا تخطر بالبال!!.. كما يستطيع أن ينجز من الأعمال ما لا تستطيع الملائكة أن تقوم به على فرط قوتها وعظمتها!!..

وهي حياة السعادة التي لا توصف. كيف لا والمؤمنون لا يمكن أن يتفرقوا فيها فيما بعد عن الله : “3وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ. 4وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأولَى قَدْ مَضَتْ». (رؤ213، 4). “4وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ. 5وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إلى سِرَاجٍ أو نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ الرَّبَّ الْإِلَهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ سَيَمْلِكُونَ إلى أَبَدِ الآبِدِينَ.”(رؤ224، 5).

وهي حياة الخدمة المجيدة السرمدية: “وعبيده يخدمونه” (رؤ22:3) ومع إننا لا نعرف كنة هذه الخدمة أو مداها أو أمجدها، إلا انه يمكن أن يقال إنها الحياة التي يؤتمن فيها المؤمن على الكثير بالنسبة للقليل الذي كان بين يديه على الأرض، كما قال السيد: “كنت أمينا على القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك” (مت2541).. وهذا يبدد  ما يمكن أن يرسب في الأذهان من إن السماء مكان جمود وخمود وكسل، في الواقع إن الإنسان لا يمكن أن يعرف حقيقة النشاط والحمية والاجتهاد والخدمة قبل أن يصل إلى السماء والمجد، ولعله من المناسب أن نشير ههنا إلى جماعة من الرهبان كانت تقرا ذات يوم سفر الرؤية وأخذت تناقش فيما بينها عن أفضل عد في هذا السفر، فقال حدهما انه الوعد القائل وسيمسح الله كل دمعة من  عيونهم” (رؤ214). وقال أخر كلا بل انه الوعد القائل : “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي” (رؤ321) وقال الثالث وكان توما القمبيزي: “وعبيده يخدمونه” (رؤ223).

وأخر الكل حياة المجد، ومع إن كل من في الأبدية سيمتلؤن ولا شك بالسعادة التي لا توصف، إلا إنهم مع ذلك يختلفون في مجدهم بعضهم عن البعض ” لان نجما يمتاز عن نجم في المجد” (1كو1541) وقد بين السيد المسيح أن في السماء “منازل كثيرة” وان الجلوس عن يمينه وعن يساره سيتم وفقا للترتيب الإلهي العظيم، وان كان هذا الترتيب يخضع أولا وأخيرا لمشيئة الله الحكيمة المحتومة، إلا انه يبدو متجاوبا مع ما بذل الإنسان من جهاد على الأرض، وما له من قابلية واتساع في تقبل هذا المجد، وكما انه يمكنك أن تملا أواني أو أماكن مختلفة فارغة حتى أخرها، إلا إن قابلية الامتلاء تتحدد بمقدار ما لها من حيز أو سعة، فالدورق والجدول والترعة والنهر والبحر والمحيط يمكن أن تمتلئ جميعا حتى النهاية، ولكن القابلية في كل منهم تختلف ولا شك عن الأخرى، والله يجهز قابلية كل إنسان للمجد السماوي بنوع ومقدار الجهد الذي يبذله المرء هنا في حياته على الأرض. ومن ثم فان كان جميع المؤمنين يمتلؤن بفرح لا ينطق به ومجيد، إلا إن قابلية الفرح في كل منهم تختلف عن الأخر، وطوبى لمن يذكر هذا فيجهز نفسه لقابلية أوفى واجل وأعظم بالخدمة الباذلة المخلصة والمستمرة على هذه الأرض!!..

2– العذاب الأبدي في الجحيم

وإذا كانت السماء كما اشرنا حالة ومكانا، فلابد أن يكون بالمقابلة الجحيم أيضا. أما إن الجحيم مكان فهذا واضح من قول السيد المسيح عن الغني: “ فرفع عينيه إلى الهاوية”.. “لأني لي خمسة إخوة حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضا إلى موضع العذاب في الهاوية” (لو1623، 28) أما انه حالة فلأنه مرادف على الدوام لأقسى تعاسة وشقاء وشدة يمكن أن يصل إليها لإنسان، فهو “الهاوية” و “الموت الثاني” و “الظلمة الخارجية” و “الدينونة الأبدية” و “جهنم” وما أشبه من كتابات ورموز. وقد دعي الجحيم “جهنم” مثلا لان هذا اللفظ الأخير كان يطلق على وادي ابن هنوم الواقع إلى الجنوب من أورشليم، وكان واديا ملعونا تقذف إليه جميع قاذورات  المدينة وأوساخها، وكان مباءة للديدان والجراثيم، تشعل فيه نيران على الدوام رغم الظلمة الضاربة عليه، لامتداده وعمقه. ومن ثم كان أصلح مثل وارهبه لموضع العذاب الذي لا ينتهي للأشرار في مصيرهم التعس الأبدي!!..

ومع انه ليس من السهل على اللغة البشرية أن تصف قسوة هذا العذاب ورهبته وشدته، إلا انه من الممكن أن يقال بكل يقين انه فوق كل تصور وخيال، كيف لا وقد فقد الإنسان فيه كل عماد ارضي وكل شركة إلهية وكل رجاء منتظر، وأضحت تلاحقه إلى الأبد عذابات الضمير من غير نوم أو هدوء أو موت!!..

على انه من الواجب أن نشير هنا إلى العذابات التي يعانيها الهالكون تختلف شدة ودرجة كما سبقت الإشارة تباعا لاختلاف المعرفة والإدراك والمسئولية عند الخطاة في الأرض، الم يقل السيد المسيح لمدن كورزين وبيت صيدا وكفر ناحوم: “«وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. 22وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. 23وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إلى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إلى الهاوية. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إلى الْيَوْمِ. 24وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ». (مت112124)  وألم يقل أيضا لبيلاطس : “لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم ” (يو1911).

على انه في الوقت نفسه من الواجب أن نؤكد أيضا انه مهما يختلف العذاب فانه بالنسبة للجميع دائم وابدي. وكلام المسيح في هذا واضح صريح: “(مت2546) – فإذا كان اللفظ الذي يشير إلى الأبدية واحدا في الأصل اليوناني، وإذا كان من السلم به إن الحياة الأبدية لا يمكن أن تحد بزمن أو وقت، تعين التسليم بالمقارنة والمقابلة بلا نهاية العذاب الأبدي.. فإذا ما قال البعض: ولكن كيف يتفق هذا مع وجود الله ورحمته وحبه؟ اجبنا أولا إن النص الصريح   يمنع كل اجتهاد أو تأويل، كما إننا لم نصل ثانية إلى المقدرة والاستعداد اللذين يؤهلاننا للحكم على الأعمال العليا التي يجريها الله، وإلا فمن يستطيع أن يفسر لنا كيف يتفق هذا الجود والرحمة والمحبة مع العذابات والآلام والتعاسات التي يعانيها البشر من مطلع تاريخهم إلى يوم القيامة؟!!.. ثم هل ننسى أخر الأمر إن المسالة ليست محصورة في قسوة العقاب من عدمه، بل هي قائمة أولا وأخيرا في التنافر الأبدي بين الله والخطية، وان الإنسان الخاطئ الذي رفض الخلاص من الخطية لا يمكن أن يلتقي إلى الأبد بالله.. اجل ولقد حق لدانتي الليجيري أن يتصور باب الجحيم، وقد كتب عليه في قصة الكوميديا الإلهية: “ أيها الداخل إلى هذا المكان، ينبغي عليك أن تهجر هنا كل رجاء “.

وأخر الأمر نعود مرة أخرى أن نشير إلى السؤال عن الأبدية هو من أهم وأدق واخطر الأسئلة التي ينبغي أن يتأملها الإنسان، وإذا كانوا قد قالوا إن فيليب المقدوني قد أمر احد عبيده أن يدخل إليه كل صباح وان يصرخ أمامه في أية حالة يكون وأمام أي ظرف قد يوجد فيه قائلا: أذكر يا فيليب انك لابد أن تموت” فان الصرخة ما تال موجهة إليك أيها القارئ، والسؤال مازال منتصبا أمام عينيك متحديا إياك قائلا: “أين تقضي الأبدية؟ “..

ليت جوابي وجوابك على الدوام : “مع المسيح ذاك أفضل جدا” آمين!!..

القس إلياس مقار

* ولد في قرية دير الجرنوس مركز مغاغة بمحافظة المنيا في 7مايو 1971.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية عام 194؛ ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1960.
* عمل بعد التخرج راعيًا مساعدًا بكنيستي الفجالة بالقاهرة والعطارين بالإسكندرية.
* بدأ خدمته في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية عام 1945، ثم رُسِم ونُصِّبَ راعيًا شريكًا في 7 ديسمبر عام 1945، ثم راعيًا في مارس عام 1951.
*قام بالتدريس في كلية اللاهوت الإنجيلية، التي أصبح مديرًا لها في عام 1969م.
* تولى رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر في نوفمبر عام 1970 حتى عام 1983.
* انتقل الى المجد في 10 يناير عام 1978.
زر الذهاب إلى الأعلى