ميلاديات

الميلاد بين الألم والأمل

عندما يحل عيد الميلاد تتحضر الناس لوضع الزينة في كل مكان وشراء الهدايا لا سيما للأطفال واقامة الاحتفالات والموائد، اذ لا يستطيع الناس أن يفكروا في عيد الميلاد الا بأجواء الفرح والابتهاج، وهذا لا شك أمر جيد نشكر الله عليه، لكن اذا ما عدنا الى الكتاب المقدس ونظرنا الى الميلاد من وجهة نظر، ليس فقط البشير لوقا بل أيضا البشير متى، نلاحظ ان الذين احتفلوا بميلاد المسيح في القرن الاول ساد عليهم مشاعر مختلطة من الألم والأمل. فإنجيل لوقا سلط الضوء على مشاعر الفرح، بينما انجيل متى سلّط الضوء على حادثة وحشية أثارت مشاعر الألم.

فإنجيل لوقا الذي شدّد على جانب الفرح والتسبيح والأمل، يخبرنا أنه عندما زارت مريم العذراء نسيبتها اليصابات وكانت الاثنتان حاملتين، فانه حين ألقت مريم التحية على أليصابات ابتهج جنين أليصابات، يوحنا المعمدان، عند لقاءه جنين مريم، الرب يسوع المسيح، وقد عبرت أليصابات عن بهجة جنينها وبهجتها بقولها لمريم “هوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني (لوقا 1: 44). وعند ولادة المسيح نقل خبر الولادة للرعاة ملاك الرب، فقال لهم “ها انا ابشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب” (لوقا 2: 10). كما ظهر مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحا الله على ولادة المسيح، ومرنماً  “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” (لوقا 2: 14). وبعدما ذهب الرعاة الى بيت لحم والتقوا بالطفل يسوع، فإنهم “رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم (لوقا 2: 20). وبالتالي فجانب الفرح الذي يظهر كثيراً في احتفالنا بعيد الميلاد، هو الجانب الذي يعرضه إنجيل لوقا.

لكن هناك جانباً آخر لقصة الميلاد كثيراً ما ننساه أو نتجاهله قد سلط الضوء عليه انجيل متى، وهو جانب الألم والدموع التي سببها حاكم متسلط عرف تاريخيا بقساوته ووحشيته في قراراته، هو الملك هيرودس الذي حكم اورشليم زمن ولادة المسيح. يخبرنا انجيل متى انه عندما سمع هيرودوس الملك من المجوس انهم يتبعون نجما اشار الى ولادة طفل ملك، “اضطرب وجميع اورشليم معه” (متى 2: 3). فمجرد سماعه بولادة طفل قد يصبح ملكا ينافسه وينافس اولاده وورثته على السلطة والعرش، أصيب بحالة من الاضطراب والانزعاج الشديد، فقرر ان يقضي على هذا الطفل الملك الذي يشكل تهديدا لسلطانه. وحتى ينفذ مأربه، استخدم كل الاساليب الدبلوماسية وغير الدبلوماسية مبتدئًا أولا بالأسلوب الدبلوماسي، فاستفسر من رؤساء الكهنة اليهود وكهنة الشعب عن الموضوع، واستوضح من المجوس زمن ظهور النجم الذي اشار لولادته، ثم تظاهر بالتديّن والرغبة الشديدة في السجود له إذا ما علم بمكان ولادته. وبعد ان وجده المجوس وسجدوا له، أوحى لهم الملاك، ان لا يرجعوا الى هيرودس، وبعد أن أدرك هيرودس الملك ان مساعيه الدبلوماسية الملتوية لم تجدي نفعاً، أصدر قراره بتنفيذ مجزرة وحشية عن سابق تصور وتصميم لم ينسها التاريخ “فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذين تحققه من المجوس” (متى 2: 16). فالجشع للسلطة والتمسك بالكراسي سبب ولا يزال يسبب الكثير من الالام والمآسي في كل العالم. وبالتالي، في الميلاد يجب أن نتذكر أن نرفض الشر والألم الذي يسببه الحكّام الفاسدين. يقول انجيل متى واصفا الاجواء المؤلمة التي سادت بعد قرار هيرودس الوحشي، “صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير” (متى 2: 17). إنه نوح وعويل الامهات والاباء”، راحيل تبكي على اولادها ولا تريد ان تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين (متى 2: 18). فهيرودس الظالم سبب ألماً كبيراً والألم يجعلنا نسأل تساؤلات كثيرة لا اجابة لها. لماذا ابني انا؟ لماذا عائلتي انا؟ فالألم سر يبقى فهمه مخبأ في مقاصد الله غير المعلنة. فالمسيح يسوع لم يفسر هذا السر، انما عندما سأله التلاميذ عن رجل ولد اعمى منذ ولادته قائلين :”من أخطأ هذا أم أبواه، حتى ولد أعمى ؟ أجاب المسيح لا هذا ولا أبواه” (يوحنا 9: 2و3 ). الا ان المسيح علّمنا انه امام الألم يجب الا نقف مكتوفي الايدي مفكرين في سبر غور هذا السر، بل علينا ان نبادر الى مساعدة المتألمين لنخفف آلامهم، كما فعل المسيح فخفف ألم الاعمى وأعاد البصر له بشفائه.

إن إنجيلي لوقا ومتى اللذين سردا قصة الميلاد، يجمعان على حقيقة لاهوتية واحدة هي ان هذا الطفل السماوي يسوع المسيح يمنح الأمل ويخفف الألم. وهنا أود ان استبدل كلمة “الأمل ” وهي الامنية التي ينتظرها انسان من انسان آخر، بكلمة “الرجاء” وهي كلمة لاهوتية يستخدمها الكتاب المقدس لتعبر عن الأمل الذي يمنحه الله للإنسان، وهي الكلمة التي استخدمها الرسول بولس لوصف المسيح اذ وصفه قائلاً “عليه سيكون رجاء الامم” (رومية 15: 12). عرف أحدهم الرجاء بأنه (القوة الدافعة في الحياة التي تنبع من حضور الله في الحياة وتمنح الفرح والسلام). وهذا ما يجسّده معنى الاسم الاخر الذي أطلقه الملاك على طفل الميلاد، وهو “عمانوئيل” الذي تفسيره الله معنا. “هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (متى 1: 23). فان نفس الشخص أي البشير متى الذي ذكر جانب الألم من قصة الميلاد قد أكدّ بأنه عندما يحضر الله معنا من خلال ايماننا بيسوع المسيح عمانوئيل، عنها نختبر الرجاء والفرح الداخلي حتى في وسط الألم.

ان هذا الطفل يسوع وعمانوئيل عندما كبر وبدأ خدمته على الأرض، أعلن برنامج عمله فكان من ضمن أولوياته، ليس فقط نقل الخبر السار والبشارة المفرحة عن محبة الله وخلاصه للإنسان، ولكن ايضا تضميد جراح المتألمين. يذكر انجيل لوقا في الاصحاح الرابع الكلمات الأولى التي أعلن فيها المسيح عن برنامج عمله، فيقول “روح الرب عليّ لانه مسحني لأبشر المساكين لأشفي المنكسري القلوب” (لوقا 4: 18). وقد ترجم المسيح عملياً برنامج عمله هذا أثناء خدمته، فبدأ ينشر البشارة للمساكين قائلاً لهم “طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات” (متى 5: 3). لكنه مع البشارة، شفى منكسري القلوب وضمد جراح المتألمين من خلال عجائب الشفاء الكثيرة التي أجراها في حياتهم كما تشهد الاناجيل. وبالتالي، إذا ما كان الوجه الأول للإيمان اختبار حضور الله في الحياة، فخدمة المتألمين هو الوجه الآخر لعيش الايمان. هذه الخدمة يجب أن تكون من ضمن أولويات المسيحيين في كل العالم.  إن الطبيعة اللاهوتية لكلمتا “الفرح والرجاء” اللتان تترددا كثيرًا في الميلاد، إنهما غير أنانيتين ولا تكتفيان بذاتهما، لكنهما تكتملان فقط بالمشاركة مع الآخر. فالفرح الميلادي لا يكتمل الا بمواساة الحزانى الآخرين. والرجاء الميلادي لا يكتمل الا بتخفيف الآم المتألمين الآخرين. فعندما نعيش الفرح والرجاء بهذا المعنى عندها نحتفل حقيقة في الميلاد. آمين

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت، ومسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
*حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب في سينودس سوريا ولبنان،
*كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي، كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى