رسالة يوحنا الأولى

رسالة يوحنا الأولى | الأصحاح 1

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح رسالة يوحنا الأولى

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

في هذا الأصحاح موضوع التبشير الرسولي وطريق إعلانه وموضوعه الكلمة الأزلي الذي أظهر أنه هو الحياة بشهادة الذين هم شهود عيان بكونه قد تجسد. وغاية ذلك الإظهار العامة مشاركة المؤمنين للآب والابن وغايته الخاصة تكميل فرح كاتب الرسالة وقرائها. وأعلن الرسول هنا بعبارة سرّ تجسد المسيح وإعلانه للرسل ليكونوا شهوداً به. فتشبه مقدمة هذه الرسالة في شأن أولية المسيح وتجسده مقدمة بشارته وتزيد عليها بأنها تبين أن الرسل شهود بذلك.

غاية التبشير الرسولي ع ١ إلى ٤

١ «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ».

يوحنا ١: ١ وص ٢: ١٣ و١٤ ع ٣ وأعمال ٤: ٢٠ ع ٢ ويوحنا ١٩: ٣٥ و٢بطرس ١: ١٦ ويوحنا ١: ١٤ وص ٤: ١٤ ولوقا ٢٤: ٣٩ ويوحنا ٢٠: ٢٧ وأعمال ٥: ٢٠

اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ هذا متعلق بقوله «نخبركم به» (ع ٣) وما بينهما إيضاح لمعنى «الحياة». فقوله «الذي كان من البدء» الخ كقوله «كلمة الحياة» في آخر الآية وهي إيضاح لها. و «كلمة الحياة» هي الموضوع الذي أراد الرسول أن يتكلم عليه للقراء وهو يشبه قوله في أول إنجيله «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ» وقوله «كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ» وقوله «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» (يوحنا ١: ١ و٩ و١٤).

وأراد بقوله «من البدء» أول تمييز الزمان المحدود من الأزل وذلك زمن ابتدأ الله أن يُظهر قضائه الأزلي في شأن المسيح بدليل قول بولس الرسول «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ (أي في المسيح) قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (أفسس ١: ٤). وأن تظهر نسبة الآب إلى الابن بدليل قول المسيح «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٥). وأن يُظهر نعمته التي أنعم علينا بها «في المحبوب» (أفسس ١: ٦). والذي كان في قصد الله منذ البدء أُعلن للناس على مرور الزمان بواسطة الآباء الأولين والأنبياء والمشترعين وأخيراً بالابن نفسه متجسداً (عبرانيين ١: ١). فكأن الرسول قال هنا كل ما يتعلق بكلمة الحياة الذي هو ابن الله المتجسد وكل ما نستطيع معرفته من أمور طبيعته ومقامه وصفاته وإنجيله وكل ما تقدر القوى البشرية أن تدركه من أموره أشهد لكم به.

ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ يدخل في هذا الرسول نفسه وسائر الرسل لأنه هو نائب عنهم هنا والأرجح أنه كان آخر حي منهم يومئذ. والذي سمعه هو تعليم المسيح نفسه بلفظه ما يتعلق بطبيعته وعمله وما سمعه من أنباء المسيح التي تكلم بها الأنبياء. وهذا رفض الشعب اليهودي أن يسمعه لكن الرسل وجماعة المؤمنين معهم قبلوه بسرور (لوقا ١٦: ٢٩ ويوحنا ٥: ٣٧).

كان يوحنا رفيق المسيح في كل أيام خدمته على الأرض وهو كتب مما سمعه من تعليمه أكثر مما كتبه سواه من التلاميذ.

ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا من البراهين الجليّة على أنه كان ابن الله وذلك ما رآه من مظاهره ومن آياته ومن معلنات لاهوته مدة إقامته على الأرض ولا سيما سني خدمته وهي نحو ثلاث سنين ونصف سنة (يوحنا ١: ٣١ و٧: ٤).

شَاهَدْنَاهُ هذا تأكيد أنه شاهد عيان وأنه قصد النظر ودققه وأنه عجب مما رأى وسرّ به وصدقه. وكان ليوحنا فُرص لمشاهدة المسيح لم تكن لغيره لأنه كان من أصدقائه الثلاثة المميزين وهو الذي أذن له المسيح أن يتكئ على صدره في المتكآت.

لَمَسَتْهُ أَيْدِينَا أشار بهذا إلى ما حدث بعد قيامة المسيح حين قال «اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» (لوقا ٢٤: ٣٩ وانظر أيضاً يوحنا ٢٠: ٢٧). وبقوله ذلك فنّد تعليم الدوسيتيين أن جسد المسيح ليس بجسد حقيقي لكنه خيال.

مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ أراد «بكلمة الحياة» المسيح فهو كلمة لأنه أعلن الله الآب وأُضيف إلى «الحياة» لأن له حياة في نفسه وأنه مصدر حياة غيره (يوحنا ١: ١ و٣). وسمي أيضاً «خبز الحياة» (يوحنا ٦: ٣٥) و «نور الحياة» (يوحنا ٨: ١٢).

٢ «فَإِنَّ ٱلْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ ٱلآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا».

يوحنا ١: ٤ ورومية ١٦: ٢٦ و١تيموثاوس ٣: ١٦ و١بطرس ١: ٢٠ وص ٣: ٥ و٨ و٥: ٢٠ وص ٤: ١٤ ويوحنا ١٥: ٢٧ وص ٢: ٢٥ و٥: ١١ و١٣ و٢٠ ويوحنا ١٠: ٢٨ و١٧: ٣

كل ما في هذه الآية معترض فكأنه قال نعم إن إعلان المسيح هو إعلان الحياة لأنه أتى الناس بالحياة والذي أتى بذلك الإعلان عاش إنساناً بيننا.

فَإِنَّ ٱلْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ هذا كقوله «الكلمة صار جسداً» أي إن المسيح الذي هو الحياة ظهر (كولوسي ٣: ٤ ورومية ٥: ٢٠ و٦: ٢٣ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و٢تيموثاوس ١: ١). وأُظهرت الحياة في أول مجيء المسيح (يوحنا ١: ٣١ و٧: ٤ و١بطرس ١: ٢٠ و١تيموثاوس ٣: ١٦ وعبرانيين ٩: ٢٦). وأُظهرت عند قيامته (مرقس ١٦: ١٢ و١٤ ويوحنا ٢٠: ١٤) وهو سيظهر أيضاً (كولوسي ٣: ٤ و١بطرس ٥: ٤).

وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ الفرق بين كل من قوله «رأينا» و «نشهد» و «نخبر» إن الأول ناشئ عن اختبار الرسل بالذات وإن الثاني تصريح بما رأوا وأن الثالث إعلانهم القانوني. قابل قوله «رأينا» بما في (يوحنا ١: ٣٤ و١٤: ٧ و٩ و١٩: ٣٥). فالله لم يره أحد قط ولكن المسيح تجسد لكي نرى فيه صفات الإله غير المنظور. وقابل قوله «نشهد» بمناداتهم وموتهم شهداء (ص ٤: ١٥ ويوحنا ٢١: ٢٤). وكان إخبار يوحنا بذلك بمقتضى أمر الله وقصده. ففي قوله «نخبركم» إشارة إلى كل خدمة الرسل من كتابة البشائر والرسائل والآيات التي صنعوها.

بِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ (يوحنا ١٧: ٣ وأعمال ١٣: ٤٦ و١تيموثاوس ٦: ١٢). هذه الحياة غاية ما رأى الرسل وسمعوا وأخبروا به وهي لم تبتدئ في هذا العالم بل كانت أصل بداءة العالم وكل ما فيه من الحياة. وهي الحياة الإلهية حياة المسيح الأصلية وكانت له قبل أن أُظهرت لنا وأتى لكي يجعل الناس شركاءه فيها.

ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ ٱلآبِ حين كان عند الله (يوحنا ١: ١). فكل ما قيل في البشارة في «الكلمة» يصدق على «الحياة» هنا فهو الرب الواحد الذي به جميع الأشياء (١كورنثوس ٨: ٦).

وَأُظْهِرَتْ لَنَا نحن الرسل. والمعنى أن «الحياة الأبدية» التي كانت مستترة مع الآب ومعتزلة الأزمنة أُظهرت للرسل حتى يقدروا أن يدركوها ويشهدوا بها لغيرهم. ومعرفتهم إياها بالذات أساس شهادتهم.

٣ «ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

ع ٢ ويوحنا ١٩: ٣٥ و٢بطرس ١: ١٦ وع ٣ وأعمال ٤: ٥ ويوحنا ١٧: ٣ و٢١ و١كورنثوس ١: ٩

ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ قال الرسول في الآية السابقة أن موضوعه الحياة الأبدية التي أُظهرت للرسل وقال هنا إن الذي عرفوه من أمر المسيح باختبارهم هو واحد من أمور تلك الحياة أي إنهم نالوا الحياة الأبدية بمعرفة الابن.

نُخْبِرُكُمْ بِهِ لم يقبلوا المسيح لمجرّد أنفسهم بل للذين لم يروه أيضاً (يوحنا ٢٠: ٢٩) لكي يؤمنوا هم أيضاً به ويفرحوا.

لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا نحن الرسل بإدراك حق المسيح لتحصلوا على القوة الروحية التي حصلنا عليها بمعرفة حياته الإلهية فإن حياة الناس الروحية أُظهرت في شركتهم في المسيح والله وكنيسته. وهذه الشركة هي التمتع بفرح واحد. وهذا الفرح هو الفرح بالله نفسه حصل عليه المؤمنون بمعرفة الإنجيل والحياة الأبدية المقترنة بها وكل مواهب النعمة للكنيسة. وأعلن الرسول في هذه الرسالة شركة المؤمنين للرسل في معرفة الحياة الأبدية التي بها اتحدوا بالله.

وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلآبِ الخ لم يرد الرسول أن يكتفي المؤمنون إلا بأسمى تلك الشركة. وعنى بقوله «شركتنا» شركة المؤمنين أي الشركة المسيحية وأبان أن تلك الشركة مع الآب بواسطة ابنه باعتبار كونه وسيطاً فإذاً هي شركة الآب والابن بدليل قوله «مَنْ يَعْتَرِفُ بِٱلابْنِ فَلَهُ ٱلآبُ أَيْضاً» (ص ٢: ٢٣). وهي مع الروح القدس أيضاً بدليل قوله «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ» (٢كورنثوس ١٣: ١٤). وهذا على وفق صلاة المسيح وهي قوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا… أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا ١٧: ٢١ و٢٣). وهذه الشركة تستلزم التسوية في الإحساس والآمال والغايات والأفراح فما يحبه الله يحبونه هم وما يشاؤه يشاؤونه هم. وشركة المؤمنين في الله كشركة الملائكة فيه في السماء وبها يتمتعون متى دخلوا السماء.

٤ «وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً».

ص ٢: ١ ويوحنا ٣: ٢٩

في هذه الآية بيان غاية الرسول الخاصة.

وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا ما ذكره في الآية السابقة وهو أن تكون لهم الشركة الروحية بين أنفسهم وبينهم وبين الله لكي يشاركوا الرسل في السلام والسعادة مما حصلوا عليه بمعرفة أن المسيح قد أتى وإيمانهم به.

لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً بواسطة شركتكم مع المسيح ومع الإخوة فيه. وهذا يتضمن الفرح بالطهارة والقوة والسعادة والحياة الأبدية (يوحنا ١٥: ١١ و١٧: ١٣).

المناداة التي خلاصتها أن الله نور ع ٥ إلى ١٠ وص ٢: ١ إلى ٢٧

وذلك بالتفصيل

بيان شروط التمتع بالشركة المذكورة آنفاً أي شروط مشاركة الله في القداسة ع ٥ إلى ١٠

٥ «وَهٰذَا هُوَ ٱلْخَبَرُ ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ وَنُخْبِرُكُمْ بِهِ: إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ».

ص ٣: ١١ ويوحنا ١: ١٩ و١تيموثاوس ٦: ١٦ ويعقوب ١: ١٧

هٰذَا هُوَ ٱلْخَبَرُ ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ رجع هنا إلى ما ذكره في الآية الأولى وهو قوله «الذي سمعناه».

مِنْهُ أي من المسيح الذي ظهرت به الحياة الأبدية. وقصد بذلك أن المسيح نفسه مصدر الخير لا الرسل.

نُخْبِرُكُمْ بِهِ العلاقة بين هذه العبارة وما سبق شروط الشركة المذكورة آنفاً وتلك الشركة مبنية على المعرفة المتبادلة فيجب أن نعرف الله لنقدر أن نشاركه وأن نعرف أيضاً أنفسنا بواسطة تلك المعرفة.

إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ جمع في هذه العبارة كل ما عرفه من أمور الله وتعليمه بكلمة واحدة وهي «نور» وجمع كل ذلك بكلمة واحدة وهي «محبة» (ص ٣: ١١). ومعنى كون الله نوراً أنه طاهر مجيد ومصدر القداسة والمجد والحياة والقوة وأنه لا يُدنى منه وأنه غير محدود وأنه مصدر الحياة والهدى وهو مصدر النور الطبيعي «لأنه دعا النور من الظلمة» ومصدر النور الروحي لأنه مصدر كل معرفة وحكمة وكمال في الخليقة (تكوين ١: ٢٧ و١كورنثوس ١١: ٧ وأفسس ٢: ١٠ وكولوسي ٣: ١٠). وهذا موافق لقول المرنم في الله «اللابس النور كثوب» (مزمور ١٠٤: ٢). وقول النبي «وَكَانَ لَمَعَانٌ كَٱلنُّورِ. لَهُ مِنْ يَدِهِ شُعَاعٌ، وَهُنَاكَ ٱسْتِتَارُ قُدْرَتِهِ» (حبقوق ٣: ٤). وسمي أبناء الله «بأبناء النور» (يوحنا ١٢: ٣٦). وقال يعقوب في الله أنه «أبو الأنوار» (يعقوب ١: ١٧). وقال بولس أنه «ساكن في نور لا يدنى منه» (١تيموثاوس ٦: ١٦). وهذا يشبه القول إن «الله روح» (يوحنا ٤: ٢٤) وأنه «محبة» (ص ٤: ٨ و١٦).

وأما المسيح فقيل «إنه نور الناس» (يوحنا ١: ٤) وإنه «ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ» (يوحنا ١: ٩). وإنه «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢).

لَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ هذا معنى ما قاله سابقاً إلا أن ذلك بطريق الإيجاب وهذا بطريق السلب فإنه ينتج بالضرورة من كون الله نوراً أن ليس فيه شيء من الظلمة فإن طبيعته تأبى الخطيئة فلا تمكن مشاركة الخاطئ لله.

٦ «إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي ٱلظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ ٱلْحَقَّ».

يوحنا ٨: ١٢ و٢كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٥: ٨ وص ٢: ١١ ويوحنا ٨: ٥٥ وص ٢: ٤ و٤: ٢٠ ويوحنا ٣: ٢١

إِنْ قُلْنَا نحن البشر والمقول هو قول الغنوسيين أورده عنهم. وروح هؤلاء منافٍ لروح المسيح والمسيحيين الحقيقيين.

لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ أي إنّا أصدقاؤه وأتباعه. ادعى الغنوسيون أنهم مثل الله وسيرتهم تكذب كلامهم (ع ٣).

وَسَلَكْنَا فِي ٱلظُّلْمَةِ أي الخطيئة والضلال. والمراد «بالسلوك» هنا الحال الروحية (ص ٢: ٦ و٢يوحنا ٦ ورومية ٦: ٤ و٨: ٤ وأفسس ٤: ١٧ وفيلبي ٣: ٢٠). ولكن الغنوسيين اختاروا الظلمة نصيباً واعتزلوا مشاركة الله والنور بدليل قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا ٣: ١٩).

نَكْذِبُ أي أعمالنا تكذب أقوالنا فسلوكنا في الخطيئة دليل على أننا نخدع أنفسنا لأن الله قدوس فيجب أن نكون قديسين ليمكننا أن نكون أصدقاءه (يعقوب ٣: ١٤).

وَلَسْنَا نَعْمَلُ ٱلْحَقَّ عمل الحق هو السلوك بمقتضى الحق وعلامة كون الإنسان مسيحياً. فديانة المسيح هي نور وطهارة وسلام وفرح خلافاً للسلوك في الظلمة فإن دين المسيح قائم بالعمل كما هو قائم بالإيمان فيجب أن يكون موافقاً لطبيعة الله الذي هو نور.

٧ «وَلٰكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ».

إشعياء ٢: ٥ و١تيموثاوس ٦: ١٦ وعبرانيين ٩: ١٤ ورؤيا ٧: ١٤ وتيطس ٢: ١٤

إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ هذا شرط الشركة مع الله والمراد «بالسلوك في النور» حياة القداسة لكي يكون الحيّ بها نوراً في العالم والتمسك بالحق خلافاً للتمسك بالضلالة الوثنية والفلسفة الباطلة وهو إدراك النور حق الإدراك وهذا مما لا يستطيعه الجسدانيون (٢كورنثوس ٤: ٢ وأفسس ١: ١٨). والابتهاج بالسير على سنن النور والحصول على مسراته (مزمور ٩٤: ١٩ و٢كورنثوس ١: ٣ و١٣: ١١). والمؤمنون الحقيقيون لا يكذبون بادعائهم الشركة مع الله لأنه يعطيهم نعمة ليسلكوا معه ويعلموا الحق فصاروا «أبناء نور» (يوحنا ١٢: ٣٦ ولوقا ١٦: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥) وصاروا «نوراً في الرب» (أفسس ٥: ٨).

كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ هذا بيان لصفة النور لا لمقداره فإن الله يسكن في النور الكامل والطهارة الكاملة والمحبة التامة ومع الذين صفاتهم كصفاته.

لَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ أي مواساة أخوية في الأمور الروحية. والشركة مع الله تعد الناس لمشاركة بعضهم بعضاً والمحبة الأخوية دليل على المحبة لله.

وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ هذا نتيجة ثانية للسلوك في النور فكفارة المسيح ترفع خطية العالم (يوحنا ١: ٢٩) وتلاشي الخطيئة في أعضاء البشر وتحقق تحصيل مغفرة خطاياهم (١كورنثوس ٦: ١١ وأفسس ١: ٧ و١٩ و٢٠ وعبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ١: ١٩ – ٢٣). و «السلوك في النور» شرط ذلك التطهير. وواسطة التطهير ليس مقام المسيح ولا تعليمه ولا إيمان المؤمن به بل دمه فهو بتأثير ذلك الدم الدائم يزيل نجاسة الخطيئة وقوة الخطيئة وكونها علة الدينونة. ووجود الطبيعتين البشرية والإلهية في المسيح المشار إليهما بالاسمين يسوع المسيح جعل سفك دمه ممكناً. وبكونه ابن الله كان لدمه قيمة. وهذا التطهير شرط ضروري للشركة مع الله والاتحاد به. ودم المسيح «يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ» (عبرانيين ٩: ١٤). «بَذَلَ (المسيح) نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ» (تيطس ٢: ١٤) ولكي يُحضرنا له في المجد (أفسس ٥: ٢٦ و٢٧).

٨ «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا».

أيوب ١٥: ١٤ وأمثال ٢٠: ٩ ورومية ٣: ١٠ ويعقوب ٣: ٢ ص ٢: ٤ ويوحنا ٨: ٤٤

إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ لعل هذا كان ضلال النيقولاويين وهو أن لا محظور على أولاد الله فلهم حرية بالمسيح فيباح لهم كل شيء (رؤيا ٢: ٦ و١٥). ويصدق على كل البشر أنهم لم يشعروا كما يجب بفظاعة جرم الخطيئة ولا باحتياجهم إلى المخلص.

نُضِلُّ أَنْفُسَنَا لأن الكتاب المقدس يصرّح بأن كل البشر خطأة «إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ٢٣). فكلهم يحتاجون إلى المخلص وكلهم مكلفون بأن يطيعوا شريعة الله إطاعة كاملة فالذي يقول ليس لي خطيئة يظهر أنه لا يعلم حقيقة طبيعته فهو مخدوع وخادع نفسه.

وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا في هذا الأمر فالحق هنا هو المعلن في الإنجيل بأسره والمثبّت بشهادة أكثر الناس واختبارهم والقائلين بأنهم ليسوا بخطأة هم الذين يسلكون في الظلمة.

٩ «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ».

مزمور ٣٢: ٥ وأمثال ٢٨: ١٣ وعبرانيين ٩: ١٤ ورؤيا ٧: ١٤ وتيطس ٢: ١٤

إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا هذه الخطوة الأولى من السلوك في النور ومقدمة للإنجيل فالله يغفر غفراناً كاملاً لمن يعترف بخطاياه اعترافاً كاملاً. و «الاعتراف» هنا هو الإقرار جهاراً بالخطيئة (ص ٢: ٢٣ و٤: ٢ و٣ و١٥ ومتّى ٣: ٦ ومرقس ١: ٥ ويوحنا ١: ٢٠ و٩: ٢٢ ورومية ١٠: ٩). وهذا الاعتراف لا يكون بمجرد القول «خطئت» بل بذكر الخطايا بعينها. وهو خلاف قول القائلين بأن «ليس لنا خطيئة».

فَهُوَ أَمِينٌ وأمانته ظاهرة وهي على وفق الإعلان الذي أعلنه به ابنه فهو أمين في عهده ووعده بالمغفرة وتجديد القلب (عبرانيين ١٠: ٢٣ و١١: ١١). وفي أن يكمل ما ابتدأه من تقديس المؤمن (١تسالونيكي ٥: ٢٤ و١كورنثوس ١: ٩) وفي حفظ كل الذين يتكلون عليه (١كورنثوس ١٠: ١٣ و١بطرس ٤: ١٩).

وَعَادِلٌ لأنه بار ويبرر من هو الإيمان بيسوع (رومية ٣: ٢٦).

حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا على حسب وعده لمن يعترف بخطيئته ويتركها (أمثال ٢٨: ١٣).

وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ من قوة الخطيئة وتدنيسها فالله يطهّر الخاطئ برشه بدم المسيح فيصير مثل الله مستعداً للشركة معه.

١٠ «إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا».

أيوب ١٥: ١٤ وأمثال ٢٠: ٩ ورومية ٣: ١٠ ويعقوب ٣: ٢ ص ٥: ١٠ ويوحنا ٣: ٣٣ ص ٢: ١٤

إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ هذا مكرر (ع ٨) للتقرير والمعنى إن ادّعينا إنا استقللنا عن الخطيئة منذ آمنا.

نَجْعَلْهُ كَاذِباً هذا أقوى من قوله «نكذب» في (ع ٦) وأقوى من قوله «نضل أنفسنا» في (ع ٨). ولم يقل مثل هذا بولس إذ قال أنه «أول الخطأة» (١تيموثاوس ١: ١٥). ولم يقل ذلك يهوذا إذ قال «مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يهوذا ع ٢١). والقول بعدم الخطيئة منافٍ لكل شهادة الكتاب المقدس ولشهادة ضمائرنا وشهادة الروح القدس.

وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا أي لم نقبل قط شهادة الله لنفسه وعلينا (ص ٢: ١٤ ويوحنا ٨: ٥٥ و١٠: ٣٥ و١٧: ٦ و١٤ و١٧). والمراد بكلمة الله غالباً إنجيله (لوقا ٥: ١ و٨: ١١ و٢١ و١١: ٢٨).

السابق: المقدمة 
اللاحق: الإصحاح الثاني
زر الذهاب إلى الأعلى