القيامة

القيامة إثبات للاهوت المسيح

لقد تفرّد المسيح في ميلاده الفريد كما تفرّد في سيرته المباركة؛ وكذلك تفرّد في مماته العجيب علي عود الصليب. فقد أقدم المسيح عمداً علي موت الصليب موت الإعدام والعار. واقترن موته بغرائب في الطبيعة نظير:

  • الحداد الذي لبسه الكون لما أظلّمت الشمس ثلاث ساعات في رابعة النهار.
  • وتمزيق الطبيعة أثوابها حزنا عند زعزعة المسكونة كلها في الزلزلة التي شقَّت حجاب الهيكل المقدس وشققت أكباد الصخور الصماء.
  • واشتراك الهاوية السفلى في المناحة والبكاء إذ ذرفت بدلاً من الدموع أجسام موتاها لما تفتّحت القبور،

 “اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ – الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ” (عبرانيين1: 1-4). وهكذا يُعد رجوع المسيح إلي عالم الأجسام البشرية من القبر من عالم الأرواح التي مضى إليها بمثابة مجيء ثان. فرافقت الملائكة هذا المجيء كالأول الذي حدث أيضاً في هذه الناحية ذاتها. إلا أنهم ظهروا ليس لأجله بل لأجل الناس. ذُكرت خدمة الملائكة ليسوع مرتين فقط في حياته. الأولى في برية التجربة بعد صومه الطويل وفوزه التام. والثانية في ساعة أشدّ آلامه في بستان جثسيماني بعد فوزه الثاني التام. لكنهم خدموا الآخرين مراراً عند ولادته وقيامته وصعوده. ولا يُستبعد أن جوقاً غير منظور حام حول قبره كما حام حول المذود في بيت لحم.

ولكن لا ينضج ثمر هذا التفرّد العجيب ما لم يُرى بعد مماته أيضاً. وقد فعل المسيح مثلما قال وقام من بين الأموات منتصراً على الموت والقبر. فهو قد كرّر بأنه سيقوم من قبره في اليوم الثالث وقد فعل. وقد جعل الخلاص يتوقف على فدائه وقيامته تماماً. إنه قام من الأموات ونؤمن بذلك بشهادة شهود عيان رأوه ومشوا معه وأكلوا معه ولمسته أيديهم وتحادثوا معه بعد قيامته من الأموات. حتى أن القيامة صارت التحية التي كان يحيى بها المسيحيون الأوائل بعضهم البعض: المسيح قام. هللويا. وكان الرد: حقاً قام. هللويا. المسيح قام. بالحقيقة قام.

ولسنا في حاجة لإثبات هذا الأمر فيكفينا:

أولاً: ظهورات المسيح بعد قيامته؛ فقد ظهر ثلاث عشرة مرة بعد قيامته كما نعلم.

إن قيامة المسيح هي حجر زاوية عمله الفدائي؛ لأنها ختام ما أجراه المسيح بشخصه لما كان علي الأرض من أعماله الفدائية. وهي الحلقة المتوسطة بين عمله علي الأرض حتى وقت صعوده وبين عمله في السماء الآن عن يمين عرش العظمة إلي منتهى الدهور، لأنه بها ختم علي قبول موته كذبيحة مكفرة عن خطايا البشر، وبها يتبرهن أن له حق الشفاعة في الذين يتقدمون به كشفيع لدى عرش النعمة وأن له القدرة على أن يهب بركات الفداء للذين يقبلونه بالإيمان.

إن مسيحيتنا الرائعة هي مسيحية القيامة والنصرة وهي التي أسسها المسيح يسوع ربنا. ومعلوم أن المسيحية مؤسسة على قيامة المسيح، والخير الذي أنتجته المسيحية في العالم وسوف تنتجه فيه هو أمر تاريخي ولا يحتاج إلي برهان. وإن كان هذا الأساس وهو القيامة كاذباً. فهل يساعد الله الكذب؟! وهل يفعل به ما فعل بالمسيحية؟! حاشا. فالمسيحية قد أبطلت القسوة حتى على العجماوات، وعابت الانتحار، ومنعت قتل الأطفال، وأبطلت حرق الأحياء وراء موتاهم، وأبطلت كثيراً من عوائد الأمم النجسة والمخجلة، وقلما توجد رذيلة في العالم إلا وقد مستها شجاعة المسيحية بإصلاح. وغير ذلك كثير وكثير. هؤلاء الشهود يكررون شهادتهم بالقيامة لأن الإيمان بها هو الذي يحرّك لمثل هذه الأعمال الرائعة. فهل ننتظر أن يُبارك الله على خبر كاذب وشهادة ملفقة ويستخدمها لعمل تُسر به النفس؟!

ويوجد في المسيحية تعاليم تشترك فيها أديان أخرى من أديان العالم. وتلك التعاليم إما روحية (أي المختصة بالعلاقة بين الله والإنسان) وإما أدبية (أي المختصة بالعلاقة الكائنة بين الإنسان وبنى جنسه).

أما الحقائق التي تمتاز بها المسيحية عن غيرها فكثيرة، أخصها القيامة من الأموات. فإن هذه الحقيقة هي مسيحية علي نوع خاص. نعم يُوجد على نوع ما في الأديان الأخرى أفكار عن خلود النفس، لكنها غير واضحة كما يجب. فديانة المصريين القدماء تُبيّن أن النفس تعود فتتحد مع الجسد المعاد ثانيةً إلي الحياة، كما نتعلّم ذلك من عادة التحنيط عندهم ومن تحنيطهم الأجساد بعناية تامة وصرفهم عليها مصاريف باهظة وتشييدهم أهراماً وقبوراً فخمة جداً لدفن أجساد موتاهم، وكما يظهر من تعاليمهم الواردة في كتاب “الموتى”. لكن لا يوجد في تعاليمها نظير ما يوجد في المسيحية عن القيامة سواء كان في الكثرة أو الصراحة أو القوة المرافقة لها. ولا يوجد في دين من أديان العالم توضيح عن القيامة يذكر بجانب ما أوضحه بولس الرسول في الإصحاح الخامس عشر من كورنثوس الأولى عن الجسد المقام والحياة التي له في القيامة.

ثانياً: والقيامة دليل على لاهوت المسيح:

إن المسيح في حياته على الأرض قال عن نفسه مراراً كثيرة أنه ابن الله، قولاً عدَّه خصومه أنفسهم أنه يقصد به مساواة نفسه بالله، وعليه حسبوه مجدفاً وبنوا علي ذلك أنه غاش لا ينبغي أن يسمع كلامه. ومع أنه عمل عجائب كثيرة ليبرهن بها على لاهوته – فقد قال مرةً للمتعصبين أن لا تُعطى لهم آية إلا آية قيامته لأنها في نظره أهم بل أعظم كل الآيات والمعجزات التي عملها – فقيامته برهنت على أن كل المعجزات التي عملها لما كان علي الأرض عملها بسلطانه الإلهي؛ لأنه لو كان كاذباً في دعواه أنه إبن الله لما أمكن أن يقوم من الموت. فقد أظهره الله أنه إبنه وشهد بأبوته له لأنه أقامه من الأموات مبرهناً بذلك على أنه رضي بكفارته التي قدّمها عن خطايا البشر وبالتالي على أنه لم يتألم لأجل نفسه بل لأجل شعبه، الأمر الذي لا ينتظر حدوثه إلا من ابن الله. وعليه يبني الرسول قوله “تعيّن (أي أظهر للعيان) ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رومية 1: 4). هذه هي قوة طبيعته الإلهية التي بها غلب الموت وكسر شوكته وقام منتصراً. وتلك القوة الإلهية هي بعكس ضعف طبيعته الناسوتية التي احتمل بها الموت (2كورنثوس 13: 4).

ونلاحظ من التعبير “من جهة روح القداسة” أمريْن:

  1. إن روح القداسة الإلهي الذي فيه قد حفظ ناسوتيته طاهرةً قدوسةً بحيث لم يعادله أحد من البشر. فقداسته الكلية دلت على صدق بنوته لله وعلى أصل عظمته الشخصية وسموه. فلقد ورث واكتسب النقاوة من السماء.
  2. ثم لاحظوا مبدأ آخر. فإننا كلنا نقول: “بالآثام صُورنا وبالخطية حبلت بنا أمهاتنا”، ولم يقم من البشر من أول الزمان ولن يقوم واحد خال من الخطية. فمن أي جد من الأجداد ورث يسوع طبيعته القدوسة؟! وقولوا لي من أية بيئة أخذ يسوع تلك الطهارة والقداسة في العيشة والتعليم؟! لا يقدر العقل المخلِص أن يُجيب على هذا السؤال جواباً لا يقبل النقض؛ إلا إذا قال أن المسيح ليس مجرد إنسان بل هو أسمى من الإنسان.

ثم من الأمور الجوهرية في إيماننا المسيحي حضور المسيح يسوع الشخصي الدائم في كل مكان وزمان مع تابعيه. فهو طبعاً لا يكون حاضراً كما وعد العالم ما لم يكن قد خرج من القبر حيّاً وما لم يكن أعظم من بشر أو نبي أو ملاك. قال الرسول بولس الفيلسوف: “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ” (1كورنثوس 15: 17). فعلى قيامة يسوع يتوقف جوهر الإيمان المسيحي.

لقد قال المسيح عن نفسه أنه ابن الإنسان وابن الله؛ فكما أن ابن الإنسان إنسان كذلك ابن الله هو الله. فهو ابن الله الأزلي وابن العلي وكلمة الله. لقد قال وقوله الحق “أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. أنتم من أسفل أما فمن فوق”، ” أنا من عند الآب خرجت”، ” أنا ابن الله”، “الله أبي” و”أنا والآب واحد”، وقد قال يوحنا المعمدان عنه “أنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله”.

معلومٌ أن الإنجيل مؤسسٌ على كون يسوع الناصري هو ابن الله. والذي يُميز المسيحية عن غيرها هو الاعتقاد بلاهوت المسيح؛ ليس أن إنساناً قد صار إلهاً – حاشا فهذا كفر؛ بل أن الله في قدرته ومحبته وهو يستطيع اختار أن يصير مثلنا ليخلصنا. على أن توراة اليهود مملوءة من تسمية المسيح المنتظر منهم (واسمه غصن داود وغيره) باسم “يهوه” الاسم العلم للعزة الإلهية عندهم.

نعم من الممكن أن نقول عن المسيح أنه ابن الله من أوجه عديدة:

  • من جهة كون جسده الناسوتي لم يؤخذ من زرع بشر بل حبل به بقوة روح الله. فإذا كان لكل مولود أب فمن هو أبو المسيح؟!
  • نظراً لمشابهته لله في العمل إذ كان يتمم أعمال الله (يوحنا4: 34)، قام بأعمال الله وله صفات الله.
  • نظراً إلي السلطان على كل شيء في السماء وعلى الأرض الذي دُفع إليه عند صعوده.

لكن المسيح يسوع هو ابن الله ليس بمعنى من هذه المعاني بل بمعنى أنه هو الله نفسه كما ذكرنا. فهذه الحقيقة السامية كان يجب أن تُبرهَن ببرهان قوي وتُثبت بأدلة متينة، ولذلك رأى في حكمته أن يبرهنها بالقيامة من الأموات.

ورُبَّ قائل يقول: كيف يمكن لقيامته التي تستلزم موته ضمناً أن تُبرهن على وجوده منذ الأزل كالله، والله لا يموت؟! فنجيب:

  • إن المسيح في حياته كان يقول عن نفسه أنه ابن الله وأن ما يعمله أبوه يعمله هو أيضاً؛ بل انه عامل في الكون مثل أبيه وادّعى لنفسه الألقاب الإلهية والصفات الإلهية وقبل لذاته العبادة الإلهية. فلو كان مدعياً كاذباً لما أمكنه أن يقوم من الأموات إذ أن الله لا يعمل معجزة كهذه مع شخص خادع وغاش يسلب حقوق الله لنفسه. فكأنه بقيامته قد خَتَمَ على صدق مطالبه وأقواله التي أدّعى بها في حياته. وفوق ذلك فإن تعاليمه التي علّم بها والمبادئ التي قرّرها هي سامية سمواً إلهياً.
  • إن قيامته من الأموات هي بقوته الذاتية؛ كما أشار إلى ذلك مراراً في كلامه، فقال لليهود: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه (أنا أقيمه). وكان يقول عن هيكل جسده” وقال مرةً: “لي سلطان أن أضعها (نفسي) ولي سلطان أن آخذها أيضاً (أي ثانيةً)” فمن ذا الذي يقدر أن يُقيم جسده من بين الأموات سوى الله الذي لا يموت؟! فعلى كل حال قيامته من الأموات تبرهن على أنه ليس مجرد إنسان بل انه هو الله الذي أخذ ناسوتاً واتّحد به.

ولكي نوضح الفكر من وجهة أخرى نقول: إن كل معجزات المسيح عملت قبل موته؛ ولكن لو لم يقم من بين الأموات لما كانت لتلك المعجزات التأثير المطلوب، ولما كان هناك معنى لكرازة خدامه بالإنجيل، ولما كان الإيمان به إيماناً نافعاً بشيء؛ بل لكان معنى الإنجيل (تلك البشارة المفرحة) قد سقط من أوله إلى آخره. بل لكان الإنجيل دفن معه في ذات القبر الذي دُفن فيه، وبالتالي كانت دُفنت المسيحية في ذاته، وذلك لأن القيامة هي التي جعلت أتباعه الجبناء شجعاناً أقوياء، وهي التي جعلت أولئك العاميين العديمي العلم يُحيّرون العلماء والفلاسفة ويقلبون المسكونة رأساً على عقب كما شهد بذلك أعداؤهم (أعمال 17: 6). مع أنهم فقراء ومزدرى بهم وليس لهم جاه ولا سطوة ولا ملك منظور يحامي عنهم ولا سيف يُدافعون به بل بالعكس كان كل الحكام والولاة ضدهم. وقيامته أوجدت الشجاعة في نفوس الشهداء حتى قبلوا أصعب الاضطهادات وأمّر الميتات وهم واثقون بها بل وهم فرحون بالعذاب لأجلها. فالإيمان ليس هو سبب القيامة بل القيامة هي الموجدة للإيمان. وعليه نقرأ 24 مرة في سفر الأعمال فقط أن الرسل كانوا يكرزون بقيامة المسيح من الأموات؛ والذين آمنوا بالمسيح آمنوا بالكرازة قيامته من الأموات. فهي واسطة وجود المسيحية في العالم، والمسيحية تعلّم أساسياً أن المسيح هو الله. فتعليم القيامة يبرهن لاهوت المسيح. وبالطبع لن يموت آلاف الشهداء من أجل اعتقاد كاذب.

هذا ولا يخفي علينا أنه توجد علاقة حية بين تعاليم المسيح وبين قيامته. فلا تُؤخذ قيامته كبرهان فقط على صدقها بل إنها أعظم دليل على قدرته على إتمام وعده لتلاميذه بإرسال الروح القدس ليعدّهم للكرازة بإنجيله وقدرته على إقامة الذين يؤمنون به في اليوم الأخير حسب وعده. وظاهرٌ أن الميت لا يقيم ميتاً، ولا يقدر أن يعطي الروح القدس إلا محيي النفوس. ومعلوم أن إرسال الروح القدس وإقامة المؤمنين في اليوم الأخير هما الركنان العظيمان في كل تعاليم المسيح.

لاحظوا أن اليهود اجتهدوا أن يُفَنِدوا معجزات المسيح التي عملها وهو علي الأرض بنسبة بعضها لقوة شيطانية وبعضا للسحر. ولكنهم رأوا أن قيامته تبرهن ولا شك على تداخل قوة إلهية فيها، ولذلك لم يجتهدوا أن ينسبوها لقوة من القوات الطبيعية أو الشيطانية بل نفوها بتةً وقالوا إنه لم يقم بل سرقه تلاميذه. فعملهم هذا برهان على أنهم رأوا قوله تحت القسم باسم “الله الحي” انه “المسيح ابن العلي”. فإن كانت قيامة المسيح لا تقنع الناس بلاهوته فلا يمكن الإتيان بدليل أقوى منها لإقناع العالم. والذي لا يؤمن بواسطة قيامة المسيح من الأموات فلا يؤمن ولو قام هو نفسه من الموت.

فما أعظم نصيب المؤمنين بمسيحهم الحيّ الله المقام من الأموات. ويشرفنا أن نردد تحية المسيحيين الأوائل: “المسيح قام” ويكون الرد “بالحقيقة قام” هللويا. وهي باللغة اليونانية: “خرستوس آنستي” وردها “أليثوس آنستي” وهي نفسها باللغة القبطية التي أخذتها عن اليونانية. آمين

زر الذهاب إلى الأعلى